كانت اللوحة أمامه… ناقصة.
شعرٌ يتدلّى على عنقٍ وهميّ، فمٌ مرتجف، أنفٌ دقيق – وكل شيء صامت، إلا العيون.
أو بالأحرى، غيابها.
جلس أليساندرو على كرسيّه الخشبي المهترئ، يحدّق إلى وجوهٍ لا تكتمل. كانت تلك العيون تلاحقه في أحلامه، وفي مرآته، وفي العيون التي يراها كل يوم… لكنها لم تكن هي.
رفع الفرشاة، ثم أنزلها… مرارًا. لم يكن الأمر أنه لا يعرف كيف يرسمها، بل كأنّ شيئًا داخله يرفض. كأن اللوحة ترفض.
طرقٌ مفاجئ على الباب.
لم يتحرك. مرت ثوانٍ… ثم طرقٌ جديد، أقوى.
زفر بضيق، ووقف ليجرّ قدميه نحو الباب.
فتحه ببطء، دون أن يقول شيئًا.
— "مايثو…"
أمامه وقف شاب في منتصف العشرينات، يحمل صندوق بيتزا بيد، وابتسامة غير مناسبة لساعة متأخرة كهذه.
مايثو (مبتهجًا): "قلت لنفسي: لا يمكن أن تظلّ محبوسًا مع الأشباح طوال الأسبوع. هيا، الليلة هناك حفلة، منتصف الليل. جيسي ستكون هناك. هل تتذكر جيسي؟"
لم يردّ أليساندرو. فقط انحرف بنظره نحو اللوحة، وكأنّه يخشى أن تغيب عنه إذا نظر طويلاً بعيدًا.
أليساندرو (ببرود): "لا وقت لدي للهراء."
مايثو (يتنهد): "يا رجل، أنت تحتاج إلى ضوء. إلى نساء. إلى موسيقى. هذه اللوحات ستقتلك يومًا."
أليساندرو أغلق الباب بلطف في وجهه. لم يغضب، لم يردّ، فقط… عاد إلى مكانه.
الساعة: 11:59 مساءً.
داخل الأستوديو، الضوء باهت. الموسيقى الوحيدة هي خشخشة الريشة على القماش.
في الطابق العلوي من ملهى قديم، امتزجت الموسيقى العالية برائحة العرق والدخان والعطور الرخيصة.
الأضواء الملونة ترقص على وجوه تضحك، شفاه تهمس، وعيون تلتهم كل ما هو حي.
في منتصف القاعة، ترقص جيسي.
خطواتها أنثوية وواثقة، جسدها يلتف كشرارة مشتعلة، وكل عيون الرجال تلاحقها كأنها تعزف على أوتارهم بنظرة واحدة.
…كل العيون، إلا عينيه.
جلس أليساندرو في الزاوية، نصفه مغمور بالظل، يحمل كوبًا لم يشرب منه.
لم يكن يرى جسدها، بل كان يرى العيون. يبحث عنها في وجوه الحاضرات.
وفي قلبه، لم تكن الموسيقى سوى ضوضاء بعيدة، تحجب همس اللوحة في ذهنه.
جيسي، وهي تدور، لمحته.
نظرة باردة.
تَحدٍّ.
ثم ابتسامة مزيفة على شفتيها.
بعد انتهاء الحفلة، تقدّمت نحوه بثقة مصطنعة، ووقف الناس يراقبون من بعيد، وكأنهم ينتظرون أن يُهزم أحد.
جيسي (بصوت ناعم لكنه ساخر):
"هاي، إليسا… أو، ما اسمك؟"
نظرت إليه بعينين مثقلتين بالكحل والغرور، ثم أمالت رأسها قليلًا، كمن تنتظر ردًا عبثيًا.
أليساندرو لم يبتسم، لم يحدّق في جسدها، فقط رفع عينيه إليها للحظة… ثم قال:
أليساندرو:
"اسمي لا يهم.
عيونك أيضًا ليست ما أبحث عنه."
للحظة، ارتبكت. لم تكن معتادة على هذا النوع من الردود.
ثم ضحكت ضحكة قصيرة خالية من الروح.
جيسي:
"حسنًا، الرسام الغامض… يبدو أن لوحتك أهم مني."
استدار عنها، كأنها لم تكن.
وقفت هناك، تنظر إليه… وفي عينيها نظرة مختلفة هذه المرة. ليست احتقارًا… بل فضولًا قاتلًا.
> بعد ساعات من الضوضاء، قرر أليساندرو أخيرًا مغادرة الملهى.
لم يكن بسبب الحفلة، ولا بسبب جيسي التي لم تكف عن التحديق فيه طوال الليل، بل لأن قلبه كان فارغًا. لم يملأه شيء… لا الموسيقى، ولا العيون التي لم تكن "هي".
…
ظلّ يسير في الأزقة الخلفية، حتى صار كل شيء يشبه كل شيء.
ضوء النيون من مقهى مغلق، رائحة سكر محترق من عربة نائمة، ظلال مارة لا تنظر خلفها.
مرّ بجانب جدار مغطّى بالغرافيتي.
توقف.
وسط الألوان الفوضوية، كانت هناك عيون.
مرسومة بفوضى، لكنها مألوفة.
عينان كبيرتان…
واحدة زرقاء، والأخرى خضراء.
تقريبًا.
تقدّم خطوة، كأنّ الجدار يناديه.
— "تخيلات..." تمتم، ولم يقترب أكثر.
لكن شيئًا داخله اهتز.
أخرج دفتره من جيب سترته.
صفحاته خالية منذ شهور.
للمرة الأولى، رسم.
ليس الوجه.
ولا الجسد.
ولا الشعر.
فقط العيون.
بدأ بالزرقاء… ثم الخضراء.
حين انتهى، نظر إليها طويلًا…
ثم مزّق الصفحة ببطء.
رمى الورقة في سلة مهملة وابتعد.
كأنّ رسمها… جريمة.
مشَى طويلًا حتى أشرقت الشمس من خلف المباني الباردة.
لم يعد لمنزله تلك الليلة.
ولم يكن يعرف لماذا.
لكنّه شعر… أن اللقاء اقترب.
عاد إلى شقته في السادسة صباحًا، الشمس تسلّلت خجولة من بين الأبنية المتعبة.
فتح الباب بصمت، خلع سترته، مرّ بجانب اللوحة دون أن ينظر إليها.
ذهب مباشرة إلى الحمام.
غسل وجهه… ثم نظر في المرآة.
كان يشاهد عينيه، لكن لا يرى نفسه.
خرج، جلس على الأريكة البالية في الزاوية، وأشعل سيجارة.
لم يكن يريد النوم.
بل لم يكن يعرف إن كان "ينام" فعلاً…
هو فقط ينطفئ أحيانًا.
أسند رأسه للحائط، ثم أغمض عينيه…
وهنا، جاءت الذاكرة.
لم تكن واضحة. لم تكن حادّة.
بل كانت صامتة… مثل كل شيء فيه.
بيت صغير…
رجل ضخم يصرخ…
امرأة تبكي بصوت مكتوم، وتحاول حماية شيء صغير خلفها.
الشيء الصغير هو هو.
كان عمره خمس سنوات.
لم يبكِ. لم يفهم.
لكنه تذكّر تمامًا كيف سقط جسد أمّه.
ضربة واحدة.
رأسها اصطدم بالحائط.
ثم كل شيء توقّف.
صوت الصراخ… تحول إلى طنين.
رائحة الدم… تغلغلت في ذاكرته إلى الأبد.
ثم اختفى الأب.
هرب أو اختبأ أو مات، لا يتذكّر.
كل ما يتذكره…
هو كيف جلس إلى جانب جسد أمّه، وسحب جفنها بأصبعه الصغير، يحاول أن يرى عينيها للمرة الأخيرة.
كانت عيناها نصف مفتوحتين… تنظران إلى اللاشيء.
فتح أليساندرو عينيه.
لم يكن يتعرق.
لم يكن حزينًا.
فقط… عاد إلى الصمت.
نفث دخان سيجارته نحو السقف، وهمس:
— "لم أكن مريضًا… لقد وُلدت هكذا."
نهض وذهب نحو اللوحة.
نظر إليها طويلًا…
ثم أمسك الريشة.
رفعها… اقترب من مكان العيون…
ثم توقّف.
لم يلمسها.
عاد ووضع الريشة في كوب الماء، وغادر الغرفة.
النهار رمادي.
شوارع المدينة ممتدة كأنها لا تنتهي، والمارّة يمشون كأنهم يؤدّون طقوسًا لا يفهمونها.
في تمام الساعة العاشرة صباحًا، رنّ جرس الباب.
أليساندرو لم يتحرّك.
رنّ مجددًا. ثم ارتفعت أصوات:
— "يا ابن الليل، افتح الباب! أحضرت لك شيئًا يجعلك تبتسم… أو تقتلني."
فتح الباب، نصف عيناه فقط.
أمامه: مايثو، كعادته، يحمل شيئًا في يده، ويبالغ في ابتسامته.
— "مفاجأة! جيسي هنا."
من خلفه، ظهرت جيسي. ترتدي معطفًا طويلًا، شعرها مربوط، لكنها ما تزال تحمل شيئًا من تلك الحيوية التي تلمع في كل حفلة.
نظرت إلى أليساندرو وابتسمت ببطء:
— "هاي… هل تتذكرني؟ من الحفلة؟"
أليساندرو لم يرد. فقط استدار وعاد إلى الداخل.
مايثو (يضحك): "إنه يرحّب بك على طريقته."
دخلوا إلى شقته، رغم بروده الواضح.
جيسي جلست على الكرسي الخشبي المخصّص للرسم دون استئذان.
نظرت إلى اللوحة الناقصة، ورفعت حاجبًا:
— "واو… هذه… مرعبة."
أليساندرو (ببرود، دون أن ينظر إليها):
— "هي ليست لكِ."
ضحكت جيسي، لكنها شعرت بصفعة باردة في صدرها.
مايثو، يحاول أن يلطّف الجو، أمسك كوبًا فارغًا:
— "أنا سأصنع قهوة. أو مشروبًا. أو أي شيء يُنقذ هذه الجلسة من التجمد."
مرّ الوقت ببطء.
أليساندرو كان يحدّق من النافذة، كأن الخارج أكثر أهمية من الزائرين.
جيسي (بنبرة خفيفة):
— "أتعرف؟ أنت غريب… وهذا مثير. معظم الرجال يحاولون لمسي في أول خمس دقائق، أما أنت فلا تكلّف نفسك حتى بالكلام."
لم يرد.
جيسي أكملت وهي تنظر إليه:
— "مايثو قال إنك فنان… لكنك أكثر من ذلك، أليس كذلك؟"
أليساندرو (دون أن يلتفت):
— "لا تبحثي عن شيء لن تجديه."
مرت نصف ساعة.
مايثو فقد الأمل في "ذوبان الجليد"، فأنهى الجلسة بمزحة فاشلة، وخرجا معًا، هو وجيسي.
وقبل أن تغلق الباب، نظرت جيسي مرة أخيرة إلى اللوحة…
ابتسمت، وهمست:
— "لو احتجت وجهًا جديدًا لتكمله… اتصل بي."
ثم أغلقت الباب.
صمت طويل.
أليساندرو أشعل سيجارة جديدة.
كان وحده مجددًا.
لكنه شعر بشيء جديد…
كأن اللوحة… تكرهه.
في الخارج، تمر فتاة في العشرينات ترتدي ملابس عمل بسيطة، وتحمل كوبين من القهوة وهي تضحك بهدوء.
وجهها غير واضح، لكنها تمتلك شيئًا نادرًا:
عين زرقاء، وأخرى خضراء.
لم يراها.
ليس بعد.
كان المطر يتساقط بغزارة على المدينة، يغسل أرصفتها من القذارة، لكن لا شيء يمكنه غسل الداخل.
جلس أليساندرو أمام نافذته، سيجارته محترقة حتى النهاية، والضوء يتراقص على جفن عينه المتعب. اللوحة خلفه… صامتة. مشلولة. كأنها تخشى أن تنظر إليه.
هو لم يرسم شيئًا منذ أيام. ولم يكن نائمًا كذلك.
كان يخرج كل مساء. يمشي كطيف. يراقب. يدوّن. يقترب من المجهول الذي يشعر به يزحف نحوه.
---
طرقات على الباب...
لم يتحرك أليساندرو.
ظل جالسًا على الكرسي الخشبي المتآكل في منتصف الغرفة، السيجارة تحترق بين أصابعه بثباتٍ يشبه الموت، والدخان يتصاعد ببطء، يتلوى في الهواء كثعبان يهمس له بأسرار لا تهمه.
الطرقات ازدادت.
أصبحت أكثر إلحاحًا… أكثر إزعاجًا.
لكن أليساندرو لم يرد. لم يتحرك. لم يهتم.
كأنه لم يسمع.
عينيه نصف مفتوحتين، ميتتين، تنظران إلى الباب كما ينظر أحدهم إلى جثة مرمية في شارع مهجور. لا إثارة. لا فضول. لا مشاعر.
وحين ازدادت الطرقات حتى كادت أن تكسر صمته، تنهد، كأن جسده الثقيل بالكاد يتحمّل النهوض. وقف بتثاقل. كل شيء فيه يتحرك كأنه خُلق ليتوقف.
اقترب من الباب. يده امتدت إليه ببطءٍ ممل، كما لو أنه يفتح قبراً لا باباً.
فتح قليلاً… رأى وجهها.
كلارا.
شفتيها مصبوغتان بلونٍ لا يشبهها، وعيناها تحملان بريقًا مزيفًا يعرفه جيدًا. بريق من اعتاد أن يكذب ليأخذ.
ابتسمت. ابتسامة مصطنعة، لكنها مثيرة بما يكفي لتخدع ساذجًا.
قالت بصوتها المعتاد، الناعم المتلوّن بالاحتياج:
— "حبيبي... اشتقت إليك."
لم يرد.
عينيه لم تتحرك. لم يرتجف له جفن. لا شيء فيه تفاعل معها. فقط قال ببرودٍ قاتل:
— "ماذا تريدين؟"
ترددت لحظة، ثم عضّت شفتها بتصنّع، كأنها تحاول أن تبدو نادمة، أو خجولة.
— "كنت فقط... اشتقت إليك، و..."
رفع حاجبه، ببطء. عينيه تزداد برودة. لم يقاطعها، لكنه لم يبدِ أي اهتمام.
هو يعرف. يعرفها أكثر مما تعرف نفسها.
تنهّدت أخيرًا، وكشفت عن نيتها:
— "كنت أريد بعض المال... أعني، الفستان الذي أرسلته لك، ألا تظن أنه رائع؟"
استدار دون أن ينبس بكلمة.
دخل إلى الغرفة. لم يقل لها "تفضلي". لم يفتح لها الطريق. ولم يغلق الباب خلفه.
دخلت وحدها، بخفة، كمن اعتاد على التطفّل.
فتح درجه، سحب مبلغًا أكبر مما توقعت، ورماه فوق الطاولة دون أن ينظر إليها.
قال، بنفس البرود:
— "خذي. و اخرجي."
قالها وكأنه يطرد الهواء من صدره.
لم تناقش. لم تجادل. لم تبتسم حتى.
التقطت المال بسرعة، ثم خرجت بنفس الهدوء الذي دخلت به، وإن كانت ساقاها تهرولان بخفة تحت تنورتها القصيرة.
**
عاد أليساندرو إلى كرسيه.
جلس.
أغمض عينيه.
السيجارة الجديدة اشتعلت بين أصابعه دون أن يشعر بها. الدخان يلتف حول وجهه، حول روحه الخالية، كأنّه يحاول أن يغلفها، يخنقها... أو يدفنها.
هو يعرف أنها تكذب. يعرف أنها تستغله. لكنه لا يهتم.
لا لأنها ذكية… بل لأنه ميت.
من الداخل.
ميت بالكامل.
لا يحبها. لا يثق بها. لا يحتاجها.
لكنها تفيده… حتى الآن.
هي من تبحث له عن الجثث.
هي من تجرّ الظلال خلفها دون أن تدرك أنها تمشي في الظلام.
**
في مكانٍ آخر… في شقة صغيرة بإضاءة خافتة، كانت كلارا تخلع ملابسها بسرعة، تغيّرها لشيء أكثر جرأة. فستان ضيّق، عطر ثقيل، نظرة في المرآة، ثم تنهيدة خفيفة.
لم تكن تبكي.
لم تشعر حتى بالذنب.
هي تعرف ما تفعله.
وتحب أن تفعله.
**
طرقات أخرى… على باب آخر.
هذه المرة كانت أكثر خفة. أكثر أنوثة.
الباب انفتح، وابتسامة ظهرت فورًا.
مايثو.
أقرب أصدقاء أليساندرو.
الرجل الذي كان يضحك معه، يشرب معه، يرافقه كظلّه… ويطعن في قلبه دون أن يرمش.
ابتسم لما رآها، تلك الابتسامة التي يعرف أنها لا تليق إلا بالخونة.
قال، بصوت منخفض:
— "ظننت أنك لن تأتي الليلة."
أجابت، وهي تتخطى عتبة الباب بلا خجل:
— "كيف لا آتي؟ وأنت... أكثر دفئًا منه."
ضحك. أغلق الباب.
انطفأ النور خلفهما.
والخيانة… بدأت من جديد.
**
وفي مكان بعيد، على نفس الكرسي الخشبي، كانت عينا أليساندرو تحدقان في السقف.
ساكنتان… لكن لا شيء فيه غافل.
هو يعرف.
يعرف كل شيء.
ولا يتحدث.
لأنه حين يتحدث… لا أحد يخرج سالمًا.
---
في مكانٍ آخر...
الضوء الذهبي الخافت يتسلل من نوافذ المقهى الصغيرة، ينساب فوق الطاولات الخشبية، يلامس البخار المتصاعد من الأكواب ويعكس دفئًا كاذبًا على الجدران.
بين تلك الجدران، تقف لونا خلف المنضدة، تضحك بهدوء مع زميلها، ضحكة ناعمة، لا تخرج من القلب لكنها تحاول.
كانت ترتدي ملابس بسيطة: قميص أبيض، مريول قهوة، وشعرها البني مسدلٌ على جانب وجهها، يخفي عينها اليمنى… العين التي لم تحبها يومًا.
عينها اليسرى زرقاء كسماءٍ حزينة. أما الأخرى... كانت مختلفة. غريبة. عيب خُلقي قالت الطبيبة، لكن لونا لطالما ظنّتها لعنة.
**
تناولت طلبًا من الزاوية وقدّمته بابتسامة حقيقية لامرأة عجوز، ثم التفتت للعميل التالي…
وفجأة... دخلت هي.
فتاة لا تعرفها. لا تنتمي لهذا المكان. لا تشرب القهوة هنا، بل جاءت بشيء آخر.
خطواتها كانت مزيفة بقدر الكعب العالي الذي بالكاد تتقنه. ترتدي فستانًا ضيّقًا، مكشوفًا، من نوع لا يرتدى إلا لاستفزاز الأنظار. ملامحها مطلية، وكأنها لا تثق بوجهها الحقيقي.
"هل أنتِ... لونا؟"
قالتها بنبرة حادة، مرفقة بابتسامة لا تحمل ودًا.
رفعت لونا رأسها، استقامت بابتسامتها المعتادة، تلك التي تتقنها حين لا تعرف نوايا الغرباء:
— "نعم، إنها أنا... ما هو طلبك، سيدتي؟"
الفتاة ضحكت بسخرية، رفعت يدها لتعدل شعرها المصقول بعناية زائفة، ثم قالت:
— "أنا ميرا."
توقفت لحظة، كأنها تنتظر من لونا أن ترتجف. لكنها لم ترتجف.
أكملت بنبرة أقسى:
— "لكن اسمي لا يهم."
أخرجت هاتفها. فتحت صورة. وأظهرتها للونا فجأة.
كانت الصورة واضحة… لا مجال للخطأ.
حبيب لونا.
يُقبّل ميرا.
ذراعيه حول خصرها.
شفتيه على شفتيها.
ضوء الليل خلفهما، والخيبة أمام عيني لونا.
ميرا همست، كأنها تطعن بخنجر من ذهب:
— "هل هذا حبيبك؟"
ثم ابتسمت كأنها انتصرت في معركة لم تخضها:
— "اللعنة… لقد أصبح ملكي الآن."
ضحكت… ضحكة لا طعم لها سوى الغرور، ثم استدارت، تمشي كعارضة على أرضٍ لا تناسبها، وتركت المكان خلفها ثقيلًا بالخيبة.
**
لونا لم تتحرك.
لم تنفعل.
وجهها ظل هادئًا... ميتًا... كما لو أن قلبها هو من تلقّى الرصاصة، لا ملامحها.
زميلها وزميلتها رمقاها بنظرة حزن.
قالت بصوت خافت، دون أن تنظر لأي منهما:
— "هل يمكنني أن آخذ استراحة؟"
هزّوا رؤوسهم دون كلمة.
**
دخلت إلى المطبخ الصغير. فتحت الثلاجة، وأخرجت كوب قهوة باردة من الليلة الماضية. لم تكن طازجة. لم تكن لذيذة. لكنها لم تكن بحاجة للنكهة.
جلست على الطاولة قرب النافذة.
العين الزرقاء كانت تنظر للسماء.
سماء بلا غيوم. لكنها بدت باهتة… كأنها ماتت منذ زمن.
أما العين الأخرى... فظلت مخفية تحت شعرها.
كما كانت دائمًا.
لأنها كرهتها.
كرهت كيف ينظر الناس إليها.
كرهت الطفلة التي كانت تسأل أمها يومًا:
"لماذا أنا قبيحة؟"
"لماذا لديّ عين مختلفة؟"
لكن هذه المرة، لم يكن الأمر عن عينها.
لم يكن عن شكلها.
كان عن قلبها.
قلبها الذي ظنت أنه وجد مأواه. الذي خفق، لأول مرة، في صدق.
قلبها الذي خذلها.
لقد أعطته كل ما لم تعطه لأحد.
أحبّته... بشراسة الجائعة.
صدّقته... رغم أنها لا تثق بأحد.
والآن، ماذا بقي؟
صورة.
وفتاة.
وقلب مُكسَر لا يُسمع صوته.
**
رفعت الكوب، أخذت رشفة، ثم أسندت رأسها على الزجاج البارد.
أغمضت عينيها.
والسكون حلّ.
لكن خلف ذلك السكون...
كانت لونا تحترق.
---
وإلى "أليساندرو"، الذي خرج في تلك الليلة الباردة دون وجهةٍ واضحة، يتبع خطواته كما لو أنه يتبع ظلاً داخلياً يقوده... هل خرج بحثًا عن ضحية؟ أم أنه فقط استسلم لنداءٍ داخلي خفي، كأن شيئًا في أعماقه كان يهمس له: "الليلة مختلفة"؟
كان المطر قد توقف لتوه، وترك خلفه أرصفة لامعة تتلألأ تحت أضواء الشوارع الصفراء، والهواء يعبق برائحة الأرض المبللة والبرد المتسلّل إلى العظام. سار بخطى هادئة كأنّ المدينة كلّها نائمة، إلى أن شدّ انتباهه ضوء دافئ يتسرّب من نوافذ مقهى صغير عند الزاوية، كأنّه ملاذ وسط هذا الجمود.
دفع الباب الخشبي بيده، فصدر صرير خافت، ودخل. كان الدفء يحتضنه فورًا، ورائحة القهوة تعبق في المكان كأنها تروي القصص قبل أن تُقال.
وهناك، عند الزجاج الكبير، كانت هي... فتاة تجلس بمفردها، تنظر إلى السماء الباهتة. لا غيوم، لا نجوم، فقط فضاء شاحب كأنّه مرآة لروحها المنكسرة. كانت "لونا" تحمل في عينيها حكاية لا تنتهي، عين زرقاء كصفاء بحر في صباح صيفي، والأخرى خضراء كلون الغابات العميقة، لكنها كانت تخفي تلك الأخيرة خلف خصلات شعرها، كما لو أنها تخجل منها، تراها عيبًا لا يستحق أن يُرى.
لم يكن ينظر إليها، أو ربما كان يحاول ألّا يبدو مهتمًا. لكنه سعل، سعالٌ مفاجئ من شدّة البرد، مزّق الصمت الرقيق الذي كان يملأ المكان. في تلك اللحظة، التفتت نحوه. وانزلق شعرها، دون قصد، عن عينها الخضراء... فظهرت للحظة كاملة، كأن الحقيقة التي كانت تخشاها قد كشفت نفسها فجأة.
تلاقت العيون. وفي تلك النظرة، شيء ما حدث.
نظرت إليه بحزن شفيف، ليس لأنه هو، بل لأن قلبها ما زال ينزف من خيانة حديثة، وجُرح لم يُضمّد بعد. أما هو، فتجمّدت نظرته لثوانٍ، كأنه رأى لوحة فنية كانت مختبئة طويلاً خلف ستارة من الغبار. نظرة لا تحمل ابتسامة، لكنها مليئة بالدهشة... والافتتان.
كأن الزمن توقف، كأن كل شيء في المدينة هدأ ليُفسح الطريق لتلك اللحظة.
هل وجد ضحيته؟ أم عثر على إلهامه؟ لم يكن يعلم بعد، لكنّه كان متيقنًا من شيء واحد...
أن تلك العين الخضراء، التي ظنّتها لونا لعنةً، كانت هي البداية لكل شيء.
---
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon