NovelToon NovelToon

حين التقينا

شتاء صامت

> "في بعض الليالي، لا تهطل الثلوج على الأرض… بل على القلب."

كان الشتاء قد حلّ مبكرًا هذا العام، أو ربما تأخّر قلبي عن الدفء.

في تلك الليلة، لم يكن هناك صوت سوى أنفاسي… وأنين الريح الذي يمرّ من بين الشقوق القديمة في نوافذ منزلنا الخشبي.

جلستُ قرب المدفأة، أراقب ألسنة اللهب تتمايل، كأنها ترقص على لحن لا يُسمع.

يدي كانت تحتضن كوب الشاي الساخن، وعيني معلّقة بالفراغ، كأنها تبحث عن شيء لم يأتِ بعد.

كنتُ أعلم أن شيئًا سيتغيّر.

الشتاء لا يطرق الباب حين يأتي.

هو يدخل بخفة، يتسلّل إلى القلب أولًا، ثم يسرق منا شيئًا صغيرًا… لا نلاحظ غيابه إلا لاحقًا.

في الخارج، كانت الجبال تغفو تحت بطانية من الضباب.

وفي داخلي، كنتُ أتهيأ لرحيل لم أُجربه من قبل.

ربما لم أكن خائفة.

لكنني كنتُ أعرف أنني على وشك أن أترك شيئًا خلفي.

طفولتي. رائحة التراب بعد المطر. حكايات جدتي. وحتى ظلي.

في تلك الليلة، لم أبكِ.

لكن شيئًا ما بداخلي بكَى نيابةً عني.

---

"وهكذا... في صمت الشتاء، بدأ كل شيء."

الفصل الأول:حين تركتُ ظلي هناك

التاريخ: 28 ديسمبر

الساعة: السادسة صباحًا

المكان: مدينة هوي آن، فيتنام

استيقظتُ قبل رنين المنبّه.

الساعة تشير إلى السادسة صباحًا، وداخل الغرفة يسود صمت ثقيل لا يشبه صباحات منزلي المعتادة.

كانت النافذة نصف مفتوحة، والهواء البارد يتسلل برفق، كأنه يُذكّرني بأنني على وشك الرحيل.

نظرتُ إلى السماء عبر الزجاج، فكانت رمادية قاتمة تغطيها سحب خفيفة، وكأنها تعكس غيمة ثقيلة في صدري.

صوت العصافير لم يكن موجودًا اليوم، وربما كان هذا الصمت أكثر من مجرد غياب أصوات الطبيعة؛ كأنه وداع غير معلن.

اليوم، سأترك فيتنام وأسافر إلى تايوان...

سأبدأ حياة جديدة هناك، أدرس، أعيش وحدي، وأحاول أن أكون قوية بما يكفي لأكمل الطريق.

جلستُ على سريري، أراقب حقيبتي المليئة بكل ما استطعت أن أحمِله من "البيت".

هناك، وسط أشيائي المتواضعة، وضعتُ صورة لعائلتي، علبة صغيرة تحتوي على مجوهرات جدتي التي لطالما أحببتها، كتابي المفضل الذي قرأته مرات عدة، ورسالة كتبتها لنفسي ولم أجرؤ على فتحها حتى الآن.

خرجتُ من سريري، وذهبتُ إلى النافذة، أُمسك إطار الصورة بلطف، وابتسمتُ رغم الألم الذي يشق قلبي.

كيف لي أن أترك كل هذا خلفي؟ كيف سأتحمل وحدتي في بلد غريب؟

في الخارج، سمعت أمي تهمس في المطبخ، صوتها مخلوطًا برائحة القهوة الطازجة، وسمعتُ صوت أبي وهو يحاول تشغيل سيارته القديمة التي طالما كنت أُحب صوتها الخشن.

أختي يوي لين كانت لا تزال نائمة… أو ربما تتظاهر بالنوم كي لا تودّعني، كما كنت أفعل وأنا طفلة.

في السادسة والنصف، دخلت أمي الغرفة بصينية صغيرة، تحمل فنجان شاي بالحليب المفضل لديّ، ورائحة العسل تخترق الأجواء.

قالت بصوت خافت: "أعددتُ لكِ الشاي بالحليب… ستحنين إليه هناك."

ابتسمت، ولم أنطق.

كنت أعلم أن كل رشفة من هذا الشاي ستعيدني إلى تلك اللحظات الصغيرة التي جمعتنا، ستذكرني بأن البيت ليس فقط مكانًا، بل أشخاص وأحاسيس.

فكرتُ أنني سأحنّ لكل شيء… حتى لصوت الجيران وهم يصرخون في الحيّ، وضجيج الشوارع التي لم أكن أقدر على احتمالها، الآن أصبحتُ أشتاق إليها.

ارتديت معطفي، حملت حقيبتي، وألقيت نظرة أخيرة على غرفتي الصغيرة…

فيها نشأتُ، بكيتُ، وضحكتُ.

وها أنا الآن… أتركها.

خرجتُ من المنزل بصمت، أمي تسير بجانبي، وأبي يفتح باب السيارة دون أن يتكلّم، لكنني أستطيع أن أشعر بيده ترتجف خفية.

السماء كانت لا تزال ملبّدة، والهواء باردًا رغم أن الشمس بدأت تطلّ بخجل من بين الغيوم.

السيارة مضت بنا نحو المطار، والشوارع التي أعرفها منذ طفولتي تمرّ من حولي كأنها تلوّح لي للمرة الأخيرة.

لم يتحدث أحد أثناء الطريق،

إلا يوي لين، أختي الصغيرة، التي فتحت عينيها أخيرًا وهمست بصوت مرتجف:

"أنتِ رايحة بعيد؟"

نظرتُ إليها، كانت تمسك دميتها القديمة، نفس الدمية التي كنت أعطيها لها حين تخاف من النوم وحدها.

"بس رايحة أدرس، مو بعيدة كثير."

كذبت مجددًا…

كنت أعلم أن المسافة ليست بالكيلومترات، بل بالوَحدة.

وصلنا إلى المطار، وكانت الساعة تقترب من الثامنة صباحًا.

الرحلة تغادر بعد ساعة، لكنني كنت أتمنى أن تتأخر…

فكل دقيقة إضافية مع عائلتي أصبحت أثمن من أي وقت مضى.

في صالة المغادرة، وسط ازدحام المسافرين، كان كل وجه يحمل قصصًا وأحلامًا لا تختلف كثيرًا عن قصتي،

لكن قلبي كان لا يزال معلقًا هناك في ذلك المنزل القديم، مع كل من تركتهم خلفي.

احتضنتني أمي بقوة، وشعرت بدفء جسدها ينتقل إليّ.

"لا تنسي تأكلي جيدًا… نامي بكير… لا تثقي بأي غريب… وإذا مرضتِ، اتصلي فورًا."

ضحكتُ بخفة، ثم بكيت،

كل نصائحها كانت مؤلمة، لأنها تذكّرني كم سأفتقد صوتها، رائحتها، حضنها.

أما أبي… فكان يبتسم بتوتر، يخفي ارتباكه الدائم خلف نظارته السميكة.

مدّ يده، وأعطاني علبة عصير كنت أحبها في طفولتي، تغطيها رسوم كرتونية ملونة.

"شربيها إذا حسيتي بالغربة… راح تذكّرك إنّا نحبك."

ثم انحنى وقبّل رأسي، وقال:

"روحي… واحلمي أكبر من أي شي حولك."

أما يوي لين… فركضت نحوي وهي تبكي، بصوت مخنوق:

"إذا رجعتي وما لقيتني، أنا تحت السرير!"

ضحكت، ثم انخفضتُ وضمتها بقوة،

"راح أرجع… وألعب معك، ونكمل قصتنا اللي ما خلصناها."

سمِع نداء الرحلة عبر مكبرات الصوت:

"الرحلة المتجهة إلى تايوان، بوابة رقم 6، جاهزة الآن."

نظرتُ إليهم…

ثم أدرتُ ظهري.

لم ألوّح، لم أودّعهم بالكلام…

كنت أعرف، إن فتحت فمي، لن أستطيع كتم الانهيار.

مشيتُ بخطوات ثابتة، والحقيبة تهتزّ على ظهري، وقلب ثقيل يتبعني.

تركتُهم…

وتركتُ شيئًا منّي معهم، لن يعود أبدًا كان صالون المغادرة بارداً بشكل غريب. جلستُ بجانب النافذة الزجاجية العريضة، أراقب الطائرات وهي تقلع الواحدة تلو الأخرى. عيني كانت على مدرج الطيران، لكن ذهني… كان لا يزال هناك، في البيت، في عيني أمي، ويد أبي، وضحكة يوي لين الصغيرة.

نادوا على الرحلة مجددًا:

> "الركّاب المتوجهون إلى تايوان، الرجاء التوجّه إلى بوابة رقم 6."

وقفت.

لم يكن أمامي خيار آخر.

دخلتُ الطائرة، وجلستُ في مقعدي قرب النافذة. أغمضتُ عيني، ووضعتُ سماعاتي. لم أرد أن أتحدث مع أحد، ولا أن أسمع شيئًا.

لكن ما إن أقلعت الطائرة، وابتعدنا عن الأرض… حتى انهمرت دموعي.

أخرجتُ علبة العصير التي أعطاني إياها أبي، ووضعتها في حقيبتي الصغيرة بجانبي.

لن أشربها الآن… سأنتظر تلك اللحظة التي أشعر فيها أنني لا أنتمي… حينها فقط، سأفتحها، وأتذكّر كم أحبّوني.

مرّت الساعات الثلاث ببطء غريب، وكأنني أُحلّق داخل ذاكرة، لا داخل طائرة.

فجأة، جاء صوت المضيف من مكبّرات الصوت، بصوته المألوف الهادئ:

> "سيداتي وسادتي، نودّ إعلامكم أننا سنهبط بعد قليل في مطار تاويوان الدولي في تايوان. الرجاء ربط الأحزمة والاستعداد للنزول. التوقيت المحلي يشير إلى الواحدة والربع بعد الظهر."

فتحتُ عيني، وأبعدتُ الستارة الصغيرة عن النافذة.

من الأعلى، بدت تايوان مزدحمة، لكنها مشرقة.

عالم جديد كان ينتظرني خلف تلك البوابة…

عالم لا يعرفني، ولا يعرف ما تركته خلفي.

شدّدتُ رباط معطفي، وتنهدتُ بعمق.

> "مرحبًا بكِ، ماي لين…

هذه بداية جديدة.". نهاية الفصل اول

الفصل الثاني: حين لامست الأرض الجديدة

التاريخ: 28 ديسمبر

الساعة: العاشرة والنصف صباحًا (بتوقيت تايوان)

المكان: مطار تاويوان الدولي – تايبيه

حين وطأت قدماي أرض المطار، كان كل شيء يبدو أكبر منّي.

المكان يعجّ بالحركة، لافتات بلغات متعدّدة، رائحة القهوة والحقائب الثقيلة تتنقل بجانب الناس كأنها ترافقهم منذ ولادتهم.

كنت أحمل حقيبتي على ظهري، وقلبي ما زال في مكانٍ ما بين مقعد الطائرة والمطار.

استجمعت أنفاسي، ومددت عنقي أبحث عن لافتة تشير إلى مكان استلام الأمتعة.

كل شيء بدا غريبًا… حتى وجهي في زجاج النوافذ.

أنا التي كانت تبكي قبل ساعة، الآن تسير وسط الحشود كأنها تعرف الطريق.

توقفت قليلًا لأتنفّس.

أخرجتُ هاتفي… لا توجد إشعارات، لكن الساعة أظهرت فرق التوقيت:

تايبيه 10:30 صباحًا – هوي آن 9:30 صباحًا.

كأن العالم انزلق بي خطوة إلى الأمام، بينما أنا أحاول اللحاق.

**

بعد دقائق من التردد، وصلت إلى المكان المخصّص للطلاب الجدد.

كانت هناك موظفة شابة ترفع لافتة كتب عليها بخط أنيق:

"طلاب برنامج التبادل - جامعة تايبيه الدولية"

تقدّمت بخطوات حذرة.

"آه، هاي! أنتِ ماي لين؟"

رفعت نظري، كانت فتاة في مثل عمري تقريبًا، شعرها بني مائل للحمرة، وربطته كعكة مرتفعة.

ملامحها فيها شيء من "البيت"، لكن بلهجة مختلفة.

أجبت بتردد: "نعم… أنا ماي لين."

ابتسمت، ومدّت يدها:

"أنا تشاو تشاو، مسؤولة عن استقبالك… نقدر نقول منسقة سكن مؤقتًا."

صافحتها… يدها دافئة، ونظرتها مستقرة.

"تشرفت."

ردّت ضاحكة: "أنا بعد… لا تخافي، ما راح نخطفك، فقط سنأخذك إلى السكن، ونعطيك بطاقة الجامعة، وبعدين… نرميك في وسط الغابة."

رفعت حاجبي بدهشة، فقالت بسرعة:

"أمزح! بس كثير هنا يحسون الجامعة غابة أول أسبوع."

ضحكتُ رغم توتري، ولم أعرف كيف أردّ…

فاكتفيتُ بهز رأسي.

**

خرجنا من بوابة المطار، وكان الهواء مختلفًا تمامًا…

أبرد قليلًا، لكنه نظيف.

تشاو تشاو كانت تقود سيارة صغيرة بيضاء من نوع فان.

ركبتُ بجانبها في المقعد الأمامي، وربطت الحزام.

"أول مرة تيجين لتايوان؟"

أومأت برأسي: "نعم… أول مرة أخرج من فيتنام أساسًا."

"واو، شجاعة بصراحة."

ثم أضافت: "أنا أصلاً وُلدت هنا، بس زرت فيتنام مرتين. الأكل عندكم خرافي."

ابتسمت، فتابعت:

"بس الكاري سبايسي زيادة عن اللزوم."

"هاه؟ بس الكاري مش فيتنامي!"

"صح!؟ شفتيني وش قلت! كنت أقصد نودلز الشارع عندكم، رهيب… بس مرّة حرّاق."

ضحكتُ أخيرًا من قلبي.

كانت تحاول كسر الجليد بأسلوبها… ولم يكن سيئًا.

**

الطريق من المطار إلى الجامعة استغرق قرابة الساعة.

شوارع تايبيه منظمة، خضراء، والمباني طويلة بشكل يذكّرني بأحلامي حين كنت طفلة.

خلال الطريق، سألتني تشاو تشاو:

"وش تخصصك؟"

"أدب إنجليزي… وأنتِ؟"

"أنا خلصت بكالوريوس ترجمة، والحين أشتغل مع قسم العلاقات الدولية."

ثم نظرت إليّ بفضول:

"ليش اخترتِ تايوان؟ مو كثير من الفيتناميين يختارونا."

أجبتُ بصوت هادئ:

"لأن جدتي كانت تذكرها كثير… كانت تقول: ’فيها جبال صافية، وناس خجولين، مثلنا.‘"

ابتسمت تشاو، ولم تعقّب.

**

وصلنا إلى الحرم الجامعي أخيرًا.

كان شاسعًا، والأشجار تملأ الممرات.

دخلنا أحد المباني المخصصة للسكن الجامعي، وصعدنا بالمصعد إلى الطابق الرابع.

"غرفتك 407. مشتركة مع طالبة ثانية، بس للحين ما وصلت."

"من أي بلد؟"

"صينية، بس هادئة جدًا… ما راح تزعجك."

فتحت لي الباب، ووقفت جانبًا:

"ادخلي، وخذي راحتك. عندك نصف يوم ترتاحين. وبعد الغد، تبدأ الورش التعريفية."

نظرت إلى الداخل…

الغرفة بسيطة، سريران، مكتبان، نافذة تطلّ على الأشجار، وخزانة خشبية صغيرة.

"شكرًا لك، تشاو تشاو."

"لا تشكريني… إحنا نحب الطلبة الجدد، يجون وهم ضايعين، وبعد كم أسبوع يصيرون يعرفون الجامعة أحسن منّي."

ضحكتُ، فقالت بنبرة مازحة:

"بس لا تنامين طول اليوم… الشمس تغيب بدري هنا، وراح تحسي الليل طويل."

أومأت بابتسامة.

ثم خرجت، وأغلقت الباب خلفها.

**

خلعت معطفي، ووضعت حقيبتي على السرير.

جلست، ثم نظرت إلى يديّ المرتجفتين…

هذا هو. وصلت.

بدأت رحلتي.

ولا أدري إن كنتُ قد بدأت للتوّ… أم أنني وصلت متأخرة على شيء كنت أبحث عنه طوال عمري.

 

> "أحيانًا، لا نحتاج إلى بداية عظيمة… فقط إلى غرفة هادئة، ونافذة تطلّ على شيء جديد."

نهاية الفصل الثاني.

لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon

تحميل PDF للرواية
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon