في مملكة بعيدة، وراء الجبال المكسوّة بالثلوج والأنهار المتجمّدة، وُلدت أميرة صغيرة في قصرٍ عظيم تتلألأ جدرانه بالذهب والفضّة. كان الجميع يظنّ أنّ حياتها ستكون مليئة بالسعادة والبهجة، كيف لا وهي ابنة الملك الوحيد ووريثته الوحيدة؟ غير أنّ القدر كان قد خبّأ لها طريقاً آخر، طريقاً يملؤه الحزن والمرارة.
منذ أيّامها الأولى، لم تعرف هذه الطفلة حضن الأم، فقد رحلت الملكة وهي تضعها في الدنيا، تاركةً وراءها دموعاً لا تجفّ من عيون القصر. كان الملك والدها يحبّها حبّاً شديداً، لكنّه كان مشغولاً بالحروب وحماية العرش، فتركها في رعاية المربّيات والخادمات. كانت الطفلة تنمو جسداً، لكن قلبها يذبل شيئاً فشيئاً من شدّة الوحدة.
كانت تستيقظ في ليالي الشتاء الباردة، تبحث عن صدرٍ يضمّها، عن يدٍ تربّت على كتفها، فلا تجد سوى فراغ الغرفة الكبيرة، وأصوات الريح تعصف بنوافذ القصر. كان الحزن يرافقها كظلٍّ لا يفارقها، حتى ابتسامتها الطفولية لم تكن تدوم طويلاً.
كبرت الأميرة قليلاً، وبدأت تكتشف أنّها مختلفة عن باقي الأطفال. كانت ترى أبناء الخدم يلعبون مع أمّهاتهم في حدائق القصر، يركضون ويضحكون، فيغمرهم الدفء والحنان. أمّا هي فكانت تقف خلف النوافذ الزجاجية، تنظر إليهم بصمتٍ موجع، وكأنّها مسجونة في عالمٍ لا يعرف معنى الحرية ولا دفء العائلة.
لم تكن وحدتها هي الشيء الوحيد الذي عانته؛ فقد دخلت زوجة أبيها إلى حياتها، امرأة قاسية القلب، ترى في الأميرة الصغيرة تهديداً لمكانتها. كانت تعاملها بجفاء، تُلقي عليها كلمات جارحة، وتحمّلها ذنوباً لم ترتكبها. وإذا ما بكت الطفلة شوقاً إلى أمّها، قالت لها ببرود: "الأمّهات لا يعدن من الموت." فتموت الأميرة الصغيرة مرّة أخرى كلّما سمعت تلك الكلمات.
رغم كلّ ذلك، كانت الأميرة تحمل في داخلها قلباً نقيّاً، يرفض أن يتلوّث بالحقد. كانت تبحث عن الأمل في أبسط الأشياء: في زقزقة العصافير التي تزور نافذتها كلّ صباح، وفي ضوء القمر الذي يتسلّل ليلاً إلى غرفتها فيمسح دموعها بصمته. كانت تحدّث النجوم كأنّها أصدقاء أوفياء، وتبوح لهم بأسرارها الصغيرة، عن خوفها ووحدتها وعن حلمها أن تجد يوماً حضناً دافئاً يشبه حضن الأم.
وذات يومٍ، مرضت الطفلة مرضاً شديداً. جلست في سريرها الواسع ترتجف من الحمى، ولم يقترب منها أحد سوى مربّية عجوز كانت تحبّها في سرّها. اقتربت المربّية من سريرها، أمسكت يدها، وقالت لها بصوتٍ مرتجف: "يا صغيرتي، أنتِ أقوى من الألم. يوماً ما ستكبرين، وسيعرف العالم كلّه قصّتك، وسيعلمون أنّك الأميرة التي حوّلها الحزن إلى أسطورة."
كانت تلك الكلمات كالبلسم على قلب الأميرة. ومنذ ذلك الحين، بدأت تحفظ في أعماقها وعداً صامتاً: أن تتحمّل مرارة طفولتها، وأن تجعل من ألمها جناحين تحلّق بهما نحو مستقبلٍ أجمل.
هكذا عاشت الأميرة سنوات طفولتها، بين جدران القصر المزيّنة، لكنّها كانت جدراناً باردة، لا تحمل أيّ دفء. وبين قسوة زوجة الأب، وصمت والدٍ غائب، ووحشة لا تنتهي، كانت الطفلة تصنع عالماً خاصّاً بها من الخيال. عالمٌ تبنيه من قصص النجوم، ومن أحاديث الريح، ومن أحلامها التي لم يستطع أحد أن يسرقها منها.
كانت أميرةً صغيرة، نعم، لكنّها كانت أيضاً أسيرة الحزن. ولم تكن تعلم أنّ تلك الطفولة المكسوّة بالمرارة ستكون هي البذرة التي ستنبت منها امرأة قويّة، لا يقدر الزمان على كسرها.
ففي القصر الكبير، حيث تلمع الجدران بالذهب وتزهو الأروقة بالحرير، كانت وحيدةً بين جدرانٍ باردة. لم يكن البهاء يُدفِئ قلبها، ولم تكن الضحكات المصطنعة تُزيل عنها وطأة الغربة. كلّ يوم كانت تستيقظ على صدى الصمت، وكلّ ليلة تنام على وسادة أثقلتها الدموع.
كانت تشتاق إلى حضن أمّ لم تعرفه، وإلى يدٍ حنونة تمسح على شعرها حين ترتجف من الخوف. لكنّها لم تجد سوى عيون الحرس الصلبة، ووجوه الجواري الجامدة، وكأنّ القدر شاء أن يضعها في عالمٍ لا يفهم فيه أحدٌ معنى أن تكون طفلة.
ومع ذلك، لم تمت في داخلها شرارة الأمل. فقد وجدت في كتب الحكمة التي ورثتها عن جدّها عزاءً خفيًّا. كانت تقرأها في الليالي الطويلة، فتغدو الكلمات جناحين يرفعانها فوق أسوار القصر. هناك، بين الحروف، تعلّمت أنّ الألم ليس قيدًا، بل معبرًا نحو القوّة، وأنّ القلب مهما انكسر يستطيع أن ينهض أقوى.
كبرت الأميرة، وكبر معها وعيها. لم تعد تنظر إلى الحزن كعدوّ، بل كمعلم. علّمها الصبر، وعلّمها أن تبحث عن المعنى وراء كلّ جرح. وحين صارت شابّة، كان في عينيها بريقٌ مختلف؛ بريق امرأة عرفت القسوة، لكنها لم تستسلم لها.
وكان الناس إذا رأوها قالوا: "هذه ليست أميرة القصور فحسب، بل أميرة الصبر، التي صنعت من دمعها نهراً يسقي قلوب الآخرين."
الفصل التالي...
رغم أنّ طفولتها كانت مزيجًا من الحُلم والجرح، إلّا أنّ الأيام صاغت ملامحها على هيئة لغزٍ حيّ. كانت الأميرة تكبر بين جدران القصر، لكنّ عينيها ظلّتا تلمعان ببريقٍ غامض، وكأنّهما تحملان أسرارًا أبعد من طفولتها. لم يكن أحدٌ يفهم حقًا من أين يأتي ذلك الحزن العميق الذي يسكن قلبها، ولا كيف يمكن لطفلةٍ أن تحمل ثِقَل العاصفة في صدرها الصغير.
يكتنفها الضباب الكثيف كأنّها معلّقة بين السماء والأرض، تحمل في عينيها بريق الحُلم، وفي قلبها شظايا من الحزن لم يفهم سرّها أحد. كان الناس يرونها كزهرةٍ نادرةٍ في بستانٍ من شوك، جميلة الملامح، رقيقة الصوت، ولكنها تحمل على كتفيها عبئاً لا يليق بعمرها الصغير.
لم يكن قصرها كما يظنّ الجميع جنةً من بهجة، بل كان سجناً مُزخرفاً، تتلألأ جدرانه بالذهب وتُزيّن سقوفه بالنجوم، لكن داخله يخنق الأنفاس. منذ طفولتها، عاشت محاطةً بالأسوار العالية والحُرّاس الذين لا يسمحون لها بالاقتراب من بوابة الحرية. كل خطوةٍ لها كانت محسوبة، وكل نظرةٍ تُراقَب، حتى أنّها نسيت طعم العفوية التي يعرفها الأطفال في حدائقهم.
كانت أيّام الأميرة تمضي متشابهة، كأنّها مرسومة بريشة واحدة لا تعرف التغيير. مع إشراقة الصباح، كانت تستيقظ على صوت الجواري وهنّ يفتحن نوافذ الغرفة المذهّبة، فيتسرّب ضوء الشمس عبر ستائر الحرير. كانت تجلس بهدوء أمام مرآتها الكبيرة، تنظر إلى وجهها البريء، وتحاول أن تفهم كيف يمكن لملامحٍ صغيرة أن تخفي وراءها همًّا أكبر من عمرها.
بعد الإفطار، يبدأ برنامجها اليومي: تجلس مع المعلّم لقراءة كتب التاريخ والحكمة، ثم تتدرّب على فنون الخطّ والرسم. لم يكن ذلك مجرد تعليمٍ ملكيّ، بل كان عزاءها الوحيد؛ إذ وجدت في الحروف ملاذًا من صمت القصر، وفي الألوان نافذةً تفتح لها عالمًا أوسع من الجدران العالية.
أحيانًا كانت تُؤخذ إلى قاعة الموسيقى، حيث تعزف المعلمات على العود والناي، فتجلس تُنصت بصمت، كأنّها تغزل من كلّ نغمة حلمًا صغيرًا تهرب به من ثقل يومها. أمّا حين يأتي وقت التدريب على آداب البلاط، فكانت تمشي ببطء فوق أرضية الرخام، تتعلّم الانحناء بخفّة، واختيار الكلمات برصانة، وكأنّها تُدرَّب على أن تُخفي قلبها خلف قناع الملوك.
وفي المساء، حين يسكن القصر ويغفو الجميع، كانت تعود إلى ركنها الخاصّ حيث تحتفظ بكتب قديمة ورثتها عن جدّها. هناك، تحت ضوء الشموع، تغوص في عالمٍ آخر، تتخيّل نفسها تجوب الصحارى، تعبر الغابات، وتسمع أصوات شعوبٍ لم ترها قط. لقد كان الخيال صديقها الأوفى، والكتب بوابتها الوحيدة إلى الحرّية.
ومع ذلك، لم يكن يخلو يومها من لحظات الوحدة الحادّة. كانت أحيانًا تقف عند شرفة القصر العالية، تنظر إلى القرى البعيدة، وتتساءل: "هل يعيش الأطفال هناك حياةً أبسط وأجمل من حياتي؟ هل يضحكون حقًّا من قلوبهم؟" ثم تعود إلى غرفتها وقد ثقل قلبها بأسئلةٍ لا تجد لها جوابًا.
وهكذا كانت أيّامها: مزيجًا من العلم والوحدة، من الأناقة المفرَضة والأحلام المخبّأة. لم يكن أحدٌ يعلم أنّ تلك اللحظات الصغيرة كانت تُنقش في روحها لتصنع منها امرأةً مختلفة عن كلّ الأميرات.
لم يكن تعليم الأميرة مقتصرًا على الكتب والموسيقى فقط، فقد رأت أن المعرفة لا تكتمل إلا حين يقوى الجسد كما يقوى العقل. في ساحة القصر الواسعة، تحت إشراف أحد الفرسان المخلصين، بدأت رحلتها مع الخيل والسيف.
في البداية، كانت تخشى الاقتراب من الحصان الأسود الضخم الذي أُعدّ لها. يلمع وبره تحت الشمس كأنه قطعة من الليل، وعيناه تقدحان شررًا من العزم. ارتجفت يداها حين حاولت أن تلمسه، لكنّ الفارس قال لها بابتسامة:
"الخيل يا سيدتي لا يُروض بالقوة، بل بالثقة. إن شعر بخوفك، خاف منك، وإن شعر بصدقك، منحك ظهره."
أخذت نفسًا عميقًا، ومدّت يدها الصغيرة نحو عنق الحصان، ثم مسحته برفق، فإذا به يخفض رأسه مطمئنًا. ومن تلك اللحظة، بدأت بينهما صداقة خفية، كأنها وُلدت لتجري معه في ميادين أوسع من جدران القصر.
كانت ساعات التدريب شاقة، تسقط أحيانًا عن ظهر الحصان، وتنهض وفي عينيها إصرارٌ أشد من الألم. تعلّمت أن توازن جسدها مع خطوات الخيل، وأن تُمسك اللجام كما لو كانت تمسك قدرها بيديها. وكلما تقدّمت الأيام، صارت الفتاة الصغيرة فارسةً ماهرة، قادرة على أن تطوي الميدان في لحظاتٍ قليلة.
أمّا السيف، فكان قصة أخرى. في البداية كان أثقل من يدها، يجرّها إلى الأرض كلما حاولت رفعه. ضحك الفارس، وقال لها:
"السيف ليس قوة الذراع، بل فنّ الروح. من يجعل قلبه ثابتًا، صار سيفه أخفّ من الهواء."
تدرّبت طويلًا على الضربات والحركات، تنزف يداها من خشونة المقبض، لكنها لم تشتكِ. كانت ترى في كل جرحٍ صغير خطوة نحو قوّةٍ أكبر. شيئًا فشيئًا، صارت حركاتها أكثر ثباتًا، وضرباتها أكثر دقّة، حتى بدا وكأن السيف صار امتدادًا ليدها، والخيل امتدادًا لروحها.
وهكذا، لم تعد الأميرة أسيرة الكتب وحدها، بل صارت تملك جناحين؛ جناح الحكمة وجناح القوة. وكانت كلّ مساء، حين تغرب الشمس خلف أسوار القصر، تشعر أنّها لم تعد طفلة ضعيفة، بل امرأة في طور الولادة، تُعدّها الأقدار لشيءٍ أعظم مما تراه عيناها الآن.
وذات مساء، حين كانت تقف على شُرفة عاليةٍ تطلّ على الغابة المظلمة، هبّت ريح باردة كأنها تهمس في أذنها: "ليس هذا مكانكِ... دربكِ أبعد من هذه الجدران". ارتعش قلبها، وأحسّت بأن هناك شيئاً ينتظرها في عالمٍ مجهول، طريقاً لا تعرف إن كان خلاصاً أم هلاكاً، لكنه بدا أكثر صدقاً من ابتسامات المقرّبين المزيّفة.
الأميرة لم تكن أسيرة القيود الحديدية، بل أسيرة المرارة التي تنبض في صدرها مع كل فجر. كانت تسمع في الليل بكاءها يتردّد بين جدران القصر، ولا أحد يجرؤ على الاقتراب منها. كانت تعرف أنّ أباها الملك، رغم جبروته، يخشى مواجهتها، لأن في عينيها مرآة تكشف زيف انتصاراته ودماء ضحاياه.
كبرت الأميرة وهي تحمل في أعماقها سؤالاً لا يهدأ: "لماذا كُتِب عليَّ أن أعيش بين الجدران، بينما الأرواح خُلِقت لتطير؟" وكلما حاولت أن تجد الجواب، ازدادت مرارتها، كأنها تشرب كل يوم من كأسٍ لا ينضب.
في إحدى الليالي القمرية، تسللت إلى مكتبة القصر، تبحث في كتبٍ قديمة لعلّها تجد فيها أثراً يخفف عنها. وبين الغبار والجلود المهترئة، وقعت يداها على مخطوطٍ غامضٍ عنوانه: "درب المرارة". كان نصّاً مجهول الكاتب، يصف طريقاً مليئاً بالأشواك، لا يسلكه إلا من يبحث عن الحقيقة خلف الوهم. قرأت الكلمات بشغفٍ، وكل سطرٍ كان يشعل في صدرها ناراً، حتى شعرت أنّ المخطوط كُتب لها وحدها.
ومنذ تلك اللحظة، لم يعد القصر مكاناً تتحمّله. صار ضيّقاً كالكفن، وصار الهواء فيه ثقيلاً كالغبار في صدر مريض. كانت تتمنّى أن تفرّ، حتى لو أدركها الموت على أول عتبة من الطريق. لكنّ الخوف كان يقيد قدميها؛ خوف من المجهول، وخوف من الحقيقة التي ربما تكون أكثر إيلاماً من الأسر.
ومع كل فجرٍ، كانت الأميرة تسأل نفسها: "هل أظلّ أسيرةً بين الذهب والجدران، أم أواجه درب المرارة وأكتشف ما يخبّئه لي القدر؟"
هكذا بدأت حكايتها... حكاية أميرةٍ لم تكن تبحث عن التاج ولا عن العرش، بل عن ذاتها الضائعة. وكانت تعلم في سرّها أنّ الطريق لن يُفرش بالورود، بل بالأشواك والدموع، لكنّها أيضاً كانت تؤمن أنّ بين ركام الألم، تولد دوماً بقايا نورٍ قادرة على إنقاذ روحٍ تتشبّث بالحياة.
وبينما كان الليل يبتلع آخر أنفاسه، وقفت الأميرة أمام النافذة، تنظر إلى الأفق البعيد. لم يكن أحد يعلم أنّها في تلك اللحظة قد اتّخذت قرارها: أن تغادر قصرها، وتخطو نحو المجهول... نحو درب المرارة، حيث ستكتشف أنّ الحرية أحياناً ليست سوى وجهٍ آخر للألم، وأن الحقيقة قد تكون أثقل من السلاسل.
وحين بزغ الصبح، كان كل شيء يبدو كما هو في القصر: الجدران العالية، الممرات الموشّاة، الحُرّاس بوجوههم الجامدة. لكن في قلب الأميرة، كان شيءٌ قد تغيّر. لم تعد نظراتها هي نفسها، ولا أنفاسها، كأن روحها قد أُيقظت من نومٍ طويل. لقد اتخذت القرار، والقرار في قلبٍ جريحٍ أخطر من السيوف.
في الليل التالي، حين سكنت الأروقة ولم يبقَ سوى وقع خطوات الحُرّاس، ارتدت الأميرة ثوباً بسيطاً لا يليق بعرشٍ ولا بأميرة. لفت عباءةً سوداء حول جسدها، وأخفت ملامحها خلف نقابٍ خفيف، ثم سارت بخفةٍ كظلٍّ عابر. كل خطوةٍ كانت تشبه ارتجافة قلبٍ يخطو نحو المجهول.
اقتربت من البوابة الخلفية للقصر، تلك التي لم يقترب منها أحد إلا الخدم، وكان القمر يرافقها كأنّه شاهدٌ صامت على تمرّدها. رفعت بصرها إليه، وهمست:
"يا قمر، إن كنتَ شاهداً على أسرار القلوب، فكن لي رفيقاً في هذا الدرب، علّك تُضيء عتمتي."
لكن الأقدار لا تمنح الحرية بلا امتحان. فقد رآها أحد الحرّاس، وصاح بها متسائلاً. ارتجفت في لحظة، ثم استجمعت كل ما بقي لها من قوة وقالت بصوتٍ مبحوح:
"أنا خادمة أرسلتني الملكة... إلى السوق القريب."
نظر إليها الحارس بريبة، غير أنّ الظلام والنعاس أنقذاها، فلوّح بيده متكاسلاً، وتركها تمضي. عندها، أحسّت الأميرة لأول مرة بطعم الانتصار الصغير، كأنها نجت من قبضة موتٍ محقق.
خرجت من أسوار القصر، وسارت في طرقاتٍ لم تعرفها من قبل. لأول مرة تلمس قدماها تراب الأرض بلا بساطٍ حريري، ولأول مرة تسمع صمت الليل الحقيقي، لا صمت الجدران. كل شيء بدا لها غريباً، لكنها كانت تعرف في أعماقها أنّ هذا الغريب هو الحقّ، وأن ما تركته خلفها لم يكن سوى وهمٍ مصاغ من ذهب.
وما إن ابتعدت خطواتها عن آخر ظلٍّ للقصر، حتى أحست بثقلٍ غريبٍ يزول عن صدرها. كأن السلاسل التي كبّلتها أعواماً قد تكسّرت، لكن بدلاً من أن تشعر بخفةٍ مطلقة، اجتاحها خوفٌ أعظم:
"إلى أين؟"
كانت الطرق أمامها ثلاثة: دربٌ يمرّ بالغابة المظلمة التي لا يجرؤ أحد على دخولها، وآخر يقود إلى المدينة التي طالما سمعت عنها حكايات الفقر والجوع، وثالث يتيه في صحراء لا يعرف لها أحد نهاية. وقفت مترددة، والريح الباردة تعصف بعباءتها، حتى بدا لها أنّ القدر نفسه يختبرها.
سمعت في داخلها صوتاً، لم تعرف أهو صدى قلبها أم نداء غامض من الغيب:
"لن تجدي الحقيقة إلا حيث الألم، ولن تبلغي الحرية إلا إذا ذُقتِ المرارة."
رفعت بصرها إلى الغابة، حيث الأشجار متشابكة كالأسرار، والظلال ترقص على ضوء القمر، فشعرت بأنّها هي الطريق الذي كُتب لها. تنفست بعمق، وبدأت تخطو نحوه، كمن يقدّم نفسه قرباناً لحلمٍ لم يكتمل.
ومنذ تلك اللحظة، عند عتبة الغابة، أدركت أنّ حياتها القديمة قد انطفأت، وأنّ صفحةً جديدة توشك أن تُكتب.وحين ابتلعتها ظلال الغابة، بدا كأنّ الأشجار تهمس باسمها، وكأنّ القدر ذاته قد أغلق خلفها كلّ أبواب العودة.بخطواتٍ مترددة، دخلت عالم الغابة... عالمٌ سيختبر قلبها أكثر مما اختبرته جدران القصر.
دخلت الأميرة الغابة حين حلّ سكون الليل وغطّت الظلال أرجاء الغابة، كانت السماء صافيةً مرصّعةً ببقعٍ فضية من النجوم تتلألأ كجواهر معلقة في الفراغ. الأشجار كانت شاهقة، جذوعها ضخمة وأوراقها كثيفة، تتشابك الأغصان كشبكةٍ سرية تحرس قلب الغابة. مع كل خطوة تخطوها الأميرة على التراب الرطب، كان صمت الليل يحيط بها برقة، يُسمع بينه حفيف الأوراق الخافت وهمس الريح العابرة، كأن الغابة نفسها تروي لها أسرارها دون أن تُخيفها.
مع أول خطوة وضعتها على التراب الرطب، شعرت ببرودة الأرض تحت قدميها، وأصوات الحصى والأوراق المتساقطة تصدر همساتٍ خافتة، كأن الغابة نفسها تروي قصصها القديمة. كان الهواء مليئاً برائحة الأرض المبتلة والعشب والياسمين البري، عطر يغمر الرئتين ويملأ القلب بالطمأنينة. كل شهيق كان كاتصال مباشر مع روح الغابة، وكل نفسٍ يذكرها بأن الليل يحمل حياة خفية لا تراها إلا العيون التي تنظر بعمق.
النسيم كان رقيقاً، يمر بين الأغصان ويداعب وجهها، يحرك خصلات شعرها برفق، ويجعل عباءتها تتراقص مع الهواء. ومع كل حركة للنسيم، كانت أشعة القمر تتسلل بين الشقوق والفروع، لتلامس جلدها بنعومة، فتشعر بلمسة ضوء باردة وهادئة في الوقت نفسه، كأن القمر نفسه يبارك رحلتها ويغمرها بسحره.
أصوات الطيور الليلية كانت تتعالى بين الحين والآخر، بعضها يغرد بفرح، وبعضها يهمس في الظلام كأنها سر الطبيعة المخبأ. تمايل الأوراق وصوت الريح بينها خلق سيمفونية خفية، موسيقى صامتة يسمعها القلب قبل الأذن، ويشعر بها الروح قبل العقل.
بين الأشجار، ظهرت بقع من الضوء الفضي للقمر تتراقص على الأرض، ترسم أشكالاً غامضة وكأنها دعوات خفية للاستكشاف. الأميرة تمعنت في الظلال، فرأت حيوانات صغيرة تمر بصمت بين الأعشاب، وفراشات ليلية ترفرف بأجنحتها كما لو كانت تحمل أسرار الغابة معها.
جلست على صخرة صغيرة مغطاة بالطحالب، وأغمضت عينيها للحظة، مستمعة إلى أصغر التفاصيل: حفيف الأوراق، همس الريح، صدى الطيور، ورائحة التراب العميقة، ولمسة القمر الفضية على جلدها. شعرت بأن كل شيء حولها ينبض بالحياة، وأن الغابة بأكملها أصبحت صديقها ومرشدها وصديق روحها.
ثم لاحظت نقطة ضوء متلألئة بين الأشجار، قنديل صغير يطفو في الهواء، كدعوة للغابة لتتبع السر الخفي. نهضت بحذر، تتبعه بين الأشجار، وكل خطوة تشعر فيها بأن الأرض نفسها تبتسم لها، وأن كل حجر وكل ورقة تشاركها رحلتها.
الظلام لم يكن مخيفاً بعد الآن، بل صار جميلاً، مليئاً بالألوان الخفية والحياة السرية. الأميرة شعرت بالسلام الداخلي، وكأن الكون كله يحتضنها: الغابة، الطيور، القمر، النجوم، وحتى الهواء نفسه. كل عنصر أصبح جزءاً من روحها، وكل لحظة في الغابة كانت قصيدة حية، تُكتب على صفحة الليل.
جلست الأميرة وفتحت عينيها، والنظر حولها كشف لها سحر الغابة الحقيقي: انعكاس القمر على الأوراق المبللة، تحرك الظلال بين الأشجار، ألوان صغيرة للفطر الليلي، ورائحة التراب الطازج الممتزجة بنسمات النسيم. شعرت أن كل شيء في الغابة حيّ ويتنفس معها، وأن الليل ليس مجرد غياب للضوء، بل عالم كامل من الجمال والصمت والحياة المخفية.
الغابة التي دخلتها الأميرة لم تكن مجرّد مكانٍ مظلمٍ مكتظّ بالأشجار؛ كانت عالماً قائماً بذاته، يُخفي بين أغصانه أسراراً لا تنكشف إلا لمن يجرؤ على اختراقه. كان الهواء هناك أثقل من هواء القصر، ورائحة الرطوبة تختلط بعبق الأعشاب البرّية، فيملأ صدرها بمزيجٍ من الخوف والدهشة.
كانت كلّ خطوة تُحدث صدى مكتوماً بين الأغصان، وكأنّ الغابة تردّد وقع قدميها في همسٍ خفيّ، لتذكّرها أنها ليست وحدها. عينُ القمر بالكاد تتسلّل من بين أوراق السنديان والبلوط، فتُضيء طريقها المتعرّج ومقاطع جذورٍ ناتئة كالأفاعي.
شعرت الأميرة للحظةٍ أنّ الأشجار تنحني نحوها، تراقبها، تختبر عزمها. وكان قلبها يرتجف، لكنها لم تتوقف. كلّما أرادت العودة، تذكّرت المخطوط الغامض: "درب المرارة لا يُسلك إلا بقلوبٍ لم تعد تحتمل الأقفاص."
مرّت ساعات وهي تسير في عمق الغابة، حتى بدا لها أنّ الليل لا ينتهي. وفجأة، سمعت خرير ماءٍ بعيد، فاتّجهت نحوه. هناك، وجدت جدولاً صغيراً يتلألأ تحت ضوء القمر، فجلست عند ضفافه، تغرف بيديها جرعة ماءٍ بارد، لعلّها تخفّف عطشها وارتجاف قلبها.
لكن ما إن رفعت رأسها حتى رأت على الضفة المقابلة عينين تلمعان في الظلام. تجمّدت في مكانها. كانت عينان صفراوان كاللهيب، تنبضان بحذرٍ وصيدٍ في آن. أطلّ ذئب رماديّ ضخم من بين الأشجار، تقدّم ببطء، وكل خطوة له تحفر صدى في صدرها.
أمسكت طرف عباءتها وكادت تهرب، لكن قدميها كُبّلتا بالذعر. تذكّرت تدريبها على السيف، على الثبات أمام الخوف، رغم أنّها لم تحمل سيفها معها. همست في داخلها:
"الخوف يقتلك قبل أن يقتلك العدو."
اقترب الذئب حتى صار بينهما الجدول فقط. حدّق فيها طويلاً، ثم رفع رأسه إلى القمر وعوى عواءً اخترق سكون الغابة. لحظةً بعدها، تراجع بخطواتٍ بطيئة، واختفى بين الظلال. جلست الأميرة متهالكة على الأرض، تتنفّس كمن عاد من موتٍ مؤجّل، وأدركت أنّ الغابة لا تريد القضاء عليها، بل اختبار صلابتها.
واصلت الأميرة رحلتها في عمق الغابة، والليل يلفّها بسكونه المهيب. كان كل خيط ضوء القمر يتسلل بين الأغصان ليضيء لها الطريق، وتتناثر حولها بقايا الضباب كوشاح فضّي يختلط برائحة التراب الرطب والأعشاب العطرة. مع كل خطوة، كانت تسمع حفيف الأوراق وهمس الريح كأنها تحكي لها حكايات الغابة السرية، عن حيوانات تختبئ في الظلال، وعن أسرار الأشجار القديمة التي شهدت قروناً من الليل والنجوم.
في لحظةٍ شعرت فيها أن الغابة تنفّس معها، توقف قلبها عندما سمعت خرير جدولٍ قريب، ينساب بين الحجارة برقة. اقتربت من الجدول وجلست على حافة حجر مغطى بالطحالب، تسمع صوت المياه كأنها تهدهد روحها، وتستشعر البرودة الخفيفة التي تتسلل إلى أصابعها. فوقها، القمر يعكس ضوءه على سطح الماء، فيظهر كمرآة صغيرة تحمل صوراً متحركة من الظلال والنجوم.
بينما كانت تستجمع قوتها، لاحظت ضوءاً خافتاً يتحرك بين الأشجار. تقدمت ببطء، كل خطوة مدروسة، حتى وجدت كوخاً صغيراً مخفياً بين الأشجار الكثيفة، يخرج منه دخانٌ رقيق ينساب في الهواء ويختلط برائحة الأرض الرطبة والعشب. شعرت الأميرة بالراحة والحذر معاً، وكأن هذا المكان يحمل وعداً بالحكمة لكنه يختبر صبرها أولاً.
طرقت الباب بخفة، ففتح ببطء، وظهرت امرأة مسنّة، عينها سوداء لامعة كقطعتين من العقيق، وظهرها منحني كغصن شجرة جافة. نظرت إليها مليّاً ثم قالت بصوتٍ أجشّ:
"ألم أظن يوماً أن أرى أميرةً تتسلل بين الأشجار في هذا الظلام... ما الذي جاء بكِ إلى هنا، ابنة القصور؟"
أجابت الأميرة بصوت خافت، ممتزج بالخوف والشجاعة:
"جئتُ لأتعلم... لأفهم ما وراء حدود قصوري."
ابتسمت العجوز ابتسامة غامضة، ثم فتحت الباب على مصراعيه وقالت:
"إذاً، الطريق بدأ للتو. الغابة ستعلمكِ أكثر مما تتصورين، وكل خطوة ستكشف لكِ نفسك الحقيقية، لا الصورة التي ربطت بها في القصر."
دخلت الأميرة الكوخ، وإذا به بسيط وهادئ، رفوفه مليئة بالأعشاب الجافة والقوارير الصغيرة، ومن وسطه نارٌ صغيرة ترسل دفئها على الجدران. جلست قرب النار، تمدد الضوء على وجهها، وشعرت بأن قلبها يبدأ في فهم لغة المكان: لغة الصمت، والريح، والماء، والنار، وكل شيء في الغابة له كلامه الخاص.
أخرجت العجوز كوباً من شرابٍ ساخن وقدّمته لها، وقالت:
"اشربي، فمسارك طويل، وكل خطوة فيه اختبار، وكل لحظة ستعلّمك شيئاً عن قوتك وصبرك."
جلسا معاً، والليل ينساب من نوافذ الكوخ الصغيرة، والأميرة تسمع همسات الغابة من بعيد، تتعلم أن الحكمة ليست في الكتب فقط، بل في مراقبة الظلال، في فهم لغة الطيور، وفي الإصغاء إلى صوت الروح التي تهمس داخلها.
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon