..."ما عليكِ سوى أن تقولي شيئًا واحدًا."...
...في الصمت الخانق، فتح فمه أخيرًا....
..."تلك الطفلة... هي طفلتي."...
...رنّرنّ صوته الثقيل كجرسٍ حزين في صدرها....
...كان الأمر أشبه بتنهيدة عاجزة على وشك الإفلات، لكنها أغلقت فمها بإحكام....
...هل كان واثقًا؟ أم أنه فقط أراد أن يُصدق ذلك؟ لم تستطع "جونغ أوه" قراءة ما في قلبه....
...قلبها الذي طالما اندفع نحوه، كان يؤلمها الآن. كلما ركزت بصرها أكثر، سخنت عيناها بدموع لم تجد طريقها للخروج....
..."يينا... هي ابنتي."...
...لاحظت "جونغ أوه" ارتجافة خفيفة في عينيه المعلقتين بها. كان صوته مشبعًا بالرجاء، مغمورًا بالشوق....
..."قولي إنها ابنتنا."...
...وحين لم تجبه، كرر كلماته بإلحاح يائس....
...كان صوته منخفضًا، لكنه امتلأ بالتقلبات والانفعالات. بدا وكأنه يدفن مشاعر كثيرة في أعماقه....
...كل كلماته كانت تقول نفس الشيء......
...وكأن لا جواب ممكن سوى واحد. وكأن الإنكار جريمة....
..."إن أجبتِ فقط... سأمنحكِ كل شيء."...
...ما لم يقله، كان يملأ الأجواء، يحتكّ بقلبها، يخدشه بلا رحمة....
...لكنها هي من تحملت هذا الألم وحدها... فلماذا وجهه هو من بدا مشوهًا بالحزن؟...
...رفعت "جونغ أوه" يدها برفق، دون أن تدري، ولمست وجنته بحنو....
...لكن تعابير وجهه لم تلِن، بل بدا أكثر غضبًا....
..."قوليها."...
...أمسك بيدها التي تلامس وجهه برقة، وصوته يرتفع قليلًا، وهو يتوسل:...
..."قوليها... أرجوكِ."...
...من الذي أوصل هذا الرجل إلى حافة الجنون؟...
...من جعله بهذا اليأس؟...
...سواء كانت الحقيقة أو مجرد وهم... لم يعد يعنيه....
...كان عليها أن تفتح فمها، أن تتكلم لأجله....
...عيناها، المثقلتان بثقل الإجابة، تاهتا في الفضاء كطفلة ضائعة....
...ربما رغبته في امتلاكها بالكامل هي ما دفعته إلى هذا الحكم الخاطئ....
...وربما كان ذلك اندفاعًا خطيرًا... أن يتخلى عن كل شيء من أجل أن يتمسك بها فقط....
...لكن الحقيقة... أنها كانت تتوق لنفس الشيء....
...في الثالثة والعشرين من عمرها، أصبحت الآن في الثلاثين....
...سبع أعوام كاملة... كانت تتمنى أن ينتهي هذا الألم....
...أن تكون امرأة لا تكذب على نفسها ولا على ابنتها....
..."نعم... إنها ابنتك."...
...قالتها بصوت هادئ، لكن كلماتها تلاشت شيئًا فشيئًا....
...المشاعر التي لم تتمكن من كبحها اجتاحت ملامحها، وطمست رؤيتها....
..."طفلتنا... إنها طفلتنا."...
...تلعثمت في النطق... لكنها نطقت بالحقيقة....
...الحقيقة التي كان يتوق لسماعها....
...* * *...
...جونغ أوه، في الثالثة والعشرين من عمرها....
...حدث لها أمرٌ لم تتصوره قط....
...كانت يدها ترتجف وهي تمسك باختبار الحمل....
..."هذا غير ممكن."...
...لم تكن خطوطًا باهتة أو مشوشة. بل خطان واضحان، كما لو أنهما رُسما بقلم ثابت....
...في الخارج، كان الجو مشمسًا... لكن داخل منزلها، كان الإعصار يعصف....
..."لا... هذا ليس حقيقيًا..."...
...اهتز صوتها بالبكاء....
..."هذا لا يمكن أن يحدث..."...
...كانت فقط قلقة قليلًا من تأخر "تلك الأيام". قليل من الغثيان، وبعض النعاس الزائد... بدت أعراضًا غريبة....
...ولتطمئن، اشترت اختبار حمل من الصيدلية....
...حين خرجت من الصيدلية، كانت تظن أنها فقط تبالغ....
...لكن بعد رؤية النتيجة، شهقت بيأس، ثم خرجت مجددًا....
...توجهت إلى صيدلية أخرى، ودفعت ما تبقى في محفظتها لشراء ثلاثة اختبارات إضافية....
..."ليكن الأختبار الأول ليس صحيحًا، أرجوك!"...
...لكن أمانيها لم تُستجب. جميعها أظهرت نفس النتيجة....
...سحبت "جونغ أوه" شعرها بيديها، وكانت على وشك البكاء....
...لم تكن تعلم حتى أنها شربت الكحول قبل يومين فقط!...
..."لا! هذا ليس المهم الآن!"...
...كانت مشاعرها تتنازع داخلها....
...'اهدئي... يجب أن أكون هادئة.'...
...تنفّست ببطء، وضعت يدها على صدرها، كأنها تطمئن قلبها المضطرب....
...كانا يتواعدان منذ ستة أشهر. كانت هي وهو أول حبٍ في حياة بعضهما. ومع ذلك، لم تكن تعرف عنه الكثير....
...جونغ جي-هون، 26 عامًا. طالب في قسم الأعمال بجامعة "كاي"، على وشك التخرج. لم يكن قد قرر بعد في أي شركة سيبدأ حياته المهنية....
...كان والده يملك مصنعًا للوجبات الخفيفة....
...هذا كل ما كانت تعرفه عنه....
...تعرفت عليه حين كانت تعمل في أستراليا، في رحلة عمل مؤقتة. كانت جائعة منذ يومين، تبكي أمام متجر كوري....
...أعارها 20 دولارًا لأنها لم تكن تملك ثمن الطعام....
...ومن هنا بدأت قصتهما....
...بعد عودتها إلى كوريا، التقيا مجددًا....
...وثقت به تمامًا. كانت تعلم أنه رجل طيب....
...حتى حين كان يتردد في الحديث عن عائلته، لم تشك فيه....
..."والدي لا يعود إلى المنزل كثيرًا. طوال 26 سنة، يمكنني عدّ المرات التي رأيته فيها على أصابع يد واحدة."...
...تذكرت أنه قال ذلك ذات مرة....
...وربما لهذا السبب... توقفت "جونغ أوه" عن سؤاله عن ماضيه....
...ومع ذلك... لم تكن هناك مشكلة في علاقتهما....
...كان الحب بينهما حاضرًا... وكان سعيدًا....
...لم يكن يعبّر عن مشاعره كثيرًا بالكلمات، لكنه كان رجلًا رائعًا....
...وسيم، لطيف، مهذّب، محترم، عطوف......
...تستطيع أن تلصق به كل الأوصاف الحسنة....
...وكان دائمًا حريصًا على وسائل الحماية....
...على الأقل، هذا ما كانت "جونغ أوه" تظنه....
..."...أليس كذلك؟"...
...شعرت بالضياع....
...تذكّرت نظراته إليها، تلك النظرات التي كانت تحرقها، كأنه أراد أن يقيّدها بها....
...في كل مرة كانت تتردد... كان دائمًا ما ينتهي الأمر بالطريقة التي أرادها....
...فهل كان كل ذلك الشغف آمنًا؟...
...هل كان كاملًا؟...
..."إذًا، ما معنى هذه النتيجة؟"...
...كانت تريد إنكارها....
...لكن إن أنكرتها... فهذا يعني أن بجسدها أمرًا آخر غير الحمل....
...وإن كان غير الحمل... فقد يكون أمرًا خطيرًا أيضًا....
..."عليّ أن أذهب للمستشفى أولًا. سأتأكد، ثم أخبره."...
...لكن... هل يجب أن أذهب وحدي؟...
...أنا خائفة....
...هل سيحدق الجميع بي إن قلت لهم إنني لست متزوجة؟...
...كم سيكلفني ذلك؟ أنا طالبة... ولا أملك المال....
..."آآآه... ماذا أفعل؟"...
...سقطت على مكتبها....
...ماذا سأقول له؟...
...إن طلبت منه أن يأتي معي... هل سيوافق؟...
...ماذا إن غضب وقال، "كيف حدث هذا؟!"...
..."لا، لماذا سيغضب؟! هذه غلطتك! أوبا، هذا خطؤك!"...
...جلست فجأة، تشير بأصبعها في الهواء، كأنه يقف أمامها....
...لم تكن قد أخبرته بعد، ولم يغضب حتى....
...لكن القلق من شيء لم يحدث بعد... كان عادتها القديمة....
...ما الذي يجب أن أفعله؟ أنا فقط في الثالثة والعشرين....
..."كم الساعة الآن؟ آه!"...
...وسط قلقها، كانت الساعة تقترب من موعد لقائهما....
...أسرعت بارتداء ملابسها، وغادرت المنزل....
...كان الموعد في الخامسة مساءً....
...كان من غير المجدي أن تأخذ تاكسيًا إلى محطة المترو، لكنها لم ترغب بالجري....
...لسبب ما، شعرت أن عليها أن تكون هادئة....
...ومع ذلك، مشيت بسرعة، ووصلت إلى المحطة عند الخامسة وعشر دقائق....
...رأته واقفًا أمامها، شاردًا، كما لو كان ينتظرها دون أن يراها....
...حتى من بعيد، كان من السهل تمييزه....
...قامته، ملامحه، جعلت منه شخصًا يلفت الأنظار....
...ذلك حبيبي!...
...في الواقع، كانت وسامته مربكة أحيانًا. حين كانا يسيران معًا، كان الناس يحدقون. لم تشعر بالنقص، لكنها كانت تمزح أحيانًا وتقول له إنه أجمل منها. هل كان من الممكن أن تطلب منه أن يكون أقل جمالًا قليلًا؟...
...وكان يرد ببرود، دون أي تغيير في تعبيره:...
..."عمّ تتحدثين؟ أنتِ الأجمل."...
...وكأن المقارنة غير منطقية بالأصل....
...كانت تعلم أنه لا يقولها لمجرد إرضاءها. بل كانت كلمات صادقة تمامًا....
...بين القلق والبهجة، ابتسمت "جونغ أوه". من الطبيعي أن يرغب الإنسان في أن يبدو جميلًا لمن يحب....
...تباطأت خطواتها عندما رأته. وحين لمحها، اقترب منها على الفور....
..."آسفة. هل انتظرت طويلًا؟"...
...سألته، لكنه لم يجب....
..."لماذا ترتدين هكذا؟"...
...ثم خلع معطفه ووضعه على كتفيها....
...صدمة اختبار الحمل جعلتها تنسى ارتداء شيء دافئ. فقط حينها أدركت أنها ترتدي معطفًا خفيفًا للخريف....
...وبحركاته السريعة، أدخل يديها في أكمام المعطف....
...كان قميصه مشدودًا على كتفيه العريضتين وصدره القوي....
..."لديّ ذوقي الخاص، كما تعلم."...
...قالت وهي تئنّ بخفة، بينما كان يلبسها كأنها دمية ثلج. ومع ذلك، لم يتوقف عن إغلاق الأزرار....
...في المعتاد، كانت ستعترض، لكنها اليوم أرادت فقط أن تشعر بالدفء....
...ومع المعطف الضخم عليها، بدت وكأنها التفّت ببطانية. رأى ذلك وابتسم....
..."ما هذا؟"...
..."تبدين جميلة فيه."...
...بدا وكأنه يمزح، لكنها لم تستطع الاعتراض. عندما يبتسم بذلك المظهر الذي يشبه الحب الأول في الثانوية، لا تجد كلمات تخرج بها....
...لكنها لا تزال بحاجة إلى أن تقول شيئًا....
..."هل نذهب لتناول الطعام؟"...
..."آه، لا!"...
...تملكها الذعر وهزّت رأسها بسرعة. منظر الطعام وحده جعل معدتها تتقلّب. الخطّان على الاختبار كانا يُثقلان قلبها....
..."لن تأكلي؟"...
..."لا."...
...الابتسامة التي لطالما أذابت قلبها اختفت تدريجيًا. قطّب "جي هون" حاجبيه، متفحصًا حالتها....
...رؤية "جونغ أوه" وهي ترفض طعامها المفضل كانت دليلًا كافيًا على أن شيئًا ما ليس على ما يرام....
...اقتربت يده الكبيرة، التي كادت تغطي وجهها الصغير، ولمست جبهتها بلطف....
...جسدها الدافئ، حتى في هذا البرد المبكر من شتاء سيول، جعله يبدّل خطته فورًا....
..."لنذهب. سأوصلكِ إلى المنزل."...
...لقد استنتج أنها مريضة....
...تشابكت أصابعه بقوة مع أصابعها النحيلة، وبدأ دفء يديه يتسلل إلى جسدها المرتجف....
...ذلك الدفء الهادئ الذي انساب منها وإليه، بدأ يغسل قلقها المتراكم بصمت....
...في الحيّ المكتظ بغرف الإيجار الصغيرة، كان الغروب يوشك على الابتلاع الكامل للسماء....
...وعندما وصلا إلى باب منزلها، أرخى "جي هون" يده....
..."ادخلي بسرعة."...
..."سأدخل وأخرج فورًا."...
..."لا، تبدين مرهقة. اذهبي وارتاحي."...
..."لا! لستُ متعبة إطلاقًا. أشعر أنني بخير تمامًا!"...
...قالتها بوجه محمر، تنكر ما تشعر به....
..."يجب أن أدخل، لدي شيء عليّ فعله."...
...ابتسم لها ابتسامة دافئة، لكنه غيّر عذره....
..."ما الأمر؟"...
..."يا، جونغ أوه!"...
...في اللحظة التي ألقت فيها السؤال عليه، جاء صوت من بعيد يناديها....
..."هيونغ!"...
...استدارت فورًا، وردت على الرجل، وهو أحد زملائها في القسم ويسكن بالجوار....
...عبس "جيهون" واستدار ليرى من المتحدث....
...لكن وقوفه بجانب "جونغ أوه" أصبح بلا معنى، إذ اقترب الرجل الآخر وعبث بشعرها كما لو أنه مألوف جدًا....
..."أين كنتِ طوال هذا الشهر؟ اختفيتِ فجأة!"...
...مد "جي هون" يده، ربما لإقافه، لكن الرجل سحب يده قبل أن يتدخل....
..."هل كنتِ مشغولة؟"...
..."نعم.... قليلاً."...
..."مشغولة بالمواعدة؟"...
...غمز لها ممازحًا، لكن عينا "جي هون" أصبحتا كالفولاذ، شعرت "جونغ أوه" بالحرج الشديد....
...بينما كانت تعض شفتها، تنبه الرجل أخيرًا إلى النظرات الحادة التي يُطلقها "جي هون"، فتراجع سريعًا....
..."استمتعا بموعدكما. لنتقابل لاحقًا ونتناول شيئًا."...
...أومأ للرجل ثم رحل فورًا....
...بعد مغادرته، ساد الصمت بين الاثنين....
...شعرت "جونغ أوه" بأنها بحاجة لتبرير الموقف، ففتحت فمها بحذر:...
..."هو فقط.... زميل من قسمي يسكن بالجوار."...
..."دعينا نصعد."...
...غيّر رأيه مرة أخرى. قبل قليل قال إنه سيغادر. ثم قال أن لديه شيئًا ليفعله....
...رغم أنها كانت تفضّل التحدث معه بهدوء في الخارج، أومأت موافقة....
...لكن، لسببٍ ما، كانت خطواتها نحو الطابق العلوي ثقيلة....
...خطواته الثقيلة خلفها بدت كأنها تبتلعها معها، فتباطأت أكثر....
...وأخيرًا، وصلا إلى الطابق الثالث....
...مدّت "جونغ أوه" أصابعها النحيلة، فتحت الباب بصوت طفيف، ودخلا إلى المسكن الصغير، الذي لا يتجاوز الأربع "بيونغ" (وحدة مساحة كورية)....
...بدا المكان وكأنه مرت عليه عاصفة تلو الأخرى، اليوم فقط....
...كعادته، لم يتردد "جيهون" في احتضانها من الخلف، واضعًا يديه على كتفيها....
...رغم علمها أن العاصفة تقترب، خرج منها شهقة صغيرة بلا إرادة....
..."أنا أشعر بالبرد."...
..."……"...
..."سأمنحك الدفء."...
...قالها بينما كان يفكّ أزرار المعطف الذي ألبسها إياه منذ قليل، ثم اقترب منها وهمس بجانب أذنها، بنبرة خافتة تكاد تلامس الجلد... وكان أنفاسه تذوب على عنقها....
...وحين سقط المعطف الثقيل على الأرض، استدار بجسدها ليجعلها تواجهه....
...تلاشت أفكارها تمامًا تحت ثقل نظراته، التي بدت وكأنها تمحو كل شيء في عقلها....
...ومع أدنى حركة لرأسها، بدا فكّه الحادّ، بارزًا كمنحوتة....
...كان الضوء الخافت يرسم ظلالًا قاسية على وجهه، ظلالًا لا تُنسى، تؤلم العين....
...حاولت أن تتراجع، أن تخلق مسافة، لكنه تقدّم بخفة، يسدّ الفراغ. انزلقت قدمها، ووجدت نفسها جالسة على السرير....
...بدت كأنها هي التي قادته إليه دون أن تقصد....
...ملأ رؤيتها بالكامل، ملامحه قريبة منها، يبتسم ابتسامة بالكاد تُلحظ....
...زفر نفسًا عميقًا، دافئًا، انساب إلى شفتيها. كان بطيئًا، لكنه لم يخلُ من الحرارة....
...دفء أنفاسه أغرق عينيها بالدموع، وأغمضت جفونها بتعب. كان مجرد الإمساك بقلبها المتسارع مجهودًا مرهقًا....
...جسدها، نظراتها، صوتها... لم تستطع الهرب منه....
...كانت دومًا تقع فيه، كما لو أن ذلك هو الطبيعي....
...ماذا عليّ أن أفعل؟...
...ومع ذلك... كان يجب أن تقول شيئًا....
..."مـ-مهلًا..."...
...لم يكن بوسعها مقاومته جسديًا. ولم تكن قد حاولت يومًا....
..."انتظر..."...
...وبينما كانت بالكاد تفلت من قبلة وشيكة، تمتمت ثانية، بشفاه محمومة، وصوت خافت....
...قطب حاجبيه قليلًا عند توقفها المفاجئ....
...كانت شفاهها الندية تلمع، وعيناه لا تفارقانها....
...وكأنه يطلب منها أن تتكلم....
...بللت "جونغ أوه" شفتيها المتوترة، ثم قالت ببطء، بصوت واهن:...
..."أنا... لدي شيء أريد أن أقوله لك."...
...كان قلبها يخفق الآن، لا من الشوق، بل من الخوف....
...أيّ تعبيرٍ سترتديه ملامحك الآن؟...
...'أنا بحاجة لأن أقولها... لا بد أن أقولها.'...
...لكن الكلمات، كعادتها حينما تصبح الروح أثقل من الهواء، لم تخرج....
...كل ما استطعت فعله هو أن أعضّ شفتي المرتجفتين....
..."قلتِ إن لديك شيئًا لتقوليه… هيا."...
...نظر إليّ جي هون، في عينيه اشتعال لم ينطفئ، جوعٌ شعوريّ، كأنه ينتظر اعترافًا يروي احتراق قلبه....
...كانت نظرته كجمرة تلهبني، كمن يترقب بوابة خلاص بعد طول تيه....
...لكنني، كعروس بحرٍ فقدت صوتها، تعثّرت في صمتي، ولم أنطق إلا بكلماتٍ لم تكن ما أردت قولها حقًا....
..."...أنا... جائعة."...
..."…"...
...جملة غريبة… لكنها كانت كافية....
...فشعلة التوتر بيننا خفتت قليلاً، والرباط المشتعل في عينيه تراخى....
...نظراته تساءلت: ألم تقولي إنك لن تأكلي؟ أهذا وقت الطعام؟...
...لكنني كنت متمرّدة على كل منطق....
..."قلت إنني جائعة. جائعة جدًا."...
..."هاه... كنت أتساءل لمَ لم تتناولي شيئًا."...
...وبهدوء استسلم. نهض عن مقعده....
..."حسنًا، لِنأكل. ماذا تريدين أن أُحضّر؟"...
...ركضت خلفه نحو الثلاجة....
...الرائحة التي كانت تؤذيني سابقًا، بدا لي أن بإمكاني تحمّلها الآن....
..."فطائر الكيمتشي."...
..."حسنًا. اجلسي فقط، وسأتولى الأمر."...
...دون أي ارتباك، بدأ بطيّ أكمامه. رغم أن المكان بيتي، إلا أنه بدا وكأنه يخصّه أكثر....
...كان ماهرًا في المطبخ، يتنقل كما لو أنه لطالما عاش هنا....
...ولم تكن فطائر الكيمتشي جديدة عليه. أعدّ العجينة برشاقة، وسكب منها في مقلاة ساخنة تهمس بالزيت....
...صوت الطهي… آه، ذلك الصوت. وكأن الجوع لم يكن غائبًا أبدًا، بل كان يتربّص خلف ستار الانتظار....
...وحين تأكّد من أن وجه الفطيرة قد تحمّر بلونٍ ذهبي، رفع المقلاة، وقلبها بخفة فنان. وفي لحظة، ظهر وجهها المقرمش، كما لو أن الشمس استلقت عليه....
..."كل مرة أشاهدك تطهو، أندهش أكثر."...
...كنت أراقبه بعين الدهشة. ربما لأنه، للحظة، جعل من العادي شيئًا سحريًا. وكأنه استجاب لكلماتي، قلبها مجددًا، فتسلّلت شهقة إعجاب أخرى من بين شفتيّ....
...هكذا هي الحياة حين تُشاركها مع من تحب: تمتلئ باللحظات الصغيرة التي تُشبه السعادة أكثر من أي رغبة....
...لكن الرغبات لا تختفي، بل تنتظر… في صمت....
...جلسنا سويًا عند الطاولة الصغيرة، نتقاسم الفطائر ومرق الدونغتشي. كانت لذيذة، كما لو أنها تُداوي شيئًا ما....
...كان يُراقبني وأنا أتناول الطعام بشغف، ثم مدّ يده، ولمس جبيني برفق....
..."كيف تشعرين الآن؟"...
..."نعم... أنا بخير. كنت بخير منذ البداية."...
...حين عادت شهيتي، عادت شيء من قوتي....
...اعتقدت أنني أستطيع الذهاب إلى المستشفى وحدي، أن أؤجل الحديث… إلى حين أوضح كل شيء....
..."أظن أن عليّ الذهاب الآن."...
...ما إن انتهينا من الطعام، حتى نهض جي هون....
..."بهذه السرعة؟"...
..."نعم… هناك أمر يجب أن أفعله."...
...لم تكن حجّة. كانت الحقيقة....
...الوداع، سواء طال أو قصر، كان دومًا يحمل طعمًا مرًّا. ومع ذلك، لم أكن أملك الحق في إبقائه....
...وقفتُ إلى جانبه، وناولته معطفه. وبين طيّاته، دسست حبّة يوسفي صغيرة، دون أن يلاحظ....
...وحين أعطيته إيّاه…...
..."هذا معطفك... وشكرًا..."...
..."ما هذا؟"...
...لم أُكمل كلامي. بين أصابعه كان هناك... اختبار حمل....
...كنت أظن أنّي خبأته جيدًا في الدرج. لكن يبدو أن واحدًا من الأربعة قد أفلت....
...انتزعتُه من يده سريعًا، وأعدته إلى مكانه....
...لكن... كان ذلك خطأً أكبر....
...فتح الدرج من جديد....
...واكتشف البقيّة....
...كنت أعتزم الحديث بعد زيارة المستشفى. لكنه عرف قبل أن أتفوّه....
...تجمّدت. لم أستطع أن أقرأ شيئًا في ملامحه....
...كان نظره حادًا لدرجة دوّختني....
..."ما هذا؟"...
...سألني مجددًا. لكن لم يكن هناك حاجة لإجابتي....
...أربعة اختبارات… ووجهي الباهت....
...ردّي الصامت كان أبلغ من أي كلمات....
...قطّب جبينه بدهشة متّقدة....
...وفي تلك اللحظة… اهتزّ هاتفه....
...نظر إلى الاسم على الشاشة، تنهد، ثم عاد إليّ بنظرة أخرى....
...اقترب خطوة، فارتجفت. تراجعت نصف خطوة....
...لكنه لم يتوقّف. مدّ ذراعيه، وضمني إليه....
..."لا تقلقي. فقط استريحي الليلة."...
..."..."...
..."سنتحدث غدًا، حسنًا؟"...
...كان صوته ناعمًا كوشاحٍ يُلقى على كتفيك في مساءٍ بارد....
...لكن قلبي… لم يطمئن....
...كنت أشعر أنني سأخلع ذلك الوشاح فور مغادرته....
...لم يطل الوداع....
...أخذ معطفه، ورحل....
...حتى كلمته "لا تخرجي" تركت بداخلي خيبة....
...وبعد رحيله، توالت المخاوف عليّ كأمواج الليل....
...ماذا لو بدأ يشكّ بي؟...
...ماذا عن مستقبلنا؟ ماذا عني؟...
...ماذا لو قال إنه يريد الانفصال؟...
...رغم أن النوم كان يثقل جفوني، لم أستطع الغرق فيه....
...ظلّ اليوم ممتدًا كظلّ طويلٍ بعد الغروب....
...* * *...
...وصلتني منه رسالة عند الحادية عشرة ليلًا....
...استيقظت على صوت الهاتف، ورأيت اسمه على الشاشة....
...أجبت بسرعة:...
...— "مرحبًا."...
...[كنتِ نائمة؟ آسف.]...
...— "لا… لا بأس."...
...أجبت وأنا أمسح آثار النوم من صوتي، لكن شفتي كانت جافة فجأة....
...[تركتِ حبّة يوسفي في جيبي.]...
...بدأ حديثه بها، وكأنه يتلمّس البداية بخفة....
...— "نعم… قلت لك أن تأكلها في الطريق."...
...[كانت لذيذة. استمتعت بها.]...
...— "همم…"...
...حديثنا بدا عاديًا. لكن قلبي كان ينتظر شيئًا آخر، فلم أُظهر حماسًا....
...ثم أضاف بصوته الجاد:...
...[جونغ-أوه، دعينا نذهب للمستشفى معًا.]...
...— "...هاه؟"...
...انقبض قلبي....
...لماذا؟ لماذا يريد الذهاب معي؟...
...[علينا أن نحصل على دفتر الحمل.]...
..."..." —...
...[قرأت أن بإمكانكِ الحصول عليه بعد التأكّد من الحمل.]...
...ذابت توتّراتي، وامتلأت عيناي دموعًا....
...كنت حذرة… كيف حدث هذا؟...
...هل سيظنّ بوجود رجلٍ آخر؟...
...هل سيقترح التخلّي عنه؟...
...كنت خائفة… من كل تلك الأسئلة....
...[أنا آسف.]...
...قالها بهدوء، بصوت يشبه الاعتراف....
...[أعلم أنكِ ترغبين بتحقيق الكثير، وأن وجودي الآن يقيّدك.]...
...— "ظننتُ أنك ستكره الأمر…"...
...همست بها بصوتٍ مبلّل بالبكاء....
...[كيف لي أن أكره؟ كل ما أشعر به… هو الأسف عليكِ.]...
...رغم قُرب جسدينا، كنت أحيانًا أشعر أن قلبي وقلبه متباعدان....
...كان بخيلًا في تعبيره، وكنت أنا جائعة لكل كلمة حنان....
...لكن صوته تلك الليلة… أعادني كطفلة تائهة إلى بيتٍ دافئ....
...أنا خائفة… لكنني سعيدة. هذا الرجل طيّب....
...[هل لديك وقت غدًا؟ لنلتقِ، ونذهب للمستشفى معًا.]...
...— "حسنًا."...
...[هل الساعة الثالثة مناسبة؟]...
...— "نعم… مناسبة."...
...[إذًا، أراكِ غدًا.]...
...مسحت دموعي، وأومأت كما لو كنت أراه أمامي....
...هل سمع شهقتي الخفيفة؟...
...لأنه قال بعدها:...
...[لابد أنكِ كنتِ خائفة جدًا وحدك.]...
...هززت رأسي نفيًا....
...لا… الآن، وأنت معي، لم أعد أخاف....
...[فقط، لا تفكّري في شيء الليلة، ونامي بهدوء، حسنًا؟]...
...— "حسنًا…."...
...وحين أغلقت الهاتف، كنت أبتسم… بصدق....
...لأوّل مرة، فكّرت بالطفل....
...شيء لم أسمح لنفسي أن تفكّر به من قبل....
...* * *...
...إذا جاءني هذا الطفل، فسأتلقّاه كنعمة....
...أظن أنني أستطيع… لأني أملك جي هون....
...وحين كنت على وشك إنهاء المكالمة، ناداني مجددًا:...
...[جونغ-أوه.]...
...اسمي… بدا وكأنه طيف ماء، ينساب برفق بين أغصان الليل....
...* * *...
...جونغ-أوه....
...في هذا المساء البارد، بدا اسمها دافئًا… كأشعة شمس ظهيرة تُضيف طبقة أخرى من الحنان....
...اسم يُنير عتمة الليل....
...[هم؟]...
...أجابت، كما لو أنها تضمّ الاسم بعينيها....
...— "لا شيء… فقط، نامي جيّدًا."...
...كاد يقول "أحبك"، لكنه كتمها....
...لأجل الغد....
...وبعد أن أغلق الهاتف، أخذ نفسًا طويلًا....
...أراد أن يهدّئ نفسه، لكن قلبه كان يرتجف....
...لم يسبق له أن أهمل وسائل الحماية… لا بد أنّه خطأ ما....
...كان هناك هاجس صغير، لم يُرد أن يربكها به، لكن يبدو أنه سبّب لها مزيدًا من الحيرة....
...هو أيضًا شعر بالدهشة… لكنه تماسك سريعًا....
...يعلم أن حمل الحياة داخل الجسد، رحلة شاقّة على امرأة....
...تذكّر أن والدته، بعد أن أنجبته، كانت ترغب بطفل آخر… لكنها تخلّت عن الفكرة بعد معاناة طويلة في المستشفى....
...ولهذا… فإن الطفل هبة....
...وينبغي أن تكون جونغ-أوه محاطة بالهبات طوال تلك الرحلة....
...وقد اتخذ قراره....
...يريد حملاً آمنًا، وصحيًا....
...تخيّل وجه طفل يشبهها… وابتسم....
...وإن كانا سيذهبان إلى المستشفى سويًا، فلا بد أن يكونا زوجين....
...حتى لو تأخرت الأوراق، حتى لو تأجّل الزفاف، فليتّحد القلبان أولًا....
...يريدها أن تشعر بالأمان… الكامل....
...وفي طريق عودته، مرّ على متجر مجوهرات واشترى خاتم خطوبة....
...لم يكن مناسبًا تمامًا لمقاس إصبعها… لكنهم وعدوه أن يُعدّلوه حين يعود معها لاحقًا....
...غدًا… نعم، غدًا....
...مجرد التفكير في الغد، كان كفيلًا بأن يُيبّس شفتيه....
...كان الاحتمال قائماً… أن ترفض عرضه....
...فهي ما تزال في سنتها الثالثة من الجامعة....
...لطالما أرادت أن تجد وظيفة في أقرب وقت ممكن، لا لأجل ذاتها، بل لتخفّف الحمل عن والدتها....
...كانت تحلم بالعمل في شركة إعلانات كبرى، وأن تصبح أفضل كاتبة نصوص دعائية في كوريا....
...كانت فتاة تحمل قلبًا طموحًا، وأحلامًا أوضح من المرآة....
...وكانت فكرة أن يكون هو عائقًا أمامها… تمزّق صدره....
...لكنه حدّث نفسه همسًا:...
...“سنسير معًا، يا جونغ-أوه.”...
...لن أُطفئ ضوء أحلامك، بل سأظلله من الريح....
...سأكون جديرًا بك… وأكثر....
...* * *...
...لم يتخيّل يومًا أن يكون الطبخ جزءًا من حياته، ولا أن يفرح لأجل من تأكل من يديه....
...لكن "جونغ-أوه" دخلت حياته، فـ أصبح يطهو كما لو أنه يُحبّ بالعجين، ويعترف بالمشاعر عبر التوابل....
...كانت تُبتهج بالطعام كما تبتهج الطفلة بالنجوم، وكان يكفيه ذلك ليُدمنها أكثر....
...فعلّم نفسه أطباقًا بسيطة… ثم تعقّد المذاق حين أحبها أكثر....
...ذات مساء، حين قالت له وهي تشاهد التلفاز:...
...“ذلك الطباخ وسيم”...
...غار....
...غار كما لم يغَر من قبل، فـ أصبح يطبخ لا ليمتلئ بطنها… بل ليملأ قلبها....
...شيئًا فشيئًا، أصبح المطبخ مملكته، والملح أغنيته....
...وهكذا… بدت له الحياة بلاها باهتة، لا طعم لها....
...وربما… ربما كان الزواج شيئًا يحلم به دون أن يعلن....
...* * *...
...نظر إلى حبّتي اليوسفي اللتين دسّتهما في جيبه قبل أن يفترقا....
...أكل واحدة، وأخذ الأخرى معه، كما لو كانت تذكارًا من حنانه....
...حتى وأنا أتشبث بك، أريد أن أتشبث أكثر… هل تفهمين؟...
...أمسك بتلك الحبة الصغيرة، بحجم قبضة طفل… وابتسم....
...كان يأمل أن تتحوّل لحظات القلق تلك، في يوم ما، إلى ذكريات تُحتضن في القلب دون ألم....
...* * *...
...الـیـوم الـتـالــي....
...راسلها كعادته عند الظهيرة:...
...– هل أنتِ في الصف؟ انتبهي جيدًا، وتناولي الغداء. سأراك لاحقًا، وسأمر لأصطحبك....
...عادةٌ يومية، كأنها طقس حُبّ لا ينقطع....
...ردّت بسرعة:...
...– نَعم، أراك!...
...رسالتها كانت على عجل، مليئة بالأخطاء الطباعية… لكنه ابتسم عند رؤيتها....
...يا لطيشكِ… كم تُبهجيني....
...لم يُطِل المراسلة، كان يعلم أن محاضرتها مستمرة، كما أن اليوم ليس كأي يوم....
...كان يستعد لطلب يدها....
...الخاتم في علبته ينتظر، والزهور بانتظاره عند بائع الورد....
...كان عليه أن يُفرغ صندوق السيارة، لأن الورود ستمتلئ فيه كأنها عالم صغير من إعلان الحُب....
...وعليه أيضًا… أن يبدو أجمل....
...* * *...
...بينما كان يختار بدلته، رنّ الهاتف. إنها والدته....
...زفر بصوتٍ ثقيل، وأجاب....
...– "مرحبًا."...
...[هل أنت مشغول؟]...
...– "قليلًا، نعم."...
...[لماذا ظهرت البارحة ثم اختفيت؟ لم نجلس حتى.]...
...كان قد ذهب برفقتها إلى مناسبة خيرية، لكن قلبه بقي عند "جونغ-أوه"....
...– "آسف، كان لدي أمر طارئ."...
...[وهل أنت مشغول اليوم أيضًا؟ والدك سيأتي مبكرًا، تعال وتناول العشاء معنا.]...
...– "آه… لدي أمور مهمة."...
...[أمور لا تُقال؟]...
...– "أريد أن أُعرّفك على شخص قريبًا."...
...[مَن؟]...
...– "لاحقًا…"...
...كعادته، ترك الحديث عالقًا، وأغلق المكالمة، وهو يفكر:...
...إن نجحت اليوم… سأُخبرها بكل شيء....
...ربما ستفاجأ والدته… لكنها ستُحبها....
...كانت أمّه في الماضي سكرتيرة أبيه، امرأة شقت طريقها وسط الأشواك… ستفهم....
...* * *...
...ألقى نظرة أخيرة على انعكاسه في المرآة، وضع علبة الخاتم في جيبه، وخرج....
...كان يأمل… أن يكون اليوم مثاليًّا....
...* * *...
...فكرة الساعات القادمة جعلت قلبه يخفق كأنه يركض....
...جونغ-أوه… طفلنا سيكون جميلًا....
...رغم أنه لم يتأكد بعد، إلا أن فكرة وجود حياة صغيرة بداخلهما جعلت الدنيا تتسع فجأة....
...سأكون له أول من يُريه الثلج....
...سأعلّمه كيف يرسم حلمًا على نجمة....
...سأعلمه ركوب الدراجة....
...سأمسك يده… وأقول له: أحبك....
...* * *...
...نزل إلى الموقف الأرضي....
...كانت خطواته متسارعة، كأن قلبه يستبق الزمن....
...ثم… وقفت سيارة أمامه. أضواؤها أحرقت نظره....
...رفع يده ليحمي عينيه....
...لكنها… اندفعت نحوه....
...شهقة~...
...ركض جانبًا… لكن ليس بما يكفي....
...اصطدمت به....
...تحطم الزجاج....
...صرير الفرامل....
...طار جسده، ارتطم بالزجاج، ثم سقط....
...كل شيء حدث في لحظة، كأن القدر أراد أن يغيّر مجرى الحكاية بضربة واحدة....
...* * *...
...لا…...
...جونغ-أوه… يجب أن أصل إليك....
...لكنه لم يقدر على الحركة....
...كان الألم وحشًا ينهش أطرافه....
...ثم… سمع خطوات تقترب....
...لا يستطيع رفع رأسه....
...'ساعدني… أرجوك…'...
...لكنه لم يتكلم، والآخر لم يُنقذه....
...بل قال… بصوت غريب:...
..."هل سبق وسمعتَ بهذا الاسم…؟"...
...ما هذا؟!...
...لم يفهم....
...ثم… ابتعد الرجل....
...السيارة ابتعدت، ومعها… أخذت حرارة جسده....
...* * *...
...شعر بطرف علبة الخاتم بين أصابعه....
...فكّر فيها....
...شعركِ الطويل… وجهكِ الشاحب… ابتسامتكِ التي تُضيء الظلام....
...كنتُ أريد أن أحبكِ أكثر… أكثر....
...هل ستتخلين عن الطفل بسببي؟...
...لكني أفهم…...
...أنا أحبك، جونغ-أوه....
...لماذا لم أقلها بصوتٍ عالٍ؟...
...لماذا انتظرت حتى النهاية؟...
...وسط ظلام الموت، بكى جي هون بدمع لا يُرى....
...أنـا آسـف… أنـا أحـبـك…...
...وصلت "أونبي" إلى الشقة السكنية التي اقتناها شقيقها "أونيوب" خصيصًا لها؛ مساحة صغيرة من العالم تنتمي إليها وحدها، كأنها وعدٌ شخصيّ بالحرية....
...كانت قد غادرت كوريا منذ ثلاث سنوات متجهةً إلى الولايات المتحدة، حاملةً حقائب الحلم في يد، والتردد في اليد الأخرى....
...لكنها لم تُتمّ الأربع سنوات. وكأن الأرض هناك لم تعترف بخطواتها. اجتازت امتحان التحويل إلى جامعة K، فعادت أدراجها، تحمل على ظهرها ظلّ المغادرة وحنين العودة....
...حين أخبرته برغبتها في العيش وحدها، لم يتردد "أونيوب". اشترى لها شقة دون نقاش، لكنّه لم يلبِّ رغبتها كاملة....
...فقد كانت تتمنّى أن تكون قريبة من الجامعة، أما ما منحها إيّاه، فكان بعيدًا بعض الشيء. رغم ذلك، كان المكان حسن التهوية، أنيق الزوايا، هادئ الملامح....
...شعرت "أونبي" بشيء يشبه الرضا. لا هو امتنان، ولا هو خيبة... بل تلك المنطقة الرمادية التي لا تُسمّى....
...وضعت أغراضها بصمت، ثم خرجت لتشتري ما ينقصها من ضروريات الحياة اليومية....
...وحين هبطت على درجات السلم متوجهة نحو موقف السيارات السفلي......
...حدث ما لم يكن في الحسبان....
...تحطُّم~...
...صرير!~...
...سيارة انطلقت فجأة، كأنها خرجت من العدم، واصطدمت بجسد رجلٍ لم يسعفه الحظ....
...سقط أرضًا، فيما شهقت "أونبي" بصمتٍ مذعور....
...كل شيء وقع في لحظة... سريعة، خاطفة، لا مجال فيها للصراخ....
...اختبأت خلف جدار درج الطوارئ، ووضعت كفّها على فمها المرتجف، تحبس أنفاسها كأنها تخشى أن يفضحها الهواء....
...خرج رجل من السيارة، يعتمر قبعة سوداء، خُيّل لها أن الزمن حوله كان أبطأ من اللازم....
...اقترب من الجسد المُلقى، وتمتم بكلماتٍ بالكاد وصلت إلى أذنها:...
..."هل سمعتَ يومًا عن...؟"...
...كان صوته واهنًا، لا يحمل وضوحًا، ولا حتى خوفًا... كأنه يسأل سؤالًا لا يُنتظر منه إجابة....
...الضحية، بطبيعة الحال، لم تُجب....
...ثم، دون أن يتفقده، عاد الرجل إلى سيارته، وانطلق بها واختفى كما لو أنه لم يكن....
...وحين اختفت السيارة......
...أفرجت "أونبي" عن أنفاسها التي كانت على وشك أن تخنقها....
...مدّت رأسها بهدوء لترى المشهد....
...الدم كان يسيل تحت الجسد... أحمر، ثقيل، ومخيف....
..."يجب أن أُبلغ الشرطة!"...
...أخرجت هاتفها بسرعة، لكنها أدركت أن يدها ترتجف. عقلها توقف عن التفكير، وشعورٌ جارف من الخوف اجتاحها....
..."سأضطر للذهاب إلى مركز الشرطة، للذهاب والإياب، للاستجوابات... ماذا لو تورّطت؟ ماذا لو تعرّضت للخطر؟"...
...تذكرت كلمات شقيقها المحامي، الذي لطالما حذّرها من التورط في أي أمر صاخب:...
...> "إن كان قد فارق الحياة، فلا فائدة من التدخّل. سيقوم غيرك بالتبليغ."...
...لم أرَ شيئًا. لم أسمع شيئًا....
...ردّدت ذلك بين نفسها، كأنها تُقنع قلبها قبل عقلها....
...ثم استدارت، وصعدت الأدراج سريعًا، وعادت إلى شقتها، تجرّ خيطًا من الذنب خلفها....
...وبعد دقائق معدودة، سمعت صوت سيارة إسعاف تعلو في الخارج....
...من نافذتها، رأت سيارة الإسعاف تتبعها الشرطة، يدلفون إلى المبنى ثم يغادرون....
...'هل توفي؟'...
...لم تكن تعلم. لم تكن تريد أن تعرف....
...كل ما تمنته هو ألا تُمسّ حياتها بهذ الحادث. لا شأن لها....
...لا صلة تربطها به......
...أو هكذا كانت تظن....
...في المساء، رنّ هاتفها. نظرت إلى الشاشة - إنه شقيقها "أونيوب"....
...أجابت على الفور....
...- "مرحبًا."...
...[هل رأيتِ المنزل؟]...
...- "نعم... إنه جميل، لكنّه بعيد جدًا عن الجامعة. لمَ اخترت هذا المكان بالذات؟"...
...[لأن "أون جي هيون" يسكن فيه.]...
...كلمات شقيقها جعلت ملامحها المتزنة تتلاشى....
...- "أون جي هيون؟!"...
...ارتجف قلبها كما لو أنه لا يزال يعيش مراهقته الأولى....
...لقد اختارت جامعة K لأجله. كانت تعلم أنه يوشك على التخرج، لكن يكفي أن تراه، أن تكون قريبة، أن تلمح ظله......
...منذ ثلاث سنوات، حين وقفت عند مفترق السفر، كان "جي هيون" هو الشيء الوحيد الذي جعل قدميها تترددان....
...هو... صديق أخيها، وحبها الأول....
...حب لم يولد له اعتراف، لكنه ظلّ يرفرف في صدرها كطائرٍ خجول....
...رغم مرورها بعلاقاتٍ عابرة في أميركا، لم تستطع نسيانه. لم تتعلم كيف تطفئ قلبًا ما زال يشتعل باسمه....
...ولهذا... عادت....
...بلعت ريقها، وسألت مجددًا، تأمل أن تكون قد فهمت خطأ:...
...- "أوبا جيهيون يسكن هنا؟ هل تعرف رقم وحدته؟"...
...[لكن هذا ليس المهم الآن... يبدو أنه حدث شيء.]...
...تبدّلت نبرة شقيقها، فأصابها القلق....
...- "ماذا؟"...
...[قالوا إنه تعرّض لحادث في موقف السيارات السفلي اليوم.]...
...كاد الهاتف يسقط من يدها....
...- "...حادث؟!"...
...قال الصوت عبر الهاتف: "نعم، لم أزر المستشفى بعد، لذا لا أعلم التفاصيل."...
...شهقت أونبي، وتصلّب جسدها. صورة الجسد الملقى في موقف السيارات عادت أمام عينيها، الدم المتسرّب من تحته، والسكون المرعب الذي لف المكان....
...هل يُعقل أن يكون هو؟ جيهيون؟...
...صوتها خرج مرتعشًا، كأنها تقاوم احتمالًا يفطر القلب:...
...- "أوبا... إلى أين نُقِل؟ إلى أي مستشفى؟"...
...* * *...
...فـي مـکـان أخــر...
...["الهاتف مغلق، سيتم تحويلك إلى البريد الصوتي بعد الصافرة..."]...
...أنهت جونغ-أوه المكالمة، وعيناها تتنقلان بين عقارب الساعة وشاشة هاتفها....
...الثالثة قد حلّت... ولم يأتِ....
...جي هون، الذي وعدها بلقائه اليوم، اختفى. لم يردّ على اتصالاتها. الهاتف مغلق....
...همست لنفسها، تحاول أن تُهدئ الرجفة في قلبها:...
..."أوبا لا يَخلف وعدًا... أبدًا."...
...لكن الوقت مرّ، ومع كل دقيقة، كانت تبتلع المزيد من القلق، والمخاوف تكبر....
...هل أصابه مكروه؟ هل تراجع فجأة عن وعده؟...
...كل الاحتمالات كانت سهامًا تنهال على قلبها....
...بالأمس فقط، كانت ترى في علاقتها به نورًا وسط العتمة، واليوم، اصبح الانتظار لُغمًا تحت كل خطوة....
...* * *...
...في المستشفى، أمام غرفة العمليات البيضاء، جلسَت امرأة تغلّفها الوحدة والذعر....
...كانت السيدة "جانغ يونغمي"، الأم التي لم تتخيل يومًا أن تقف على حافة الفقد....
...قبل قليل، كانت تُحادث ابنها الوحيد على الهاتف، واليوم، هو غارق في غيبوبةٍ، بعد أن دُهس بطريقة وحشية....
...رفض العودة للمنزل، وأصر أن يبقى في الشقة... ثم وجِد ملقى في موقف السيارات....
...كم ربّت قلبه، كم وضعت أحلامها في يديه، وها هو، لا يتحرك، لا يجيب، مُعلّق بين الحياة والموت....
...وصلت إلى المستشفى مهرولة، تسبقها ضربات قلبها. وحين رأت حاله، شهقت كأن العالم كله انهار عليها دفعة واحدة....
..."يا إلهي... لماذا ابني؟ لماذا هو؟"...
...بكت حتى ابتلّت ملابسها. صرخت حتى تكسّرت روحها....
...وحين هدأ العاصف، اقترب منها رجل، بدا من الشرطة....
..."مرحبًا، أنا من مركز شرطة يونغسان. هل أنتِ والدة جونغ جي هيون؟"...
...نظرت إليه، بعينين فارغتين من الدمع....
..."الكاميرات في المبنى تعطّلت، لكن لحسن الحظ، سيارة متوقفة كانت تملك كاميرا. استطعنا التقاط رقم السيارة، وحددنا هوية الجاني."...
...هتفت، بكل ما تبقى من قوتها:...
..."أرجوكم... أمسِكوه! لا تتركوه يهرب!"...
...كانت تبكي وتتشبث بذراع الشرطي، لم تعد زوجة المدير التنفيذي، بل أمًا يائسة تتوسل....
...قال المحقق: "اسمه كيم جينغو. هل تعرفينه؟"...
...هزّت رأسها. وانهارت دموعها من جديد....
...وفي تلك اللحظة، تقدّمت فتاة بهدوء:...
..."هل أنت المحقق؟ أنا شاهدة على الحادثة التي حدثت."...
...التفت الرجل إليها، ونظرت إليها السيدة يونغمي....
...كانت الملامح مألوفة......
...قالت الفتاة بصوتٍ خافت:...
..."أمي، أنا أونبي... تشاي أونبي. هل تذكرينني؟"...
...وقفت أونبي بثبات، تحتضن ذراع السيدة المرتجفة....
..."أوه... أونبي... إنها أونبي..."...
...كان صوت الأم هشًّا، كأنها تخشى التصديق....
...أونبي، أخت صديق ابنها، ابنة العائلة القانونية العريقة....
...قالت برقة:...
..."أرجوكِ تماسكي. أوبا سيخرج من الجراحة. سأذهب الآن لأدلي بشهادتي. سيُقبض عليه، أعدك."...
...كانت كلماتها دافئة، مشبعة بالإصرار. كأن الفتاة أصبحت الأم، والسيدة يونغمي باتت طفلة مكسورة....
...أكملت:...
..."الجراحة ستستغرق وقتًا. من الأفضل أن ترتاحي. سأُخبركِ بكل جديد."...
...وافقت الأم، وذهبت. بينما كانت أونبي تتقدم نحو الحقيقة......
...رافقت المحقق إلى مركز الشرطة، وروت كل شيء بدقة:...
..."كان الحادث مروعًا. رجل يرتدي قبعة سوداء وثيابًا سوداء بالكامل. طوله يقارب 180 سم. صوته أجش، مريب."...
..."هل قال شيئًا؟"...
..."همس بشيء غريب... ربما قال: هل سمعتَ عن سرقة تُرتكب عبر حادث؟ أو شيئًا شبيهًا."...
...أضافت "أونبي" شيئًا من خيالها إلى ما تذكرته، كأنها تعيد صياغة الذاكرة بما يناسب شعور اللحظة....
...صوتها لم يرتجف. بل كان كمن يُطالب بالعدالة، لا من يتوسلها....
..."أستطيع تمييز وجهه إن رأيته مجددًا. أنا متأكدة."...
...وبينما كانت تسرد روايتها، وصلا معًا إلى مركز الشرطة....
...وما إن دخلت إلى هناك، حتى تجمدت أنفاسها للحظة. لقد تعرفت على المشتبه به فورًا....
...يا للمصادفة... لقد كان "كيم جينغو" قد اعتُقل للتو من منزله، وجُلب إلى المركز....
..."إنه هو! هذا الرجل!"...
...صرخت "أونبي" أمامه، كمن وقعت على عدوها....
..."ما الذي تقوله هذه الفتاة؟ هل تعرفينني؟ لماذا تفعلين بي هذا؟ لماذا؟"...
...كان "كيم جينغو" مقيّد اليدين، يتلوى غاضبًا، ووجهه مشدوه كمن وقع عليه ظلم العالم كله....
...لكن "أونبي" لم تتزعزع....
..."إنه صوته! أعرفه! لا مجال للشك!"...
...قبضت يدها بقوة، وعيناها تحملان إصرارًا نادرًا....
...هذا الرجل الذي ألحق الأذى بصديق أخيها الذي لطالما أحبته وأعجبته، بات بالنسبة لها العدو الذي لا يُغتفر....
...ورغم ذلك، شعرت في قرارة نفسها بفرح داخلي صغير، كأنها انتصرت للحق أخيرًا....
...⋯ ✦ ⋯ ✦ ⋯ ✦ ⋯...
...وبعد القبض على المشتبه به، تسلّمت السيدة "جانغ" ممتلكات ابنها: هاتفه المحمول، مفتاح سيارته، وصندوق خاتم....
...صندوق الخاتم......
...وحين فتحت الهاتف، عرفت أن ابنها كان من المفترض أن يلتقي بفتاة تُدعى "جونغ أوه" في موعد عند الظهيرة....
...لقد رفض طلب والدته بالعودة إلى المنزل من أجل ذلك الموعد....
...وبسبب ذلك الموعد... كان الحادث....
...- "أوبا، أين أنت؟"...
...- "كنا سنلتقي الساعة الثالثة اليوم... هل حدث شيء؟"...
...- "لا أستطيع الوصول إليك... أشعر بالقلق. إن قرأت هذه الرسالة، من فضلك تواصل معي."...
...- "ما الأمر؟ لا أريد أن يكون هناك مكروه. فقط أرسل رسالة واحدة، أرجوك."...
...وحين قرأت "السيدة جانغ" هذه الرسائل الكثيرة من "جونغ أوه"، اشتدت قبضتها وتسرّع نبض قلبها....
...> "لدي صديقة أودّ أن أعرّفك عليها."...
...قال ابنها ذلك في آخر مكالمة بينهما....
...كان يريد أن يقدم لها هذه الفتاة....
...كم كان يحبها ليُفضّل موعده معها على طلب أمه؟...
...لكن السيدة "جانغ" لم تشعر إلا بالغضب يتأجج تجاه تلك الفتاة....
...ثم لما طلبت من أحدهم أن يتحقق من أمر "جونغ أو"، صُعقت أكثر....
...طالبة في سنتها الجامعية الثالثة، تبلغ الثالثة والعشرين، ابنة لأم عزباء. فتاة نشأت دون أب....
...لا حاجة للقول إنهما كانتا تعانيان الفقر، وأن أمها لم تنل قسطًا من التعليم....
..."ومن أجل فتاة كهذه... حدث لابني كل هذا؟"...
...كانت الجراحة قد نجحت، لكن "جيهون" لم يستعد وعيه بعد. ومعه، لم تكن كراهية "السيدة جانغ" لـ "جونغ أو" إلا تتفاقم....
...فأرسلت لها رسالة نصية قصيرة من هاتف ابنها:...
...⋯ ✦ ⋯ ✦ ⋯ ✦ ⋯...
...- "لا تتصلي بي مجددًا."...
...ثلاثة أيام بعد انقطاع الاتصال، جاءتها رسالة من "جي هون"....
...قصيرة، لكنها كانت كافية لتزلزل قلب "جونغ أوه"....
..."جي هون" الذي تعرفه... لا يمكن أن يقول هذا....
...فتوجهت على الفور إلى منزله....
...لم تكن تزوره كثيرًا، لكن دعوته لها كانت متكررة مرة أو مرتين كل شهر....
...وكان قد منحها رمز قفل الباب بنفسه، وقال لها يوماً: "تعالي متى شئتِ، ونامي هنا إن أحببتِ."...
...هل حقًا يمكن لرجل مثله... أن يقطع علاقته بها فجأة برسالة؟ ويقول لها ألا تتواصل معه مجددًا؟...
...رفض عقلها تصديق أن تلك الكلمات صادرة عنه....
...لكن حين وصلت إلى شقته، واجهت مأزقًا....
..."الغرفة 1903... هذا هو المكان، أليس كذلك؟"...
...لكن قفل الباب لم يكن كما تتذكره....
..."هل يُعقل...؟"...
...خفق قلبها بعنف. ضغطت على الجرس، لكن لم يجب أحد....
...وبأنامل مرتجفة، أدخلت الرمز الذي تعرفه....
...لم يُفتح الباب....
...جربت رمزها الخاص، وتاريخ ميلادها، ثم تاريخ ميلاده... محاولة تلو الأخرى....
...وبعد محاولات خاطئة، دوّى صوت إنذار عالٍ، واحمرّ وجهها خجلًا....
...وفجأة، انفتح الباب من الداخل....
...وامرأة في منتصف العمر حدّقت فيها بوجه صارم....
...ابتلعت "جونغ أوه" ريقها بصعوبة وسألت:...
..."أ-أهذه ليست شقة "جي هون"؟"...
..."هل أنتِ "لي جونغ أوه"؟"...
...كانت تعرف اسمها....
..."أنا والدة "جي هون"... تفضلي بالدخول."...
...كلماتها الباردة كانت كالسلاسل التي سحبت "جونغ أوه" إلى الداخل. شعرت بأنها تُجَرّ دون إرادة منها....
...تفحّصتها السيدة "جانغ" بنظراتها من رأسها حتى أخمص قدميها. خطوات "جونغ أوه" كانت مترددة، كمن دُعي إلى محكمة لا لقاء....
...رأسها مطأطأ، كأنها اقترفت ذنبًا عظيمًا....
...أطلقت السيدة "جانغ" تنهيدة ثقيلة، ومرّت الفكرة في ذهنها من جديد......
...هذه الفتاة، من عائلة بلا أب. ثمة ظلٌّ يرافقها منذ ولادتها....
...لا يمكن، لا ينبغي أن تكون هذه الفتاة قرب ابنها....
..."ما هذا التصرف؟ كيف تضغطين على قفل باب ليس لك؟"...
..."أوبا قال لي رمز القفل من قبل..."...
..."الرمز تغير، ولهذا أقول: عندما لا يفتح، توقفي فورًا."...
..."أنا آسفة... لم أستطع الوصول إلى أوبا، وقلقت أن يكون قد حدث له مكروه."...
...كانت أكثر جرأة مما ظنتها....
...أدركت السيدة "جانغ" أن الكلمات المهذبة لن تُجدي نفعًا. وكان لا بد من الحزم....
..."كم من الألم سببتِه لابني يا ترى؟"...
..."..."...
...صمتٌ ثقيل حلّ محل الكلمات... كأن قلب "جونغ أوه" تجمد، غير قادر على الرد أو الدفاع....
..."كم كان وجودكِ عبئًا عليه... حتى اضطر لإبعادي إليكِ؟"...
...كلمات "السيدة جانغ" كانت كالسياط، لا تُترك أثرًا على الجسد، بل على الروح....
...وفي عيني "جونغ أوه"، راحت الدموع تتكوّر كخرز زجاجي يوشك أن ينكسر، شفافًا، هشًّا، صامتًا....
...وحين أبصرت "السيدة جانغ" نظرة الضعف في عينيها، أدارت وجهها كأنها تنأى بنفسها عن الشفقة....
..."إن كنتِ فهمتِ، فلا تعودي إلى هنا أبدًا. لستُ من الفراغ لأضيّع وقتي مع من هنّ في مثل سنّ جيهون."...
..."أمي... أرجوكِ، انتظري..."...
...قالت "جونغ أو"، تتوسّل بكلمات مرتجفة، وقد أمسكت بذراعها بضعف من ترجّلَ عن كل شيء....
..."اسمحي لي أن أراه... مرة واحدة فقط."...
..."لا تناديني بأمي. لا علاقة بيننا تبيح لكِ ذلك."...
...نزعت "السيدة جانغ" يدها بعنف، كأن لمسة "جونغ أوه" تحرقها....
...ابني يصارع الموت الآن......
...وأنتِ، رغم دموعك، تطالبين بلقائه....
...أي وقاحة هذه؟...
...في داخلها، كانت تغلي. كانت تراها هي السبب... الجذر لكل هذا الألم....
..."انصرفي قبل أن ينفد ما تبقى من صبري. لا تزيدي من عذاب ابني."...
...قالتها بقسوة لا تخفيها، دون محاولة للتجميل....
...وسقطت دموع "جونغ أوه" على الأرض، باردة......
...ثقيلة، كأنها تطرق باب الندم بلا مجيب....
...⋯ ✦ ⋯ ✦ ⋯ ✦ ⋯...
...مضت خمسة عشر ليلة منذ أن داهم الحادث "جي هون"، ونام بعدها نومًا لم يفق منه....
...في غيبوبته، بدا كأنه عالق في بُعد آخر، لا هو حيّ تمامًا ولا ميت....
...وأما "أونبي"، فلم تغب يومًا عن المستشفى....
..."خالتي... هل ارتحتِ قليلًا؟"...
...قالتها مبتسمة وهي تدخل غرفة المستشفى، لكن خلف ابتسامتها، كان الحزن يتكئ على التعب....
..."أونبي... جئتِ."...
...رحّبت بها "السيدة جانغ" بصوت خافت، ونظراتها مرهقة، كأنها قضت الليل محاورة للصمت....
...أمسكت "أونبي" بيدها بلطف، وقالت:...
..."هكذا ستنهارين، خالتي. طلبت من طبيب أعرفه أن يُعطيكِ شيئًا لتقوية جسدك."...
..."لا حاجة لي بذلك... أنا بخير."...
..."أعرف، لكن... اليوم أشعر أن أوبا سيستيقظ. وعندما يفتح عينيه، أول من سيبحث عنه هو أنتِ. لذا... يجب أن يراكِ بخير."...
...بكلمات حنونة وقلبٍ صادق، أخذتها برفق خارج الغرفة، نحو الجناح المخصّص للراحة....
...وسارت معها "السيدة جانغ"، مستسلمة لدفء العناية النادرة....
...وبعد أن غابت خطواتها، أصبحت "أونبي" وحدها مع "جي هون"....
...نظرت إليه كمن ينظر إلى أيقونة مقدّسة......
...كان نائمًا كأمير في سبات، وملامحه، حتى وهو بين الحياة والغيبوبة، ما زالت تأسرها بجمالها....
...هل تغيّر منذ لقائنا الأول قبل ثلاث سنوات؟...
...بل... ربما ازداد وسامة....
...خطرت لها فكرة مجنونة......
...هل أقبّله؟ قبلة صغيرة... لن يشعر بها....
...اقتربت شفتيها من شفتيه، شيئًا فشيئًا، كأن العالم كله انكمش ليبقيها معه في تلك اللحظة....
...لكن......
...انفتح الباب فجأة....
...تراجعت "أونبي" فجأة إلى الخلف، خجلة، مرتبكة....
...كان الذي دخل هو "بارك سونغكيو"، صديق "جي هون"، رفيقه في المدرسة والجامعة، وكبيره في الخدمة العسكرية....
..."جئتِ مجددًا؟"...
...قالها بنبرة لا تخلو من السخرية، وكأن وجودها هنا عبء لا يريده....
...أجابت "أونبي" بابتسامة مصطنعة:...
..."كنت قلقة عليه."...
...لكنه لم يبدِ تعاطفًا....
..."ولماذا أنت هنا؟" سألته....
..."أليس من الطبيعي أن أزور صديقي؟"...
...ردّ ببرود، لا يُخفي نفوره منها....
...اقترب من سرير "جي هون"، وكأنه يحاول أن يحميه منها....
...ساد الصمت من جديد... صمتٌ ثقيل، متوتّر....
...ثم، كمن فتح بابًا مغلقًا، قال فجأة:...
..."بالمناسبة... ثمة شيء مريب."...
...نظرت إليه "أونبي" بحذر، دون أن ترد....
..."الحادث وقع الساعة الواحدة، وتم الإبلاغ عنه في 1:20. والمبلّغ كان رجلًا."...
..."......"...
..."قلتِ إنك شهدتِ الحادث... فلماذا لم تُبلّغي عنه على الفور؟"...
...انكمشت ملامحها من السؤال المباغت....
..."كان هاتفي مغلقًا... بطاريته فارغة. وعندما شغّلته، كان البلاغ قد سُجّل."...
...أومأ برأسه، لكن الشك لم يغادر عينيه....
...لم يُصدّق....
...وشعرت "أونبي" بالضيق، بشيء يُراقبها من الداخل، كأن عينًا خفية تفتّش ما وراء كلماتها....
..."لماذا تسأل هذا حتى؟"...
..."آه، لا شيء... فقط... آه! جي هون!"...
...صرخ فجأة باسمه....
..."أوبا!"...
..."جي هون! جي هون!"...
...تحرّكت أجفان "جي هون"......
...ثم فتح عينيه أخيرًا....
...بدا وكأنه يحاول أن يتذكّر كيف يعود إلى الجسد....
...حاول أن يرفع رأسه... فساعده "سونغكيو" على تعديل السرير....
..."هل أنت بخير؟ هل تراني؟ هل تعرف من أنا؟"...
...رمقه "جي هون" بنظرة باردة، ثم همس:...
..."... من...؟"...
...ارتبك "سونغكيو"، وقال متعجبًا:...
..."ألا تعرفني؟"...
..."......"...
..."أنا بارك سونغكيو! كنا زملاء دراسة! وكنتُ قائدك في الجيش! نسيتني؟"...
..."الجيش؟"...
...ردّ "جيهون" بذهول، كأن الكلمة لا تعني له شيئًا....
...الجيش؟ لكنني لم أدخله بعد...!...
...كيف؟ متى؟...
..."أنا ذهبت... للجيش؟"...
...اتسعت أعين "سونغكيو" و"أونبي"....
...لكن "جي هون" لم يفهم......
...ولم يُدرك بعد أنه فقد شيئًا أكبر من مجرد ذاكرة....
...ثم......
...اندفعت في رأسه موجة ألم لا تُحتمل....
..."آه..."...
...شهق بصوت خافت، كأن شيئًا ما يشق دماغه إلى نصفين....
..."جي هون!"...
..."أوبا!"...
...كان صوتهما يبتعد... يتلاشى... يتحوّل إلى صدى خافت....
...كأن الإبر تخترق دماغه....
...كأن شيئًا عزيزًا جدًا... يتسلل منه دون رجعة....
...ما هذا الذي أنساه؟...
...ومن هذا الذي يبكي داخلي الآن؟...
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon