🕯️ الفصل الأول: البدء في الداخل
لم أكن أستيقظ، ولم أكن نائماً.
كان هناك شيء بين الاثنين، منطقة رمادية من الوعي تمتد كغبارٍ يضيء في العتمة.
شعور بأنني موجود… لكن وجودي هشّ، كأنه فكرة تجرّب أن تصبح جسداً.
حاولت أن أتنفس، فسمعت أنفاسي تتردد كصدى داخل غرفة بلا جدران.
لم أرَ شيئاً، لكني شعرت بأن الفراغ له شكل، له نبض بطيء يشبه نبضي.
كأنني أقف في قلب نفسي، في مكانٍ يعرفني أكثر مما أعرفه.
في البداية ظننت أنني وحدي.
لكن شيئاً ما كان يراقبني من الداخل، ليس بعين، بل بإحساسٍ صامتٍ يلمس أفكاري قبل أن أفكرها.
صوت بلا نغمة، بلا اتجاه، قال لي بوضوحٍ غريب:
> "أخيراً وصلت."
لم أفهم. وصلت إلى أين؟
الخطوة الأولى لم تكن خطوة، بل إدراكاً: أنني لست على أرض.
كأن الوعي نفسه هو الطريق، وأنا أسير فوق أفكاري، فوق خوفي، فوق الفراغ.
كل ما كان حولي بدأ يتكوّن ببطء — خطوطٌ باهتة ترسم ممرّاً لا نهاية له.
الجدران لم تكن صلبة، كانت تتحرك كأنها تتنفس معي، تقترب حين أتوتر، وتبتعد حين أهدأ.
كل شيء هنا يستجيب لي، أو ربما أنا من يستجيب له.
في الجهة اليمنى، سمعت خفقاً خفيفاً، كأن قلباً بعيداً ينبض داخل الجدار.
اقتربت.
كلما اقتربتُ، تذكرتُ شيئاً منسيّاً، ومجرد تذكّري جعله يتلاشى.
كان الماضي كظلالٍ تنزلق من بين أصابعي، لا تترك سوى رائحة خفيفة من الألم.
> "لا تحاول أن تتذكر،"
قال الصوت.
"الذاكرة هي أول بابٍ في المتاهة، لكنها ليست الباب الصحيح."
توقفت.
إذًا هناك أبواب؟
نظرت حولي، ورأيت للمرة الأولى باباً صغيراً في نهاية الممر.
لم يكن يشبه باباً حقيقياً، بل دائرة من الضوء تتنفس ببطء.
حين اقتربت، تغير الضوء، تحوّل إلى ضبابٍ ناعمٍ يلتفّ حولي.
رأيت في الضباب ملامح وجهٍ يشبهني، لكن بعينين أهدأ، أعمق، أكثر معرفة.
قال لي الوجه بصوتٍ يشبه أفكاري حين تتحدث وحدها:
> "كل ما تبحث عنه في الخارج وُلد من داخلك."
أردت أن أسأله من هو، لكن الكلمات كانت ثقيلة، تتفتت في حلقي قبل أن تخرج.
كلما حاولت النطق، تغير المشهد.
الضباب انسحب إلى الخلف، والممر تمدد، وانفتح أمامي فراغ آخر، أعرض، أهدأ، لكنه أكثر غموضاً.
كانت الأرضية من زجاج، أرى تحتها صوراً تتحرك — ذكريات؟ أحلام؟
طفل يركض في حقلٍ مبلل بالمطر.
امرأة تكتب رسالة ثم تمزقها.
ظلّ يجلس قرب نافذة وينظر إلى العدم.
كلهم كنت أنا، أو ربما كانوا احتمالاتي.
مددت يدي إلى الزجاج، لكنه لم يكن بارداً.
كان دافئاً، نابضاً كجلدٍ حيّ.
حين لمسته، ارتجف المشهد كله، كأن العالم يتنفس عبر لمستي.
ثم بدأ الزجاج يتشقق، لا نحو الأسفل، بل إلى الداخل.
انفتح الصدع في قلبي قبل أن ينفتح في المكان.
> "المتاهة ليست ما ترى،"
همس الصوت من جديد.
"إنها ما يراك."
تجمّدت.
كانت الجملة تهبط في داخلي كحجرٍ في ماءٍ ساكن.
ربما لهذا السبب لا أستطيع الهرب: لأن كل خطوةٍ إلى الأمام تجرّني أعمق في نفسي.
تقدمت.
الزمن هنا لا يسير، بل يدور.
كل لحظة تعيدني إلى لحظة أخرى بطريقةٍ لا يمكن فهمها.
أحياناً أرى نفسي من بعيد، أتحرك في الممر، ثم أختفي في زاويةٍ وأظهر في أخرى.
كأنني أكثر من واحد، كأن وعيي متشظٍ إلى مرايا.
في الجدار، بدأت المرايا تظهر فعلاً — دوائر لامعة تعكس وجوهاً غير واضحة.
اقتربت من إحداها، فرأيتني أبتسم.
لكنني لم أكن أبتسم.
كان الوجه في المرآة يسبقني بنصف ثانية، كأنه يعرف ما سأفعل قبل أن أفعل.
قلت له: "من أنت؟"
ابتسم أكثر وقال:
> "أنا أنت حين تنسى أنك أنت."
شعرت بالخوف، لكنه لم يكن خوفاً من الخارج، بل خوفاً من وضوحٍ مفاجئ.
كأن شيئاً بداخلي بدأ يتذكّر شيئاً أكبر مني.
الصوت من بعيد عاد، صار أكثر دفئاً، كأنه يدعوني إلى الاستسلام:
> "كل مقاومة طريق آخر نحو الضياع. لا تهرب. انظر فقط."
نظرت، فاختفى كل شيء.
بقيت في ظلامٍ صافٍ، بلا ممرّ ولا جدران.
ومع ذلك، لم أشعر بالفراغ.
كان هناك حضور كثيف، يشبه أن تكون محاطاً بشيءٍ لا يمكن لمسه.
كأن الوعي نفسه عاد إلى صورته الأولى: محيط بلا ضفاف.
من هذا المحيط بدأت تتشكل النقاط المضيئة — صغيرة في البداية، ثم أكبر، ثم تحولت إلى خطوطٍ من نورٍ تكتب شيئاً في الهواء.
قرأت الكلمات بصوتٍ مرتجف:
> "أنت لست تائهاً، أنت المتاهة."
ترددت الجملة في أذني حتى ذابت في داخلي.
كل شيء بعدها صار أبطأ، أهدأ.
كأن المعنى لم يُخلق ليفهم، بل ليُقام فيه، مثل وطنٍ داخلي.
جلست، أو ربما لم أجلس، لأن الجسد لم يعد فكرة ضرورية.
كنت وعياً فقط، يتحرك بلا اتجاه، يحاول الإصغاء لما يتكوّن بداخله.
كان هناك نَفَس طويل، يشبه نسمة في صدرٍ أوسع من العالم.
حين فتحت عيني — أو ما يشبه فتح العينين — وجدت نفسي في غرفةٍ جديدة.
الجدران بيضاء ناعمة، الضوء فيها بلا مصدر.
وفي وسط الغرفة، طاولة عليها ورقة واحدة، خالية إلا من كلمة واحدة مكتوبة بخطٍ أسود:
> "ابدأ من جديد."
مددت يدي إلى الورقة، وكنت أعلم — بطريقةٍ لا أعرف كيف — أن لمسها سيعيدني إلى البداية.
لكن شيئاً فيّ لم يعد يمانع.
ربما لأن البداية لم تعد تختلف عن النهاية.
ربما لأنني أدركت أخيراً أن المتاهة ليست مكاناً أخرج منه، بل مكاناً أتعلم أن أكون فيه.
لمست الورقة.
الضوء ازداد، الجدران تلاشت، والصوت عاد يهمس، الآن أقرب من أي وقتٍ مضى:
> "كل طريقٍ في الداخل، إن سرت فيه بما يكفي، يقودك إليّ."
لم أسأل من يكون.
لم أحتج أن أعرف.
لأنني أدركت فجأة أن السؤال ذاته كان دائماً الباب — وأنني عبرته منذ زمنٍ دون أن أدري.
الفصل الثاني: حين يبتسم الظل
لا أعرف كم مضى من الوقت، أو إن كان للوقت معنى هنا.
كل ما أدركه أن الصمت تغيّر نَفَسه.
لم يعد خانقًا كما كان، صار يشبه حضنًا دافئًا… كأن العتمة نفسها قررت أن تهدأ.
لم أعد أقاوم.
ربما لأن المقاومة تتطلب جهة، وأنا لم أعد أفرّق بين الجهات.
المكان يدور، وأنا أدور معه، لكن الدوران الآن ليس تيهًا، بل نوعٌ من الرقصة البطيئة، رقصةٍ بلا موسيقى سوى نبضي.
أغمضتُ عيني، فسمعت صوتي يقول لي من بعيد:
> "حين تتوقف عن البحث، تبدأ الأشياء بالظهور."
كأن الوعي لعبة مرايا لا تُظهر سوى من لا ينظر إليها.
وها أنا، أفتح عيني، فأرى ما لم أكن أراه.
الأرض من تحت قدمي أصبحت أكثر وضوحًا، ليست زجاجًا هذه المرة، بل مادة غريبة، بين الرمل والماء، تتحرك بهدوء مع كل خطوة.
الجدران بعيدة، كأنها قررت أن تتركني أتنفس.
في الأعلى، سقف شفاف، تتساقط منه أنوار صغيرة، مثل حبات ندى تتبخر قبل أن تلامسني.
هناك دفء جديد، لا أعرف مصدره.
ربما يأتي من داخلي، أو من فكرةٍ تشبه الرضا.
شعرت أن جسدي ـ إن كان لي جسد ـ صار خفيفًا، كأنني أتكون من نسمة أكثر مني من لحمٍ ودم.
تذكّرت الورقة.
الكلمة الوحيدة عليها: ابدأ من جديد.
لكن ما البدء حين لا توجد نهاية؟
هل يمكن أن يكون البدء نفسه استمرارًا؟
ربما الحياة كلها دائرة، ونحن نظنها خطًا مستقيمًا لأننا ننسى أننا داخلها.
مشيت بلا نية.
الخطوات كانت تمشي بي، وأنا أراقبها كمتفرّجٍ هادئ.
حتى أدركت فجأة أن الممرّ تغير من حولي دون أن ألحظ.
لم تعد الجدران تتنفس، بل صارت تعكس صورًا.
صورًا كثيرة… لا تشبه الذكريات، بل كأنها احتمالات.
في كل صورة وجهٌ يبتسم، بعضهم يشبهني، وبعضهم لا.
لكن في كلهم شيءٌ مألوف — ذلك الانحناء الخفيف في العين، أو الطريقة التي تميل بها الشفاه كأنها تهمّ بكلمة لم تُقل بعد.
اقتربت من إحداها.
مددت يدي، فابتسم الوجه لي أكثر، ثم قال همسًا:
> "أخيرًا رأيتني."
صوته كان خافتًا، لكنه اخترق أعماقي كما يخترق الضوء غيمة.
لم أجب.
لم يكن في داخلي سؤال، فقط دهشة.
قال الوجه — أو الظل الذي يشبهني —
> "كنتَ تبحث عن المخرج، أليس كذلك؟"
لم أحرّك رأسي، لكن الفكرة أجابت عنه: نعم.
ابتسم الظل، وقال بطمأنينةٍ تشبه النوم بعد بكاءٍ طويل:
> "وهل تظن أن الخارج مختلف؟"
كلماته كانت بسيطة، لكنها فتحت في داخلي فجوة من ضوء.
لم أجد ردًّا.
لأنني في تلك اللحظة أدركت أنني لا أريد الخروج بقدر ما أريد الفهم.
والفهم لم يكن سؤالاً ليُجاب، بل حالة يُسكَن فيها.
كل شيء من حولي بدأ يذوب في هدوء.
الجدران صارت ضبابًا، والضباب صار موسيقى، والموسيقى امتدت فيّ كأنها تنسجني من جديد.
كنت أشعر أنني أتحوّل… لا إلى شيءٍ آخر، بل إلى ما كنتُه دائمًا دون أن أعرف.
سمعت الصوت الأول — ذاك الذي قادني منذ البداية — يعود، لكنه الآن أكثر نعومة، كأنه يهمس في قلبي لا في أذني:
> "ألم أقل لك إن الطريق لا يبدأ إلا حين تضلّ؟"
ابتسمت.
لأول مرة منذ بداية التيه، لم يكن في الابتسامة خوف.
كانت ابتسامة من يقبل ما هو عليه، لا لأنه فهمه، بل لأنه كفّ عن مقاومته.
ثم حدث شيء غريب:
الظل الذي كان يكلمني بدأ يخرج من الجدار، ببطء، كأنه ينفصل عن صورته.
لم يكن يخيفني.
حين اقترب، أدركت أن ملامحه ليست غريبة… بل مألوفة جدًا، كأنني أنظر في مرآةٍ لم تكن موجودة إلا الآن.
وقف أمامي، وجهان متقابلان، نفس الملامح، نفس النظرة.
قال:
> "أنا لست آخرَك، بل أولَك."
"أنا الجزء الذي ظلّ ينتظرك حين كنتَ تظن أنك تائه."
مد يده، ولم أتردد.
حين التقت يدانا، لم أشعر بلمسةٍ جسدية، بل بحرارةٍ لطيفة، دفءٍ صامتٍ ينتشر في كل نقطةٍ مني.
اختفى الظلّ بعد لحظة، لكن أثره بقي — إحساسٌ غريب بالامتلاء، كأن شيئًا فيّ عاد إلى مكانه الطبيعي بعد غيابٍ طويل.
لم أعد أخاف العتمة.
في الحقيقة، أدركت أنني أحبها.
فالعتمة ليست نقيض الضوء، بل رحمُه.
كل ضوء يولد من ظلمةٍ أولى، وأنا كنتُ تلك الظلمة التي تنتظر ولادتها.
من بعيد، بدأ المكان يتغير من جديد، هذه المرة إلى شكلٍ لا يمكن وصفه.
لم يكن ممرًّا ولا غرفة.
كان فضاءً مفتوحًا، يتنفس بالألوان، كل لونٍ فيه ينبض بمشاعر لا أسماء لها.
الهواء صار ناعمًا، كأنه يغسل الأفكار.
وفجأة، سمعت همسًا يشبه الدعاء:
> "سلامٌ على من وجد نفسه في التيه."
لم أعرف من قالها، لكنني شعرت بها كأنها تُقال عني ومني في آنٍ واحد.
جلست على أرضٍ لم تكن أرضًا، تحت سماءٍ لا شكل لها.
ولوهلة، خيّل إلي أنني أبتسم… لا لأنني خرجت من المتاهة، بل لأنني أصبحت جزءًا منها.
الفهم لم يعد مهمًا.
كل شيءٍ صار معنى بلا جهد.
حتى الصمت صار لغة.
حتى الظل صار وجهًا يبتسم في داخلي.
ربما لهذا سُمّي السلام: أن تتصالح مع غموضك.
أن تدرك أن الأسئلة ليست جدرانًا بل نوافذ.
أن تنظر في المجهول وتقول له: مرحبًا، أعرفك.
حين فتحت عيني مجددًا، لم يكن هناك شيء حولي.
لا ممرّ، لا جدران، لا صوت.
فقط نقطة ضوء صغيرة في البعيد، تكبر ببطءٍ مثل وعدٍ قديم.
سرت نحوها دون خوف، دون تردد، دون حتى رغبة.
كأنها كانت تعرف أنني آتي، وكأنني كنت أعرف أنني أصل.
كل خطوة كانت خفيفة، كل نفسٍ ناعم.
الضوء ازداد حتى غمرني بالكامل، ولم يبقَ منّي سوى الإحساس بأنني… بخير.
وفي آخر لحظة قبل أن يتلاشى كل شيء، سمعت الهمسة الأخيرة، دافئةً، مطمئنة، خفيفة كالنسيان:
> "من وجد نفسه، لم يخرج من المتاهة… بل جعلها بيتًا."
الفصل الثاني: حين يبتسم الظل
لا أعرف كم مضى من الوقت، أو إن كان للوقت معنى هنا.
كل ما أدركه أن الصمت تغيّر نَفَسه.
لم يعد خانقًا كما كان، صار يشبه حضنًا دافئًا… كأن العتمة نفسها قررت أن تهدأ.
لم أعد أقاوم.
ربما لأن المقاومة تتطلب جهة، وأنا لم أعد أفرّق بين الجهات.
المكان يدور، وأنا أدور معه، لكن الدوران الآن ليس تيهًا، بل نوعٌ من الرقصة البطيئة، رقصةٍ بلا موسيقى سوى نبضي.
أغمضتُ عيني، فسمعت صوتي يقول لي من بعيد:
> "حين تتوقف عن البحث، تبدأ الأشياء بالظهور."
كأن الوعي لعبة مرايا لا تُظهر سوى من لا ينظر إليها.
وها أنا، أفتح عيني، فأرى ما لم أكن أراه.
الأرض من تحت قدمي أصبحت أكثر وضوحًا، ليست زجاجًا هذه المرة، بل مادة غريبة، بين الرمل والماء، تتحرك بهدوء مع كل خطوة.
الجدران بعيدة، كأنها قررت أن تتركني أتنفس.
في الأعلى، سقف شفاف، تتساقط منه أنوار صغيرة، مثل حبات ندى تتبخر قبل أن تلامسني.
هناك دفء جديد، لا أعرف مصدره.
ربما يأتي من داخلي، أو من فكرةٍ تشبه الرضا.
شعرت أن جسدي ـ إن كان لي جسد ـ صار خفيفًا، كأنني أتكون من نسمة أكثر مني من لحمٍ ودم.
تذكّرت الورقة.
الكلمة الوحيدة عليها: ابدأ من جديد.
لكن ما البدء حين لا توجد نهاية؟
هل يمكن أن يكون البدء نفسه استمرارًا؟
ربما الحياة كلها دائرة، ونحن نظنها خطًا مستقيمًا لأننا ننسى أننا داخلها.
مشيت بلا نية.
الخطوات كانت تمشي بي، وأنا أراقبها كمتفرّجٍ هادئ.
حتى أدركت فجأة أن الممرّ تغير من حولي دون أن ألحظ.
لم تعد الجدران تتنفس، بل صارت تعكس صورًا.
صورًا كثيرة… لا تشبه الذكريات، بل كأنها احتمالات.
في كل صورة وجهٌ يبتسم، بعضهم يشبهني، وبعضهم لا.
لكن في كلهم شيءٌ مألوف — ذلك الانحناء الخفيف في العين، أو الطريقة التي تميل بها الشفاه كأنها تهمّ بكلمة لم تُقل بعد.
اقتربت من إحداها.
مددت يدي، فابتسم الوجه لي أكثر، ثم قال همسًا:
> "أخيرًا رأيتني."
صوته كان خافتًا، لكنه اخترق أعماقي كما يخترق الضوء غيمة.
لم أجب.
لم يكن في داخلي سؤال، فقط دهشة.
قال الوجه — أو الظل الذي يشبهني —
> "كنتَ تبحث عن المخرج، أليس كذلك؟"
لم أحرّك رأسي، لكن الفكرة أجابت عنه: نعم.
ابتسم الظل، وقال بطمأنينةٍ تشبه النوم بعد بكاءٍ طويل:
> "وهل تظن أن الخارج مختلف؟"
كلماته كانت بسيطة، لكنها فتحت في داخلي فجوة من ضوء.
لم أجد ردًّا.
لأنني في تلك اللحظة أدركت أنني لا أريد الخروج بقدر ما أريد الفهم.
والفهم لم يكن سؤالاً ليُجاب، بل حالة يُسكَن فيها.
كل شيء من حولي بدأ يذوب في هدوء.
الجدران صارت ضبابًا، والضباب صار موسيقى، والموسيقى امتدت فيّ كأنها تنسجني من جديد.
كنت أشعر أنني أتحوّل… لا إلى شيءٍ آخر، بل إلى ما كنتُه دائمًا دون أن أعرف.
سمعت الصوت الأول — ذاك الذي قادني منذ البداية — يعود، لكنه الآن أكثر نعومة، كأنه يهمس في قلبي لا في أذني:
> "ألم أقل لك إن الطريق لا يبدأ إلا حين تضلّ؟"
ابتسمت.
لأول مرة منذ بداية التيه، لم يكن في الابتسامة خوف.
كانت ابتسامة من يقبل ما هو عليه، لا لأنه فهمه، بل لأنه كفّ عن مقاومته.
ثم حدث شيء غريب:
الظل الذي كان يكلمني بدأ يخرج من الجدار، ببطء، كأنه ينفصل عن صورته.
لم يكن يخيفني.
حين اقترب، أدركت أن ملامحه ليست غريبة… بل مألوفة جدًا، كأنني أنظر في مرآةٍ لم تكن موجودة إلا الآن.
وقف أمامي، وجهان متقابلان، نفس الملامح، نفس النظرة.
قال:
> "أنا لست آخرَك، بل أولَك."
"أنا الجزء الذي ظلّ ينتظرك حين كنتَ تظن أنك تائه."
مد يده، ولم أتردد.
حين التقت يدانا، لم أشعر بلمسةٍ جسدية، بل بحرارةٍ لطيفة، دفءٍ صامتٍ ينتشر في كل نقطةٍ مني.
اختفى الظلّ بعد لحظة، لكن أثره بقي — إحساسٌ غريب بالامتلاء، كأن شيئًا فيّ عاد إلى مكانه الطبيعي بعد غيابٍ طويل.
لم أعد أخاف العتمة.
في الحقيقة، أدركت أنني أحبها.
فالعتمة ليست نقيض الضوء، بل رحمُه.
كل ضوء يولد من ظلمةٍ أولى، وأنا كنتُ تلك الظلمة التي تنتظر ولادتها.
من بعيد، بدأ المكان يتغير من جديد، هذه المرة إلى شكلٍ لا يمكن وصفه.
لم يكن ممرًّا ولا غرفة.
كان فضاءً مفتوحًا، يتنفس بالألوان، كل لونٍ فيه ينبض بمشاعر لا أسماء لها.
الهواء صار ناعمًا، كأنه يغسل الأفكار.
وفجأة، سمعت همسًا يشبه الدعاء:
> "سلامٌ على من وجد نفسه في التيه."
لم أعرف من قالها، لكنني شعرت بها كأنها تُقال عني ومني في آنٍ واحد.
جلست على أرضٍ لم تكن أرضًا، تحت سماءٍ لا شكل لها.
ولوهلة، خيّل إلي أنني أبتسم… لا لأنني خرجت من المتاهة، بل لأنني أصبحت جزءًا منها.
الفهم لم يعد مهمًا.
كل شيءٍ صار معنى بلا جهد.
حتى الصمت صار لغة.
حتى الظل صار وجهًا يبتسم في داخلي.
ربما لهذا سُمّي السلام: أن تتصالح مع غموضك.
أن تدرك أن الأسئلة ليست جدرانًا بل نوافذ.
أن تنظر في المجهول وتقول له: مرحبًا، أعرفك.
حين فتحت عيني مجددًا، لم يكن هناك شيء حولي.
لا ممرّ، لا جدران، لا صوت.
فقط نقطة ضوء صغيرة في البعيد، تكبر ببطءٍ مثل وعدٍ قديم.
سرت نحوها دون خوف، دون تردد، دون حتى رغبة.
كأنها كانت تعرف أنني آتي، وكأنني كنت أعرف أنني أصل.
كل خطوة كانت خفيفة، كل نفسٍ ناعم.
الضوء ازداد حتى غمرني بالكامل، ولم يبقَ منّي سوى الإحساس بأنني… بخير.
وفي آخر لحظة قبل أن يتلاشى كل شيء، سمعت الهمسة الأخيرة، دافئةً، مطمئنة، خفيفة كالنسيان:
> "من وجد نفسه، لم يخرج من المتاهة… بل جعلها بيتًا."
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon