NovelToon NovelToon

تحت الركام

الفصل الأول : العيون التي رأت

انشقّ السكون كأن السماء نفسها صرخت من الألم، دويّ انفجارٍ مزق الهواء، فتطاير الركام على وجوه الناس. التفت الحطام كأنه يد غاضبة. لم يكن أحد يعرف من قُتل أو من نجا. فقط العيون... كانت العيون وحدها هي الشاهدة.

في مكان رمادي اللون، كأن الحياة هجرت المدينة منذ أعوام، وتركت الأجساد تسكنها على غير هدى.

طفلة خرجت من البيت الذي كان مأوى لعائلة صغيرة، صار حفرةً يتصاعد منها الدخان، كأنه مدخنة من جهنم. وقفت على قدميها المرتجفتين، تنظر من حولها بلا دموع، في مكان آخر كان الناس يبيعون ويشترون، يضحكون، يحاولون نسيان ما يُسمى بالحرب.

وفي شارع جانبي، بعيدًا عن الانفجار، كانت أقدام الجنود تحدث صدى على أرضٍ ترتجف خوفًا. يُمسك رجلٌ بأطفاله الأربعة، لم يبهت لدمه المسفوك، لم يكن الخوف على نفسه، بل على من تركهم خلفه. اخذه جندي صغير من النافذة، قفز إليه بيده في محاولة يائسة لمسح قلب طفله. لكن السلاسل كانت أسرع من الحب.

سُلب الأب من أطفاله كما تُسلب الحياة من صدر جريح، لا محاكم، لا فرصة للكلام، فقط قرار صادر من فوق، من طاولة لا تعرف الرحمة، بل تعرف مصلحة الملك فقط. الجيش لم يعد يُجدي، بل بدأ يُطبق القبض على عنقه.

عيون الطفلة التي رأت، ما زالت تتحقق في الفراغ. كانت تعرف أن هذا ليس الانفجار الأول... لكنه حتمًا لن يكون الأخير. وفي الجانب الآخر ،

لم يُكتب عن الحادث شيء.

لا صحيفة تناولت الخبر، لا جريدة نطقت بالدم، كأن البيت الذي قُصف وبه الأرواح لم يكن موجودًا من الأساس.

الصحف امتلأت بصور الملك، عناوين تتغنى بعظمته، مقالات تمجّد رحمة يده التي «تطعم الجياع»… بخبزٍ يابس لا يصلح حتى للحيوانات الضالة.

وفي ركنٍ بعيد من البلدة، جلس رجلٌ نحيل، على مقعد خشبي متآكل، إلى جواره كلبه الأليف

يمسك بالصحيفة بيدٍ مرتعشة، يقرأ في صمتٍ موجع.

قال بصوتٍ منخفض يكاد يُسمع:

«لا يكتبون إلا عن الملك... الملك الذي لم نعرف في عصره إلا الحرب، والفساد، والقتل من أجل البقاء».

ثم ألقى الصحيفة جانبًا، وسحق سيجارته أسفل قدمه النحيلة.

في عينيه ظلال تعب لا يشبه النوم، وملامح حزنٍ مقيم، كأن المرض ذاته خجل أن يفارقه .

و في زقاقٍ ضيّق، بعيدًا عن الأعين الرحيمة، كان صبيٌّ صغير لا يتجاوز العاشرة، يضم إلى صدره قطعة خبزٍ يابسة كما لو أنها كنزٌ لا يُقدّر بثمن.

أحاط به ثلاثة شبابٍ غلاظ، عيونهم جائعة، وقلوبهم كأنها نُزعت واستُبدلت بالحجر.

قال أحدهم:

"أعطنا هذا الخبر "

تراجع الصبي خطوة. صمت. لم يتوسل، فقط ضم الخبز أكثر، كما لو أنه يحتمي به من قسوة العالم.

لكن الضربات هبطت عليه كالمطر.

ركلاتٌ فى بطنه، ضرباتٌ على رأسه، وسيل من الشتائم لا يفهم منها شيئًا سوى: "ليس من حقك أن تأكله أو تعيش ".

كانت ملابسه ممزقة، وجهه مغطى بالغبار والدم.

وحين أخرج أحدهم سكينًا صغيرة صدئة، لم يقاوم.

رفع الصبي رأسه قليلًا، كأنه يُسلّم أمره للسماء.

ثم سقطت السكين.

وانطلقت صرخة…

صرخة واحدة، امتزج فيها الألم بالمفاجأة بالخوف.

وبعدها… صمت.

مات الفتى، لا لشيء، إلا لأنه أراد أن يأكل.

أراد فقط أن يقوى جسده الصغير ليعمل ويُعين أسرته.

سقط جسده في الركن كحزمة قش، وقطعة الخبز اليابس بجواره

لم يأكلها، ولم يتركها.

ولم يلتفت أحد .

"في عالم لا يعرف الرحمة و يدان فيه الخبز كجريمة هناك عيون تري كل شئ لكنها تكتفي بالصمت "

الفصل الثاني : وجوه من طين

في قلعة مترفة، تلمع جدرانها بالذهب، وتتزين  أرضها برخام ناعمٍ بلون الدم، جلس "لوكاس"، الملك الذي لا يرمش أحد  إلا إذا أمر، على عرشٍ عظيم من العاج المرصّع بالألماس. العرش لم يكن مجرد مقعد، بل إعلان دائم علي النفوذ والطغيان

كان الحُراس يحيطون بالمكان من كل الجهات، بوجوهٍ خالية من الرحمة، وأيدٍ لا تعرف التردد. ومن بين صفوفهم، جُرّ شابٌ نحيل الجسد يدعي "كول"، بثيابٍ ممزقة وجروح لا تنتهي، ليُساق قسرًا إلى أسفل العرش.

جلس الشاب على ركبتيه، لا خيار له في الوقوف، ولا كرامة يُسمح له أن يتكئ عليها. بين سيفين حادّين يُحيطان به من اليمين واليسار، سأل الملك بصوته الجافّ المليء بالغطرسة

– "أأنت من سرّب معلومات جيشي؟ هل أفصحت عن عدد الذخائر والدبابات؟"

أخفض الشاب رأسه، لا خوفًا، بل يأسًا، وقال:

– "نعم، يا سيدي."

صمتَ الملك قليلًا، ثم انحنى بجسده الغليظ للأمام وسأله بنبرةٍ أكثر قسوة:

– "أأنت من فجّر الدبابات؟ أأنت من زرع الشك في صفوفنا؟"

أجابه الشاب بنفس الصدق المنكسر:

– "نعم، يا سيدي."

كان يعلم أن الكذب لن ينقذه، وأن الصدق لن يُعفيه. فقد كان الموت هو الحكم في الحالتين… لكن الملك لم يرد الحقيقة، بل أراد اعترافًا موثّقًا بالصوت، ليُهدّئ به عقول الجهلاء، ويُبرّر أمامهم أنه ليس قاسيا ، بل رحيم يُعدم الخونة فقط إن اعترفوا.

كان الشاب يعرف ذلك… لكنه لم يبكِ، لم يسترحم، بل أغلق عينيه في صمتٍ، كأنه يُسلّم روحه قبل أوانها… وكأن الجروح في جسده كانت تمهيدًا لجراحٍ أكبر.

وكان الشاب جالسًا في قفصه، كطائرٍ بلا جناحين، لا يعرف للحرية طَعمًا، تحاصره نظرات الحرس من كل اتجاه.

في يديه أصفاد حديدية، تضيق على معصميه كما تضيق الحياة على قلبه، وتُجرحه كأنها تستنسخ الجُرحَ ذاته في داخله، ذاك الجُرح الذي خلفه فِراقه عن أمه العجوز، تلك المرأة التي لا تملك من الحياة إلا هو، فهو ابنها الوحيد ومصدر رزقها.

لم تكن تجيد من العمل سوى الخياطة، وبصرها المرهق بالكاد يسمح لها بإدخال الخيط في ثقب الإبرة، إلا إذا أتى ابنها ليساعدها بابتسامته ويده الدافئة.

جاءت إليه بعد توسلات طويلة حتى سُمح لها بلقاءه، وكانت تُدعى "كلارا".

دخلت إليه بقلبٍ مكسور، لا تعرف كيف ترفع عينيها في وجهه. جلست بصمتٍ أمامه، تتأمل ابنها المكبّل كالغريب.

قالت بنبرة مُهزومة:

"كان من الأفضل لك يا بني أن تُكمل مهمتك في الجيش بصمت، لعلّك كنت ستعود إليّ… فأنت كل ما أملك في هذا العالم القاسي."

وانسابت دموعها في صمت على وجنتيها وهي تهمس:

"من سيعولني بعدك؟ من يرفع رأسي ويحنو على ضعفي؟"

أما كول، فكان يبكي بصمت، دون أن يقدر على النطق بحرف.

القيود في يديه كانت أرحم من الكلمات في قلبه.

ثم أخرجت من حقيبتها القديمة سترة صوفية رمادية، خاطتها له بيديها المرتعشتين.

وقالت برقة:

"صمّمتها لك، كي لا تجلس في هذا البرد وحدك … عندما ترتديها، تذكرني يا بُني."

قامت كلارا، وغادرت وهي تبكي، تسلّم أمرها لله، بعدما سلّمت ما كان يهون هذه الحياة القاسية عليها للقضبان.

في ساحة واسعة تُشبه الميادين التي تُقام فيها الاحتفالات الملكية، نُصِبَت منصة عالية، وحولها الحشود المتفرجة التي لا تدري أتبكي على من يُقتل؟ أم تصفق للنجاة من مصيره.

وقف كول، ذلك الشاب النحيل، في وسط المنصة، في يده سترة صنعتها أمه، تمسك بها كأنها آخر ما تبقّى له من الحياة.

لم تكن الأصوات عالية، لكن الصمت كان أثقل من أي ضجيج… صوت الرياح وحده كان يروي الحكاية.

صعد الجلاد، حاملاً سيفًا مزيَّنًا بنقوشٍ ملكية، وعلى الجانب جلس الملك لوكاس، يتظاهر بالعدل، متشحًا بهيبةٍ زائفة، يخاطب الحشد:

"قد اعترف بخيانته، وقد منّ الله علينا بحكمة، أن نردع كل من يُفكّر بالخروج عن طوع الوطن."

ثم أشار بيده، وأطلق القرار...

نظر كول إلى السماء، لم يكن خائفًا، بل كان وكأن الموت صار له خلاصًا من عالم لم يرحمه.

أغمض عينيه، وردد في قلبه دعاءً لا يسمعه غير الله…

وما إن هبط السيف، حتى عمّ المكان صمت مميت، تلاه تصفيق بارد من المنافقين.

لكن بعيدًا، عند زاوية الساحة، جلست امرأة مسنّة… تشهق، لا تبكي… فقد تجاوزت الدموع.

"في زمنٍ تُقطع فيه الرقاب باسم العدالة، تصبح الخيانة هي الصدق الوحيد، وتصير دموع الأمهات شاهدة على وطنٍ لا يرحم أبناءه."

الفصل الثالث: نفق الموتي

في عمق نفقٍ ضيق، كأنما حُفر في بطن الأرض خصيصًا ليبتلع النور ويحتضن الشر، اجتمع القُساة، لا يجمعهم دين ولا رحمة ، بل فقط المال، والدم.

جلس "كارل" على كرسي خشبي متهالك، كأنما يوشك على الانهيار، لكنه ظل متماسكًا تحت جسده الضخم وابتسامته الملتوية. أمامه طاولة صدئة، وعليها أكياس سوداء، تتسلل منها رائحة الموت، ومال مكدّس في حقائب.

وقف "كين" أمامه، بسيجارته المشتعلة، يعبّ نفسًا ويخرجه ببرود، وقال:

– «هذه هي الأعضاء التي طلبها الملك. جميعها طازجة… كما أردت.»

نظر إليه كارل بعينين تلمعان كالزجاج، وقال:

– «وكم تريد مقابلها؟»

أجاب كين بوقاحة مألوفة:

– «عشرون مليونًا. وهذا أيضًا تخفيض… فبعض الأعضاء لكبار السن. لا أعلم لماذا أصبحت هذه البلدة وكأنها دار للمسنين!»

ضحك كارل بصوتٍ بارد وقال:

– «لا تقلق… ستجد مالك في الحقائب. افتحها إن أردت.»

فتح كين الحقيبة، يتفقد الأوراق النقدية بعينٍ خبيثة ، ثم رفع نظره وسأل:

– «لكن لماذا يريد الملك كل هذه الأعضاء؟»

حدّق كارل فيه، ابتسامة ساخرة على فمه، وقال بنبرة خافتة:

– «لا شأن لك بهذا… لكن، سأخبرك سرًا صغيرًا: الملك يحاول إنقاذ زوجته… المسكينة طريحة الفراش. يظن أن هذه الأعضاء ستنقذها.»

ثم ضحك ضحكة شريرة وقال:

– "غبي… لا يعلم أن الموت لا يُقاوَم. قدرها قد كُتب، لكن دعنا نستفيد من وهمه "

وفي زاوية النفق، همس أحد الجنود لأخيه الجندي:

– أتظن أن هذا المكان حقيقي؟ هل نحن في كابوس؟ ما ذنب كل هؤلاء؟

رد عليه الآخر، وهو ينظر إلى الدماء المتناثرة:

– الكوابيس لا تستمر كل هذا الوقت، لكن هذا الواقع... والملك هو من نسجَه.

ثم غادرا، وهما يُخفضان رؤوسهما، خوفًا من أن يسمعهما

أحد.

كان النفق مليئا بالدماء والجثث الميتة المتعفنة وكأنه عالم الموتي كان الجنود يبقون القماش علي أفواههم وأنفهم لحجب هذه الرائحة وكان أكثرهم يعاقب بالموت جوعا أو الإعدام بسبب عدم قيامهم بالمهام من قذارة النفق وعندما يستشيرون الملك بتنظيف النفق من الجثث يقول " لا اريد أن تزال هذه الجثث الهزيلة اريد أن اسعد برؤية هؤلاء الفشلة محاطون بالدماء"

وفي الجانب الآخر

دخل كارل إلى قاعة العرش وهو يحمل صندوقًا أسود صغيرًا، فتحه ببطء أمام الملك لوكاس، ليكشف عن الأعضاء المغلّفة بعناية. ارتعشت عيناه بفرحة نادرة، واقترب من الصندوق وكأنه يرى فيه طوق النجاة.

قال لوكاس بصوت ملئ بالأمل:

"هناك فرصة... أخيرًا، فرصة لإنقاذها."

ترك كارل القاعة بصمت، بينما جلس الملك وحيدًا. خيم الصمت، ولم يعد يُسمع سوى أنفاسه الثقيلة. أمال رأسه إلى الخلف، وحدّق في سقف القصر طويلاً، ثم تمتم:

"يستحق هذا العالم المعاناة... لا أحد فيه رحيم، ولا أحد يستحق الحياة."

قام فجأة، خطى خطوات بطيئة لكنهّا مثقلة بالغضب والمرارة.

"كل من ماتوا... كانوا يستحقون مصيرهم. لو كانت البشرية تعرف معنى الرحمة... لما أصيبت زوجتي برصاصهم، لما ظلت تتألم حتى الآن!"

وفجأة، صاح بأعلى صوته، وضرب الطاولة بقبضته حتى تكسرت أطرافها، ثم راح يحطم الكراسي والتحف، يركلها بوحشية وهو يصرخ:

"جميعهم يستحقون!"

ثم جلس على الأرض وسط الحطام، كأنما يعترف في أعماقه بأنه لم يكن يحكم شعبًا... بل كان ينتقم من العالم .وقال في نفسه

لم أكن لأصبح هكذا لولا هذا العالم . يلا غبائي ماذا افعل لا اريد أن أكون شريرا وظالما لكن في هذا العالم يجب عليك القتل وسفك الدماء حتي تعيش ويعرف الناس بقوتك ويهابونك

"في قلب الملك، لم تعد تنبض مشاعر الرحمة... بل نبضت فقط كراهية العالم، وانتقم من الجميع بثمنٍ دفعه الأبرياء."

لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon

تحميل PDF للرواية
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon