NovelToon NovelToon

ظل المكالمة

الهمسة الاولى

لم يكن في حسبانها أن ضوء الهاتف سيكون بداية لرحلة لا تُشبه ما قرأته يوماً في الروايات. هي التي طالما آمنت أن الحب يحتاج عيونًا تلتقي، وصوتًا يهتز في الأذن، وخفقة قلبٍ تُسمع في الصمت. لكنها لم تكن تعلم أن خلف كل شاشة، ظلٌّ لمكالمة واحدة، قد يوقظ داخلنا كل ما حسبناه ميتًا.

لينا… كانت كمن يُشع نورًا بلا جهد. فتاة بعينين تُضحكان من يراها، وحديثها كأنّ الحياة تنسكب منه رشفةً رشفة. تؤمن بأن في كل يوم فرصة جديدة، وأن الحزن لا يليق على من يرتدي الإيمان. تعشق الضحك حتى البكاء، وتبكي حتى تضحك من نفسها. تُحادث الناس بعفويّة تجعلهم يظنون أنهم يعرفونها منذ قرون. صديقتها الوردة، وعدوّتها الوحيدة هي الوحدة… أو لعلها كانت.

أما هو… ليو، فكان وجهًا آخر للعالم. وجهًا بلون الرماد. لا يؤمن بشيء سوى العزلة، ولا يتحدث إلا حين يضطر. في صوته نبرة وجع لا يعرف مصدرها أحد، وفي عينيه حكاية طويلة بلا بداية ولا نهاية. يكره الصباح لأنه يجبره على النهوض، ويكره الليل لأنه يذكّره كم هو وحيد. لا صديق له، لا أحلام، لا قصص يرويها سوى صمته، ولا أحد يقترب منه سوى ظلال أفكاره.

فكيف جمعتهما مكالمة واحدة؟

كانت لينا في إحدى المجموعات الصوتية على تطبيق لم تكن تدخل إليه كثيرًا، مجرد فضول، أو لعله ملل. سمعت صوته هناك. لم يقل شيئًا مميزًا، مجرد جملة عابرة: "الحياة مكان ثقيل." لكنها شعرت بها وكأنها خيط خافت لحنين لا تعرفه. لفتها صوته، ليس لجماله، بل لصمته المختبئ بين كلماته.

أرسلت له رسالة بسيطة:

"لماذا قلت إنها ثقيلة؟"

تردد في الرد كثيرًا. كان يكره الأسئلة، يكره الفضول، يكره التطفّل. لكنه كتب لها أخيرًا:

"لأنها كذلك."

كان الرد باردًا. قاطعًا. غير أنه حمل شيئًا في عمقه. شيء جعلها لا تغادر المحادثة.

قالت له:

"أنا أراها خفيفة… كفقاعة صابون. نركض خلفها وهي تضحك علينا."

ابتسم… نعم، لأول مرة منذ شهور، ارتفع جانب فمه بلا وعي. وكتب:

"غريبة."

"ربما. لكن الغرابة أجمل ما فينا، أليس كذلك؟"

ومن هنا بدأت الحكاية.

كانت تتحدث، فيرسل ردودًا مقتضبة. تضحك، فيكتب لها: "أنتِ غريبة فعلاً". تحكي له عن قهوتها، عن زهرة نبتت في شرفتها، عن كتاب قرأته وجعلها تبكي، عن حلمٍ رأته ولا تعرف تفسيره. وهو؟ لم يكن يشارك كثيرًا، لكنه بدأ ينتظر رسائلها. ينتظر إزعاجها اليومي. ينتظر أن تقول له: "صباح الخير يا ثقيل الظل".

مرت الأيام، وتحول الفضول إلى عادة. ثم تحولت العادة إلى حضور. ثم تحول الحضور إلى… حياة.

كانت تُضحكه، رغماً عنه. كانت تصفه بأقسى الصفات، وتغمره بلطف في الوقت نفسه. كانت تقول له: "أنا مثل الشمس… تحرقك إن اقتربت، وتبهجك إن تأملتني من بعيد."

فيجيبها ساخرًا: "أنا لا أحب الشمس… أفضّل الغيوم."

فترسل له صورة سماء رمادية وتكتب: "سأكون سحابة إذن… فقط لا تطردني."

وكان لا يرد… لكنه لا يمسح الرسالة.

في عالمٍ لا يحتوي إلا على إشعارات ورسائل، كانت لينا شذى مختلفًا. كان وجودها لا يشبه البقية، وكأنها تسير في ضجيج الحياة بخفّة فراشة، تلمس كل قلب دون أن تترك أثرًا مؤلمًا. أما هو، فكان القلب الذي ظنّ أنه لن ينبض يومًا، حتى جاءها ذات مساء وكتب: "أشعر أنني أعيش حين أراكِ تكتبين لي."

جمدت أصابعها فوق لوحة المفاتيح. لم تعرف ماذا ترد. هي التي لطالما تحدثت بلا خوف، وجدت نفسها صامتة أمام اعتراف لم يُكتب كحب، لكنه كان أقرب إليه من أي شيء آخر.

أجابت أخيرًا، بخفة دمها المعتادة: "أخبرتك أني فقاعة سعادة… أخذك في السماء وأتركك تضحك وحدك."

ومن يومها… صار يكتب لها كل صباح.

---

لم يكن ليو معتادًا على أن يُصغي لأحد. كانت الأصوات تمر من حوله كأنها طنين لا يعنيه، لا يتوقف عند كلمة، ولا يحتفظ بجملة. لكن لينا كانت مختلفة. كلماتها لم تكن تُقال فقط، بل كانت تترك صدى، كما لو أن الحروف تبحث عن مكانٍ دافئ داخل صدره البارد.

هو لم يخبرها بذلك. لا زال الصمت عنده مفضّلًا على البوح، ولا زال يجهل إن كان ما يشعر به شيئًا حقيقيًا، أم أنها مجرّد موجة عابرة في محيطه الساكن. لكنه، وعلى غير عادته، بدأ ينتظر. ينتظر إشعارًا صغيرًا في هاتفه يُخبره أنها كتبت. أنه ليس وحده تمامًا.

كان الليل يثقل على قلبه كعادته، لكنه هذه المرة حمل له شيئًا مختلفًا. كان مستلقيًا على سريره، يحدّق في السقف، وفجأة أضاء الهاتف.

رسالة منها:

"هل جربت أن تغمض عينيك وتتخيّل شيئًا جميلاً؟ لا شيئًا واقعيًا… فقط، مشهدًا بسيطًا، كأنك تمشي في حقل قمح، والنسيم يمرّ على وجهك برفق. جرّبها، وستنام."

قرأ الرسالة ثلاث مرات.

لم يكن يُجيد التخيل. في رأسه صور مشوهة، أصوات ضوضاء، ذكريات لا تشبه الحقول ولا النسيم. ومع ذلك، أغلق عينيه. حاول أن يتخيل… لكنه وجد نفسه يتخيل صوتها.

ذلك الصوت الذي لم يسمعه إلا في رسائل صوتية قصيرة، تختلط فيها الضحكة بالكلام، والدفء بالحياة.

تخيلها، لا تمشي في حقل، بل تجلس عند طرف السماء، ترسم له غيمة وتكتب عليها اسمه.

ابتسم.

نعم، ابتسم.

ولأول مرة منذ سنوات، نام وهو لا يشعر بثقل قلبه كما اعتاد.

...

في صباح اليوم التالي، أرسل لها رسالة:

"جربت ما قلتِ… لم أرَ قمحًا، لكني نمت."

فأجابته على الفور، وكأنها تنتظره:

"أليس هذا إنجازًا؟ رجل من زمن البكاء، ينام من تخيّل؟!"

أغضبه الوصف. لكنه لم يردّ. فقط، كتب لها بعدها:

"أخبريني، لماذا أنتِ هنا؟ لماذا تكتبين لي؟"

جاء ردّها بعد ثوانٍ:

"لأنك تكتب لي، حتى وإن لم تنتبه."

أدرك حينها أنها ترى فيه أكثر مما كان يسمح لأحد أن يرى. أنها تقرأ بين سطوره، وتسمع ما لا يقوله.

في أحد الأيام، حين تأخر في الرد، أرسلت له فقط:

"أنا هنا… حتى وإن لم تردّ."

هزّه ذلك. لم يعاتبه أحد على غيابه هكذا من قبل. لم يهتمّ به أحد ليُذكّره بوجوده. اعتاد أن يغيب فلا يشعر به أحد، أن يسقط فلا يسمع سقوطه أحد. لكن لينا… كانت تراه حتى من خلف ألف شاشة.

...

وفي مساء آخر، كتب لها دون تفكير:

"أحيانًا أشعر أنني لا أنتمي لهذا العالم."

فقالت له:

"ولا أنا. ربما نحن من كوكب واحد… كوكب اسمه: الرسائل المتأخرة والضحك المكسور."

ضحك.

ضحك فعلاً.

وكتب لها: "أنا أحب هذا الكوكب، ما دام فيه أحد يُضحكني مثلك."

لم تكن تلك جملة حب. لكنها كانت بداية.

---

في الأيام التي تلت، بدأ الزمن يأخذ شكلاً جديدًا عند ليو. لم تعد الساعات تمضي برتابة كما كانت، بل صارت تنقسم إلى قسمين: وقتٌ تكتب فيه لينا، ووقتٌ ينتظر فيه رسالتها.

لم يكن الحب. لا، هو لا يؤمن بالحب. كان شيئًا أعمق من أن يُسمّى، وأخف من أن يُوزن. كان حضورها… وكفى.

أما هي، فكانت تستشعر تغيّره بصمت. لم تُحاصره بأسئلتها، لم تُرهقه بتحليلاتها. كانت تعرف أن الروح تحتاج إلى وقت لتتشافى، وأن القلوب المرهقة لا تتحمّل دفعات قوية من العاطفة. كانت تمسك يده بلطف دون أن يراها، وتدلّيه بالكلام دون أن يشعر.

أرسل لها ذات يوم رسالة قصيرة:

"ما الذي يجعلك تبتسمين؟"

لم يكن من عادته أن يسأل. لكنها عرفت أن في السؤال بابًا مفتوحًا على قلبه.

فأجابته:

"تفاصيل صغيرة جدًا… كوب قهوة في صباح شتوي، رسالة مفاجئة من صديقة قديمة، ورقة شجرة تسقط ببطء، أو حتى خطأ إملائي في رسالة يُضحكني."

فسألها بعد صمت:

"وأنا؟ أيمكنني أن أكون من تلك التفاصيل؟"

لم تجب فورًا. أغمضت عينيها، وابتسمت كما لو أن الإجابة تحملها السماء فوق لسانها.

ثم كتبت:

"أنتَ… لست تفصيلة، بل القصة التي تضع التفاصيل في أماكنها."

وصمت هو… لم يكتب شيئًا. لكنه شعر لوهلة أن جدران وحدته تشققت.

...

في ليلة أخرى، كتب لها:

"كل من عرفني، غادرني… هل ستفعلين أنتِ أيضًا؟"

كان اعترافًا، لكنه في داخله، كان رجاءً.

أجابته برسالة طويلة، لم تكن مجرد كلمات، بل دفء ينبض:

"أنا لست عابرة يا ليو، أنا شجرة تنبت في القلب. لا أُزهِر بسرعة، لكن إن أزهرت، لا أسقط. وإن رحلتُ، سأترك ظلِّي معك."

قرأها أكثر من مرة. وحين أنهى، شعر أنّ في صدره شيئًا يتحرك. شيء أشبه بنقطة ضوء صغيرة تتسلّل عبر شقّ قديم.

...

مرت الأيام، وبدأت لينا تتسلل إلى ذاكرته اليومية، دون استئذان. كانت حديثه الصامت مع نفسه. حين يرى شيئًا جميلاً، يقول: "لينا كانت ستحبه." وحين يشعر بالضيق، يكتب لها، ولو كلمة واحدة: "أنا هنا." وتجيبه دائمًا بجملة واحدة: "وأنا معك."

هي لم تكن معه فعلًا. لم تلمسه، لم تره، لم تسمع نبضه. لكنه يشعر بها. وكأن روحها تعرف الطريق إلى وجعه.

وفي مساء متعب، أرسل لها:

"متى أصبح صوتك عادةً لا أستغني عنها؟"

فأجابته فورًا:

"منذ أصبحتَ تردّ على رسائلي بصمتٍ أخفّ من الهواء."

ضحك. ضحكة لم يسمعها أحد سواه.

ولأول مرة… كتب لها شيئًا أقرب ما يكون إلى البوح:

"أنتِ تشبهين الشيء الذي كنت أظنه غير موجود."

...

وفي تلك الليلة، حين أطفأ هاتفه، لم يشعر بالوحدة.

بل شعر… أنه ليس وحده أبدًا.

بارت ٢

كانت الليلة ثقيلة. الهواء لا يُستنشَق، والضوء باهتٌ حتى في عتمته.

جلس ليو في زاوية غرفته، بين أربعة جدران، كلُّ واحدٍ منها شاهدٌ على صراعاته، ومرآةٌ لأجزائه المتكسرة.

لم يكتب شيئًا هذا المساء. لم يُجب على رسائل لينا، رغم أنها أرسلت له:

"أشعر بك اليوم... هل أنت بخير؟"

لكنه لم يقرأها.

كان رأسه ممتلئًا، وقلبه يضجُّ بأصوات من الماضي. ذلك الماضي اللعين الذي يلاحقه كظله، يصفعه كلّما حاول الابتسام. الذكريات تنهش أعصابه ككلاب جائعة، وكل ما حوله لا ينقذه من نفسه.

الصرخة التي كتمها طويلًا، خرجت فجأة. صرخة مكسورة لا تشبه صوت رجل، بل صوت شخص سقط من داخله إلى داخله، ولم يجده أحد.

نهض فجأة، بعينين مشتعلتين، قلبه يضرب صدره كطبلٍ في جنازة.

صرخ:

"اصمتوااااا!!"

لكن لا أحد كان يتكلّم. كان يصرخ في وجه الفراغ، في وجه ماضيه، في وجه كلماته العالقة في حلقه.

اقترب من الجدار وضربه بقبضته، مرة… مرتين… ثلاث.

الدم بدأ يخرج من كفّه، لكنه لم يشعر بشيء.

الألم الجسدي، على قسوته، كان أهون من الألم الذي يعتصر داخله.

سقط على الأرض، ضامًّا ركبتيه كطفل، وعيناه تبحثان عن شفقة من السماء.

ثم، بعد لحظة صمت قاتل… أضاء الهاتف.

رسالة من لينا:

"ليو... لا تكن عدو نفسك."

تجمّد.

قرأ الرسالة، ويده المرتجفة تلطّخ الشاشة بدمه.

فكتب لها، للمرة الأولى بصدق عارٍ:

"أنا لست بخير. أنا رجل تائه يضرب الجدران كي لا يضرب قلبه. أنا بقايا غضب لا يعرف أين يفرغ نفسه، أنا..."

توقّف. لم يُكمل. ثم أرسل:

"سامحيني. أنتِ لا تستحقين البقاء في دائرة جنوني."

لكنها ردّت بردٍ لم يتوقّعه:

"وأنا باقية… حتى وإن كنتَ دائرة من الجنون، لأن قلبي يعرفك دون أن يخافك."

...

تسلّلت دمعة من عينه. لم تكن لينا تُنقذه، كانت تُمسكه فقط كي لا يسقط أكثر.

كتب لها:

"هل ما زلتِ تظنين أنني أستحق فرصة؟"

فأجابته:

"لا أظن. أنا متأكدة."

...

وأغمض عينيه تلك الليلة. لا لأن الألم غادر، بل لأن أحدًا… ولأول مرة، كان على الجانب الآخر من هذا الظل.

---

ان الليل قد بدأ ينهزم أمام خيوط الفجر، لكن غرفة ليو ما زالت تغلي بالظلام.

جلس على الأرض، يحدّق في يده الملطخة بالدم. كانت تنبض وكأنها تذكره أن الألم ما زال حيًّا، لكنه لم يكن يبالي.

رفع عينيه ببطء نحو الجدار، حيث تركت قبضته آثارًا دامية… وكأنه ترك توقيعًا لجروحه الداخلية، ختمًا أحمر على صمته الطويل.

رنّ الهاتف…

كان اسمها على الشاشة.

لينا تتصل.

نظر إليه لثوانٍ، تردد… تردّد طويل كأن الزمن قد تجمّد.

ثم ضغط زر القبول، ووضع الهاتف على أذنه بصمت.

لم تتكلم في البداية. كانت تسمع فقط أنفاسه الثقيلة، وكأنها تمر من خلاله لا منه.

ثم بصوتها الهادئ، العميق كالدعاء:

"أنا هنا… لا تقل شيئًا. فقط اسمعني."

أغمض عينيه. لأول مرة يشعر أن أحدًا يُخاطبه دون أن ينتظر ردًّا، دون أن يُحاكمه، دون أن يسأله: لماذا أنت هكذا؟

تابعت:

"أتعلم، كل جدار ضربته الليلة كان يصرخ لك: كفى جلدًا لذاتك.

وأنا... كنت أتمنى لو أنني جدارك، لأتحمّل عنك هذه الضربات."

شهق خفية. لم يكن يعرف أن الصوت وحده قد يُربّت على القلب.

قال بصوت مبحوح:

"أنا مكسور يا لينا... مكسور بطريقة لا تُصلحها الكلمات."

أجابته فورًا، بلا تفكير:

"لكنّي لا أحمل كلمات، أنا أحمل قلبًا."

سكت.

ثم قال:

"لو أنكِ كنتِ هنا… فقط لحظة، لحظة واحدة، ربما كنتُ بكيتُ، ربما كنتُ تركت الجدار، وضممتك."

ردّت بصوت خافت لكنه واضح:

"أنا معك يا ليو… لا تحتاج أن تراني، أنا ظل في صوتك، دفء في أنفاسك، صدى في حزنك."

وبعد لحظة صمت، تابع:

"أخاف أن أؤذيكِ بي."

قالت بثقة لم يعرف لها مثيل:

"وأنا أخاف أن تقتل نفسك وحدك."

...

ظلّ الصمت بينهما طويلاً… لكنّه لم يكن صمتًا عاديًا، كان صمتًا مقدّسًا. كأن الكون كله توقف ليمنحهما لحظة نجاة.

وقبل أن تُغلق المكالمة، همست لينا:

"عدني… أن تضرب قلبي حين تغضب، لا الحائط."

ضحك رغم الدموع.

وقال:

"لكِ عليّ وعد… أن أبدأ بترميم نفسي، فقط لأنك هنا."

...

وفي تلك الليلة، لم يكن ليو مختلفًا، بل كان هشًّا فقط. ولينا… لم تكن منقذته، بل كانت فقط اليد التي أمسكت قلبه حين كاد يسقط على الأرض ويتحطّم.

-

بارت ٣

كان المساء هادئًا حدّ الغرابة. السماء لا تمطر، لكن الهواء مشبعٌ بشيء يشبه الحنين. وحده ليو كان جالسًا على سريره، يحمل الهاتف بين يديه، وكأنه يحمل قلبه.

لينا كانت تكتب له.

"تخيل أنني الآن جالسة قربك. تخيلني فقط."

ابتسم.

أجابها:

"أتخيلكِ كثيرًا… أحيانًا أراكِ تمشين بين أفكاري حافية، تتركين خطواتكِ على كل زاوية في قلبي."

أرسلت له تسجيلًا صوتيًا، بصوت خافت، ناعم، حنون:

"أغلق عينيك… وتخيلني أمسك يدك الآن."

فعل كما قالت.

لأول مرة لم يخجل من مشاعره، لم يُحاول كتمان اندفاعه.

قال:

"لو كنتِ هنا فعلًا، لما تركت يدكِ أبدًا."

لينا كانت تبتسم على الطرف الآخر من المكالمة، تُخبّئ وجهها بكفها وكأن قلبها لا يحتمل هذا الوضوح.

قالت:

"أتعلم يا ليو… أنا لا أحبك فقط لأنك بدأت تبتسم، بل لأنك تحاول أن تُحب الحياة من أجلي."

سكت. كان في قلبه ضجيجٌ لا يُروى، لكنه كتب بهدوء:

"أنا… لا أعرف ما الحب تمامًا. لكن حين أكتب لك، أشعر أنني أتنفس. حين أسمع صوتك، أشعر أن الليل ليس مظلمًا جدًا."

ردّت بعد ثوانٍ:

"إذًا دعنا لا نسمّه حبًا… دعنا نسمّيه: نحن."

...

في اليوم التالي، وفي توقيت لم يكن معتادًا، أرسل لها صورة. لم تكن صورة وجهه، بل كانت صورة ليده المُضمّدة.

كتب أسفلها:

"شفَيتُ بسرعة… ربما لأنكِ كنتِ دوائي."

ردّت عليه بصورة من فنجان قهوتها، وعيناها تنعكسان على طرف الكوب.

"وأنا شربت هذا الصباح وحدي، لكنني كنت أتخيلك أمامي."

هو لم يكن معتادًا على هذا الكم من الحنان. لكنّ دفء لينا كان يتسلل إليه كلّ ليلة، ببطء، كالمطر حين يهبط على أرض عطشى.

ذات مساء، طلبت منه طلبًا غريبًا:

"أغلق المصباح… وافتح النافذة… أريد أن أسمع صوت الليل في غرفتك."

فعل.

ولأول مرة، لم يكن وحده في العتمة. كان معها.

قالت:

"هل تسمعه؟ هذا الليل… هو الشاهد على حبّنا."

ضحك، وقال:

"وأنتِ، يا لينا… صرتِ نافذتي للحياة."

...

ثم، بصوت خجول لا يشبهها:

"أخاف أن أعتادك… وأخسرك."

ردّ بلطف نادر:

"الاعتياد ليس خطأ… الخوف من الحب هو الخطأ."

...

في تلك الليلة، استمر حديثهما حتى غلبهما النعاس. لم يغلقا المكالمة، بل نام كلّ منهما على صوت الآخر.

وكأن الحبّ…

كأن الحبّ بدأ بصوت.

---

استيقظ ليو على صوت تنبيهٍ خافت. فتح عينيه ببطء، ليجد أن المكالمة ما زالت متصلة. تنفس بعمق… لقد نام وصوت لينا يملأ الغرفة، وهو أمر لم يفعله في حياته مع أحد.

أمسك الهاتف، نظر إلى الوقت، كانت الساعة السابعة صباحًا.

بهمس ناعم قال:

"صباح الخير… أيتها الجميلة."

لكن لينا كانت نائمة.

ظلّ يستمع إلى أنفاسها المنتظمة… وكأنها موسيقى هادئة تُعيد ترتيب فوضاه.

بعد دقائق، سمع صوتها تتثاءب:

"صباحك ناعم مثل صوتك، يا ليو."

ضحك. لأول مرة يشعر أن هذا الصباح يستحق أن يبدأ.

قال لها:

"هل تعلمين ما فكرت به وأنا أستمع لأنفاسك طوال الليل؟"

قالت، بخجل:

"ماذا؟"

قال:

"أن أحتفظ بكِ… لا كرسالة، لا كمكالمة، بل كحياة كاملة."

توقف الزمن للحظة.

هي لم ترد فورًا… كانت تبتسم وتعضّ شفتها من الخجل، قلبها يخفق كأنّه يسمع لأول مرة جملة بهذا الصدق.

ثم قالت:

"إذن… دعني أكون بداية حياتك، لا مجرّد فصل فيها."

...

في ذلك اليوم، كانت الأمور مختلفة. ليو أصبح أكثر هدوءًا، وكأن لينا حاكت على روحه غطاءً دافئًا.

أخبرها:

"ذهبتُ للمشي قليلًا اليوم… رأيت طفلة تضحك، فتذكرتك."

سألته:

"أأنا طفلة بنظرك؟"

ردّ:

"بل الطفولة تسرق منكِ ضوءك كل صباح."

...

في الليل، أرسل لها صورة للسماء من نافذته. كان القمر مكتملًا، جميلًا كأنّه يبتسم لهما معًا.

كتب:

"أخبرت القمر عنكِ، فابتسم."

فأرسلت له صورة يدها على صدرها، وكتبت:

"وأنا، أخبرت قلبي عنك… فخفق."

...

في نهاية المكالمة، طلبت منه طلبًا جديدًا:

"أريد أن تُغني لي… لا أغنية، بل اسمُي."

تفاجأ.

قال بخجل:

"أنا لا أغني، صوتي سيء."

أصرت:

"جرب… بصوتك السيء سأحبّ اسمي أكثر."

تنفس بعمق… ثم همس:

"لينا..."

سكَت.

صوته كان مترددًا، لكن فيه دفء يُذيب الجليد.

قالت بعدها:

"كم تمنيت أن أكون أقرب، لأضع رأسي على كتفك بعد هذا الصوت."

ردّ:

"وكم تمنيتُ أن أُخفيكِ داخلي… حتى لا يراكِ أحد."

...

كانا لا يتحدثان كثيرًا عن الحب، لكن كلّ شيء بينهما كان حبًا في صورته الأجمل، الحب الذي لا يحتاج إعلانًا، فقط شعورًا صادقًا كلّما قال أحدهما: "أنا هنا."

لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon

تحميل PDF للرواية
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon