لم يكن الرحيل مجرد خطوة عابرة في حياة "ليلى"، بل كان قرارًا ثقيلاً تحمله بين ضلوعها كجمر مشتعل. في تلك الليلة الأخيرة، جلست في غرفتها المظلمة، تتأمل حقيبتها الصغيرة التي بدت وكأنها تحمل ثِقل سنوات طويلة من الذكريات. كل قطعة ملابس فيها كانت شاهدة على لحظة، كل ورقة كانت تحمل ذكرى، وكل صورة كانت خنجرًا في قلبها يذكّرها بما مضى.
خرجت إلى الشرفة لتودّع المدينة، فملامحها كانت محفورة على جدران قلبها؛ الشوارع، المقاهي، حتى رائحة المطر كانت تذكرها بضحكات اختفت، وبكلمات لم تُقَل. كانت تعرف أن الرحيل ليس نهاية القصة، لكنه بداية لفصل جديد، فصل لا تعرف إن كان سيحمل الأمل أم الخيبة.
في تلك اللحظة، دخل "آدم" وهو يحمل في عينيه سؤالاً واحدًا:
– "هل أنتِ متأكدة؟"
لم تُجب. فقط نظرت إليه نظرة طويلة، وكأنها تقول له: "لقد حاولت كثيرًا، لكن قلبي لم يعد يحتمل."
أغلقت الباب خلفها ببطء، وأحست كأنها تغلق معه كل النوافذ التي كانت تفتحها للحياة. خطواتها في الممر كانت ثقيلة، لكنها تعلم أن كل خطوة تقرّبها من حريتها.
"الرحيل ليس ضعفًا، بل قوة تختبئ خلف الصمت."
بهذه الجملة أقنعت نفسها وهي تركب الحافلة، متجهة نحو المجهول، نحو حياة لم ترسم ملامحها
الفصل الثاني: الطريق إلى المجهول
كانت خطوات ليلى بطيئة، ثقيلة، كأن كل خطوة تمثل وداعًا لجزء من روحها. سارت في الشارع المبتل، بينما أضواء السيارات تنعكس على الأرض كذكريات تتلاشى. لم تكن تعرف إلى أين تقودها قدماها، كل ما تعرفه أنها لا تستطيع العودة.
وصلت إلى محطة الحافلات، جلست على مقعد حديدي بارد، وعيناها تبحثان في وجوه الغرباء عن طمأنينة لم تجدها. صوت المطر كان يهمس لها: "أنتِ لستِ وحدك... كل بداية مؤلمة تحمل في طياتها نورًا خفيًا."
بينما تنتظر، أخرجت هاتفها، نظرت إلى صورها القديمة مع آدم. ضحكتها في تلك الصور كانت تبدو بعيدة، وكأنها فتاة أخرى غير تلك التي تجلس الآن. دمعة ساخنة انزلقت على خدها، لكنها لم تمسحها، تركتها تسقط لتغسل قلبها من ثقل الماضي.
صوت الحافلة القادمة قطع شرودها. وقفت سريعًا، وضعت حقيبتها على كتفها، وصعدت الدرجات ببطء، وكأنها تصعد إلى قدر مجهول. اختارت مقعدًا بجانب النافذة، وأسندت رأسها إلى الزجاج البارد.
تحركت الحافلة، وبدأت المدينة تتراجع خلفها شيئًا فشيئًا. الشوارع التي عاشت فيها، المقاهي التي جمعتها بآدم، والأماكن التي شهدت لحظات ضعفها وفرحها، كلها صارت صورًا باهتة تختفي مع كل دقيقة.
في داخلها، كان صوتان يتصارعان؛ أحدهما يصرخ: "عُودي، هذا المكان لكِ." والآخر يهمس: "امضي، فالحياة الحقيقية لم تبدأ بعد."
فجأة، أخرجت من حقيبتها دفترًا صغيرًا وكتبت:
"الرحيل ليس نهاية الطريق، بل بداية لقصة جديدة. ربما أجد نفسي، وربما أجد شيئًا كنت أفتقده منذ زمن."
رفعت رأسها إلى السماء المظلمة، ابتسمت بخفة، وشعرت لأول مرة منذ سنوات أن قلبها يتنفس.
الفصل الثالث: مدينة بلا وجوه
وصلت الحافلة إلى المدينة الجديدة عند الفجر، والسماء ما زالت تحمل بقايا ظلام الليل. كان المكان مختلفًا تمامًا عما اعتادت عليه ليلى، فالطرقات خالية إلا من بضع سيارات عابرة، والهدوء يكسو كل شيء. شعرت وكأنها دخلت عالمًا بلا ملامح، بلا أصوات، مدينة بلا وجوه تعرفها.
نزلت من الحافلة وهي تحتضن حقيبتها بإحكام، وقلبها يخفق بتوتر. لم يكن لديها خطط واضحة، كل ما تعرفه هو أنها بحاجة إلى بداية جديدة، بعيدة عن كل ما يؤلمها. نظرت حولها بحثًا عن أي مأوى مؤقت، ولاحظت لافتة صغيرة لمقهى يفتح أبوابه باكرًا.
دخلت المقهى وجلست على طاولة في الزاوية، تطلب كوب قهوة ساخن لتدفئ يديها. كان المكان شبه فارغ، إلا من رجل مسن يجلس بعيدًا يقرأ جريدته. أخرجت دفترها وبدأت تكتب:
"المدينة صامتة كقلبي، لكنها تمنحني شعورًا غريبًا بالسلام. ربما لأنني لا أعرف أحدًا هنا، وربما لأنني أخيرًا أستطيع أن أكون نفسي دون أقنعة."
بينما تكتب، اقتربت منها النادلة بابتسامة ودودة وسألتها إن كانت بحاجة إلى شيء آخر. شكرتها ليلى بابتسامة خجولة، ثم عادت إلى دفترها.
فجأة، وصلتها رسالة على هاتفها من رقم آدم:
"ليلى، هل أنتِ بخير؟ لا أستطيع أن أتخيل أنني لن أراكِ مجددًا."
قرأت الرسالة عدة مرات، لكن أصابعها لم تتحرك للرد. لم يكن لديها القوة الكافية لمواجهة ذلك الماضي الآن.
بعد ساعة، خرجت من المقهى لتبدأ البحث عن مكان للإقامة. كل شارع كانت تمر به بدا وكأنه يراقبها، وكل مبنى غريب جعلها تدرك كم هي وحيدة في هذه المدينة. ومع ذلك، كان هناك شيء بداخلها يقول:
"هنا، قد تبدأ الحكاية التي لطالما انتظرتها."
الفصل الثالث: القطة السوداء
كانت المدينة غريبة عليها، كل شارع فيها يهمس بقصص لم تعرفها من قبل. الليل هنا ليس مثل ليل مدينتها القديمة، إنه أشبه بوحش يتربص، بأضواء خافتة وأصوات سيارات بعيدة، وبرودة تسري في العظام. بعد يوم طويل من البحث عن مكان للسكن، جلست على مقعد حديدي في حديقة مهجورة، يرافقها الصمت وثقل الحيرة.
وفجأة، جاء صوت خافت من الظلام… مواء ضعيف، كأنه نداء من روح وحيدة. التفتت، فرأت قطة سوداء صغيرة تجلس على الرصيف، عيناها اللامعتان تبرقان وكأنهما تبوحان بشيء لم تفهمه بعد. كانت القطة نحيفة، متسخة بعض الشيء، ويبدو عليها الجوع والبرد.
اقتربت بحذر، لكن القطة لم تهرب، بل تقدمت خطوة نحوها. شعرت بشيء غريب في قلبها، إحساس بالألفة. مدّت يدها بخفة، ولم تمضِ ثوانٍ حتى قفزت القطة إلى حضنها.
"حتى أنتِ تبحثين عن مأوى… مثلي تمامًا"، همست وهي تمسح على فرائها.
قررت أن تأخذها معها، حتى وإن لم تكن تعرف ما الذي ينتظرها. توجهت إلى محل بقالة صغير قريب، اشترت علبة تونة وبعض الحليب، وجلست على الرصيف تطعمها. كانت القطة تأكل بنهم، وعيناها تلمعان في كل مرة ترفع رأسها وكأنها تقول "شكرًا".
في طريق العودة إلى الفندق، شعرت أن وجود القطة معها يُشعرها بالأمان. لأول مرة منذ رحيلها، أحست أنها ليست وحدها. حين وصلت إلى غرفتها الضيقة، وضعت القطة على البطانية وجلست بجوارها. لم يمر وقت طويل حتى نامت بجانبها، والقطة ملتفة على نفسها ككرة صغيرة من الدفء.
تلك الليلة، حلمت حلمًا عجيبًا…
رأت القطة تمشي في ممر طويل مليء بالأبواب القديمة. كل باب كان يحمل لوحة عليها كلمة واحدة: "العودة"، "الأمل"، "الخوف"، و"الحب". توقفت القطة أمام باب ذهبي ومواءت بقوة. فتحت الباب ببطء، لتجد نفسها فجأة في بيتها القديم، حيث رائحة أمها وضحكات أختها الصغيرة. استيقظت فجأة، قلبها يخفق، وهي تتمتم: "هل هي مجرد قطة؟ أم أنها علامة من القدر؟"
في الصباح، قررت الخروج من الفندق لتبحث عن عمل. كانت القطة تتبعها في كل خطوة، وكأنها ترفض أن تتركها. وفي أحد الأزقة الضيقة، لفت انتباهها رجل مسن يجلس على مقعد خشبي، ينظر إلى القطة بدهشة.
"هذه القطة… ليست غريبة عني"، قال الرجل بصوت خافت.
توقفت تنظر إليه، وسألته: "تعرفها؟"
ابتسم قائلاً: "لقد فقدتها منذ أسبوع، اسمها "ليلى". كنت أبحث عنها في كل مكان."
شعرت بشيء غريب… وكأن وجود القطة كان سببًا لتقابل هذا الرجل. أعطته القطة، لكنه شكرها بحرارة ودعاها للجلوس. تبادلوا الحديث، وأخبرها أنه يملك مقهى صغير في الشارع الرئيسي. ثم عرض عليها العمل معه، قائلاً: "يبدو أنكِ تحتاجين إلى بداية جديدة، وأنا أحتاج إلى شخص أمين يساعدني."
لم تصدق ما حدث. قطة ضائعة فتحت لها باب رزق وملاذ آمن.
ابتسمت وهي تنظر إلى القطة التي كانت تلعق يد الرجل، وقالت: "أظن أن القدر كان يعرف ما يفعل."
في ذلك المساء، عادت إلى غرفتها وهي تحمل شعورًا مختلفًا. شعور بالراحة، وكأن القطة السوداء لم تكن مجرد حيوان ضائع، بل كانت رسولًا صغيرًا جاء ليخبرها أن لكل ضياع طريقًا إلى الأمان. جلست على السرير، تنظر من النافذة إلى السماء المظلمة، وتتمتم: "ربما هذا هو أول خيط من الضوء في حياتي الجديدة."
الفصل الرابع: المقهى القديم
في صباح اليوم التالي، استيقظت على صوت القطة وهي تتمدد بجانبها، كأنها تعلن بداية يوم جديد مليء بالتحديات. نظرت من نافذة الغرفة، فوجدت ضوء الشمس يتسلل بكسل عبر الغيوم، يلمع على الشوارع المبتلة من مطر الليلة الماضية. شعرت بأن شيئًا مختلفًا ينتظرها اليوم.
ارتدت ملابسها البسيطة وقررت أن تزور المقهى الذي وعدها الرجل العجوز بالعمل فيه. المقهى كان يقع عند زاوية شارع ضيق، يبدو وكأنه من زمن آخر. واجهته الخشبية القديمة مغطاة بطلاء باهت، ولافتته كتب عليها بخط يدوي أنيق: "مقهى السكينة".
دفعت الباب ببطء، ودخلت. رائحة القهوة الطازجة امتزجت بعبق الخشب القديم، وفي الخلفية كانت هناك موسيقى هادئة تأتي من جهاز قديم. وقف الرجل العجوز خلف الطاولة، ابتسم لها ابتسامة ودودة قائلاً:
"أهلاً بكِ يا ابنتي. يبدو أن القطة لم تفارقك، أليس كذلك؟"
ابتسمت وهي تنظر إلى القطة التي كانت تتبعها كما لو كانت حارسًا شخصيًا. جلست على الطاولة، بينما ناولها كوبًا من القهوة الساخنة، وقال:
"هل فكرتِ في عرضي؟ العمل هنا بسيط، لكني أحتاج إلى شخص يمكنه أن يحافظ على روح المكان."
وافقت دون تردد، فالمكان منحها شعورًا بالانتماء. كان المقهى شبه خالٍ من الزبائن، إلا من رجلين يبدوان كأنهما يعرفان بعضهما منذ زمن، يتحدثان بصوت منخفض.
بعد ساعات قليلة من العمل، لاحظت أن هناك غرفة صغيرة خلف المقهى، بابها نصف مفتوح، وفي داخلها كانت هناك رفوف مليئة بصور قديمة بالأبيض والأسود، ورسائل في أظرف صفراء. لم تستطع منع فضولها، فاقتربت قليلاً لترى صورة قديمة لرجل يشبه صاحب المقهى، يقف بجانب امرأة شابة.
قبل أن تسأل، جاء صوت الرجل العجوز خلفها:
"هذه صور من الماضي… أحيانًا الماضي لا يرحل، لكنه يعلمنا أن نواصل."
تراجعت بخجل وقالت: "لم أقصد التطفل، فقط لفتتني الصور."
ابتسم قائلاً: "لا بأس، ربما يومًا سأحكي لكِ الحكاية كلها."
في نهاية اليوم، بينما كانت تستعد للمغادرة، اقترب منها الرجل وقال:
"أريدك أن تتذكري شيئًا… المدينة ليست كما تبدو. ستجدين هنا من يساعدك، لكن ستجدين أيضًا من يخفي وراء ابتسامته ألف سر."
كلماته جعلتها تشعر بشيء غامض في قلبها، وكأن المقهى ليس مجرد مكان للعمل، بل بداية لقصة أكبر.
خرجت وهي تحمل القطة بين ذراعيها، وفي طريق العودة شعرت بشخص يراقبها من بعيد. التفتت سريعًا، لكن لم تجد أحدًا. كان الشارع فارغًا إلا من صوت الريح ومواء القطة الذي صار أشبه بتحذير خفي.
حين وصلت إلى الفندق، جلست بجانب النافذة تفكر في الرجل العجوز وكلامه. من يكون حقًا؟ ولماذا عرض عليها العمل بهذه السرعة؟ هل هي صدفة أم أن هناك ما لا تعرفه؟
القطة جلست عند قدميها، وعيناها تلمعان في الظلام، كأنها تعرف شيئًا خفيًا. ابتسمت قائلة:
"أظن أن مغامرتنا الحقيقية بدأت الآن يا ليلى."
الفصل الخامس: الرسالة الغامضة
كانت الليلة تمطر بشدة، والرياح تعصف بشوارع المدينة وكأنها تحمل معها نذرًا لشيء قادم. جلست بجوار النافذة في غرفتها بالفندق، تراقب قطرات المطر وهي تتسابق على الزجاج. القطة "ليلى" كانت مستلقية على قدميها، تنظر إليها بعيون واسعة كأنها تفهم ما يدور في رأسها.
منذ أن بدأت العمل في "مقهى السكينة"، لم تتوقف الأسئلة عن مطاردتها. لماذا عرض عليها الرجل العجوز العمل بهذه السرعة؟ وما سر الصور القديمة التي رآتها في الغرفة الخلفية للمقهى؟ كانت هناك امرأة شابة في إحدى الصور، ابتسامتها مليئة بالحياة، لكن عينيها تحملان سرًا دفينًا.
في اليوم التالي، قررت أن تذهب إلى المقهى قبل موعد العمل بساعات. حين وصلت، وجدت الباب نصف مغلق، وصوت الرجل العجوز يتحدث في الهاتف بنبرة قلقة:
"لا، لا يمكن أن تقترب من هنا… إن اكتشفت شيئًا فسيكون الأمر خطيرًا."
لم تفهم شيئًا، لكن كلماته جعلت قلبها يخفق بقوة. طرقت الباب بخفة، فسكت الرجل فجأة وأغلق الهاتف بسرعة.
"أوه، لقد جئتِ مبكرًا!" قال بابتسامة متصنعة.
أجابت بتوتر: "لم أستطع النوم، فقلت أساعدك في التحضير."
ابتسم مجددًا، لكن في عينيه كان هناك قلق واضح.
بينما كانت تنظف الطاولات، لاحظت أن الغرفة الخلفية مفتوحة قليلًا. لم تستطع مقاومة فضولها، فتسللت بخطوات خفيفة. هناك، رأت شيئًا لم تلحظه من قبل: صندوق خشبي صغير على الرف الأعلى، يبدو قديمًا جدًا. فتحته بحذر، فوجدت داخله رسائل كثيرة مكتوبة بخط يدوي قديم، وبعض الصور التي تبدو وكأنها التقطت في زمن الحرب.
إحدى الرسائل لفتت انتباهها. كانت مغلقة بشريط أحمر، وعليها مكتوب:
"إلى من يجد هذه الرسالة… سرّنا لم يعد آمنًا."
ترددت لحظة، ثم فتحت الرسالة ببطء. الكلمات بداخلها كانت غريبة:
"إذا وجدت هذه الرسالة، فاعلمي أن هناك من سيبحث عنك. هناك حقيبة مخبأة تحت أرضية المقهى، تحتوي على ما يكفي لإنهاء كل شيء. لا تثقي بأحد… حتى بي."
تجمدت في مكانها. هل كتب الرجل العجوز هذه الرسالة؟ وماذا يعني بـ "لا تثقي بأحد"؟
في تلك اللحظة، سمعت صوت خطوات خلفها. التفتت لتجد الرجل العجوز يقف عند باب الغرفة، وجهه جامد وصوته منخفض:
"ماذا تفعلين هنا؟"
حاولت التظاهر بالهدوء: "كنت… أبحث عن شيء لتنظيف الطاولات، ووجدت هذا الصندوق."
تقدم ببطء، أخذ الرسالة من يدها وقال:
"هذه الرسائل… ذكريات من الماضي. لا تفتحي شيئًا دون إذني."
ثم خرج من الغرفة دون أن يضيف شيئًا.
لكن فضولها لم يهدأ. طوال اليوم، كان عقلها مشغولًا بالحقيبة المخبأة. في المساء، حين انتهى الزبائن من مغادرة المقهى، قررت أن تتحقق بنفسها.
عندما تأكدت أن الرجل العجوز ذهب إلى الطابق العلوي، جلست على الأرض وبدأت تتحسس البلاط الخشبي. بعد دقائق من البحث، وجدت لوحًا مختلفًا قليلًا عن باقي الأرضية. رفعته بصعوبة، وهناك… وجدت حقيبة جلدية قديمة.
فتحت الحقيبة فوجدت بداخلها عدة أوراق رسمية، صورًا لأشخاص لا تعرفهم، وخريطة قديمة عليها علامة × باللون الأحمر. كان هناك أيضًا صندوق صغير مغلق بقفل.
فجأة، سمعت صرخة الرجل العجوز:
"ماذا تفعلين؟!"
ارتبكت وسقطت الأوراق من يدها. نظر إليها بعينين غاضبتين لأول مرة منذ أن تعرفت عليه.
"هل قرأتِ شيئًا من هذا؟"
ترددت ثم قالت: "كنت فقط أبحث عن الحقيقة… لماذا هذه الأوراق هنا؟ من هؤلاء الأشخاص؟"
تنهد الرجل بعمق، وجلس على الكرسي أمامها، ثم قال بصوت حزين:
"حسنًا… حان الوقت لتعرفي. هذه الأوراق تخص شقيقي الذي اختفى منذ عشرين عامًا. كان يعمل في وظيفة خطيرة، وهناك أسرار كبيرة لا يمكن كشفها بسهولة. القطة… هذه القطة التي وجدتها ليست عادية، كانت القطة المفضلة لشقيقي. أعتقد أن القدر أتى بكِ إلى هنا لسبب."
تراجعت قليلًا وهي تحدق به، لم تعرف ماذا تقول. سألته: "وماذا عن الرسالة التي تقول ألا أثق بأحد؟"
ابتسم ابتسامة باهتة وقال: "لأن من يبحث عن هذه الأوراق لن يتوقف حتى يجدها. ربما يكون هناك أشخاص يراقبوننا بالفعل."
في تلك اللحظة، شعرت أن كل شيء تغير. لم تعد حياتها مجرد رحلة هروب من الماضي، بل أصبحت جزءًا من لغز أكبر بكثير.
وفي الليل، عندما عادت إلى غرفتها، وضعت القطة بجوارها، وأخذت تنظر إلى الخريطة التي خبأتها في جيبها قبل أن يراها الرجل العجوز. على الخريطة كان هناك اسم مكان لم تسمع به من قبل: "وادي الظلال".
تمتمت بصوت منخفض:
"ربما تكون هذه بداية الرحلة الحقيقية…"
الفصل السادس: وادي الظلال
كانت الساعة تقترب من منتصف الليل، والمدينة صامتة كأنها تخفي شيئًا في قلبها. جلست بجوار النافذة، الخريطة بين يديها، وعيناها تبحثان عن أي معنى لاسم المكان الغامض: "وادي الظلال". لم يكن هذا اسمًا مألوفًا، وكأن الخريطة تعود لزمن بعيد أو لمدينة أخرى لا يعرفها أحد.
القطة "ليلى" كانت تتنقل في الغرفة بعصبية، وكأنها تستشعر ما يجري في عقل صاحبتها. قالت لها وهي تنظر إليها:
"هل تظنين أن هذا المكان موجود فعلًا؟"
مواءت القطة بخفة، ثم قفزت إلى النافذة، تحدق في الشارع المظلم.
في اليوم التالي، قررت أن تواجه الرجل العجوز بالحقيقة. دخلت المقهى في الصباح الباكر، وهو كان يجلس كعادته خلف الطاولة يقرأ جريدة قديمة.
"أريد أن أعرف كل شيء عن هذه الخريطة،" قالتها وهي تضع الورقة أمامه.
رفع عينيه إليها، وعلامات القلق بادية على وجهه.
"لماذا تحتفظين بهذه؟ كان يجب أن تعيديها."
"لأنني شعرت أنني أصبحت جزءًا من القصة، وأن عليّ أن أعرف."
تنهد العجوز، وأغلق الجريدة، ثم قال بصوت منخفض:
"وادي الظلال مكان خطير… ليس كل من دخله عاد. شقيقي كان يبحث عن سر قديم، يتعلق بكنز مفقود أو وثائق خطيرة. هناك أشخاص كثيرون مستعدون لفعل أي شيء للوصول إلى هذا السر، حتى لو كان الثمن حياة إنسان."
"هل شقيقك ما زال حيًا؟"
"لا أعرف… آخر ما وصلني أنه اختفى وهو يبحث عن وادي الظلال. ومنذ ذلك الحين، لم أسمع عنه شيئًا."
لم تستطع تجاهل شعورها بالفضول. شيء بداخلها كان يدفعها للذهاب إلى هناك.
"أريد أن أذهب إلى هذا المكان. ربما أجد شيئًا يساعدنا."
ابتسم العجوز بسخرية خفيفة: "هل تعرفين المخاطر؟ الطريق طويل، وهناك من يراقبنا. منذ وجدتي هذه القطة، وأنا أشعر أن هناك عيونًا تترصد المكان."
رحلة البحث عن وادي الظلال
في ذلك المساء، وبينما كانت تساعد في تنظيف المقهى، لاحظت رجلاً غريبًا يجلس في زاوية المقهى، يراقبها بتمعن. لم يكن يشرب قهوته، فقط ينظر إليها وعيناه تتابع كل حركة تقوم بها. همس العجوز لها:
"لا تظهري توترك، هذا الرجل ليس من هنا. أظن أنه يعرف شيئًا عن الأوراق التي وجدتِها."
وبعد أن غادر الرجل، قال العجوز:
"يجب أن تخفي الخريطة جيدًا. وربما… يجب أن ترحلي الليلة نفسها."
لكنها لم تعد خائفة، بل شعرت أن هذا هو طريقها.
"لا، سأبحث عن وادي الظلال، ولن أتراجع. لو كان شقيقك ضاع هناك، ربما يمكنني اكتشاف الحقيقة."
قرر العجوز أن يساعدها. أعطاها حقيبة صغيرة تحتوي على بعض الطعام، مصباح يدوي قديم، وبوصلة.
"الطريق ليس سهلًا، لكن الخريطة ستقودك. احذري الطرق الجانبية، ولا تثقي بأحد تقابلينه."
الوصول إلى الطريق الغامض
في الفجر، خرجت من الفندق، والقطة "ليلى" تصر على مرافقتها. أخذت حافلة إلى أطراف المدينة، حيث ينتهي الطريق الإسفلتي وتبدأ الطرق الترابية المهجورة.
كانت الخريطة قديمة، لكنها واضحة بما يكفي لترشدها. بعد ساعات من السير، وصلت إلى تلة مرتفعة، وهناك ظهرت أمامها غابة كثيفة، هي المدخل إلى "وادي الظلال". الهواء كان ثقيلاً، والأشجار تعلو كأنها جدران ضخمة تخفي أسرارًا عتيقة.
بينما كانت تتوغل في الغابة، سمعت صوت أوراق تتحرك خلفها. استدارت بسرعة، لكنها لم ترَ شيئًا سوى الظلال. شعرت أن أحدًا يتبعها.
وبعد خطوات قليلة، سمعت صوتًا خافتًا يقول:
"لن تنجحي… عودي الآن."
تجمدت في مكانها، لكنها لم ترَ أحدًا. ربما كان وهمًا أو ربما… أحد يراقبها بالفعل.
اكتشاف الرسالة الثانية
عند غروب الشمس، وصلت إلى كوخ قديم، يبدو مهجورًا منذ سنوات. قررت أن تقضي الليل فيه. داخل الكوخ، وجدت صندوقًا صغيرًا على الطاولة، وعليه ورقة مكتوب فيها:
"إذا كنتِ وصلتِ إلى هنا، فاعلمي أن وادي الظلال ليس مجرد مكان، بل لعنة. من يبحث عن الحقيقة… قد لا يحتملها."
فتحت الصندوق، فوجدت داخله مفتاحًا معدنيًا غريب الشكل، وكيسًا صغيرًا فيه عملات قديمة، وورقة أخرى مرسومة عليها نفس علامة × الموجودة على خريطتها.
في تلك اللحظة، سمعت صوت خطوات تقترب من الكوخ. اختبأت بسرعة خلف باب خشبي مكسور، ورأت نفس الرجل الذي كان يراقبها في المقهى يدخل، يحمل مصباحًا يدويًا ويبحث عن شيء.
"أعرف أنك هنا،" قال بصوت بارد. "أعيدي الخريطة، لن ينجو أحد لو وصلتِ إلى الوادي."
الهروب من الرجل الغامض
تمسكت بالقطة بين ذراعيها، وخرجت بهدوء من الباب الخلفي للكوخ، ثم بدأت تجري بين الأشجار. كان قلبها يخفق بسرعة، وصوت الرجل يقترب. ركضت بلا توقف حتى وصلت إلى مجرى مائي صغير، واختبأت خلف صخرة كبيرة.
بعد دقائق من الصمت، رأت الرجل يمر من أمامها وهو يلعن بصوت عالٍ، ثم يبتعد.
نظرت إلى الخريطة مجددًا، وأدركت أن الخطوة التالية تقودها إلى ممر ضيق بين الصخور، يفضي إلى قلب الوادي. قررت أن تواصل، مهما كان الثمن.
الوصول إلى وادي الظلال
مع أول ضوء للفجر، وصلت إلى مكان يشبه المدخل. كان الوادي عميقًا ومظلمًا، وكأن الشمس لا تصل إليه أبدًا. شعرت ببرودة غير طبيعية، وكأنها دخلت عالمًا آخر.
في قلب الوادي، كانت هناك أطلال حجرية قديمة، عليها نقوش غامضة. وبين الحجارة، رأت صندوقًا معدنيًا نصف مدفون في الأرض. عندما اقتربت، شعرت أن المكان كله يراقبها، حتى القطة بدت متوترة.
فتحت الصندوق، فوجدت بداخله مخطوطات قديمة، وصورة جديدة… صورة الرجل العجوز مع شقيقه، لكن في الصورة كان هناك رجل ثالث، وهو نفس الرجل الذي طاردها في الغابة!
تمتمت بصوت مرتجف:
"ما الذي يحدث هنا؟"
-
الفصل السابع: الحقيقة الأخيرة
كانت يداها ترتجفان وهي تمسك بالصورة التي وجدت في الصندوق. صورة تجمع الرجل العجوز، وشقيقه المفقود، والرجل الغامض الذي كان يطاردها في الغابة. شعرت أن كل شيء صار أكثر غموضًا.
"هل يمكن أن يكون هذا الرجل صديقهم؟ أم عدواً خانهم؟"
لم يكن لديها وقت لتفكر كثيرًا. فجأة، سمعت صوت خطوات ثقيلة تقترب من مدخل الوادي. حاولت إخفاء الصندوق تحت عباءتها، لكن قبل أن تتحرك ظهر الرجل الغامض أمامها.
"أخيرًا وجدتك،" قال بابتسامة خبيثة. "هل تظنين أنكِ الوحيدة التي تبحث عن السر؟"
تراجعت خطوة إلى الخلف، والقطة بين ذراعيها تحدق بالرجل وكأنها تدرك خطورته.
"من أنت؟ ولماذا تطاردني؟"
ضحك بصوت منخفض وقال:
"أنا الرجل الذي كان شريك شقيق العجوز. نحن بدأنا هذه الرحلة منذ عشرين عامًا، للبحث عن وثائق تدين أشخاصًا كبارًا. لكن شقيقه خذلنا… هرب ومعه نصف الحقيقة. وأنا كنت أبحث عن هذا النصف منذ ذلك الحين."
أشارت إلى الصورة وقالت:
"أنت في الصورة… ماذا حدث بينكم؟"
اقترب أكثر وقال:
"خيانة. هو اختفى، وأنا ظللت أبحث عنه. أما هذا المقهى العجوز فكان واجهة لإخفاء ما تركه شقيقه."
عودة الرجل العجوز
قبل أن تتمكن من الرد، سمعت صوتًا مألوفًا خلفها. كان الرجل العجوز يقف هناك، يحمل مسدسًا صدئًا.
"اتركها وشأنها،" قال العجوز بنبرة حادة.
ضحك الرجل الغامض وقال:
"ما زلت تلعب دور الحامي؟ لقد سرقت كل شيء مني، حتى أسرار أخيك."
رفع العجوز المسدس وقال:
"أخي لم يسرق شيئًا، بل حاول إنقاذ الحقيقة من أمثالك."
ثم نظر إليها وقال:
"خذي الصندوق، اذهبي الآن!"
لكنها لم تستطع التحرك.
"لن أتركك وحدك،" صرخت.
اقترب الرجل الغامض بسرعة، ودارت لحظة صراع قصيرة بينه وبين العجوز. سقط المسدس على الأرض، وكانت هي تقف عاجزة لا تعرف ماذا تفعل.
القطة تنقذ الموقف
بينما كان الرجل الغامض يحاول الإمساك بالعجوز، قفزت القطة فجأة على وجهه وخدشته بشدة. صرخ الرجل، فتحت هي الفرصة لتلتقط المسدس وتصرخ:
"توقف وإلا أطلقت النار!"
رفع الرجل يديه ببطء، وعيناه مليئتان بالغضب.
"لا تفهمين شيئًا… هذه الأوراق لن تجلب لكِ سوى الدمار."
لكنها لم تستمع إليه. أخذت الصندوق وابتعدت، بينما ساعدت العجوز على الوقوف.
كشف السر
بعد أن غادروا الوادي، جلس العجوز على صخرة قريبة، يتنفس بصعوبة.
"يجب أن تعرفي الحقيقة الآن… شقيقي لم يختفِ فقط، بل قُتل بسبب هذه الوثائق. كان هناك شبكة كبيرة من الأشخاص الذين يخافون من الحقيقة التي كان يحملها."
نظرت إليه بعينين دامعتين وقالت:
"ولماذا أنا؟ لماذا جئت في طريقي هذه القصة كلها؟"
ابتسم العجوز وقال:
"ربما القدر اختاركِ لتكملي الطريق. وجود القطة كان علامة، كأنها أرادت أن تقودكِ إلى الحقيقة."
فتحت الصندوق أمامه، وبدأا يقرآن الوثائق القديمة. كانت هناك أسماء لرجال أعمال فاسدين، وشهادات تثبت تورطهم في جرائم كبيرة.
"هذه الوثائق يجب أن ترى النور،" قالت بحزم.
هز العجوز رأسه: "لكن نشرها سيجعل حياتك في خطر. هؤلاء الرجال لن يتركوكِ."
القرار الأخير
في تلك الليلة، جلست في المقهى، تفكر في كل ما حدث. الرجل الغامض اختفى في الغابة بعد أن هربا، لكنها تعلم أنه سيعود.
"هل سأهرب مرة أخرى؟ أم سأواجه هذا القدر؟" سألت نفسها.
القطة جلست أمامها، تحدق بها وكأنها تقول: "القوة في المواجهة."
قررت أن تذهب في الصباح إلى صحيفة محلية وتسلّم الوثائق للصحفيين. وبالفعل، فعلت ذلك. لكن بمجرد أن خرجت من مقر الصحيفة، شعرت أن هناك من يراقبها من بعيد.
النهاية المفاجئة
في اليوم التالي، امتلأت الصحف بالعناوين الكبيرة:
"فضيحة كبرى تكشف فساد رجال أعمال بارزين."
كانت هذه لحظة الانتصار، لكنها لم تدم طويلاً. في المساء، حين عادت إلى المقهى، وجدت العجوز جالسًا بهدوء، ابتسم لها وقال:
"لقد فعلتِ ما لم أستطع فعله لسنوات. لكن يجب أن ترحلي الآن، المدينة لم تعد آمنة."
أرادت أن تعترض، لكنه وضع يده على كتفها وقال:
"رحيلك هذه المرة ليس هروبًا… بل بداية جديدة."
غادرت المدينة مع القطة "ليلى" في حقيبتها الصغيرة، والسماء كانت صافية كأنها تودعها بابتسامة. نظرت من نافذة الحافلة إلى الشوارع التي تركتها وراءها، وأحست أن قلبها أخيرًا خفيف.
"الرحيل ليس النهاية، بل ولادة جديدة.
الخاتمة
هنا تنتهي رحلتنا بين سطور هذه الرواية، التي حاولت أن تكون مرآة للروح ونافذة على عوالم خفية من المشاعر والأحداث. قد لا تكون النهاية سوى بداية جديدة لقصة أخرى في عقولكم وقلوبكم، فالكلمات لا تنتهي ما دام فينا شغف الحلم.
تقدير وامتنان
إلى كل قارئ أضاء بعينيه هذه الصفحات، أشكركم من القلب على وقتكم ومشاعركم التي منحتوا بها هذه القصة حياةً حقيقية. أنتم الوقود الحقيقي لكل كلمة كتبت، وبدونكم ما كان لهذه الرواية أن ترى النور.
نبذة عن المؤلف
يوسف خالد أبو عرفه، كاتب شغوف بالكلمة وراوٍ للحكايات، يؤمن أن كل إنسان يحمل في داخله قصة تستحق أن تُروى. يسعى من خلال كتاباته إلى لمس القلوب، صوت لحظات ربما كانت منسية بين زحام الحياة.
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon