NovelToon NovelToon

عهد الظلام

الفصل الاول "صوت لا يسمع"

لا أعلم كيف أبدأ، ولا أين يجب أن أنتهي...

لكنني أعلم شيئًا واحدًا:

ما مررت به، لم يكن حلمًا، ولم يكن كابوسًا…

كان قدرًا، اختارني دون إذن، ودفعني إلى أعماق لم أتخيل أن أعيشها.

اسمي روزالين.

طالبة جامعية، أدرس العلاج بالأعشاب.

بسيطة في أحلامي، هادئة في طباعي، وأميل دومًا للكتب والخيال…

لكنني لم أكن أؤمن بالخرافات.

أو على الأقل… لم أكن.

لقد رأيته.

نعم، رأيت ذلك الكائن… ذلك الملك الذي لا ينبض قلبه، ولا تقترب منه الشمس، ولا يجرؤ أحد على النظر في عينيه.

التقينا في لحظة لم أخترها.

نظرة واحدة فقط، كانت كافية لزعزعة كل المنطق داخلي.

لم يكن إنسانًا، ولم يكن شيطانًا…

كان شيئًا آخر تمامًا.

شيئًا، جعلني أعيد النظر في كل ما صدّقته.

لكن، يا أعزائي القرّاء…

لن أحرق لكم ما هو آت.

لن أضعكم مباشرة في قلب اللهيب.

سأمنحكم فرصة...

لكي تفهموا قصتي...

وتتذوقوا تفاصيلها، لحظة بلحظة.

هذه ليست رواية عادية.

وهذه… لم تكن حياتي المعتادة.

ما بين ظلّ الغابة، ولمعة السوار، وصوت لا يُسمع إلا في القلب…

بدأ كل شيء

فتحت روزالين عينيها بهدوء.

كان لون عينيها أخضر… أخضر كالغابة بعد المطر، كأن الطبيعة اختبأت فيهما لتعكس ضوء الشمس.

أشعتها انسلت من النافذة، راقصة فوق وسادتها، ولامست وجنتيها بلمسة ناعمة.

تثاءبت بخفة، وغطت فمها بباطن كفها، ثم جلست على حافة السرير.

هدوء الغرفة لا يُشبه الأفكار المتشابكة التي غفت بها الليلة الماضية.

نهضت بكسل، مشت بخطوات ناعسة نحو المغسلة، فتحت الماء البارد وغسلت وجهها كمن يغسل النعاس والقلق في آنٍ واحد.

ثم رفعت نظرها نحو المرآة، نظرت إلى وجهها مطولًا…

كأنها ترى شيئًا غريبًا لم تلاحظه من قبل.

"هل تبدو عاديّة اليوم؟" همست لنفسها.

صوت ناعم من الطابق السفلي قطع عليها أفكارها:

ـ "روزالين! الفطور جاهز يا ابنتي، لا تتأخري! إنه أول يوم في الجامعة."

ابتسمت،

نعم… اليوم سيبدأ كل شيء.

لكن ما كانت تجهله، هو أن هذا اليوم...

سيكون بداية النهاية لكل ما ظنّت أنه طبيعي.

سمعت روزالين صوت والدتها مرة أخرى، بصوت أكثر حزمًا:

ـ "روزالين، أيقظي أخاكِ جايك! أنتما ستتأخران، ولن أكتب أعذارًا للجامعة والمدرسة!"

ضحكت روزالين بخفة، ثم خرجت من غرفتها وهي تنادي:

ـ "جايك! استيقظ، يا نائم العصر… أمك ستعلن الحرب علينا!"

من داخل غرفته جاء صوته المبحوح:

ـ "خمس دقايق بس…"

ردّت ساخرة:

ـ "أقسم لو تأخرت، سأتركك للدكتور الجديد يأكلك في أول محاضرة."

نزلت روزالين الدرج بخطوات سريعة، شعرها البني الطويل مربوط بخفة خلف ظهرها، وعيناها لا تزالان تقاتلان بقايا النوم.

في الأسفل، كانت والدتها الحنونة السيدة "مارغريت"  تضع آخر قطعة من الخبز المحمص على الطاولة، وفنجان القهوة يرسل بخاره كأنه ينادي صباحًا هادئًا.

ـ "صباح الخير، أمي."

قالتها روزالين بابتسامة وهي تقبّل خدّ والدتها.

ابتسمت مارغريت وهي تضع يدها على وجه ابنتها بحنان:

ـ "صباحكِ سكر يا وردتي… أنتِ متأخرة. وأين جايك؟"

دخل جايك بعدها بدقائق، شعره منكوش، يحمل حقيبته وهو يتثاءب كأنه لم ينم منذ أسبوع.

ـ "أنا جاهز!"

قالها وهو يخطف قطعة خبز من الطبق ويأكلها بعجلة.

ضحكت مارغريت وقالت:

ـ "أنتم الإثنان ستهلكاني يومًا… لكن لا بأس، اذهبا الآن، وسأدعو لكما أن لا تنقلب الجامعة رأسًا على عقب."

التفتت روزالين لأمها وهمست مبتسمة:

ـ "إنها مجرد أعشاب طبية، لا تقلقي… لسنا في ساحة معركة."

لكنها لم تكن تعلم أن ما ينتظرها… أكبر من ساحة، وأبعد من معركة.

في الخارج، كانت السماء صافية، والشمس خفيفة كأنها تهمس للصباح بلطافة.

خرجت روزالين وجايك من المنزل، ومشيا في الطريق المظلل بالأشجار.

هو كان يخطط لما سيفعله مع أصدقائه في المدرسة…

أما هي، فكانت تشعر بشيء ما… إحساس خفيف في قلبها، لا يشبه شيئًا تعرفه.

وضعت يدها على صدرها فجأة، كأن خفقة غريبة مرّت.

نظرت نحو الغابة البعيدة التي تُرى من وراء التل،

همست لنفسها:

ـ "ما بكِ يا قلبي… هل بدأتَ تهذي من أول يوم؟"

أكملت روزالين الطريق بصمت.

كان جايك يتحدث عن صداقاته، عن مدرّسه الممل الجديد، عن كرة القدم…

لكنها لم تكن تسمعه.

عيناها كانتا تبحثان عن شيء لم تُدركه بعد.

ذلك الشعور العابر في صدرها، تلك الخفقة الغريبة، لا يشبه أي توتر جامعي.

بل كأن قلبها يردّ على نداء…

نداء جاء من حيث لا يُرى.

في أقصى مدى نظرها، خلف التل… كانت الغابة.

غامضة، كثيفة، كأنها تنظر إليها أيضًا.

أحست أن شيئًا فيها يراقبها… أو ينتظرها.

ـ "هل ترين الغابة هناك؟"

سأل جايك وهو يشير بسندويتشه نحو الأفق.

هزّت رأسها وقالت بابتسامة مصطنعة:

ـ "دائمًا كانت هناك… لكن لا أعلم لماذا تبدو مختلفة هذا الصباح."

ردّ جايك ضاحكًا:

ـ "ربما لأنها تشمّ رائحة الجامعة!"

ضحكت روزالين هذه المرة، ضحكة سريعة، لكنها كانت تحاول كتم ارتباكها.

"ليست الغابة من تغيرت… أنا من بدأت أرى الأشياء بشكل آخر."

بشراسة كأنها تحاول جذب انتباه العالم كله.

شعرها الأشقر مربوط على شكل كعكة غير مرتبة، وملامحها مليئة بالحياة.

ـ "روز! تأخرتِ! كنتِ على وشك تفويت أول فضيحة جامعية!"

قالت بصوت مسرع وهي تمسك بيد روزالين وتجرّها نحو الداخل.

ـ "فضيحة؟"

ـ "نعم، شاب في قسم التاريخ دخل بالقهوة على سترة العميد. تخيّلي؟ الجامعة كلها قاعدة تشرب القهوة منه الآن!"

ضحكت روزالين، لكن ليلي توقفت فجأة، نظرت لعينيها وقالت:

ـ "هل أنتي بخير؟ عيناكِ فيها شيء… كأنك لم تنامي، أو حلمتِ بكوابيس."

هزّت روزالين رأسها، ابتسمت وقالت بهدوء:

ـ "لا شيء… مجرد بداية جديدة."

لكن عقلها كان يهمس:

"أو نهاية… لا أعرف لها بداية."

جلست روزالين بجانب النافذة، والضوء يتسلل من خلالها بخفة،

بينما ليلي كانت تثرثر كعادتها، تشتكي من طول المحاضرات، وتخطط كيف ستهرب من أول مادة نظرية.

أما روزالين…

فعيناها لم تكن على السبورة،

بل على ما خلف الزجاج.

الغابة.

بدت من بعيد كأنها تنام في صمت، لكنها لم تكن نائمة.

في عيني روزالين، بدت وكأنها تتنفّس… تنظر إليها… تنتظرها.

شعرت بشيء غريب في صدرها.

همسة، لم تكن بصوت… بل بإحساس.

كأن هناك نداء يأتي من الأعماق، لا يُسمع… بل يُحسّ.

ـ "روز!"

ليلي صفّقت بجوارها بخفة.

ـ "هاه؟"

ـ "الدكتور بيناديك من ساعة!"

رفّت روزالين بعينيها، وعادت ببطء للواقع.

نظرت إلى الدكتور الذي كان يحدّق بها باستغراب.

ـ "آنسة روزالين، هل الغابة تدرّس معكم في هذه القاعة؟"

ضحك البعض…

لكنها لم تضحك.

نظرت له بثبات وقالت:

ـ "ربما… أكثر مما نظن."

الفصل الثاني "الظل الاول"

غادرت روزالين مبنى الجامعة مع صديقتها ليلي، خطواتهما متقاربة، وحديثهما ينساب برفق بين ضجيج الطلاب الخارجين والهواء الذي بدأ يبرد شيئًا فشيئًا.

كانت الشمس تنسحب خلف المباني العالية، ترسم أطيافًا برتقالية على الأرصفة، وتلقي بظل كل شيء طويلًا كأن الزمن نفسه يتمطّى أمامهما.

ضحكت ليلي وهي تمسك بحقيبتها المبعثرة:

ــ "أيّام الدراسة بدأت حقًا... لم أتوقّع أن يكون أول يوم بهذا الثقل!"

ردّت روزالين وهي تعبث بشريط حقيبتها الجلدية:

ــ "المعلومة كانت ثقيلة، والدكتور أثقل!"

ثم تابعت بنبرة خفيفة، كأنها تكلم نفسها:

ــ "لكن الغريب أن قلبي لم يكن مع المحاضرة... ولا رأسي."

نظرت إليها ليلي، تمعن فيها وكأنها تحاول فهم ما بين الكلمات، لكنها لم تُعلّق، فقط ابتسمت وربتت على كتفها.

في تلك اللحظة، تلقّت روزالين رسالة قصيرة من أخيها جايك يخبرها أنه سيذهب للتمشّي مع أصدقائه بعد المدرسة، فابتسمت وقالت لليلي:

ــ "جايك قرر تركنا وحدنا... فرصة لشراء الأدوات التي نحتاجها."

هزّت ليلي رأسها بحماس:

ــ "السوق سيكون ممتلئًا اليوم، لكن لا بأس... سنجد قارورات زجاجية جميلة لمستحضرات الأعشاب، وربما أشتري أنا أيضًا شيئًا لا أحتاجه، كعادتي."

سارتا باتجاه السوق الصغير القريب من الجامعة، حيث تمتد الأرصفة بمحاذاة الطريق المؤدي إلى الغابة... غابة كانت دومًا هناك، لا يتغير شكلها، لكنها لم تكن أبدًا بهذا الحضور من قبل.

توقفت روزالين فجأة.

عيناها ثبتت على الأشجار التي تحرّكت مع الريح، كأنها تهمس لها بشيءٍ لا يُسمع،

وكأن أغصانها تتمدد لتصل إليها... لتلمس قلبها، أو تأخذه.

الهواء تغيّر... صار أصفى، أنقى، كأن الغابة تلفظ أنفاسها الأخيرة في وجه العالم.

وقفت روزالين بصمت، تتأمل كل شيء دون أن ترمش،

شعرت بخفة في صدرها، وبرودة اجتاحت أطرافها،

كأن جسدها يستجيب لنداء خفي، قادم من الأعماق، لا من السطح.

اقتربت منها ليلي، ووقفت بجانبها، ثم نظرت للغابة هي الأخرى، وقالت مبتسمة:

ــ "هل تفكرين بالدخول الآن؟

أرجوكِ، إن كنتِ ستتزوجين شجرة، أخبريني مسبقًا لأكون وصيفتك!"

ضحكت روزالين، لكنها لم تنظر إليها.

كانت عيناها لا تزالان تراقبان رقصة الضوء بين الأغصان،

ثم تمتمت بهدوء:

ــ "الريح هنا تحمل شيئًا... لا أستطيع وصفه، لكنه... حيّ."

ليلي قرّبت رأسها منها وهمست:

ــ "هيا بنا، اليوم نشتري القوارير،

وفي المساء، نمرّ على المكتبة... أعدك أن أشتري لك رواية جديدة عن ممالك الظلام التي تحبينها

سارتا بعدها بهدوء نحو السوق، والحديث بينهما ظل خفيفًا، لكن نظرة روزالين الأخيرة للغابة... لم تكن كسابقاتها.

لأول مرة، شعرت أن الغابة تنظر إليها أيضًا.

وفي مكانٍ ما، بين الأشجار المتشابكة،

كان هناك ظلّ... يراقب.

صامت، لا يتحرك، لا يُرى...

لكنه كان هناك.

عادت روزالين وليلي إلى المنزل مع عبق المساء ما يزال يلاحقهما.

في المطبخ، كانت مائدة العشاء قد أُعدّت بدفء وحب.

جلست روزالين إلى الطاولة، بينما كانت مارغريت، والدتها بالتبنّي، تضع الصحون وتبتسم بحنان.

كان فيليب، والدها بالتبنّي، قد سبقهم إلى المائدة، يحمل بين يديه صحيفة المساء ويرتشف من كوب قهوته، وعلى وجهه ملامح تعب رجل يعمل كثيرًا، لكنه لا يبخل بالحب على عائلته.

قال فيليب بنبرة أبوية دافئة:

ــ "أهلاً بفتاتينا المغامرتين، هل أحضرتما السوق معكما؟"

ضحكت ليلي وهي تسحب الكرسي:

ــ "قاربنا على ذلك، لكن روزالين أرادت التحديق بالأشجار أولاً!"

رمقها فيليب بنظرة فضولية وهو يقول:

ــ "الغابة؟ كنتِ قرب الغابة مجددًا يا روز؟"

أجابت روزالين وهي تضع كيس الأعشاب جانبًا:

ــ "الهواء كان مختلفًا... وكأن الأشجار تتكلم."

نظر إليها فيليب للحظة، ثم ابتسم ابتسامة باهتة تخفي شيئًا عميقًا في صدره، وقال:

ــ "الغابة تحفظ أسرارها، يا صغيرة."

عندها تدخلت مارغريت لتكسر ثقل اللحظة:

ــ "العشاء جاهز، ولن أسمح لأحد بسرقة حساء الأعشاب!"

ضحك الجميع، وجلسوا حول الطاولة في دفء الألفة. تبادلوا أطراف الحديث، وأحاديث خفيفة عن الجامعة، عن الزهور، وعن آخر الكتب التي تبحث عنها روزالين.

وبعد العشاء، صعدت إلى غرفتها، أطفأت الأنوار عدا مصباحها الصغير، وجلست على سريرها.

فتحت الكتاب الذي اشترته قبل قليل، وقرأت بضعة سطور:

"حين ينحني ظل الليل فوق شغاف القلب،

تهمس الأشجار باسمها القديم،

ويبدأ السوار برعشة خفية،

تنذر بصحوة قادم لا يرحم..."

غابت عن عالم الواقع،

حتى شنف أذنيها صوت خرير الريح يتسلل عبر النافذة المشرعة.

أغلقت الكتاب، وضعت رأسها على الوسادة محاطة بآلاف الأسئلة.

بينما فيليب وقف عند باب غرفتها للحظات، يتأملها بصمت، قبل أن يغلق الباب برفق ويهمس في قلبه:

"كأن قدرك يقترب يا ابنتي..."

ثم انسحب تاركًا البيت يغطّ في هدوء المساء،

وغابةً بعيدة تُوقظ ظلًا نائمًا...

في تلك الليلة، بعدما غفت روزالين على صفحات الكتاب،

هبّت رياح مفاجئة حول الغابة...

لم تكن كأي ريح.

كانت كأن الأرض نفسها تتنفس، والظلال تنذر بشيء يوشك أن يبدأ.

في قلب تلك الغابة، خلف المدى الذي لا تبلغه أقدام البشر،

كان القصر الحجري العظيم ساكنًا كما هو...

سوى شيء واحد...

السوار.

كان مربوطًا حول معصم الملك وهو نائم،

فجأة... لمع السوار بضوء خافت.

ضوء لم يره أحد...

سوى الملك.

فتح الملك عينيه ببطء، رمش مرتين، ثم جلس على حافة سريره.

الضوء كان قد اختفى، لكنه شعر به.

نظر إلى معصمه... ثم رفع حاجبه بتعجّب.

ــ "غريب... لم يلمع هكذا منذ سنوات."

نهض بهدوء، غسل وجهه، وارتدى عباءته السوداء الثقيلة،

خرج من جناحه، ومشى في الممرات الحجرية الطويلة، خطواته صامتة، لا تسمعها الأرض.

دخل إلى القاعة الكبيرة حيث وُضعت صورة والدته "جوري" ووالده "آريان"، محفورة على لوح من الكريستال الداكن.

وقف أمام الصورة،

وتردد الصوت...

صوتٌ لا يسمعه إلا هو.

كان صوت أمه، ناعمًا، دافئًا:

"لقد تحرّك السوار، يا بني...

شخص ما لمسه... والرباط بدأ يتكوّن."

ثم لحقه صوت والده، عميقًا، حازمًا:

"ابقَ يقظًا، رين...

القدر لا يطرق الباب مرتين."

الملك رين، وقف ساكنًا.

لا يعرف عن أي رباط يتحدثان،

ولا من الذي لمس السوار...

لكنه شعر بشيء يتغيّر.

همس لنفسه:

ــ "الرياح... تحمل نداءً جديدًا الليلة."

ثم استدار، وغادر القاعة.

وفي معصمه،

كان السوار ينبض من الداخل...

غادر رين القاعة الكبرى، وخلفه طيفٌ من الأصوات لا يسمعها سواه.

رغم الصمت في الممرات، كانت خطواته توحي بثقل لا يشعر به إلا الملوك.

دخل إلى ساحة القصر، حيث يقف بعض الحُرّاس باحترام، يحيونه بانحناءة دون صوت.

عند بوابة القاعة الشرقية، اقترب رجلان:

الأول، طويل الجسد، عريض الكتفين، يرتدي درعًا أسود يحمل شعار العائلة الملكية

كان ذلك هو القائد رايڤن،

رجل الحروب، وصاحب السيف الذي لا يُغمد إلا بعد النصر.

والثاني، هادئ، ذو ملامح حادة ونظرات فاحصة، يرتدي عباءة رمادية ويضع خاتمًا يحمل نقشًا قديماً -

إنه المستشار لوثر، حافظ الأسرار، ومرآة القصر الصامتة.

انحنيا باحترام، ثم قال رايڤن بصوت جهوري:

ــ "مولاي، كما أمرت... تم رفع الحراسة عند حدود وادي الظلال، لكن ظهرت حركة غير مألوفة قرب الحافة الشرقية."

تدخّل لوثر بصوت هادئ:

ــ "والرياح هناك كانت غير طبيعية... حتى الأشجار بدت وكأنها تهمس."

رفع رين نظره إلى السماء التي لا تزال غائمة منذ الصباح، وقال بنبرة خافتة:

ــ "أشعر أن الأرض تُنذرنا بشيء... لكن لا وجه له بعد."

اقترب لوثر خطوة وقال:

ــ "وهذا هو الوقت الذي يجب أن نراقب فيه... لا أن نهاجم."

تبادل رين النظرات مع كليهما، ثم أدار وجهه نحو أروقة القصر، حيث يمتد الظل فوق الحجارة الباردة.

ــ "راقبوا كل ما يتحرك عند حدود الغابة...

ولا تُعلموا أحد... حتى أنا، لن أعرف شيئًا إلا حين يحين وقته."

انحنيا مجددًا...

ثم انسحبا.

وبقي رين وحده،

ينظر إلى معصمه...

حيث السوار ما زال ثابتًا...

لكن قلبه، ولأول مرة منذ زمن، لم يكن كذلك.

الفصل الثالث "حين تهب الريح"

خرج رِن من القصر، ووقف في أعلى السلالم الرخامية المؤدية إلى الباحة الكبرى.

أمامه… امتدّت مملكته، وادي الظلام. أرضٌ مغطّاة بالضباب الخفيف، تتنفس بهدوء تحت ظلال الأشجار السوداء والمباني القديمة المصنوعة من الحجر الداكن.

الجدران نُقش عليها تاريخ آلاف السنين، والرايات الملكية ترفرف دون صوت… كأن الهواء نفسه يخشى أن يزعج الهيبة.

بدأ رِن بالنزول. كل خطوة يخطوها، تنحني لها الرؤوس، سواء من مصاصي الدماء، أو من المتحوّلين.

لا أحد يجرؤ أن ينظر في عينيه… ولا حتى خدمه.

إلى جواره، كان يسير خادم متحوّل يُدعى إليفان، طويل القامة، عينيه بلون الفحم، جسده مرن كأن روحه لا تنتمي لشكلٍ واحد.

كان إليفان واحدًا من أقدم المتحوّلين الذين وُلدوا في الظلال… وواحدًا من القلائل الذين يرافقون الملك عن قرب.

قال الخادم بصوت خافت:  "مولاي، قاعة الأعشاب تحت الترميم… وقوافل الجنوب وصلت هذا الصباح."

لم يردّ رِن. فقط أشار بيده، فتابع الخادم تقريره:

"والحراس عند الحدود الشرقية أرسلوا بلاغًا عن حركة غير معتادة. لا أحد اقترب… لكن الأشجار نفسها تغيّرت."

توقف رِن فجأة، وأدار رأسه باتجاه الممر الطويل المؤدي إلى شرفة المراقبة.

همس:  "الغابة تنذر قبل أن تهاجم… شيءٌ هناك يتحرّك."

إليفان خفض رأسه باحترام، ثم قال بتردّد:

"هل ترغب أن أرسل من يحقّق؟"

ردّ رِن ببرود:  "لا… من يقترب من الظلال، لا يعود. دعها تقترب أولًا."

ثم تابع سيره، وعلى وجهه ظلّ ابتسامة لا تُرى.

إليفان نظر إليه للحظة، ثم همس لنفسه:

"الهدوء الذي يسبق العاصفة… أعتدنا عليه هنا."

بينما تابع رِن خطواته نحو شرفة المراقبة، حيث يرى مملكته من الأعلى، كان إليفان يمشي خلفه… يراقب خطوات سيده بصمت.

لكن داخله… كان شيء آخر يغلي.

القلادة… أو بالأصح، السوار، اللامع حول معصم الملك، ما زال يُشعّ بضوءٍ غامض منذ تلك الليلة.

إليفان رمق السوار بنظرة طويلة.

"ذلك السوار... هو نقطة ضعفه الوحيدة. طالما هو يضعه، فهو ملك، لكنه ليس بكامل قوته."

ضغط إليفان على أنامله خلف ظهره، وتابع التفكير:

"إنه لا يخلعه… حتى في نومه. لكن لا بأس، ستأتي لحظة… لحظة ينسى فيها، أو يثق أكثر من اللازم."

اقترب أكثر، وقال بصوت هادئ:

"مولاي، هل ما زلت تثق بهذا السوار؟ بعد كل هذه القرون؟"

توقف رِن لثانية، ثم نظر له بنصف عين، دون أن يرد.

لكن إليفان تابع، وهو يختبئ وراء الاحترام الظاهري:

"أقصد… ما من قوة في هذا العالم لا تستهلك شيئًا منك. وأنت، مولاي… لست بحاجة لشيء يُثقلك."

رِن التفت إليه ببطء، وقال بصوت عميق:

"هذا السوار لا يُثقّلني يا إليفان… إنه ما يبقيني في توازن."

ثم اقترب منه أكثر، وأضاف بنبرة باردة:

"وربما… هو ما يجعلني لا أُفكر في خيانة من خلفي."

تجمّد إليفان للحظة، ثم انحنى رأسه مباشرة:

"لم أقصد شيئًا، سيدي… فقط كنت أطمئن."

رِن لم يعلّق. أكمل طريقه… تاركًا ظلالًا من الرهبة خلفه.

أما إليفان، فرفع نظره ببطء، وتجمعت في عينيه شرارة سوداء:

"سيحين الوقت… وسأنتزع ما يجعل قلبك ينبض من جديد."جلس لوسير على كرسيه الحجري، وأغلق عينيه لحظة، مستشعرًا تلك الطاقة القديمة التي ارتجفت عبر الهواء  طاقة السوار.

"إنه يتحرّك… مجددًا."

قالها داخله، دون أن ينطق بها.

هو يعرف معنى ذلك. السوار… لا يُضيء إلا عندما يكون مصير الملك على وشك أن يتبدّل. ومتى ما تبدّل قلب رين… فإن موازين القوة، وممالك الثلاثة، كلها ستتغيّر.

لوسير رفع رأسه، وحدّق في ضوء الشمعة الذي بدأ يرتجف رغم سكون الهواء.

"لو تحدّثت… سيعود رين إلى ما كان عليه في شبابه. ضعيفًا أمام العاطفة… مندفعًا وراء الشعور."

"لكن إن صمتُّ… فقد ينكشف كل شيء، ويتحرّر ماضٍ ظننّاه مات."

ثم ابتسم بسخرية خفيفة، وقال لنفسه:

"ما أعقد أن تكون مستشارًا لملك… نصفه بشر، ونصفه لعنات."

أخذ المرآة الصغيرة من جديد، نظر إليها، فرأى في ضبابها روزالين… وجهها لا يظهر واضحًا، لكن هناك وهجًا غريبًا يربطها بذلك الضوء الذي ومض في السوار.

همس بخطورة:

"هي بدأت تقترب… ولو شاء السوار أن يختارها، لن يوقفه أحد. لا أنا… ولا حتى رين نفسه."

أغلق المرآة، وأخفى كل شيء، ثم قام من مجلسه، وقال بهدوء:

"الصمت… هو خياري الآن. فإن جاء الوقت، سيكون الكلام أثقل من أي حرب."

في الزاوية المظلمة من غرفة لوسير، حيث الضوء لا يصل، انشقّ الهواء كأنّه يتنفّس… وظهر طيفان شفافان، يشعّان بنور خافت.

كانا يقفان خلف لوسير، ينظران إليه دون أن يشعر بوجودهما. الملكة "جوري"، والملك "أريان"… والدا رين، أرواحهما محفوظة داخل السوار… لكن الآن، ظهرا لحظة، لمجرد أن يراقبا.

تقدّمت جوري بخطى هادئة، بصوتها الحنون، قالت بنبرة خفيفة:

"كما أنت يا لوسير… لا تتغيّر أبداً. تلاحظ… تحلل… وتصمت."

أدارت وجهها نحوه، وكأنها تراه من الداخل، ثم أضافت:

"لكنني أعلم… صمتك ليس خيانة. بل حماية."

اقترب منها أريان، نظر نحو لوسير وقال بصوت عميق مليء بالوقار:

"لكن احذر… إن عاد قلبه للنبض، لن يعود كما كان. رين الذي تعرفه، سيضعف… وسيبدأ باتباع القلب، لا العرش."

أغمض عينيه قليلًا ثم أكمل:

"لا نريده أن يُكسر… لا نريده أن يُغدر… لكننا نريده أن يعرف طعم الحياة."

جوري نظرت إلى زوجها، ثم إلى الفراغ بينهما، وهمست:

"أريده أن يتغير… أن يشعر… أن يحب… لا أريد لابني أن يبقى قاسيًا، معتمًا كالممالك التي يحكمها."

ثم التفتت إلى لوسير من جديد، وهمست بصوت يكاد لا يُسمع:

"كن معه، دائمًا. حتى وإن لم يسألك."

ومع آخر همسة، تلاشى الطيفان في هواء الغرفة، كأن الريح ابتلعتهما.

أما لوسير… فشعر بقشعريرة تمرّ في جسده، دون أن يعرف السبب الحقيقي.

رفع عينه نحو السقف… ولأول مرة، همس لنفسه:

"قلب الملك… سينبض مجددًا. فهل نملك نحن الوقت… لنكون مستعدّين؟"

في الجانب الآخر من العالم...

رن صوت المنبه بعناد في أذن روزالين، لكنها لم تستيقظ. بل ظلت تتقلب، تتوسد الحلم الأخير... حتى اهتز الهاتف على الطاولة الصغيرة بجانب سريرها.

فتحته بعين نصف نائمة...

عشرة مكالمات فائتة. كلها من "ليلي".

شهقت وهي تهمس:

"يا ويلتي... لقد تأخرت!"

قفزت من السرير، ركضت نحو المغسلة وغسلت وجهها بسرعة، ثم فتحت خزانتها وسحبت أول قميص وجدته للارتداء. شعرها الأشعث لم تكترث له، وربطته بسرعة بكعكة مرتجلة وهي تهتف:

"أقسم لك يا ليلي، لو ضربتني لما وصلت في الوقت، أنا أستحق!"

نزلت الدرج بسرعة خاطفة، وكانت رائحة الخبز المحمص لا تزال تعبق في المنزل، لكنها لم تتوقف، فقط أخذت قضمة من شطيرة على الطاولة، وصاحت:

"أمي! خرجت! لا تصدقي الساعة، الجامعة خدعتني!"

خرجت وهي تلبس حذاءها في الطريق، حقيبتها تتمايل على كتفها، وفمها لا يزال يمضغ.

وفي قلبها... تلك الخفقة نفسها التي لم تفارقها منذ البارحة.

فهمت الآن! خليني أكتب لك المشهد من جديد بلغة عربية فصحى جميلة ومناسبة لأسلوب الرواية:

فتحت روزالين باب المنزل على عجل، وما إن خطت إلى عتبة الدار حتى لمحت والدها واقفاً في الطريق يتبادل أطراف الحديث مع أحد الجيران، مبتسمًا، وصوته يحمل نغمة من المرح الخفيف.

لكنها لم تكد تلتفت إليه حتى سمعت خطوات سريعة تقترب، وإذا بصديقتها ليلي تقف عند حافة الرصيف، وملامحها متجهمة بعض الشيء.

قالت ليلي بلهجة ممزوجة بالغضب والقلق:

"أكنت تنوين أن تتركيني أنتظر كل هذا الوقت؟ عشر مكالمات يا روز، عشر!"

ابتسمت روزالين بارتباك وهي تغلق الباب خلفها، ثم قالت معتذرة:

"أعرف، أعرف… لقد غلبني النوم، ثم... لا تسأليني عن ذلك الحلم الغريب."

اقترب والدها منهما، ونظر إلى ليلي مبتسمًا:

"صباح الخير، ليلي. لا تلوميها كثيرًا، لقد بدت شاردة هذا الصباح... وكأنها كانت تسافر في عالم آخر."

نظرت ليلي نحو روزالين بتمعن، ثم قالت بهدوء:

"ربما كانت كذلك فعلاً…"

ثم أضافت بخفة، محاولة كسر التوتر:

"هيا، سنتأخر أكثر إن بقينا واقفتين هنا، وسأجعلك تدفعين ثمن كل دقيقة من الانتظار!"

ضحكت روزالين، رغم بقاء ذاك الشعور الغريب عالقًا في صدرها… إحساس بأن هذا اليوم ليس كغيره، وأن شيئًا ما ينتظرها، خلف ظلال الأشجار… أو في قلب القدر.

لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon

تحميل PDF للرواية
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon