...في الطابق العلوي من منزلٍ واسع، سكنه الصمت كأنه عادة قديمة،...
...جلس لوسيان على أريكة غارقة في النعومة، وقد لُفّت قدمه اليمنى بالجبس الأبيض؛ علامة على إصابة حديثة لم تلتئم، لا في الجسد ولا في النفس....
...النور يتسلّل من نافذة طويلة مزينة بستائر ثقيلة، يعكس وهجًا ذهبيًا على الأرضية اللامعة....
...كل شيء هادئ. راقٍ. كأن الزمن يتباطأ هنا متعمدًا....
...كان لوسيان غارقًا في شاشة هاتفه، لا يفعل شيئًا سوى النظر....
...عيناه ساكنتان، لكن عقله لم يكن كذلك....
...دخلت والدته، بخطوات ناعمة كصوت عطرها، ابتسمت ابتسامة صغيرة وهي تقول:...
..."لوسيان، استعد... ستغادر بعد قليل. خالتك ماريان تنتظرك في الخارج."...
...رفع عينيه ببطء، نظر إليها وكأنه يحاول استيعاب ما قالته، ثم تمتم دون حماس:...
..."أمي... ألا يمكنكِ مرافقتي هذه المرة؟ لا أحب الذهاب معها وحدي."...
...اقتربت منه وربتت على رأسه، بحنانٍ يشبه العذر....
..."أعلم... لكن لديّ الكثير من الاجتماعات. ماريان ستأخذك بدلاً مني، وسأكون معك في الرحلة القادمة، أعدك."...
...حدّق في عينيها طويلًا، بصمتٍ يحمل كل ما لا يستطيع قوله... ثم قال ببرود:...
..."هل عليّ أن أتأذى أكثر لتأتين؟"...
...ضحكت بخفة، لكن ضحكتها بدت أقرب إلى تَنفّسٍ متعب من الرد....
..."أنت السبب، يا لوسيان. لو كنت أكثر حذرًا لما سقطت. ثم... لا تكن دراميًا. الجزيرة جميلة، ستعجبك. لقد التقيت هناك بوالدك لأول مرة… وكانت أجمل أيام عمري."...
...توقفت لحظة، وكأنها تسمح للذاكرة أن تمر ببطء بين جملها....
..."يومًا ما، سأصطحبك بنفسي إلى هناك، وأريك الأماكن التي مشينا فيها، ضحكنا فيها… سترى الجزيرة بعينيّ، لا بعيني ماريان."...
...ارتفع نظره نحوها من جديد، وصوته بدا أكثر هدوءًا… لكن أكثر جديّة....
..."هذا وعد... أليس كذلك؟"...
...أومأت برأسها ببطء، وتابعت مراقبته وهو ينهض بخطى مثقلة، متكئًا على عكازه، متوجّهًا إلى الخارج، حيث كانت سيارة سوداء فاخرة تنتظره بصمت عند بوابة القصر....
...---...
...امتدت الرحلة من لندن إلى جزيرة نيرالا كأنها عبور من عالمٍ إلى آخر....
...سماء صافية. هواء دافئ. رائحة البحر تختلط بنسيمٍ يُربّت على القلب....
...لكن لوسيان لم يشعر بشيء من ذلك....
...في فندق “لا مير بيل”، حيث تلتقي الفخامة بالسكون، خطا لوسيان بخطى مترددة داخل البهو الواسع، مستندًا إلى عكازه، وخالته بجواره....
...عابرو المكان التفتوا نحوهما... بعضهم بابتسامة إعجاب، وبعضهم بنظرات فضولية واضحة....
...جزيرة نيرالا نادرًا ما يخرج أهلها، ونادرًا ما يزورها غرباء....
...لذلك كان حضورهما أشبه بعرض صغير في قاعة فخمة....
...شعر لوسيان بتلك النظرات تثقل جسده، فأخفض رأسه، وكأن التعب تسلّل من أعينهم إلى كتفيه....
...كان يكره هذا النوع من الاهتمام......
...تقدّمت خالته ماريان إلى مكتب الاستقبال بخطوات سريعة، ونظرة واثقة، كأنها تملك المكان....
...رحّب بها الموظف الشاب ببشاشة وهو يقلب شاشة الحجز:...
...> "مدام ماريان… أهلاً وسهلاً. هناك تعديل بسيط، للأسف… الجناح المطلّ على البحر تم إعطاؤه لعائلة وصلت قبل حضراتكم بعشر دقائق فقط. سنعطيكم جناحًا آخر بنفس المستوى تقريبًا—"...
...قاطعته وهي ترفع حاجبيها ببطء، وكأنها سمعت إهانة شخصية:...
...> "هل أبدو لك كمن يقبل بـ تقريبًا؟ هل تعرف مَن أكون؟"...
...ارتبك الموظف، وبدأ يتمتم، لكن ماريان لم تنتظر عذرًا....
...رفعت هاتفها بغضب واضح، طلبت رقم المدير، تحدثت معه بنبرة رسمية متوترة، ثم أنهت المكالمة بكلمة مقتضبة:...
...> "أرجو أن تُصحّح الأمور خلال دقائق... وإلا."...
...لم تمر دقيقة واحدة، حتى اقترب منهم موظف بلحية خفيفة، وقال:...
...> "نعتذر عن الإرباك. تم إصلاح الخطأ، وجناحكما جاهز الآن."...
...استدار الرجل نحو أحد الأركان، ثم نادى بهدوء:...
..."أنتِ… خذي الضيوف إلى الجناح الغربي."...
...ظهرت فتاة بزيّ أسود بسيط، شعرها مربوط للأعلى، وعيناها فارغتان من أي انفعال....
...تقدّمت بخطوات هادئة، دون أن ترفع نظرها نحوه، ودون أن تعلّق على قدمه المصابة....
...تحركت كأنها ظلّ، بلا كلمة، بلا ابتسامة....
...ولوسيان… لم يشعر براحة. بل بشيء أقرب إلى الاستغراب....
...من تكون؟ ولماذا تبدو كأنها لا ترى أحدًا؟...
...يتبع.....
...في ساحة بلدة إلورا، جلس لوسيان على حافة نافورة حجرية، يراقب الناس من حوله: ضحكات، كاميرات، ولغات لا يفهمها. كل شيء بدا له غريبًا، وكأنه في حلم مشوش....
...ماريان كانت واقفة بجانب رجل غريب القوام؛ ملامحه صلبة وعيناه تحملان خدوشًا، حضورهما أرسل برودة خفيفة في صدره. الجو بينهما مشحون بصمت يصعب تفسيره....
...نظر لوسيان إلى الرجل وسأل بتردد:...
..."ومن هذا الرجل؟"...
...ابتسمت ماريان ببرود وقالت بهدوء:...
..."مرشد سياحي… سيأتي معنا في الجولة."...
...أمعن لوسيان في وجهه مرة واحدة، ثم همس في نفسه: لو قال أحد قَاتِل بدل 'مرشد'، لأصدقهم دون تردد....
...اقتربت الخالة منه بخطوات هادئة، عيناها ثابتتان عليه. بعد لحظة من الصمت المتوتر، استجمع لوسيان أنفاسه وقال:...
..."هل رأيتِ، خالتي؟ قلت لك أن نمشي بهدوء… هذه الرحلة لي، لا لكِ. لماذا أنتِ متحمسة وسعيدة هكذا؟"...
...لم ترد. وقفت هناك صامتة، شاحبة، وعيونها لا تفارقه. أحس بشيء بارد في صدره، كأنه لمس حافة جرح قديم....
...اقتربت أكثر، بصوتها الناعم:...
..."ما رأيك أن نذهب إلى الشاطئ قليلاً؟"...
...وراءها ظل الرجل ينظر إليه بعيون حادة، كل نظرة تزيد من ضيق صدره....
...هز رأسه متعبًا:...
..."لا أستطيع… قدمي تؤلمني."...
...ابتسمت ابتسامة باردة، ثم دُفعت خفة كرسيه أمامه، كأنها تختبر رد فعله....
...اقترب المرشد وأخذ العكاز من يده ووضعه على مسند الكرسي. ثم نادى رجلًا آخر كان قريبًا، سلّمه العكاز وتحدث معه بلغة جزيرية لا يفهمها لوسيان، فانصرف الرجل مسرعًا....
...لم يفهم لوسيان الكلام، وشعر بتيار حذر يمر في جسده تجاه خالته. نظرت إليه ماريان بنبرة مزيفة من الطمأنينة:...
..."اطمئن، أعدناه للفندق."...
...جلس لوسيان في الكرسي، بينما اقتاده الرجل نحو الشاطئ، وماريان تدفعه بخفة، صامتة، كأنها جزء من المشهد نفسه....
...---...
...عند الشاطئ، توقف الكرسي على الرمال الصلبة....
...النسيم العليل جعل شعوره بالبرد يتسلل إلى جلده، والضوء يلمع على سطح الماء، بينما الأمواج تتهادى بهدوء، تصطدم بصخور صغيرة محدثة صدى رقيقًا....
...كل شيء جميل… لكن قلبه كان مكانًا خاوٍ....
..."يقولون إن منظر البحر يريح القلب…" تمتم بصوت بالكاد يُسمع، بينما تداعب رياح البحر وجهه وتهب على شعره....
..."يشعرك بالسكينة…"...
...أغمض عينيه… لكنه لم يشعر بشيء. البحر لم يكن أكثر من مساحة زرقاء شاسعة، بلا حياة… كمرآة لما بداخله....
...هو، الذي وُلد في بيت يملكه الثراء، واحتوته رفاهية لا تُعد… لم يعرف طعم الفرح يومًا....
...كان يغار من أبسط ما يملكه الآخرون: الضحك....
...الشيء الوحيد الذي يمنحه بعض الدفء؟...
... ابتسامة والدته. ...
...صادقة، بسيطة، لا تُخفي شيئًا....
...أما ماريان…؟...
...كل شيء فيها يلمع بشيء زائف....
...ابتسامة لا تصل لعينيها....
...لمسة لا تصل لروحه....
...استدار ببطء، ونظر إلى وجهها. ومنذ أول مرة رآها، كان يعلم… أنها تكرهه....
...رآه في عينيها، في صمتها، في طريقة وقوفها وهي تدفع الكرسي الآن دون أن تمسّه....
...وفجأة، تسللت فكرة إلى رأسه:...
...ماذا لو… دفعت الكرسي بقوة؟...
...نحو البحر؟...
...انقلب…...
...غرق…...
...شعر قلبه يخفق بقوة… وعرق بارد يتسلل إلى رقبته، بينما تلمس رياح البحر وجهيه وتلعب بملابسه، وكأن الطبيعة كلها تحاكي خوفه....
...حدّق فيها… لكن ماريان كانت تنظر إلى الأفق بصمت، ساكنة أكثر من اللازم....
..."هي تعلم أنني أعلم…" قال لنفسه....
..."أنها تكرهني… فلماذا تواصل التمثيل؟ حتى حين لا تكون أمي هنا؟"...
...أخفض نظره إلى قدمه المصابة…...
...ثم ظهرت الذكرى:...
...كان على الدرج…...
...دفعة مباغتة من الخلف…...
...تدحرج…...
...صرخة…...
...ألم في العظام…...
...دماء…...
...وقبل أن يغيب عن الوعي… رآها واقفة هناك. بلا تعبير. بلا ردّة فعل....
..."لم أخبر أمي…" ظن أن الأمر انتهى....
...لكنه لم يكن يعلم…...
...أنها ستقنعها برحلة "للاسترخاء"....
...إلى جزيرة… لا يسمع فيها أحد صراخك....
...إلى جزيرة… لا يهم إن عدت منها، ما دمت قد اختفيت في داخلها....
...يتبع......
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon