NovelToon NovelToon

زهرة تحت الجليد

الثلج لا يُخفي الدم

في مدينة لا تشرق الشمس فيها أبدًا، حيث يغلفها الثلج كما لو أنها حُفظت داخل كفن أبيض، تقع على أحد جوانب الجبل القاسي كوخ صغير، متواضع، نُحت بصعوبة من الخشب والحاجة.

الدخان الرمادي المتصاعد من المدخنة كان الدليل الوحيد على أن شيئًا حيًا لا يزال يتحرك في ذلك الصقيع.

في الداخل، وقفت يوكا بصمت في المطبخ الضيق، ترتدي زيّها المدرسي الشتوي، وقد رفعت أكمامها بخفة وهي تقلب قدر الحساء فوق موقد الفحم. لم يكن هناك سوى صوت الطهو، واحتكاك الريح بجدران المنزل، وهدير النار.

جلست بعد ذلك أمام اللهب، تسند ظهرها للجدار الخشبي، وهي تحمل صحنها وتتناول الطعام ببطء، دون استعجال، كأنها تتذوق شيئًا أقدم من الطعام نفسه.

على الفراش المهترئ في الزاوية، كان والدها مستلقيًا بصمت، يحملق في السقف بنظرة خاوية.

قالت بصوت منخفض دون أن تلتفت إليه:

— "هل أنت جائع؟"

لم يجب، لكن نظرة عينيه قالت بما يكفي. نهضت يوكا، أخذت صحنًا آخر وسكبته دون تأنٍ، وقدّمته له.

كان ساخنًا للغاية، لكنه بدأ بالأكل فورًا. بعد أول لقمة، شهق بألم وحرّك لسانه المحترق.

قال بخفوت متألم:

— "أعتقد أنه ساخن جد—"

قاطعته وهي تسير نحو الزاوية، ترفع فأسًا حديدية ثقيلة وتضعها على كتفها:

— "لا تخرج من المنزل. لا تفتح الباب لأي صوت. حتى لو سمعت أمي تناديك."

حدق فيها للحظة، لكنه لم ينطق.

أخذت حقيبتها، فتحت الباب الخشبي الذي صرخ كعادته، وخرجت إلى الثلج المتراكم بصمت.

لم تلتفت للخلف. لم تفكر حتى في ذلك.

في طريقها إلى المدرسة، وبينما تخترق الثلج الذي تراكم حتى وصل إلى ركبتيها، انزلقت قدمها فجأة على حافة صخرية مغطاة بالجليد. تدحرجت قليلًا، وتمزق طرف وشاحها الأبيض وهي تتوقف عند شجرة عارية الجذع.

نهضت وهي تتنفس بصوت منخفض. نظرت حولها، وكانت الغابة المجاورة للجبل تغرق في صمت كثيف… لكن ذلك الصمت لم يدم.

شيء ما كان يتحرك.

خرجت من بين الأشجار **أرانب بيضاء، كثيرة جدًا، ذات عيون حمراء مشعة كجمَرٍ في الليل**. كانت تمشي ببطء أولاً، ثم تسارعت خطواتها، كأنها تعرف وجهتها.

ثم رأتهم… لا،

رأته.

جسد بشري ممدد على الثلج، ملطخ بالدماء، وأمعاؤه مكشوفة. كان وجهه مطموسًا، كأنه بلا ملامح، بينما الأرانب تتكالب عليه، تنهش لحمه بأسنان صغيرة لكنها شرهة، تتحرك بسرعة مرعبة، والدم ينفجر من تحته كنافورة على البياض.

تجمدت أنفاس يوكا… ثم اشتعلت عيناها ببرود حاد.

لم تصرخ.

لم ترتعب.

بل أمسكت فأسها بيد ثابتة، ومشت نحوهم.

بضربة واحدة سحقت رأس أحدهم، تطاير الدم الحار فوق الثلج… ثم بدأت المذبحة.

كانت تضربهم واحدًا تلو الآخر، والفأس ينزل على الفراء الأبيض كأنه يمزق قماشًا ناعمًا، لكنهم لم يتوقفوا. كانوا كثيرين… يتكاثرون، يأتون من تحت الثلج، من بين الجذور، من داخل الضباب.

صرخت بصوت منخفض، أشبه بالهمس لكنها قالتها بوضوح:

— "أنتم… يا حثالة."

واصلت القتال، يداها تترنحان من التعب، جروحها تنزف، لكن لم تتوقف.

ورغم كثرتهم، لم تهاجمها واحدة منهم — كأنهم يعرفونها.

لم تعد تُفرّق بين أرنب وآخر.

كانت تضرب، وتضرب، وتضرب — بلا عدّ، بلا تردد، بلا أنين.

الفأس يعلو ويهبط، يكسّر الأجساد البيضاء الصغيرة كأنها مجرد قشور بيض. كل ضربة تصدر صوتًا غريبًا، ليس صوت العظام فقط، بل كأن الأرواح تصرخ… وتضحك.

الثلج أصبح لزجًا.

أحمر.

ساخن.

تحته، كانت جثثهم تتراكم مثل طبقات تاريخ منسي، وكل واحدة منها تنظر نحوها بعيونٍ لم تخفت. عيون دامعة، متّقدة، خائفة… غاضبة.

لكنها لم تتوقف.

كل خطوة كانت محفوفة بالموت، وكل حركة تترك خلفها ظلاً طويلًا من الوحشية.

لم تكن تقتلهم فقط، كانت تطهّر الأرض منهم. كانت تقول لنفسها:

"إن لم أقتلهم... سيأكلون أبي... سيأكلون أمي... سيأكلونني."

ومع ذلك، لم تكن هذه المرة الأولى.

لقد فعلتها بالأمس.

وبالأمس الآخر.

وكل صباح، منذ سنوات.

حين هدأت أنفاسها، وحين توقفت الأرانب عن القدوم، وحين غطت الأرض بأجسادهم كأنها ساحة حرب… نظرت يوكا إلى السماء الرمادية، وابتسمت ابتسامة بالكاد تُرى.

كانت مجزرتها مكتملة.

طقسها الصباحي المقدس قد انتهى.

لم تمسح الدم عن وجنتيها.

لم تغسل الفأس.

بل وضعت الحقيبة فوق كتفها، وسارت نحو المدرسة كما لو أن شيئًا لم يكن.

وكأن الحياة ما زالت تنتظرها...

وكأنها ليست الموت يمشي في هيئة فتاة.

كان الجرس يقرع… لكنه بدا باهتًا، كأنه صادر عن قاع بئر.

دخلت يوكا من بوابة المدرسة، حذاؤها يترك آثارًا دامية خافتة على أرضية الجليد المبللة. بعض الدم من معركتها الصباحية ما زال على طرف تنورتها، لكن لم يلاحظه أحد — أو لعلهم **تظاهروا** بعدم ملاحظته.

في ممر الصف الثالث، كان الطلاب يتحدثون، يضحكون، يتبادلون كتبهم، يمضغون علكات بنكهة النعناع.

لكن حين ظهرت هي… خفتت الأصوات.

واحدة من الطالبات قالت بخفوت لصديقتها:

— "انظري، إنها هنا مجددًا…"

— "ألم تسمعي؟ شينجي رآها عند الجبل. كانت تحمل شيئًا… ينزف."

— "ألم يقل أحدهم أنها تتحدث مع نفسها أحيانًا؟... أو مع الأشجار؟"

مرت يوكا وسط الهمسات، دون أن تتوقف. عيناها الرماديتان كانتا تحدّقان إلى الأمام فقط، وكأنها لا تسمعهم، أو ربما...تسمعهم أكثر من اللازم.

حين جلست في مقعدها بجانب النافذة، كان المقعد الذي بجانبها فارغًا — كما هو دائمًا. لم يجرؤ أحد على الجلوس بجوارها.

المعلمة دخلت. ألقت التحية، ثم نظرت نحو يوكا للحظة طويلة، كما لو أنها نسيت اسمها.

قالت المعلمة:

— "ميزونو… لا تنسي أن تنزع وشاحك داخل الصف."

لكن يوكا لم تتحرك.

ردّت بصوت هادئ، لكنه قاطع:

— "إن نزعته… سأبرد من الداخل."

ضحك بعض الطلاب بخفة، لكنها ضحكات مرتجفة، أشبه بإرضاء الخوف لا السخرية.

وفي نهاية اليوم، حين خرجت يوكا من المدرسة، نظرت إلى الخلف للحظة.

رأت ظلال الطلاب في النافذة... يراقبونها.

كأنهم لا يعرفون…

إن كانت هي بشرًا مثلهم —

أو كابوسًا يرتدي زيًا مدرسيًا.

عادت يوكا إلى الجبل.

الثلج كان قد زاد سُمكًا، والضباب بدأ ينحدر من السماء وكأنه بخار أرواح خفية. خطواتها كانت ثابتة، والفأس ما زال على كتفها، تنقط منه بقايا دم مجفف، لكن لا أحد في هذه الجبال يجرؤ على سؤاله: لمن؟

وفجأة… توقفت.

سمعت أصواتاً.

بشر.

ضحكات، كلمات متقطعة، أحدهم قال

"نصعد قليلاً بعد، ربما نصل لقمة الجبل"، .

تأملت يوكا تلك الأصوات التي تتردد في الهواء المتجمد، وقالت في نفسها، ببرود خالص:

"هم لا يعرفون… أن الجبل لا يُرحّب بأحد. لا أحد يصعد هنا إلا ليموت من قبل الأرانب."

واصلت صعودها. خطواتها تخترق الثلج كالآلة. الهواء صار أنحف، والسماء أثقل.

حتى وصلت إلى عتبة منزلها. هناك، على بعد أمتار قليلة من الباب، كان يمتد حقل دائري من **الملح الأبيض الناعم**، رقيق، لكنه مستمر… يحيط بالمنزل كما لو كان خيطًا مقدّسًا.

كانت يوكا قد رسمته بنفسها، كل صباح، كل مساء.

"لكي لا تدخل الأرواح. كي لا تقترب الأرانب. ."

لكن هذه المرة… شيء ما لم يكن على ما يرام.

انحنت عيناها الرماديتان نحو الأرض — وهناك رأتها.

بقعة صغيرة جدًا، بحجم كف اليد، كان الملح فيها منـدملًا، غُمر جزئيًا بالثلج.

وعند تلك الفجوة... وقفت روح فتاة سوداء.

جسدها لم يكن متماسكًا، دخانيًّا، يتشظى عند الأطراف. شعرها يتطاير كأنه في ماء، وفمها مفتوح بطريقة غير بشرية، يكشف فراغًا داخليًا كأنه هاوية. لم تكن تملك مقلتين. فقط ثقوب سوداء في وجه رمادي باهت.

كانت تحاول التقدم… ببطء، زاحفة فوق الثلج، ترفع ذراعًا ثم تسقطها، عيناها الثاقبتان تحدقان نحو منزل يوكا.

وقفت يوكا بهدوء أمامها، خلف دائرة الملح، تنظر إليها دون خوف.

ثم، فجأة، رفعت ساقها — وركلتها بقوة.

تبعثر الجسد الدخاني للحظة… لكن الروح لم تختفِ. نظرت نحوها، ومدّت يدها ببطء لترد الضربة… إلا أن أصابعها توقفت عند حافة دائرة الملح، ثم اهتزّت كأنها ارتطمت بحاجز زجاجي غير مرئي.

تراجعت، ارتجفت، ثم جلست على الثلج… وعادت تحدّق.

قالت يوكا بصوت منخفض:

— "لم تعودي تملكين حق الدخول."

ثم أدارت ظهرها، فتحت الباب الخشبي، ودخلت.

الروح بقيت هناك… تحدق، تنتظر، تبكي… أو ربما تضحك.

ولمّا أُغلق الباب، انطفأ المشهد كأنه لم يكن.

لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon

تحميل PDF للرواية
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon