في فجرٍ جديد من تاريخ الأمة، حينما كانت الشام تتنفس هواءً مثقلاً بالغبار والدماء، وتئنّ من جراح الحروب الصليبية، بزغ نجمٌ من الشرق ليعيد للأرض كرامتها وللقلوب أملها. لم يكن هذا النجم سوى صلاح الدين يوسف بن أيوب، الفتى الكردي الذي وُلِد في كنف أسرةٍ متواضعة لكنها حملت في عروقها دماء الفروسية والإيمان. كان مولده في تكريت سنة 532هـ، في ليلةٍ فارقة، كأنّ القدر أراد أن يكتب سطوراً جديدة في كتاب المجد، ويُهيّئ بطلاً سيكون له شأن في تغيير موازين التاريخ.
نشأ صلاح الدين بين أجواءٍ مضطربة، حيث الصراع بين الأمراء المسلمين وتناحر القوى الداخلية، بينما كانت جيوش الصليبيين تواصل زحفها على ديار الإسلام. غير أنّ قلبه الصغير كان يتّقد بحبّ الدين، وعقله الفتيّ يتسع للحكمة والمعرفة. منذ نعومة أظفاره، لزم حلقات العلماء، وتشرّب من مجالس الفقهاء والقرّاء، فامتزج في شخصيته العلم بالجهاد، والرحمة بالحزم، والإيمان بالعمل. لم يكن فارساً يحمل السيف فحسب، بل كان عقلاً مدبّراً يعرف أنّ النصر لا يتحقق بالقوة وحدها، بل بالتوحيد والوحدة، وبإحياء الروح في نفوس الرجال.
في شوارع دمشق وحلب والموصل، كان صلاح الدين يرى بوضوح أثر الانقسام بين المسلمين، وكيف أضعفهم التنافس على العروش والمناصب. كان قلبه ينزف ألماً وهو يشاهد جيوش الفرنجة تسيطر على بيت المقدس، أولى القبلتين، وتدنّس الأرض الطاهرة. غير أن الألم عنده لم يكن ضعفاً، بل كان شرارةً أيقظت عزيمته ليحمل همّاً أكبر من ذاته، وليجعل حياته كلّها وقفاً على نصرة الدين وتحرير الأرض.
لم يأتِ صلاح الدين من فراغ، فقد تربّى في كنف نور الدين زنكي، القائد العادل الذي زرع في نفسه حبّ العدل ورفض الظلم، وغرس فيه عقيدة الجهاد الصادق. هناك تعلّم أنّ الفارس الحقّ لا يُقاس بقوة عضلاته، بل بصفاء قلبه وإخلاص نيّته، وأنّ الحاكم العادل هو من يقيم الدين قبل أن يقيم الملك. من نور الدين أخذ صلاح الدين بذور الإصلاح والوحدة، ومن والده نجم الدين أيوب تعلّم الحكمة والقيادة، ومن أمه شرب الحنان والرحمة التي ستجعل منه قائداً يعرف كيف يجمع حوله القلوب قبل أن يجمع السيوف.
ومع الأيام، صار صلاح الدين رجلاً تتناقل الناس أخبار شجاعته وكرمه. لم يكن سيفه يرهب الأعداء بقدر ما كان قلبه يأسر الأصدقاء والخصوم معاً. كان فارساً يعرف للعدو قدره، وللأسير حقه، وللشعب مكانته. لم يكن النصر عنده غاية دنيوية، بل كان عبادة وقربة، وكان يرى أن تحرير القدس ليس حلماً شخصياً، بل أمانة في عنقه سيحاسبه الله عليها يوم القيامة.
هذه الرواية ليست مجرّد سرد لأحداث عسكرية أو ملاحم بطولية، بل هي رحلة في أعماق رجلٍ عاش للحق، وبذل روحه من أجل أمةٍ نامت طويلاً تحت ظلال الضعف. هي نافذة تطلّ على إنسانٍ جمع بين خشوع العابد في محرابه، وصلابة القائد في ميدانه، ورقّة الأب في بيته. في كل فصل من فصول حياته، سنجد حكمة تُلهم، ودمعة تُوقظ، وسيفاً يكتب بالدم معنى العزة والحرية.
سنمضي مع صلاح الدين منذ طفولته في تكريت، مروراً بأيام شبابه في دمشق، وتدرّجه في بلاط نور الدين زنكي، وصولاً إلى معركة حطين التي غيّرت وجه التاريخ، وانتهاءً بفتحه للقدس الشريف. سنرى كيف وحّد القلوب بعد أن تفرّقت، وكيف جمع الأمة على كلمة سواء، وكيف كان إيمانه العميق هو السلاح الحقيقي الذي لا يُقهر.
هذه الصفحات ليست سوى محاولة لإعادة رسم صورة بطلٍ لم يكن ملكاً عادياً ولا قائداً عابراً، بل كان إنساناً استثنائياً حمل همّ أمة بكاملها، وصاغ من الألم أملاً، ومن الضعف قوة، ومن الفرقة وحدة. هنا تبدأ الحكاية، حكاية رجلٍ أشرق فجره من تكريت، ليضيء سماء القدس، ويكتب بدمه ودموعه وفروسيته فصولاً خالدة في ذاكرة الزمان.
كانت بلاد الشام في ذلك الزمان تزهو بجمالها؛ جبالها شامخة كأنها تحرس القرى الوادعة، وأنهارها تنساب بين البساتين في صفاءٍ كصفاء القلوب المؤمنة. وفي هذه الأرض الطيبة، نشأ شاب من بيتٍ عريق، بيتٍ عُرف بالعلم والدين والكرم، اسمه نجم الدين أيوب.
كان أيوب طويل القامة، قوي البنية، يعلو وجهه وقارٌ مبكر، كأن في عينيه بريقًا يخبرك أن له شأنًا في الغد. لم يكن يلهو كما يلهو أقرانه، ولا يطلب من الدنيا إلا ما يُعينه على طاعة الله. ورغم مكانته بين قومه، بقي قلبه خاليًا من الزوجة التي يتمنى أن تكون رفيقة حياته. تساءل الناس:
«كيف لرجلٍ مثله أن يتأخر زواجه؟»
فيبتسم ويجيب بهدوء:
«ما أطلب جمالًا ولا مالًا، إنما أرجو زوجةً تقية، تعينني على ديني.»
وفي ناحية أخرى من الشام، نشأت فتاة صالحة تُدعى شمسة. كان وجهها يشرق بالحياء، وعيناها تشعّان بذكاءٍ صامت، كأنهما تبصران ما وراء الظاهر. ربتها أسرتها على حب القرآن، فكانت تُكثر من تلاوته في ليلها، وتبسط كفيها بالدعاء:
«اللهم ارزقني زوجًا صالحًا، أكون له نصيرًا في طاعتك.»
مرت السنون ولم يتقدم لها من يملأ قلبها يقينًا، فصارت بعض النساء يقلن لها مازحات:
«لقد تأخرتِ يا شمسة، ألا تخافين أن يفوتك العمر؟»
فتبتسم في سكينة وتجيب:
«الزواج رزق، وما كان رزقي ليضيع.»
اللقاء الذي خبأه القدر
لم يكن يعرف أحد أن خيوط الغيب تنسج خفية. ففي موسم الحج، التقى والد نجم الدين بوالد شمسة. تحدّثا طويلًا، ثم قال الأول:
«لي ولد شاب، لم أجد له بعد من تليق به.»
فأجابه الثاني:
«وأنا لي ابنة تنتظر من يعرف قدرها.»
كانت كلمات يسيرة، لكنها كانت بداية القدر. فما إن عادوا إلى بلادهم حتى تمّت الخطبة، واجتمع القلبان بعد انتظار طويل. يوم اللقاء الأول، شعر نجم الدين أن روحه تعرف هذه الفتاة منذ زمن بعيد، ورأت شمسة في ملامحه صدق الرجال ووقار المؤمنين.
-بيتٌ على الطاعة
لم يكن زواجهما زواج دنيا أو زينة، بل ميثاقًا بين روحين. في ليلة الزفاف، جلس نجم الدين إلى جوارها وقال:
«ما أردتك إلا سندًا حين أضعف، ورفيقةً في دربي إذا أظلم الطريق.»
فأجابته في طمأنينة:
«وأنا ما جئت إلا لأكون لك نصيرًا في الدنيا، وأملًا في الآخرة.»
ومنذ تلك الليلة، غمر بيتهما نور خاص. كان نجم الدين يعود من عمله فيجد في زوجته ملاذًا وسكينة، وكانت هي تستقبله بالكلمة الطيبة، وتشد من عزيمته بحديث ملؤه الثقة بالله. كثيرًا ما همست له قائلة:
«يا أبا يوسف، أشعر أن الله سيمنّ علينا بولد له شأن عظيم في هذه الأمة.»
فيضحك برفق ويقول:
«إن رزقنا الله ولدًا، فليجمع فيه إيمانك وصبرك، وشجاعتي وحزمي.»
استقرّ نجم الدين في تكريت حيث تولّى شؤونها مع أخيه أسد الدين شيركوه في خدمة آل زنكي. لكن القدر لا يمهّد لطريق العظماء إلا بالابتلاء. وقع حادث قتل على يد أحد الجنود، فغضب السلطان وأمر بنفي الأسرة كلها.
كانت ليلة حالكة، والريح تعصف، والزوجة الحامل تجلس على ظهر الدابة متعبة، بينما زوجها يقود الركب وفي قلبه قلق يخفيه عن عينيها. رفعت يدها على بطنها وقالت بصوتٍ متهدّج:
«لعل الله يجعل من هذا الولد فرجًا لنا وفتحًا للأمة.»
فأمسك يدها بحنان وقال بثبات:
«اصبري يا رفيقة دربي، إن الله لا يختار عباده عبثًا.»
خرجوا من تكريت مثقلين بالأسى، لكنهم حملوا في صدورهم رجاءً لا ينطفئ.
وصلوا إلى الموصل، حيث استقبلهم الأمير عماد الدين زنكي بترحاب، مدركًا أن هذه الأسرة أثمن من أن تُضيعها محنة. وهناك، بعد أيام قليلة، بزغ الفجر الذي انتظره القدر. وضعت شمسة مولودها، وارتفع صراخه الأول كأنه إعلان لولادة مرحلة جديدة في تاريخ الأمة.
حمله نجم الدين بين ذراعيه، نظر في ملامحه الصغيرة، وقال بصوت تغشاه الدموع:
«هذا يوسف… هبة الله لنا.»
لم يكن يدري أن هذا الطفل سيُعرف يومًا باسم صلاح الدين الأيوبي، وأنه سيكون القائد الذي يعيد القدس إلى حضن الإسلام، ويرفع راية الأمة بعد طول انكسار.
وُلد البطل لا في قصرٍ ولا بين رغد العيش، بل من رحم المحن، في ليلة نفيٍ قاسية. كأنما القدر أراد أن يعلّمه منذ اللحظة الأولى أن البطولة لا تصنعها الراحة، بل يَصهرها الابتلاء، وأن النصر يولد حين يُربى الرجال على الصبر واليقين.
وهكذا، لم يكن تأخر زواج نجم الدين وشمسة، ولا محنتهما في تكريت، إلا تمهيدًا لأجمل الأقدار: ميلاد رجلٍ سيكتب للتاريخ فصلًا جديدًا، ويعيد للأمة عزتها المفقودة.
نشأ يوسف بن نجم الدين أيوب في بيتٍ مطبوعٍ على الصبر والإيمان، بيتٍ علّمه منذ اللحظة الأولى أن المجد لا يُهدى، وإنما يُنال بالتعب واليقين. لم يعرف رفاهية القصور ولا دلال المترفين، بل وُلد في محنةٍ، وترعرع بين شدائد الزمان، حتى كأن القدر أراد أن يصنعه على عينه، ويُهيئه لأعظم رسالة.
في سنوات طفولته الأولى، كان يوسف قريبًا من والدته شمسة، التي غمرته بحنانها، ولكنها لم تتركه يلين للدنيا أو يركن إليها. كثيرًا ما كانت تُجلسه إلى جوارها عند الفجر، بعد أن تؤدي صلاتها، وتفتح مصحفها، ثم تهمس له بصوتٍ عذب:
«يا بني، من أراد أن يكون عزيزًا، فليعتز بكتاب الله، فهو النور الذي لا ينطفئ.»
وكان قلب الطفل يتفتح مع كل آيةٍ يسمعها، فيحفظ ما استطاع، ويشعر أن هذه الكلمات تملأ صدره طمأنينة لا تشبه شيئًا من متاع الدنيا.
أما والده نجم الدين، فقد كان له الأثر الكبير في صقل شخصيته. كان يأخذه إلى مجالس الرجال، ويُجلسه في أطرافها، ليتعلّم من الأحاديث كيف يكون القائد، وكيف تُدار الأمور بالعدل والحزم. لم يكن يوسف يلهو مثل بقية الأطفال، بل كان ينصت بعينين متقدتين، كأنما يستوعب ما يقال ليبني عليه مستقبله.
وعندما كان يعود إلى البيت، كان والده يربت على كتفه ويقول له:
«يا يوسف، تذكّر أن الرجال يُعرفون في الشدائد، لا في أوقات الراحة. من أراد أن يقود، فليبدأ بقيادة نفسه.»
فتكبر في قلبه معاني الرجولة قبل أن يشتد عوده، ويشعر أن الله يعده لأمر عظيم.
حب الفروسية والجهاد
منذ صغره، كان يوسف مولعًا بالخيل. لم يكن يرى في صهيلها مجرد صوتٍ يطرب الأذن، بل نداءً يوقظ في قلبه العزيمة. كان يركض مع الصبية في ميادين الموصل، يتعلم ركوب الجياد، ويُمسك بالقوس والسهام، محاولًا إصابة الأهداف. ولطالما سقط وأصيب، لكنه ما استسلم يومًا، بل كان ينهض وفي عينيه بريقٌ يقول: «سأحاول حتى أنجح.»
لاحظ عمّه، أسد الدين شيركوه، هذه الروح المبكرة، فأخذه تحت رعايته، يعلمه فنون الحرب، ويروي له قصص الفاتحين. كان يقول له:
«يا يوسف، السيوف لا ترفعها الأذرع وحدها، بل ترفعها القلوب المؤمنة. إن أردت أن تكون فارسًا بحق، فكن أولًا رجلًا لله.»
فتشبّع قلبه بهذا الدرس، وأدرك أن البطولة لا تكون بالقوة فقط، بل بالنية الصافية، والعزيمة المخلصة.
علم وعمل
لم يكن يوسف محاربًا صغيرًا فحسب، بل كان عاشقًا للعلم. كان والده يحرص أن يجلس بين أيدي العلماء والفقهاء، يتعلم الفقه والحديث، ويستمع لتفسير القرآن. كان يجلس الساعات الطوال منصتًا، فإذا عاد إلى البيت، قصّ على أمه ما سمعه، فتفرح به وتدعو له أن يجعله الله من حماة الدين.
وكلما كبر عامًا، ازداد تعلقًا بالمعرفة. لم يكن العلم عنده ترفًا، بل كان يرى فيه الزاد الحقيقي الذي يُقوي قلبه ويهذب عقله. وحين كان ينظر إلى رجال زمانه، كان يُدرك أن من جمع بين العلم والسيف، فقد جمع سر النصر في الدنيا والآخرة.
كان يوسف مختلفًا عن أقرانه. إذا غضبوا، حلم؛ وإذا لعبوا، تذكّر أن له شأنًا أعظم من اللهو. كان صادقًا في قوله، حازمًا في أفعاله، لا يحب الكذب ولا يقبل الغش. وبهذا، أحبّه الناس، ورأوا فيه شخصية فريدة، وكأنهم يستشعرون أن هذا الصبي يُخبئ في داخله رجلًا عظيمًا ستشهد له الأمة يومًا.
ولطالما همست أمه لنفسها وهي تراه نائمًا:
«اللهم اجعله عبدك الصالح، وامنحه من القوة ما ينصر به دينك.»
وكان والده ينظر إليه بإعجاب ورضا، ويقول:
«هذا الغلام إن عاش، فسيكون له شأنٌ عظيم.»
وهكذا، نشأ صلاح الدين بين القرآن والسيف، بين العلم والعمل، بين الحزم والرحمة. طفولة حملت في طياتها ملامح رجلٍ لا تهيئه الحياة لمجدٍ شخصي، بل لرسالة كبرى تنتظره.
كان القدر ينسج خيوطه ببطء، ليصنع من ذلك الطفل الهادئ قائدًا عظيمًا. وكأن كل يومٍ يعيشه، كان خطوة على طريق طويل، ينتهي عند لحظة خالدة: يوم يُعيد القدس إلى حضن الإسلام، ويرفع راية لا إله إلا الله فوق أسوارها.
لقد كان يوسف بن أيوب طفلًا، نعم، لكنه كان طفلًا وُلد في رحم المحن، وكُتب له أن يكبر على أعين الله، ليصير صلاح الدين الذي سيُعيد للأمة عزتها المفقودة، ويكتب بدمه وسيفه قصةً لا تنطفئ من ذاكرة التاريخ.
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon