NovelToon NovelToon

بين ظلال الياسمين

الفصل الأول: عطر الغياب

كانت دمشق في أواخر تشرين، تغسل أزقّتها بأمطار خفيفة، وتبعثر في هوائها رائحة الياسمين المبلول. تقف ليلى خلف نافذتها الخشبية العتيقة، تحدّق في الفراغ الذي خلّفه عمر، ذلك الغريب الذي دخل حياتها كنسمة صيف… وغادر كعاصفة لا تخلّف وراءها سوى الحنين.

مرّ عام على رحيله، وما زال فنجان القهوة الثاني على الطاولة، تنتظر عودته في كل رشفة، في كل دقّة باب، في كل صوت خُطى تقترب ثم تبتعد.

لم تكن قصتهما عادية… كان لقاؤهما قدريًا. هي، فتاةٌ تهرب من ثقل العادات، تحلم بمدينة تُشبه الكتب التي تقرأها خلسة تحت ضوء الشمعة، وهو، شاب يحمل في قلبه ثورة لا تشبه الحروب، بل تشبه الحنين.

حين التقيا لأول مرة عند بائع الكتب المستعملة، كانت تمسك رواية "الطريق" لنجيب محفوظ، وكان هو يبحث عن شيء لا يعرف اسمه بعد. تبادلا نظرات قصيرة وكلمات أقصر، لكن العالم كله تغيّر بينهما منذ تلك اللحظة.

"تحبّين نجيب محفوظ؟"

"أحبّ من يكتب الحقيقة بصوت ناعم."

"وهل الحقيقة دائمًا ناعمة؟"

"لا… لكنها حين تكتب بهذا الصدق، تصير أجمل من الكذب المزيّن."

ومن تلك الجملة، بدأ كل شيء.

لكن لماذا اختفى عمر؟ ولماذا اختار الصمت بدل التفسير؟ هل كان الحبّ كافيًا؟ أم أن المدينة، بما فيها من ذاكرة وجراح، أبت أن تتركه يعيد المحاولة؟

في أحد الأيام، وصلها ظرف بنيّ صغير، لا اسم ولا عنوان. داخله ورقة مطوية ووردة ياسمين ذابلة.

على الورقة كُتبت عبارة واحدة بخطّه:

"أعود عندما تصدّقين أن بعض الرحيل لا يكون خيانة، بل إنقاذًا."

شهقت. قلبها خذلها للحظة. جلست على الأرض. نظرت إلى الوردة.

ثم قالت همسًا:

"وإن عدت… هل ستبقى؟"

الفصل الثاني :رسالة بلا عنوان

في مساء اليوم التالي، قرّرت ليلى أن تذهب إلى ذلك المكان الوحيد الذي ما زال يحمل بقايا عمر: مكتبة "الورّاق"، حيث التقيا لأول مرة. دخلت بخطوات خفيفة، كما لو كانت تخشى أن توقظ ذاكرة نائمة.

نظرت حولها… كل شيء على حاله، كأن الزمن هنا مجمّد.

اقتربت من الرفّ الذي سقطت فيه أول مرة رواية نجيب محفوظ، وتلمّست الغلاف القديم. فجأة، خرج رجل خمسيني من خلف الرفوف، يرتدي نظارات دائرية وله لحية خفيفة، نظر إليها قائلاً:

"كنت أعلم أنك ستعودين."

رفعت حاجبيها بدهشة: "تعرفني؟"

"أنا سامي… صاحب المكتبة. وعمر… ترك عندي شيئًا لك."

ضرب قلبها كطبول حرب. هل ترك عمر لها شيئًا؟ لماذا هنا؟ لماذا الآن؟

أخرج سامي من الدرج الخشبي صندوقًا صغيرًا من المعدن، بالٍ، عليه قفل صغير، ومفتاح مع ورقة مطوية مربوطة بشريطة حمراء.

"قال لي: لا تسلّمها لها إلا إن جاءت وحدها… ودون أن يسألها أحد أن تأتي."

أخذت الصندوق ويداها ترتجفان. شكرت سامي، وخرجت مسرعة نحو البيت.

جلست على الأرض، فتحت القفل، ورفعت غطاء الصندوق.

في الداخل:

صورة قديمة تجمعها مع عمر، التُقطت في خفية وهي تضحك.

تذكرة قطار إلى أنطاكيا بتاريخ بعد يومين.

ورقة كتب عليها:

> "إن كنتِ ما زلتِ تؤمنين بأن الحب لا ينهزم، التقي بي حيث تغرب الشمس وتشرق الذكريات.

محطة أنطاكيا. المقعد 17. لا تسألي لماذا… فقط تعالي."

صمتت طويلًا، ثم ابتسمت للمرة الأولى منذ عام.

قالت في سرّها: "الحب لا ينهزم… إلا حين نخاف أن نكمله."

ثم بدأت تحزم حقيبة صغيرة، ولم تنسَ أن تضع فيها وردة ياسمين جديدة.

الفصل الثالث: ما لا يُقال

كان صباح أنطاكيا بارداً، مبللاً بندى الغربة، والقطار يصل كل نصف ساعة، لكن المقعد 17 ظلّ فارغًا… إلى أن جاءت ليلى.

جلست وهي تشعر أن قلبها يسبق الزمن. عيناها تبحثان عن عمر، لكنّ وجهه لم يظهر بين الوجوه.

رفعت التذكرة مرة أخرى. هل هناك خطأ؟ هل هذا اختبار؟ هل هو مجرد وداع مؤجّل؟

وبينما كانت تغوص في الأسئلة، جلس بجانبها رجل أربعيني أنيق، يحمل حقيبة جلدية، وقال بهدوء:

"أنتِ ليلى؟"

نظرت إليه بذهول. "نعم، من أنت؟ أين عمر؟"

ابتسم بحزن وقال: "أنا صديقه الأقرب… اسمي طلال. وعندي رسالة منه."

"رسالة؟ لا، لا أريد رسالة، أريده هو! أخبرني فقط… هل هو بخير؟"

تنهد طلال وقال بصوت منخفض:

"هو حيّ… لكنه اختار ألا يعود. اختار أن يترك لك الحقيقة دون حضوره."

سحبت نفسها للخلف وقد طعنتها كلماته: "لماذا؟ لماذا لا يقولها لي بنفسه؟"

أخرج طلال من حقيبته ظرفًا بنيًا آخر. أعطاها إياه.

"اقرئي… وستفهمين كل شيء. وعندما تنتهين، سأُخبرك من هي نورا."

ارتجف قلبها عند سماع الاسم. "نورا؟ من نورا؟"

قال طلال: "هي الحقيقة التي حاول عمر حمايتك منها… لكنها الآن، طريقك الوحيد لفهمه."

فتحت الرسالة. كان فيها:

 

> "ليلى...

أردتُ أن أكون لكَ وطنًا، لكني كنتُ مدينة مهدّمة من الداخل.

قبل أن ألقاكِ، كنتُ قد فقدتُ أختي الصغيرة نورا، في حادث لم يُعلن عنه في الأخبار، ولم تكتبه الصحف.

كنتُ السبب. أنا من أقنعها أن تهرب من بيتنا، ومن ثم… لم تعُد.

منذ تلك الليلة، وأنا أعيش بنصف قلب، وكلما اقتربتُ من السعادة، شعرت أني لا أستحقها.

أنتِ كنتِ النور الذي خفت أن يُطفئني.

سامحيني… لم أهرب منك، بل هربت منكِ كي لا أطفئك."

– عمر

 

أغلقت الرسالة ببطء. لم تبكِ. لم تصرخ. فقط نظرت نحو طلال وقالت:

"أخبرني كل شيء عن نورا."

ابتسم طلال ابتسامة حزينة وقال:

"سأفعل… لكن ما ستسمعينه قد يُغيّر كل شيء ظننته حبًّا."

الفصل الرابع: الوجه الآخر للحب

سار طلال مع ليلى إلى مقهى صغير قريب من المحطة. كانت الشمس تغيب خلف الجبال، تلوّن السماء بلون رمادٍ يشبه قلبها في تلك اللحظة.

جلسا بصمت. قدّم لها كوب شاي ساخن، ثم قال بهدوء:

"نورا لم تكن فقط أخت عمر… كانت حبيبته الأولى."

رفعت ليلى عينيها ببطء نحوه. لم تستوعب ما سمعته فورًا.

"ماذا قلت؟!"

أكمل طلال بصوت يشبه الهمس:

"لا أقصد أنها كانت حبيبته من الناحية التي تفكرين بها… بل كانت روحه الثانية. توأمه المختلف. كانا لا ينفصلان، يخططان للهروب من عائلة تكسّرت فيها المعاني.

كان والدهما عنيفًا… ووالدتهم اختفت يومًا ولم تعد."

أخذ نفسًا عميقًا ثم تابع:

"نورا كانت تكتب. كانت تحلم أن تنشر كتابًا يحكي عن الفتيات المجهولات، الضائعات خلف جدران الخوف.

في إحدى الليالي، قررت الهرب… طلبت من عمر أن يساعدها، فوعدها أن يؤمن لها مخرجًا آمنًا."

"ثم؟" همست ليلى.

"ثم اختفت.

وجدوا حقيبتها على جسر النهر، ولم يجدوا جسدها أبدًا."

سكت طلال، ثم مدّ لها دفتراً صغيرًا أسود، قال:

"هذا ما تبقّى منها. دفاترها. ووصيتها. عمر احتفظ بها كل هذه السنوات… ولم يفتحها حتى التقاكِ."

ليلى أخذت الدفتر ببطء، وقلبها يرتجف.

على الصفحة الأولى، بخط أنثوي ناعم:

> "إلى من سيقرأ يومًا:

إن كنتَ تظنني ضعيفة، فأنت لا تعرف كم من الحروب خضتها دون أن أُحدث ضجيجًا."

أغمضت ليلى عينيها. وشعرت أن شيئًا عميقًا يتكسّر في داخلها.

قال طلال:

"عمر لم يهرب منكِ لأنه لا يحبك. بل لأنه عندما أحبك… رأى نورا من جديد. رأى حلمًا قديمًا يعود، وخاف أن يُعيد نفس النهاية."

همست ليلى:

"لكنني لست نورا."

قال طلال وهو ينهض:

"لهذا أتى بكِ إلى هنا. كي تفتحي الدفتر، وتكتبي النهاية التي لم تُكتب."

تركها ومشى. وبقيت هي مع الدفتر، والذاكرة، ونسمة المساء التي تحمل في طيّاتها شيئًا من… الأمل.

الفصل الخامس: حين تكتب الذاكرة

قضت ليلى ليلتها في فندق صغير قرب المحطة، لم تنم. كانت تمسك دفتر نورا كأنها تمسك بقلب عمر نفسه.

صفحة بعد صفحة، كانت الكلمات تنزف وجعًا، لكن في منتصف الدفتر… توقفت.

هناك، بين الصفحات، كانت رسالة مطوية، كتب عليها:

"لا تُفتح إلا إن اختفيت."

فتحتها ليلى، وكان الخط بخط نورا:

 

> "إلى عمر،

إن قرأتَ هذه الكلمات، فهذا يعني أنني اضطررت للرحيل بطريقة لم أخترها تمامًا.

لا تصدق ما سيُقال. لم أقفز من الجسر. لم أنتحر. أنا حيّة. اختفيت لأنني كنت سأُقتل.

أبي ليس فقط عنيفًا يا عمر… كان يُتاجر بنا نحن الاثنتين… أنا ومروة.

مروة؟ نعم… أختنا التي لم تلتقِ بها يومًا.

أمي لم تختفِ… هربت مع مروة، وتركَتنا لأن الخطر كان كبيرًا.

عندما قررتُ الهرب، اتصلت بها… وساعدتني، لكنها طلبت ألا أخبرك.

خافت أن تُلاحَق، خافت عليك.

لكنني أكتب لك الآن، لأقول:

لا تعِش بقلب نصفه موت ونصفه حنين.

ليلى… إن وصلت إليها، أخبرها عنّي.

ربما تقدر هي على ما لم أقدر عليه.

– نورا"

 

يد ليلى ارتجفت. قلبها لم يعد يعرف كيف ينبض.

نورا حيّة؟!

ومروة؟ أخت ثالثة؟!

وأبوهما… مجرم؟!

أغمضت عينيها. كل شيء انقلب. قصة الحب التي عاشتها، كانت مبنية على ركام أسرار، على جدران خوف، على ماضٍ غارق أكثر مما تخيّلت.

في صباح اليوم التالي، عادت إلى سامي، صاحب المكتبة. سلّمته دفتر نورا وقالت:

"أين عمر؟ أعطني عنوانه، أو رقمًا… لا يهم.

الآن… حان الوقت ألّا نُخبّئ شيئًا."

ابتسم سامي، كأنه كان ينتظر هذا القرار، وقال:

"هو ليس بعيدًا… لكنه لم يكن ينتظر أن تأتيي.

كان ينتظر أن تفهمي.

وهذا العنوان… إن ذهبتِ، ستعرفين كل شيء."

ناولها ورقة كُتب عليها بخط بسيط:

"بيت التين، قرية الزهراء، طريق الجبل."

همست ليلى:

"بيت التين…؟"

قال سامي:

"هُناك… بدأت الحكاية. وهناك فقط… يمكن أن تنتهي."

الفصل السادس: بيت التين

طريق الجبل كان طويلاً، مكسوًا بالصمت والأشجار.

كانت ليلى تشعر أن كل منعطف يقربها من لحظة ستبدّل حياتها إلى الأبد.

عند مدخل قرية "الزهراء"، توقّفت سيارة الأجرة.

"ما في طريق لهون غير المشي… البيت فوق، بين أشجار التين."

ترجلت، وسارت. كانت خطواتها ثقيلة، والدفتر في يدها كأنّه دليل وجودها.

وعندما وصلت أخيرًا إلى باب خشبي قديم تتسلّق فوقه أغصان التين…

رأته.

عمر.

واقف أمام الباب، كما لو كان الزمن انتظره واقفًا هناك منذ عام كامل.

نحيل أكثر، وعيناه فيها شوق… وخوف.

لم تقل شيئًا. لم يسأل شيئًا.

اقتربت، ووضعت الدفتر في يده.

همست:

"قرأت كل شيء."

ردّ بهدوء:

"إذا جئتِ لتغضبي، فاغضبي. وإذا جئتِ لترحلي، فرحّبي بنهاية نظيفة."

قالت:

"جئتُ لأرى… نورا."

في تلك اللحظة، فُتح الباب من الداخل.

وخرجت امرأة شابة، في أوائل الثلاثينات، شعرها الطويل يغطي كتفيها، وعيناها تشبهان عيني عمر… لكن فيهما نضج امرأة عاشت كثيرًا، ورأت أكثر مما يجب.

نورا.

تقدّمت ببطء، وقالت:

"أنتِ ليلى؟"

هزّت ليلى رأسها، وهي غير مصدّقة.

قالت نورا:

"كنتُ أراقبك من بعيد… من اللحظة التي بدأتِ فيها كتابة النهاية التي أنا لم أقدر عليها."

همست ليلى:

"لماذا لم تعودي؟"

نورا نظرت إلى عمر ثم إلى الأرض، وقالت:

"لأن العودة تحتاج شجاعة، ولم أمتلكها إلا بعد أن رأيتكِ…

أحبكِ عمر، لكن الحب ليس دواءً، ولا عزاءً.

هو مسؤولية.

ولم أعد أريدك أن تحمل ذنبي."

قال عمر بصوت مكسور:

"ما زلتِ أختي، وسأحملك دائمًا."

اقتربت نورا من ليلى، وأمسكت يدها:

"احميه. لا تتركيه يعود إلى الظلمة.

لستِ بديلي… أنتِ خلاصه."

رفعت ليلى رأسها نحو عمر، وقالت:

"وأنت؟ هل ستظل تختبئ خلف الماضي؟"

نظر إليها طويلًا، ثم قال:

"لا.

إن كنتِ ما زلتِ تؤمنين أن الحب لا ينهزم… سأبدأ معكِ من جديد.

من هنا، من بيت التين."

الفصل السابع والأخير: حيث يبدأ الضوء

مرّت ثلاثة أشهر على لقاء "بيت التين".

في كل صباح، كانت ليلى تخرج إلى الحديقة وتكتب.

وفي كل مساء، كان عمر يجلس أمامها بصمت، لا يشرح، لا يبرر، فقط… يبقى.

ونورا؟

اختارت أن تسافر.

إلى مدينة صغيرة على الحدود، لتبدأ حياتها من جديد باسمها الحقيقي.

لم تعد فتاة خائفة… بل امرأة تقرّر أن تعيش.

أما ليلى، فقد فهمت شيئًا لم تعِه سابقًا:

> أن الحبّ لا ينقذ وحده…

بل الصدق.

والمواجهة.

والإرادة أن نختار الآخر رغم كل الخراب.

ذات مساء، جلست مع عمر على سطح البيت، وتحت شجرة التين العتيقة، سألته:

"لو لم أكن أنا… هل كنت ستسمح لنفسك أن تُحب من جديد؟"

أجاب بعد صمت طويل:

"أظن… أنني لم أحبّك رغم الماضي، بل بسبب أنكِ وحدكِ جعلتِه يحتمل الغفران."

ابتسمت.

ثم سألته:

"وهل ستكتب روايتك يومًا؟"

نظر إلى السماء، وقال:

"بدأتُ بها. وسأسميها… بين ظلال الياسمين."

ضحكت ليلى، ومدّت يدها تمسك يده.

لم يحتاجا وعودًا.

ولا خواتم.

ولا نهاية درامية.

فقط جلسا هناك، بين ظلال التين والياسمين…

يتركان الحياة تمضي، بهدوء، وبقلبين لم يعودا خائفين.

 

النهاية.

لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon

تحميل PDF للرواية
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon