---
📖
الليل كان ثقيلاً بشكل غير مألوف، حتى بدا وكأن الغيوم تحالفت مع الريح لتحجب أي ضوء يمكن أن يتسرّب إلى القرية. لم يكن هناك قمر يراقب السماء، ولا نجم يتلألأ ليعطي أملاً صغيراً في هذا السواد. الأزقة التي عادةً تضجّ بالخطوات والضحكات خلال النهار، غمرها صمت خانق لا يقطعه سوى حفيف أوراق الأشجار البعيدة. حتى الكلاب التي كانت تملأ الليالي نباحاً، جلست مطأطئة الرؤوس وكأنها أحست بشيء يقترب.
في طرف القرية، حيث الطريق الضيق يتلوى بين الأشجار مثل أفعى مظلمة، وقف منزل قديم، مهجور منذ أكثر من ثلاثين عاماً. كان الجميع يتجنّب المرور بجواره، خصوصاً بعد أن تناقلت الألسن حكايات غامضة عنه: أصوات خطوات تُسمع من الداخل في منتصف الليل، أضواء خافتة تظهر في النوافذ المهشمة ثم تختفي فجأة، وظلال تتحرك خلف الستائر الممزقة رغم أن لا أحد يعيش هناك. الأطفال كانوا يتهامسون أن البيت ملعون، والكهول يرفعون أيديهم بالدعاء كلما مرّوا قربه.
ذلك المساء، كان "يوسف" يقف أمام الباب الحديدي الكبير الذي صدأ مع الزمن حتى صار لونه مزيجاً من الأحمر القاني والأسود الداكن. بيده مصباح صغير، يرتجف ضوءه كأنما يخاف الدخول أكثر من صاحبه. يوسف لم يكن مغامراً بطبعه، بل على العكس، كان دائماً عقلانياً، بعيداً عن الخرافات. لكن هذه الليلة لم يكن الدافع فضولاً ولا حباً للاكتشاف، بل شيئاً أعمق وأثقل: الحزن.
قبل أسبوع واحد فقط، فقد يوسف أعزّ أصدقائه، "سامر". كانا مثل الأخوين، بل أقرب من ذلك. منذ الطفولة وهما يتقاسمان كل شيء: المدرسة، اللعب، وحتى أسرار لا يعرفها أحد سواهما. لكن فجأة، انتهت تلك الصداقة نهاية صادمة حين وُجد سامر جثة هامدة عند عتبة هذا المنزل بالذات. الشرطة أصدرت تقريراً بارداً: "حادث عرضي". قالوا إن سامر ربما انزلق وسقط، لكن يوسف لم يقتنع. لم يكن سامر من النوع الذي يغامر أو يقترب من هذا المكان المخيف وحده. لا بد أن شيئاً ما دفعه إلى هنا، أو… أحدهم.
كان يوسف يتذكر اللحظة التي تلقى فيها الخبر جيداً. كيف انهارت والدته باكية، وكيف جلس هو عاجزاً عن الكلام، يحاول أن يصدّق أن صديقه الذي كان يضحك معه صباح الأمس قد صار جثة بلا روح. لكن ما زاد الألم أنه لم يجد تفسيراً لما حدث. شيء غامض، مظلم، يختبئ وراء تلك الجدران القديمة. ولهذا وقف الآن أمام الباب، قلبه يخفق بشدة لكنه يرفض التراجع.
مدّ يده ببطء نحو الباب، دفعه، فصدر عنه صرير طويل مخيف، كأن المنزل يحتج على دخوله. خطا يوسف خطوة إلى الداخل، وما إن فعل ذلك حتى انطفأ مصباحه فجأة، تاركاً المكان غارقاً في العتمة. سرت في جسده قشعريرة، شعر بأنفاس باردة تمر بجانب أذنه، ثم جاءه همس خافت، كأنما ينبعث من أعماق الجدران نفسها:
"ما كان ينبغي لك أن تأتي…"
تجمد في مكانه. حاول أن يقنع نفسه بأن ما سمعه مجرد وهم صنعه الخوف، لكن قلبه كان يدق بعنف، وجسده يصرخ بأن الخطر قريب. رفع المصباح محاولاً إشعاله من جديد، وبعد لحظات مرت كدهر، عاد الضوء باهتاً يرتجف، كأنه يواجه صراعاً للبقاء.
انكشفت أمامه ردهة واسعة، أرضيتها مغطاة بطبقة كثيفة من الغبار، والجدران متشققة كأنها تحمل آثار معارك قديمة. قطع الأثاث القليلة المتبقية هنا وهناك كانت مكسورة، بعضها مقلوب، وأخرى مغطاة بملاءات مهترئة. لكن أكثر ما لفت نظره هو أثر طويل، داكن اللون، يمتد من الباب حتى السلالم في نهاية الردهة. انحنى قليلاً، وجه مصباحه نحوه، فشعر بارتجافة في معدته… كان الأثر يبدو كخط من الدم الجاف.
ابتلع ريقه بصعوبة، وبدأت الأسئلة تهاجمه: هل هذا هو الدم الذي تركه سامر ليلة موته؟ وإن كان كذلك، لماذا لم تذكر الشرطة أي شيء عنه؟ أم أن هذا أثر قديم… أقدم مما يظن؟
توقف للحظة، وأصغى. البيت كله بدا وكأنه يهمس. أصوات خافتة تأتي من الطابق العلوي، كخطوات تبتعد ببطء، ثم تختفي فجأة.
يوسف تمتم بصوت مبحوح: "سامر… هل كنت هنا فعلاً؟"
لكن لا إجابة جاءت سوى صوت النافذة المكسورة وهي ترتجف مع الريح.
ورغم الخوف الذي ينهش قلبه، شعر يوسف بشيء يدفعه إلى الداخل أكثر، كأن قوة خفية تسحبه نحو السلالم حيث ينتهي أثر الدم. تردّد لثوانٍ، ثم شدد قبضته على المصباح، وقال في نفسه: "لن أخرج قبل أن أعرف الحقيقة… مهما كان الثمن."
وبينما رفع قدمه ليصعد أول درجة، دوّى فجأة صوت غلق باب خلفه بقوة، ارتجّ له المكان كله. التفت مذعوراً، فلم يجد أحداً. المصباح ارتعش في يده، وفي تلك اللحظة لمح على الحائط كتابة باهتة بخط غريب، بالكاد تُرى تحت الغبار:
"الذي يدخل… لا يخرج."
---
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon