هل تشعر بشيءٍ غريب عندما تقترب الشمس من الموت؟
أعني... قبل الغروب بلحظات؟
كأن الهواء يثقل فجأة، والضوء يصبح أضعف من أن يُطمئنك...
وكأن العالم ينحبس فيه نفسه.
تلك اللحظة... حين سمعتُ الصوت لأول مرة.
نَفَس.
ليس صدى، ليس وهمًا.
كان هناك أحد... يتنفس في أذني.
قصير، مبتور، بارد.
لم ألتفت.
أقسم أنني لم أكن خائفة... بل كنت مشلولة.
وكأن الهواء نفسه كان يهمس لي:
> "تذكّري..."
لكنني لم أكن أريد التذكّر.
مرّت عشر سنوات منذ اختفى ذلك الوجه من حديقة الطفولة...
المرأة ذات الملامح المشوّهة.
التي كانت تنظر إليّ، دون أن ترفّ.
ولم تنسَني.
> هذه ليست قصة فتاة عادية.
هذه قصة...
"صرخة ما قبل الغروب."
_* كم مرة ادّعيت الصمت، بينما داخلك عاصفة من الصرخات لا تجد من يسمعها؟
*_*هل تساءلت يومًا، هل هذا الواقع حقًا؟ أم أنّنا أسرى لأوهامٍ نسجن فيها أنفسنا*؟
_____________________________________________
*«كنت أقف عند أطراف القرية، أحدّق في الأفق حيث تختفي الشمس خلف التلال الصامتة. الألوان من حولي تتلاشى ببطء، وهواء المساء البارد يحمل رائحة الأرض المبللة بالمطر ممزوجة برائحة أشجار الزيتون القديمة التي تحيط بالقرية.
لا أعلم لماذا جئت إلى هنا. لم أزر هذا المكان من قبل، لكن شيئًا غامضًا دفعني نحوه، كأن هناك صوتًا خفيًا يجذبني إليه. شعرت بغربة خفيفة في صمت المكان، كانت أقرب إلى الصمت الثقيل، كأن القرية تراقبني بهدوء غريب، تنتظر شيئًا لا أعلمه.
سرتُ بهدوء على الطريق الترابي، وأقدامي تغوص قليلاً في الرمل. في البعيد، سمعت صوت مياه، ربما نهر صغير يلتف بين الصخور. بدا لي صوته مطمئنًا، لكن فجأة... صمت كل شيء.
توقفت أنفاسي.
سمعت صوتًا، تنفّسًا خافتًا، أو ربما همسة، لكنها بدت كصرخة مكتومة، تخرج من أعماق الغابة القريبة.
هل كان ذلك حقيقيًا؟ أم أن خيالي بدأ يخدعني؟
قلبي خفق بقوة، لكنني شعرت بشيء داخلي يجبرني على المضي... عليّ أن أعرف، عليّ أن أتأكد بأنني لم أفقد صوابي.
تقدّمت خطوة أخرى نحو مصدر الصوت المرعب، بينما كانت الشمس تسرق الضوء أكثر فأكثر، وتحول كل شيء حولي إلى ظلال متداخلة.
كان الليل يقترب، ومعه أصبح الهدوء أثقل في الجو، كغيمة داكنة تحجب الهواء عن صدري.
في تلك اللحظة، شعرت أن شيئًا ما على وشك أن يبدأ. شيء لم أشبهه من قبل، قادر على أن يبدّل حياتي باكملها، لكنني لم أعلم ما هو.
وقفت هناك في ذلك الصمت المريب، أحاول استجماع شجاعتي رغم تسارع نبضات قلبي.
كنت أعلم أن هذا المكان ليس كباقي الأماكن التي عرفتها، ومع ذلك لم أستطع الهروب، كأن شيئًا غير مرئي يمسك بي ويمنعني من الرجوع.
رفعت عينيّ إلى السماء، حيث بدأت النجوم تلمع بخجل خلف ستار من الغيوم الرقيقة.
تساءلت في داخلي: هل سيأتي الغد كما اعتدت، أم أن هذا الغروب سيحمل شيئًا مختلفًا هذه المرة؟
وبينما أفكر، سمعت مرة أخرى ذاك الصوت الخافت، لكنه كان أقرب، كصرخة مكتومة تتسلل إلى أذني، تخترق صمت الليل.
أغمضت عينيّ محاوِلة التنفس بهدوء، لكن شيئًا في داخلي كان يصرخ أيضًا، صرخة مختبئة منذ زمن بعيد، لم تجد من يسمعها.
شعرت فجأة ببرودة شديدة تسللت عبر عمودي الفقري، كأن الهواء من حولي أصبح ثقيلاً، مليئًا بأسرار لا تريد أن تُكشف.
ارتجفت قدماي، وشعرت بالارض تهوي بي ، أو ربما كان خفقان قلبي يتسارع، مما جعل كل شيء حولي يبدو كأنه يتحرك بسرعة غير مألوفة.
تساءلت إن كنت وحدي فعلًا، أم أن هناك من يراقبني في هذا الظلام المتزايد.
سمعت همسات غير مرئية تخاطبني من بعيد، كلمات غير مفهومة لكنها بدت كنداء خافت.
وقفت عاجزة عن الحركة، أستمع لكل صوت وكل نبضة في قلبي، متمنية أن أخرج من هذا المأزق بسلام.
لكن الغموض كان يحيط بالمكان، وكأن الغروب ليس نهاية النهار، بل بداية لعالم آخر أكثر ظلمة وخوفًا.
مع مرور كل ثانية، كان قلبي ينبض أسرع، وقطرات العرق البارد بللت وجهي.
لم يكن هذا مجرد صوت في الهواء، بل كان صرخة روح محتجزة تطلب النجدة، وكان عليّ أن أعرف كيف أساعدها، أو أُبتلع في هذه الظلال إلى الأبد.
---
تقدمت ببطء نحو الغابة حيث اشتدت الظلال وتداخلت بين أغصان الأشجار المتشابكة. كل خطوة تصدر صدى خافتًا تحت أقدامي، كأن الأرض تحذرني من المضي أكثر.
تذكرت دفتر جدتي الذي حملته معي. أوراقه الصفراء تلمع تحت ضوء القمر الخافت، كلمات متقطعة، رموز غامضة، ورسائل مشفرة تحكي عن سر دفين في هذه القرية. لم تكن مجرد ذكرى عابرة، بل تحذيرًا عميقًا من شيء قديم يلاحقني.
تابعت السير بحذر حتى اقتربت من حافة البئر المهجورة، وسط أوراق الشجر المتساقطة وصمت الليل الخانق. بدا المكان كأنّه معزول عن العالم، يبتلع الأصوات والضوء.
كلما تقدمت.. أصبح الهواء أثقل، ممتلئًا برائحة العفن والرطوبة، والظلام عند فوهة البئر بدا كهاوية لا فرار لها. فتحت الدفتر مجددًا، وقلبت الصفحة المكتوبة بخط جدتي:
"الغروب ليس مجرد وداع، بل بداية لصرخة لا تسمعها إلا القلوب المكسورة."
سمعت خلفي صوت خطوات خافتة. لم أتجرأ على الالتفات.
كان قلبي يكاد ينفجر من الخوف، والصرخة التي سكنت بداخلي بدأت تتحرك، تنتظر أن تُطلق.
ببطء، التفتُّ نحو مصدر الصوت، لكن لم يكن هناك أحد. فقط الظلال التي تتراقص بين الأشجار. ارتعشت يداي، وحاولت أن أهدئ أنفاسي، لكنّها خرجت متقطعة، كأنها تتحدى قلبي الذي ما زال يقرع كطبول الحرب.
شعرت لوهلة أن البئر تبتعد عني رغم قربها، وكأن الأرض نفسها تريد أن تبعدني عن الحقيقة التي بدأت تقترب مني. قفزت أمامي ذبابة سوداء، وصوت أجنحتها كان صدى مزعجاً في هذا السكون الغريب.
فتحت الدفتر على صفحة أخرى، حيث كلمات جدتي تلتقط أنفاسي:
"لا تخشي الظلام، بل خذ حذرك من الصمت الذي يليه. ففي الصمت تكمن الأصوات التي لا تسمعها سوى الأرواح التي لا تزال على حافة الهاوية."
شعرت بثقل الكلمات على صدري، كأنها وصايا مكتوبة بدماء الحكايا القديمة. دفعت نفسي للمضي قدماً.. حتى إذا ما انكشف السر المظلم، أكون مستعدة لمواجهته.
عندما وصلت الى البئر لفتني شيء لامع بين أنقاضه. انحنيت ببطء، ورفعت قطعة زجاجية صغيرة مغطاة بالأتربة. كانت تنعكس عليها خيوط الضوء الخافت كأنها نافذة إلى عالم آخر.
رفعت نظري مرة أخرى، وكانت أنظاري تصادف ظلالاً تتحرك على أطراف الغابة، لكنها تختفي كلما حاولت الاقتراب منها.
شعرت بالخوف يتغلغل في عروقي، لكنه كان نوعًا مختلفًا من الخوف؛ خوف من المجهول، لكنه مدفوع برغبة جامحة في اكتشاف الحقيقة.
وقفتُ للحظة، وأنفاسي تتلاحق بين صدى الظلال والهمسات، وعيناي تتجهان نحو البئر التي لم تعد مجرد فتحة مهجورة، بل كانت بوابة إلى أسرار قديمة لا ينبغي لي معرفتها.
وفجأة، شعرت بشيء يتحرك خلفي... ليس ظلاً، بل وجودًا حقيقيًا.
تلفتُ بسرعة، لكن لا شيء كان هناك سوى الصمت... أو هكذا ظننت.
امتدت يدي المرتجفة نحو حافة البئر... لكن قبل أن تلمسها، شعرت بشيء أشبه بنفَسٍ باردٍ يُلامس وجهي، وكأن أحدهم يزفر من الأعماق.
تراجعت خطوة.
حدّقت إلى الداخل، لكن الظلام كان كثيفاً لدرجة أنني لم أستطع تمييز شيء. ومع هذا… كان هناك صوت.
بكاء.
طفلة تبكي، صوتها مشوّه، كأن الزمن مرّ عليه ألف عام.
تجمدت في مكاني.
حاولت أن أقنع نفسي أن ما أسمعه مجرد صدى... مجرد وهم. لكنّ قلبي رفض الفكرة، وعيناي بقيتا معلقتين في فوهة البئر، كأن شيئًا بداخلي كان يُصرّ على أن هناك شيء ما ينتظرني في الأسفل.
فجأة، اهتز الدفتر بين يدي.
نظرت إليه، فإذا بالكلمات على الصفحة التالية بدأت تظهر تدريجياً، وكأن الحبر يُكتَب أمامي.
ظهرت عبارة واحدة، بخطٍ يشبه خط جدتي لكنّ الحبر كان أحمر:
"لا تنظري للأسفل فإن نظرتِ هذه الصرخة ستصبح صرختكِ!
انحبس نفسي في صدري، وارتجف جسدي بأكمله. شعرت أن شيئًا خلفي يقترب… خطوات خفيفة، لكنها حقيقية.
كنت على وشك أن ألتفت، لكن الصوت القادم من البئر تغيّر.
لم يعد بكاءً.
اصبح ضحكاً....
ضحكة قصيرة، خبيثة، وكأن الطفلة التي كانت تبكي قد تذكّرت فجأة شيئًا مخيفًا… أو أنني أنا من يجب أن أتذكّره.
صرختُ بصوتٍ مكتوم، لكن صوتي لم يخرج كما أردت… وكأن الهواء نفسه بات ثقيلاً، لا يسمح حتى للصوت أن يهرب من حلقي.
التفتُ فجأة.
لا أحد.
لكن البئر خلفي… كانت تصدر صوت خرير ماء، كأنها تنبض بالحياة، أو الموت.
همست لنفسي: "ما هذا المكان؟ من أنتم؟ ولماذا أنا هنا؟"
لم أكن أطلب إجابة… لكنني حصلت على واحدة.
ريشة صغيرة سقطت أمام قدمي. ريشة سوداء، مبتلة، كأنها من جناح مخلوق لا ينتمي لهذا العالم.
ثم… ارتفعت نسمة هواء قوية، تبعتها صرخة!
صرخة حقيقية هذه المرة، عالية، مشوّهة، غارقة في الحقد!
كان كل شيء من حولي يتحوّل…
الليل اصبح أعمق.
الأشجار بدأت تصدر أصواتاً غريبة، وكأنها تتألم.
والبئر… بدأ ينزف.
ينزف شيئًا أسود، كثيف، يزحف خارجها ببطء.
وتيقّنت حينها…
لم أكن أنا من اختار هذا المكان.
هو من اختارني.
تراجعت للخلف، وكنت على وشك السقوط. شعرت بالأرض تحت قدمي وكأنها لم تعد صلبة، كأنني أخطو على جلد ميت ينبض فجأة.
المادة السوداء التي خرجت من البئر كانت تتحرّك… لا، كانت تزحف، وكأنها تملك عقلًا أو رغبة… أو حتى غضبًا.
وقفت هناك، عاجزة عن الحركة، أتأملها وهي تقترب، نقطة بنقطة…
ثم رأيت شيئًا يتحرك من داخل البئر.
يد.
يد صغيرة… لكن أصابعها كانت طويلة بشكل مشوّه، كأنها نبتت بطريقة خاطئة، كأنها تخصّ كائنًا لم يُخلق ليعيش في هذا العالم.
لم تكن فقط تخرج…
بل كانت تبحث.
تبحث عن شيء… أو أحد.
ثم… أمسكت بالحافة.
صوت احتكاك أظافرها على حافة الحجارة أشبه بالصراخ، صوت جعل شعري ينتصب، وصدر قلبي يخفق كأنه سيسقط من بين أضلعي.
وظهرت ملامح وجهها.
لا أستطيع أن أقول إنه وجه فتاة…
كان أقرب لظلٍ يشبه ملامحي…
نعم… ملامحي أنا.
لكن بطريقة مقلوبة.
ابتسامة مقلوبة.
عينان واسعتان، لكن منطفئتان.
كانت تنظر إليّ، بلا رمش، كأنها تنتظر مني أن أتحرّك أولاً.
وهمست، بصوت كأن أحدهم يسحب روحه من حنجرته:
"رجّعيني…"
خطوت إلى الوراء، لكن قدمي علقت بشيء. نظرت بسرعة…
كان الدفتر قد سقط، وفتحه الهواء على صفحة مكتوب فيها:
> "لا تهربي… أنتِ الوحيدة التي تستطيع أن تحبسها مجددًا."
لكنني لا أعرف من هذه
ولا كيف دخلت.
ولا كيف يمكن أن تُحبس.
حاولت أن أسحب قدمي وأتراجع كانت الأرض زلقة، والضباب يلتف من حولي
اليد ما زالت تمتدّ من قلب البئر، مغطاة بالطين، أصابع طويلة نحيلة تُشير إليّ، ثم تتلوّى في الهواء، كأنّها تعزف على أوتار خوفي.
وفجأة…
"ربا..."
تجمّدت.
الصوت خرج واضحًا… من داخل البئر.
كان مألوفًا بطريقة مرعبة.
ليس غريبًا عني تمامًا.
كأنّه صوت أمي… أو نسخة مشوّهة منه.
ثم دوّى صوت تصدّع!
الحجارة المحيطة بالبئر بدأت تتفكك، وانشقّ طرف الأرض تحت قدمي.
صرخت!
قلبي قفز من مكانه، سقطت على الأرض، وشعرت بشيء بارد يلامس كاحلي.
"لا تنظري للأسفل!"
قالها الصوت مجددًا، لكنّه لم يكن صوتًا واحدًا هذه المرة…
بل عشرات الأصوات… متداخلة، متنافرة، تخرج من البئر، من الريح، من بين الأشجار.
صرخت بكل ما أوتيت من صوت، وانطلقت راكضة بلا وعي، لا أعلم كيف… ولا إلى أين.
ركضت… وركضت… حتى تهاوى جسدي عند مدخل البلدة.
وهناك، قبل أن أفقد وعيي تمامًا، لمحتها...
امرأة تقف بقرب الشجرة القديمة…
كانت تشبه جدتي.
لكنها لم تنظر إليّ…
بل إلى البئر.
استيقظت على رائحة عتيقة…
ليست ترابا، وليست خشبا…
رائحة تشبه الذكريات القديمة، تلك التي يخزنها الدماغ في صناديق مغلقة دون اذن.
عيني بالكاد تفتحت.
كان السقف فوقي عاليا، من الخشب المائل، تتدلى منه مروحة قديمة لا تتحرك.
الستائر شبه شفافة… والغرفة غارقة في ضوء رمادي، كأن الشمس لا تجرؤ ان تدخل بالكامل.
نهضت ببطء.
لم اكن اعرف كم من الوقت مضى، ولا كيف وصلت الى هنا.
لكن السرير اسفلي خشن، واللحاف اثقل مما يجب.
بجانب الوسادة، ورقة صغيرة بخط يد مألوف:
> "لا تفتحي اي باب مغلق قبل الغروب.
> - جدتك"
شهقت.
لم يكن مجرد كابوس اذا.
البلدة… البئر… الصوت…
والمرأة التي تشبه جدتي…
رفعت الغطاء.
قدماي… كانتا مغطاتين بوحل يابس.
لكن على كاحلي الايسر، بقعة زرقاء غامقة تشبه اصابع يد.
كأن احدا قبض علي.
"لا تنظري للاسفل…"
الكلمات ما زالت تتردد في رأسي.
خرجت من الغرفة بتردد...
البيت... اوسع مما ظننته.
كل شيء فيه يبدو قديما، لكنه محفوظ جيدا... اكثر من اللازم.
الجدران مليئة بالصور… لكنها مائلة ، او وجوه من فيها مخدوشة بالحبر.
وهناك ممر طويل… فيه اربع غرف على الجانبين.
الغرفة الاولى مفتوحة…
الثانية مغلقة بقفل صدئ…
الثالثة ايضا مغلقة.
اما الرابعة… بابها موارب قليلا، كأن احدهم نسي ان يغلقه تماما.
وما ان مررت قربه…
حتى سمعت صوتا…
ضحكة ناعمة.
لكن ما اثار رعبي اكثر… انها كانت ضحكتي.
تراجعت، قلبي يطرق ضلوعي كأنه سجين يريد الفرار.
"هذا البيت… يهمس."
سمعت الصوت من خلفي.
استدرت.
امرأة مسنة، تنظر الي بابتسامة مائلة.
عينان واسعتان… وجلدة وجهها مشدودة كأنه قناع.
تحمل سلة فيها اعشاب مجففة.
"انت حفيدة نجوى، اليس كذلك؟"
"جارتنا القديمة… كانت دائما تعرف ان ربا ستعود."
تجمد لساني.
من اين تعرف اسمي؟
ولم كانت تتكلم عن جدتي وكأنها ما تزال حية؟
"لكن…" تمتمت، "جدتي… ماتت."
المرأة انحنت قليلا وضحكت.
ضحكة فيها كل ما اكرهه في العالم: الغموض، والاستهزاء، واليقين.
"هل قالت لك ذلك؟"
ثم استدارت وغادرت.
لم اسمع خطواتها… لكنها اختفت.
شعرت بتعب عميق في اعماقي... تعب لا يشبه الانهاك، بل يشبه الاستسلام.
زحفت الى السرير كأنني اهرب من شيء خفي، حاولت ان انام، ان اطفئ رأسي، لكن النوم لم يكن كافيا ليهرب مني.
بل هاجمني.
...
فتحت عيني، كنت اقف وسط ممر طويل، جدرانه رمادية تتنفس ببطء، نعم، الجدران كانت تصعد وتهبط كأنها ترقد على صدر مريض يحتضر.
المكان خانق. كل خطوة كنت اخطوها، كانت الارض تصدر صوت صرير... ولكني لم اكن اتحرك.
لا ضوء... لا نهاية للممر.
فقط باب واحد في نهايته... يفتح ويغلق بهدوء، كأن احدهم ينتظرني خلفه.
تقدمت.
كلما اقتربت، شعرت ان شيئا يزحف خلفي. لا اسمعه، لكن جلدي كان يعرف.
اردت ان التفت، لكن رأسي كان جامدا، كأن عنقي علق بخيط مشدود.
عندما وصلت الى الباب، لم امد يدي.
الباب فتح وحده...
وصوت خافت خرج منه، همسا مجروحا:
"انت كنت السبب..."
...الغرفة كانت... غرفة نومي.
لكنها ليست غرفتي.
السرير نفسه، الستائر نفسها، لكن كل شيء فيها كان يتحلل.
حتى اللوحة المعلقة على الحائط... بدأت تذوب.
الوجه انزلق من اللوحة.. وعيناها بقيتا تحدقان بي.
ثم بدأ شيء يتساقط من سقف الغرفة. ليس ماء... بل طين. طين اسود، ثقيل.
نظرت للاعلى، ولم اجد السقف.
بل... حفرة.
حفرة دائرية، كأن غرفتي اصبحت تحت الارض، وكأنني في اسفل بئر.
من بين الظلال، شيء كان يتحرك في الاعلى.
كان يزحف.
واصواته... تشبه نحيبا خافتا، كأن شخصا يسحب من الداخل.
ثم، شعرت انني اصبحت اقرب... اقرب اليه.
كأن الارض تبتلعني، تدفعني لاصعد نحو تلك الفتحة.
لكنني لم اعد اراها.
كل ما رأيته… نافذة.
نافذتي القديمة، خلفها الاشجار.
وهي تقف هناك.
في الحديقة.
تنظر الي.
وعادت الي همسات:
"فتحت الباب... والباب لا يغلق."
اردت ان اصرخ، لكن صوتي لم يخرج
كان احد ما يمسك بي يمنعني من الكلام او الصراخ
اردت ان اهرب... لكن الغرفة بدأت تضيق.
الجدران بدأت تقترب.
والعينان على الجدار تنزفان.
وكل شيء يهمس باسمي…
لكن ليس بصوتي.
...
استيقظت.. شعرت بخوف رهيب... كنت ارتجف.
الهواء لا يدخل صدري.. يدي كانت ترتعش.
نهضت مسرعة الى المطبخ.
شربت ماء مثلجة... ويدي لا تزال تشعر بحرارة تلك الغرفة.
ثم.... لفت نظري شيء ما كان على الطاولة…
كانت هناك صورة صغيرة ممزقة.
الوجه فيها متآكل.. وعيناها قد اقتلعتا.
اقتربت من الصورة، كأنها تناديني.
يدي امتدت بتردد… لم المسها، فقط نظرت.
كانت صورة قديمة، مغبرة، عليها بقع حمراء صغيرة…
وليس فقط وجهها هو الممزق — بل كأن هناك اصابع انتزعت من الصورة، بعنف.
كانت ملامحها تشبهني....
انا لا اذكر هذه الصورة.
انا متأكدة… لم التقط صورة بهذا اللباس.
ولست وحدي فيها....
وراء القطع، كان هناك جسد صغير، ظهره لعدسة التصوير … ويقف بجانبي.
طفل؟ لا، ليس طفلا.
قامته قصيرة، لكن يديه نحيلتين كأن عمره كبير.
ثم لاحظت شيئا…
في ظهر الصورة، بخط يد لا اعرفه، كتب:
"هي لم تذهب قط.
بل بقيت… فيك."
تجمد دمي.
من "هي"؟
ومن كتب هذا؟
حاولت تجاهل الرعشة التي غزت ظهري،
قد رأيت هاتفا منذ ان اتيت ولكني لم اكترث له...
سحبته اريد تصوير ما اراه، لاتأكد انه حقيقي.
لكن الشاشة كانت سوداء.
الهاتف يعمل… لكنه لا يظهر شيئا.
وكأن ما اراه… لا يجب ان يوثق.
---
مهلاً...
اين اختفت ؟!
نظرت حولي.
كانت على الطاولة منذ لحظات.
الآن، فارغة.
وكأنها لم تكن ابدا.
ببطء… سمعت "صريرا" خلفي.
التفت.
كان باب غرفتي قد فتح… وحده.
وخرج منه صوت خافت.
صوت فتاة… تضحك
التفت ببطء.
الباب نصف مفتوح… والسواد خلفه كأنه فم مفتوح يبتلع النور.
الضحكة ما زالت تتردد، خافتة، مكسورة… وكأنها صادرة من فم لا يعرف كيف يضحك.
خطوت خطوة للخلف، صدري يعلو ويهبط، انفاسي متسارعة.
ثم… تلاشت الضحكة.
حاولت ان اقنع نفسي بانها مجرد تخيلات، ان الصورة مجرد هلوسة بسبب التعب…
لكن شيء ما داخلي كان يصرخ: هذا ليس حلما.
عدت ببطء الى غرفتي، قلبي يطرق كأنه سيحطم اضلاعي.
وقفت على الباب، اراقب الفراش… كل شيء يبدو في مكانه.
لكن…
هناك ظل.
ظل على الارض، بجانب سريري.
طويل… لا يتبع جسدي.
ولا يتحرك.
تجمدت في مكاني.
حاولت ان اصرخ… لكن صوتي اختنق.
مددت يدي ببطء الى الجدار، ابحث عن زر الاضاءة.
ولما اضأتها… لم يتغير شيء.
الظل ما زال موجودا.
بل اصبح اوضح.
ثم سمعته.
صوت خطوات… على البساط ببطء… تتجه نحوي، لكن لا احد امامي.
انا اسمع الخطى.
انا اراها تقترب — اثار اقدام تظهر على البساط ، واحدة تلو الاخرى… حتى وقفت امامي.
لكن لا احد هناك.
رفعت بصري فجأة… المراة على الجدار تعكس شيئا!
كنت انا
لكن لم اكن وحدي.
خلفي… كانت تقف فتاة.
وجهها مشوه، ملامحها غائمة… لكنها تبتسم لي.
ليس ابتسامة ود، بل كأنها تعرفني.
كأنها تنتظرني منذ زمن.
استدرت بسرعة.
لا احد.
نظرت مجددا للمراة.
لكن كانت الغرفة فارغة.
سقطت على الارض، يداي ترتجفان.
كنت الهث، كمن نجا من موت حتمي.
ما هذا؟
من هذه؟
وما الذي يحدث لي منذ ان اتيت الى هذه القرية ؟
او حتى ما الذي افعله هنا ؟
كنت في صراع بيني وبين عقلي لا يهدأ.
ثم…
رن جرس الباب
ثلاث دقات.
بطيئة.
متباعدة.
ومن يأتي في هذا الوقت من الليل؟
تسمرت مكاني.
الجرس لم يرن مجددا.
فقط… ثلاث دقات.
بطيئة… كأن من طرق، لا يريد الدخول، بل التذكير بوجوده.
انتظرت.
ثوان مرت… ولا صوت.
خطوت ببطء في الممر الخافت، كل خطوة كأنها حلم ثقيل.
عقلي يريد ان يركض، ان يهرب… لكن قدماي تقوداني كأنني مربوطة بخيط خفي.
وصلت الى الباب.
لا نوافذ هنا.
ولا "عين سحرية" ارى منها من يقف بالخارج.
وضعت يدي على المقبض…
لكن قبل ان افتحه… انفتح وحده.
لا، لم يفتح. بل… انزلق، ببطء، للداخل.
كأن احدهم بالخارج… يدعوني.
الباب فتح نفسه على ظلمة كثيفة.
الهواء بارد، والممر الخارجي ساكن.
لا احد.
ولا شيء.
خطوت خطوة للخارج، ابحث بعيني… ثم رأيت ذلك الشيء.
ظرف بني اللون يبدو مهترئ
وضع بعناية على عتبة الباب.
كتب عليه اسمي… بخط انثوي، ناعم، لكنه قديم، كأن من كتب مات منذ زمن.
ربا.
انحنيت لالتقطه.
لكن حين لمست الظرف… رأيت شيئا اسفل العتبة.
عظام صغيرة.
كأن احدهم دفنها، وترك طرفا منها ظاهرا عمدا.
عظمة يد… لطفل؟ لا، لشيء لا اريد معرفته.
عدت بسرعة الى الداخل، اغلقت الباب، ظهري ملتصق به، وقلبي يطرق كأن داخلي شخصا يريد الخروج.
جلست على الارض، والظرف بين يدي.
اخرحت مافي الالظرف بهدوء... كان فيها ورقة واحدة.
صورة قديمة.
تختلف عن الصورة الاولى.
هذه المرة… كنت طفلة.
اقف في حديقة، بجانبي امرأة.
لكن وجه المرأة ممزق متآكل .
بشكل متعمد.
والحديقة؟
الحديقة نفسها… التي رأيتها في ذلك الحلم الغريب. ونفس الشجرة الميتة.
ثم لاحظت شيئا في زاوية الصورة… سطر صغير مكتوب بقلم رصاص:
"قبل ان تبدأ اللعنة… كانت الضحية الاولى تحب الزهور."
شهقت.
هذا الخط… اعرفه.
انه خط امي.
لكن عقلي رفض.
امي قد ماتت وهي التي اوصتني بالذهاب للقرية قبل وفاتها دون ذكر اسباب
شعور غريب بدأ يزحف من اطراف اصابعي حتى صدري.
قد تجمد… لا علاقة بالجو، بل برد وتجمد الحقيقة التي لا تريد ان تقال.
فجأة… اظلمت الرؤية.
ليس لان النور انطفأ… بل لان ذاكرتي انطفأت.
كأن شيئا انتشلني من مكاني… والقى بي في مشهد اخر.
...
انا طفلة.
اقف بين الاعشاب العالية.
الحشائش تغمر قدمي العاريتين.
الشمس باهتة، كأنها لا تجرؤ على النظر الينا.
اسمع صوت همهمة.
امرأة… تغني.
لحنها مشوه. يشبه تهويدة… لكنها حزينة، كأنها تغنى لطفل ميت.
ادير وجهي.
اراها.
امرأة تقف عند الشجرة الميتة.
ظهرها لي. شعرها طويل، مبلل، ملتصق برقبتها كأنه خرج للتو من قبر.
يدها ترتجف وهي تمسك وردة ذابلة.
ثم… تستدير.
ووجهها…
لا وجه....
حفرة سوداء تأكل نصف وجهها والنصف الاخر كان مشوهاً
وانا؟ لا اصرخ.
بل… ابتسم.
ابتسامة طفلة لا تعرف الخوف… او نسيت انها كانت خائفة.
...
ثم عدت
كأن احدهم سحبني من عنقي والقى بي من الذكرى الى الواقع.
الورقة ما زالت في يدي.
والصورة؟ احترقت من الزاوية… دون موقد
كأنها تموت ببطء.
كأنها لا تريد ان ترى مجددا.
وما زال في ذهني صوت المرأة يهمس:
"قبل ان تبدأ اللعنة… كانت الضحية الاولى تحب الزهور."
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon