الفصل الأول :الورقة البيضاء
ليست هذه الرواية سيرة أحد، ولا حكاية اسم معروف. ما سيأتي هنا ليس أكثر من عناوين، إشارات صغيرة إلى حياةٍ بلا ملامح محددة.
حياةٌ يمكن أن تكون حياة أي إنسان، أو ربما جميع البشر معًا.
كل عنوان فصلٌ، وكل فصلٍ مجرد وقفة أمام تفصيلٍ عابر: ورقة، محطة، غرفة، ظل، أو صوت بعيد.
لا يهم من هو هذا "الإنسان"، ولا متى عاش، ولا أين.
المهم أن نتتبع أثره عبر العناوين، وأن نرى كيف تتحول اللحظات العادية إلى مرايا تكشف ما نخفيه نحن أنفسنا.
هكذا تبدأ الحكاية: بورقة بيضاء تنتظر كلمة، وبإنسان يتساءل إن كان للكلمة القدرة على أن تصير حياة.
كانت الورقة البيضاء أمامه مثل صحراء ممتدة بلا أثر. فراغٌ يحدّق فيه ببرود، يطالبه بأن يملأه بشيء، أي شيء. مدّ يده نحو القلم، ثم توقّف. تساءل إن كان مجرد خطّ صغير سيكسر نقاء الصفحة أم سيفتح بابًا لا يُغلق.
لم يكن يعرف لماذا يخاف من البداية. لعلّ البداية أخطر من النهاية؛ النهاية تأتي وحدها، أما البداية فهي اختيار، وداخل كل اختيار شبح طرق لم تُسلك.
أصغى إلى الصمت المحيط به. كان الصمت كثيفًا، حتى أنه شعر أنّ الورقة نفسها تهمس: "اكتبني." لكن ماذا يكتب؟ لم يكن في ذهنه قصة محددة، ولا اسم، ولا حدث. كان يشعر فقط بأن شيئًا غامضًا يضغط على صدره ويطلب الخروج.
نظر إلى حافة الطاولة، حيث تراكم الغبار في خط رفيع، كأن الزمن كان يسجل حضوره بخفة. ربما يمكن أن يبدأ من هناك، من هذا الغبار الذي لا يلحظه أحد عادة. لكنه تراجع سريعًا: هل يستحق الغبار أن يكون بداية لحكاية؟
أدار رأسه نحو النافذة. الخارج كان ساكنًا. السماء رمادية، والشوارع فارغة، كأن المدينة نفسها تنتظر أن يكتبها شخص ما. خطر له أن الورقة البيضاء ليست سوى انعكاس لهذه السماء الرمادية: كلاهما يطلب من أحد أن يمنحه ملامح.
مدّ يده أخيرًا وأمسك القلم. لمس رأسه الورقة بخط خفيف، لكنه رفعه فورًا. شعر وكأنه لو كتب، فإن الكلمات ستتحول إلى قيد. الورقة البيضاء تمنحه وهم الحرية، أما الورقة المكتوبة فهي سجن اختيارات سابقة لا عودة عنها.
تساءل: هل يُكتب الإنسان كما تُكتب الصفحات؟ يولد أبيضًا، ثم تلطخه العناوين: الطفولة، المدرسة، الحب، الفقد، الغياب... عناوين متراكبة تجعل الصفحة في النهاية ممتلئة، مشوّشة، جميلة أو قاسية. ربما هذه هي الحياة: سلسلة من العناوين فوق ورقة لا تحتمل المسح.
ابتسم ابتسامة باهتة. لم يكن بحاجة لقصّة كبيرة، ولا لأبطال أسطوريين. كل ما يحتاجه هو أن يكتب سطرًا واحدًا، مجرد سطر، ليكسر رعب البداية.
كتب ببطء:
"هذه ليست قصة، بل محاولة لتسمية الفراغ."
توقف، قرأ السطر، شعر بارتجاف خفيف في أصابعه. فجأة لم تعد الورقة بيضاء تمامًا. صار لها وجه، صار لها بداية.
لكن الغريب أنه لم يشعر بالراحة. بل أحسّ أن الورقة الآن تطلب المزيد. مثل طفل يفتح عينيه للمرة الأولى ويصرخ: "أطعِموني." الكلمة الأولى ليست نهاية الصراع، بل إشعال شرارته.
ألقى نظرة أخيرة على الصفحة. لم تكن الفراغ الذي يخيفه منذ لحظات، لكنها أيضًا لم تمنحه يقينًا. كانت نصف ممتلئة، نصف فارغة، كأنها مرآة لحياته هو بالضبط.
أسند ظهره إلى الكرسي، أغلق عينيه، وتخيّل أن حياته كلها ربما لم تكن إلا ورقة بيضاء، وأنه ليس سوى اليد المرتجفة التي تحاول أن تكتب عليها.
نهاية الفصل الأول
الفصل الثاني: محطة القطار
ليست هذه الرواية سيرة أحد، ولا حكاية اسم معروف. ما سيأتي هنا ليس أكثر من عناوين، إشارات صغيرة إلى حياةٍ بلا ملامح محددة.
حياةٌ يمكن أن تكون حياة أي إنسان، أو ربما جميع البشر معًا.
كل عنوان فصلٌ، وكل فصلٍ مجرد وقفة أمام تفصيلٍ عابر: ورقة، محطة، غرفة، ظل، أو صوت بعيد.
لا يهم من هو هذا "الإنسان"، ولا متى عاش، ولا أين.
المهم أن نتتبع أثره عبر العناوين، وأن نرى كيف تتحول اللحظات العادية إلى مرايا تكشف ما نخفيه نحن أنفسنا.
هكذا تبدأ الحكاية: بورقة بيضاء تنتظر كلمة، وبإنسان يتساءل إن كان للكلمة القدرة على أن تصير حياة.
كان واقفًا على الرصيف، يراقب القضبان الممتدة كخطوط حديدية تبتعد إلى ما لا نهاية. بدا المشهد بسيطًا: محطة عادية، مقاعد باردة، ساعة قديمة تشير إلى وقت لا يهم أحدًا، وصفير متقطع في الهواء. لكن داخله كان ممتلئًا بانتظار لا يعرف وجهته.
لم يكن يعلم أي قطار سينتظر، ولا إلى أين سيذهب. فكرة الوجهة بدت بعيدة، كأنها تخص آخرين يعرفون ماذا يريدون من رحلاتهم. هو لم يرد سوى لحظة يذوب فيها في حركة العالم، أن يكون عابرًا بين العابرين.
جلس على مقعد خشبي يطل على الرصيف. أمامه امرأة تمسك بيد طفلها، والطفل يلوّح ببالون أحمر صغير. البالون بدا في نظره أكثر وضوحًا من وجوه المسافرين، أكثر صدقًا من خطواتهم المترددة. كلّ شيء حوله يتحرك، لكن البالون ظل يعلو وينخفض بإيقاع بسيط، مثل قلبٍ يخفق في الهواء.
اقترب منه صوت مكبّر المحطة: "القطار المتجه إلى الشمال يصل بعد دقائق." كلمات مألوفة، باردة، كأنها لا تخصّ أحدًا بعينه. ومع ذلك، شعر أن النداء كان يخصّه هو فقط، وكأن الصوت يناديه باسمه الذي لا يملكه.
مرّت أمامه وجوه كثيرة: رجل يحمل حقيبة جلدية قديمة، شاب يضع سماعات ويهزّ رأسه على إيقاع صامت، امرأة عجوز تمسك بكتاب وتقرأ وهي تمشي. كل وجه كان عنوانًا لحكاية لن تُروى. تساءل: هل المحطة مجرد مسرح كبير تُعرض فيه مشاهد قصيرة، ثم تختفي بلا أثر؟
رفع رأسه نحو اللوحة المعلقة فوق الرصيف. أسماء المدن تتغير بسرعة، كأنها شريط سينمائي: "جنوب... شرق... شمال..." تساءل أيّها أقرب، وأيّها أبعد. لكن ما الفرق؟ كل القطارات تمضي، وكلها تتركه خلفها إذا لم يصعد.
تذكّر فجأة أن الانتظار نفسه ربما يكون رحلة. لم يكن بحاجة إلى تذكرة أو مقعد في عربة. ما يحتاجه فقط هو أن يسمح للخيال أن يركب مكانه: أن يتخيل نفسه في مدينة جديدة، ينام في فندق بارد، يفتح نافذة تطل على شارع غريب، أو يضيع في زحام لا يعرف لغته.
صفّر القطار القادم، وارتجّ الرصيف تحت وقع الحديد. هبّ الجميع واقفين: من يركض ليلحق بالباب، من يجر حقيبته متعثّرًا، ومن يلوّح مودّعًا بيد مرتجفة. أما هو فظل جالسًا، كأنه الوحيد الذي لم يقرّر شيئًا.
حين توقّفت العربات، انفتح الباب أمامه مباشرة. نظر إلى الداخل: مقاعد خالية، نوافذ واسعة، وجو دافئ يدعوه للدخول. لكنه لم يتحرك. ظل ينظر، ثم ابتسم ابتسامة باهتة. شعر أن كل ما يحتاجه قد حدث بالفعل: لحظة التردد تلك، لحظة أن يكون واقفًا بين القرارين، كانت هي رحلته الحقيقية.
تحرّك القطار ببطء، ثم تسارع حتى ابتلع الأفق. عاد الصمت، ولم يبقَ سوى أثر البالون الأحمر وهو يرتجف في يد الطفل الذي ظل يلوّح للفراغ.
تنفّس بعمق، ونهض عن المقعد. لم يصعد ولم يسافر، لكنه شعر أن المحطة قد منحته ما لم يمنحه أي مكان آخر: درس أن الحياة ليست في القطار الذي يرحل، بل في الوقوف على الرصيف، حيث تكون كلّ الاحتمالات ممكنة في لحظة واحدة.
نهاية الفصل الثاني
الفصل الثالث: صندوق الصور
هذه ليست سيرة، ولا رواية عن شخص بعينه.
إنها مجرد عناوين لحياةٍ بلا اسم، عابرة مثل ظل، وقريبة مثل نفس.
كل عنوان فصل، وكل فصل لحظة، واللحظات هي ما يصنع وجودنا.
فتح الدرج ببطء، وكأن هناك سرًا مخبأً في أعماقه ينتظر أن يُكتشف.
داخل الدرج كان صندوق خشبي قديم، متين رغم غبار السنين. رفع الغطاء، فامتلأت الغرفة فجأة برائحة الورق القديم والخشب المائل للحرق. الصور كانت مكدسة بشكل عشوائي، بلا ترتيب، بلا أسماء مكتوبة على الظهر.
أمسك بالصورة الأولى: وجه مبتسم لطفل لا يعرفه، خلفه نافذة تطل على شجرة يابسة. لم يتذكر أن كان هذا الطفل هو هو، أو إن كان شخصًا آخر. كل الصور بدا لها شيء غريب: مألوفة جدًا، لكنها لم تنتمِ إليه تمامًا. وكأنها مقتطفات من حياة محتملة، ربما عاشها في نسخة أخرى من الزمن، أو ربما حلم بها فقط.
تأمل الصورة التالية. رجل يجلس على كرسي خشبي أمام منزل صغير. يده ترتجف قليلًا، أو ربما الصورة ارتجفت عند التقاطها. لم يكن يعرف الرجل، لكنه شعر بشيء مألوف: الكتفين المثقلين، النظرة التي تبحث عن شيء بعيد، الصمت الذي يحاصر المكان كله. ابتسم بطريقة باهتة: ربما هذا هو هو، في لحظة لم يعرف أنه عاشها.
بدأ يقلب الصور واحدة تلو الأخرى: شوارع ضيقة، مقاعد خالية، نافذة نصف مفتوحة، ظل شجرة على جدار، يد تمسك بفنجان قهوة. كل صورة كانت عنوانًا لحياة لم تُحكى، لحظة لم تُسرد، وكل واحدة منها تدعو للتخمين: هل هذا جزء من حياته؟ أم مجرد انعكاس لحياة شخص آخر لم يولد بعد؟
جلس على الأرض، وأخذ صورة بين يديه. كانت صورة لامرأة تبتسم في ضوء شمس باهت. لم يذكر أن ابتسامتها كانت له، لكنه شعر بحرارة غريبة: دفء لم يعرفه، ولحظة لم يحدث لها زمن. رفع الصورة مقابل وجهه، وتخيل أنها تعكس جزءًا منه، جزءًا ظل مختبئًا في الظل.
ثم لاحظ شيئًا آخر: بعض الصور مقلوبة، وبعضها ممزق عند الحواف. وكأن هناك من أراد أن يحجب جزءًا من الحقيقة، أو أن يحفظ الذكريات المختارة فقط. شعر بحنين غريب إلى هذا المجهول: رغبة في معرفة ما هو له وما ليس له، رغبة في إعادة ترتيب الصفحات الغامضة لحياته، حتى ولو كان مجرد وهم.
أدار رأسه نحو الصندوق كله. كم عدد اللحظات التي لم يعرفها؟ كم صورة لم يرها؟ كم حياة محتملة ضاعت بين الأيدي ولم تُسجّل؟ كان يشعر أنه أمام شلال من العناوين، كل عنوان يحمل قصة، وكل قصة تطلب أن تُروى. لكنه لم يكن مستعدًا بعد.
أمسك بصورة أخرى، هذه المرة لصبي يقف عند شاطئ، البحر أمامه لا نهاية له. رأى نفسه في الصبي، أو ربما لم يكن كذلك، لكنه شعر بالحرية التي يتيحها البحر لكل من يقف أمامه: مساحة مفتوحة، صمت عميق، وعد بعدم العودة إلى المكان نفسه مرة أخرى.
أغلق الصندوق بعد وقت طويل. بقيت الصور في الداخل، كما لو أنها تنتظر من يفتحها مرة أخرى، من يقرأ العناوين بين الظل والضوء. وقف، وتلمس الغبار على الطاولة، وتساءل: هل نملك نحن حياتنا حقًا، أم أننا مجرد مراقبين لنسخ محتملة من أنفسنا؟
حمل الصندوق إلى النافذة، ألقى نظرة أخيرة على الصور. شعور غريب انتابه: مزيج من الانتماء والاغتراب، من المعرفة والجهل، من الحياة والمجهول. لحظة واحدة، صامتة، لم تكن صورًا فقط، بل انعكاسًا لكل الفراغات التي ملأتها اللحظات العابرة.
وهو يغلق النافذة، أدرك أنه مثل الصندوق نفسه: مليء بالصور التي قد تكون له أو قد تكون لآخرين، مليء بالعناوين التي لم يُكتَب لها الزمن بعد، مليء بالفراغات التي تنتظر قارئًا، لحظة، أو فكرة ليجعلها حقيقة.
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon