..."أنا جائعة..."...
...قالت الطفلة بصوتٍ خافتٍ يملؤه الكآبة، وهي تُومِئُ برأسها نفيًا، وشَعرُها مُهْمَلٌ كأنّ الجرذان قد عبثت به....
...لقد مرَّ ثلاثةُ أيّامٍ منذ أن ملأت الطفلةُ بطنَها بالماءِ فقط....
...رغم أنّها قد اعتادت الجوع، إلّا أنّ الأمور بدأت تختلط في ناظرَيْها، فلم تَعُد تُفْرِقُ بين الخشب واللحم....
...وبينما خارت قُواها، هَوَتْ إلى الأرضِ وجَلَستْ منهارةً....
..."هل يُمكن أكل هذا...؟"...
...مدّت يدها الصغيرة، التي تُشبه أوراقَ السرخس، واقتلعت بعض الأعشابِ من الأرض، ثمّ ما لبثت أن تنهدت بضعفٍ وألقتها من يدها....
...وخلفها، انتصب القصر المهجورُ كخلفيّةٍ موحشة، يلفّه الصمت والخراب....
...كان يُستَخدَم كمخزنٍ للأشياء غير النافعة، فلا أثرَ فيه لبشر، ولا روحَ تعمره....
...وصاحبةُ هذا القصر المهجور لم تكن سوى طفلةٍ صغيرةٍ، ضئيلةِ الجسد....
...وبالطبع، لم يكن أحدٌ يعلم بوجودها هُنا، ولم يعترف بها أحد....
...لكنّ الطفلة، التي استقرّت في هذا المكان منذ سبعِ سنوات، لم تَعُد ترى في ذلك أمرًا غريبًا....
...كانت مُستلقيَةً وسطَ الأعشابِ التي نَمَتْ بكثافةٍ داخلَ أسوار القصر، دون عنايةٍ أو حُرمة....
...مظهرُها البائس، وشَعرُها المُتلبّد بالتراب والأوراقِ اليابسة، وملابسُها المُمزّقة التي لم تَعُد سوى قطعِ قماشٍ بالية، كلّها تشي بالبؤس....
...وما زاد المشهدَ حُزنًا، أنّ ما كانت ترتديه من ثيابٍ هو بوضوحٍ لباسٌ لِبالغ،...
...لكنّها، بجسدِها النحيلِ الضامر، بدت كأنّها ارتدت كيسًا من الخيش....
...وكان نصفُ الثوبِ يجرُّ خلفها، ملطّخًا بطينِ الأرضِ وبقايا الأعشاب....
...أما قدماها، فكانتا حافيتين، ولم تكن ترتدي أيّ سروالٍ تحت ذلك الثوب الفضفاض....
..."متى سيعود شيون؟"...
...تَذَمَّرتْ، ودفعت شفتَيْها للأمام بتبرُّم، ثمّ تدحرجت فوق الأعشاب مُظهرةً ضيقها....
..."أنا أكرهُ الانتظار..."...
...رغم علمها اليقينيّ أنّه سيعود، إلّا أنّها لم تَطِقْ صبرًا....
..."سأعود بالتأكيد."...
...قالها شيون وهو يَضربُ صدره الصغير مؤكدًا، ووعد بأن يُحضر لها شيئًا من الفاكهة، ولكنّ غيابه قد طال كثيرًا....
...هي لم تكن تطمح لشيءٍ عظيم، فقط لو جاءها بثمرةٍ واحدة، لَكَان ذلك كافيًا لِتحقيقِ أمنية....
...وفجأة، خَرْقَ الصمتِ صوتٌ خافتٌ بين الأعشاب، فانتفضت أذناها الصغيرتان بتنبه....
..."آه، كم هو ثقيل... هل نضعه هناك في الداخل فحسب؟"...
..."أجل، أعتقد أنّ هذا يكفي."...
...فور أن وصل الصوت إلى مسامعها من جهة بوابة القصر، انتفضت الطفلة من الأرض ووقفت على قدميها بمرونةٍ عجيبة،...
...واندفعت تعدو بين الأعشاب الكثيفة التي بلغ طولها رُكبتيها، متجهة نحو مصدر الصوت....
...برشاقةٍ ماهرة، تَسلَّقتْ جذعَ شجرةٍ ضخمةٍ بجوار القصر، وتعلّقت به كما تتعلّق الزيزان بجذوع الأشجار....
...ثمّ بدأت تتسلّق الشجرةَ بخفةٍ، شفتيها مضمومتان، ويديها الصغيرتان ملوّثتان بالتراب، وشَعرُها الكثيف يَحجبُ عينيها حتّى ليصعبُ أن ترى ما أمامها....
...وما إن اقتربت الأصوات، حتّى خبأت جسدَها النحيلَ بين الأغصان الكثيفة، وكانت الغصونُ العريضةُ كافيةً لإخفائها تمامًا....
...ثمّ، دخلت من بوابة القصر ثلاثُ نساءٍ يحملن طاولةً ضخمةً مُزخرفة، ويُكافحن لتوازُنها أثناء المشي....
...'إنّهم أُناسٌ غريبون...!'...
...كانت الطفلة قد اعتادت أن تقتحمَ القصرَ بين الحين والآخر مجموعاتٌ ترتدي ملابس سوداء أو بيضاء، يتركون أشياءهم ويمضون دون إذن....
...عَقَدَت حاجبَيْها بغيظ، وارتسمت على وجهها علاماتُ الحنق....
..."لكن، أليس هذا المكانُ قصرًا؟ كيف تحوّل إلى مخزن؟"...
..."بما أنّه بعيدٌ عن القصرِ الرئيسيّ، تُرِك مُهملًا، وعندما احتاج كبيرُ الخدمِ لمكانٍ يضع فيه الأمتعة الكبيرة، استأذنَ الملكَ فأَذِنَ له."...
..."حسنًا، إن كان مهجورًا، فلا بأس باستخدامه بهذه الطريقة."...
...انهمكت الخادمات في الحديث، غافلاتٍ تمامًا عن وجود الطفلة....
...راقبتهنّ الصغيرةُ في صمت، وقد قبضت على قبضتَيها بقوة....
..."إنّه قصرٌ مستخدم..."...
...تمتمت الطفلةُ بصوتٍ بالكاد يُسمَع، ثمّ أَحنَت رأسَها تنظرُ إلى الأسفل....
...ومن خلال شَعرها المُنْسَدِل، لَمَعَت عيناها كأنّهما شُعلة....
...فلم تكن عيناها كعيون البشر؛ إذ لم يَكُن بريقهما انعكاسًا للنور، بل نورًا متوهّجًا بحدّ ذاته....
...حتّى في وضح النهار، كان لمعانهما أشدّ من عيون الوحوش في الظلام....
...كأنّها جوهرتان تتلألآن تحت أشعة الشمس....
...وحين أمالت رأسَها مجددًا، عاد شَعرها ليُخفي تلك العيون المتقدة....
..."على أيّة حال، نحن مجرد خادماتٍ بسيطات، فلا داعي لأن نقلق بشأن ذلك. لكن، هل سمعتن عن الشائعات الغريبة بشأن هذا المكان؟"...
..."شائعات؟"...
..."نعم، يُقال إنّ هناك شبحًا يظهر هنا! أحيانًا تُسمَع ضحكاتُ طفلٍ، أو أصواتُ حيوانات!"...
...تجمّدت الطفلةُ في مكانها، تَشيحُ وجهها المرتعد عن مصدرِ الصوت،...
...ثمّ، وفي غمرةِ توترها، انكسر الغصنُ الرقيقُ الذي كانت تقبض عليه بقوّة، فانسابت منها شهقةٌ خافتة:...
..."آه..."...
...حدّقتِ الطفلة بشرودٍ في الغصن الرفيع الذي كسرَتهُ بنفسها....
..."آااه، لا تقولي مثل هذا الكلام! لقد أصابني القشعريرة!"...
..."على أية حال، لا أحد يأتي إلى هنا ليلًا."...
..."لعلّه... ليس شبحًا أو شيئًا من هذا القبيل، أليس كذلك؟"...
...صرخت الخادمات الثلاث بصوتٍ مرتفع عندما سمعن الصوت، ثمّ سرعان ما هرعن خارج القصر....
...بعد أن اختفى أثرهنّ تمامًا، وأخذ الوقت يجري بهدوء، بدأت الطفلة المتخفّية بين أغصان الشجرة تتحرّك بحذر، ونزلت رويدًا رويدًا وهي تتحسس المكان من حولها....
..."كيوو؟"...
...شعرت الفتاة بشيءٍ يلمسُ قدمها، فسرعان ما أشرقت ملامحها، وانحنت تنظر إلى الأسفل....
..."شِيُون!"...
...همست باسمٍ عزيزٍ بصوتٍ خافتٍ تغمره الفرحة، ثمّ أسرعت واحتضنت مخلوقًا صغيرًا يُشبه السحلية، كان أسودَ اللون ومليئًا بالتراب....
...عانقتهُ بحنانٍ، فبدأ ذيله الطويل يضربُ على معصمها كما لو كان يعاتبها....
..."آه... يؤلمني."...
..."كيو! كيو!"...
...قفز المخلوق من بين ذراعيها، وتسلّق جسدها بخفةٍ قبل أن يهبط على الأرض....
..."أين الطعام؟"...
...سألت الفتاة وهي تبتسم ابتسامةً مشرقة، بدت عينا الكائن الصغير تلمعان ببريقٍ متباهٍ....
...ثمّ أخذ يحفر بأظافره الحادة في الأرض، متقدّمًا نحو جذعِ شجرةٍ قريبة، قبل أن يقف على قدميه الخلفيتين ويبدأ بضرب ذيله على الأرض وهو يُشير بأظافره نحو أسفل الجذع....
..."ما الذي يوجد هناك؟"...
...جثت الفتاة على ركبتيها، وانحنت حتى لامس أنفها الأرض، تتفقد المكان الذي أشار إليه....
...لكن ما إن رأت ما كان يقصده، حتى اختفى البريق من وجهها، وحلّ محلّهُ خيبةُ أملٍ واضحة....
..."شيون... أتُراني سأكل هذا؟"...
...ظهرت ابتسامة باهتة على وجهها خلف خصلات شعرها الطويلة....
...كان ما أشار إليه الكائنُ ليس سوى فأرٍ، أحشاؤهُ تتدلّى منه، ولم يلفظ أنفاسه بعد....
...تنهدت الطفلة الصغيرة تنهيدةً ثقيلة....
..."هذا لا يكفي لاثنين."...
...ثمّ مالت بجسدها المنهك على جذع الشجرة، وقالت:...
..."كله لك."...
...دفعت بالفأر إليه، ثمّ جلست تلفّ ذراعيها حول ركبتيها....
...ذلك القصر المتروك الذي تحوّل إلى مخزنٍ كان مأواها الوحيد، رغم أنها تسكنه من دون إذنٍ أو اعتراف....
..."شيون، سمعت أنّك عندما تكبر، تصبح ضخمًا جدًّا..."...
...رفعت رأسها نحو السماء....
..."فهلّا حملتني على ظهرك، وأخذتني بعيدًا، حين تكبر؟"...
...لم تكن تريد البقاء محاصرةً بين جدران هذا القصر، كأنّه بئرٌ عظيمة....
...قــررغغغ~...
...دوّى صوتُ جوعٍ مفاجئ من بطنها، فنهضت بتثاقلٍ من مكانها....
...في الجهة الخلفيّة من القصر، وُجدت بركة صغيرة. لم تكن نظيفةً أو معتنى بها، إذ تغطّيها أوراق الشجر والطحالب، لكنّها تمتلئ كلّما هطلت الأمطار، ولم تكن تجفّ....
...إن اعتُبرت مياه البركة طعامًا، فهي الوحيدة التي يمكنها أن تشبع بها....
..."مرحبًا! سمعت؟ الأميرَان سيتبارزان بالسيف!"...
...امتدّت أصوات الجنود من خلف الجدار المتهدم....
...وبمجرّد أن سمعت الطفلة ذلك، اختبأت خلف الشجرة، وتيبّس جسدها بالكامل....
..."مبارزة؟! ما المناسبة؟"...
..."الملك وعدَ بمنح حصانٍ فاخر، ويبدو أنّ كلا الأميرَين أراده، فقرّرا خوض نزالٍ شريف!"...
..."يا للعجب! رؤيتهما معًا أمرٌ نادر! هيا نُسرع لنراهما!"...
...بينما كانت خطاهما تبتعد، أرخَت الفتاة جسدها، ثمّ بدأت تمشي ببطءٍ حافية القدمين نحو شيون....
..."كيوون؟"...
...مال المخلوق الأسود برأسه متسائلًا....
..."...شيون، هل أنهيتَ طعامك؟ هيا نذهب لنشرب الماء."...
...قالت ذلك وهي تحتضنهُ برفق، رغم بقع الدم حول فمه، ثمّ اختفَت خلف القصر، حاملةً أملًا صغيرًا في قلبها. ...
...لم يكن للفتاة اسم....
...وأما أمُّها، فكانت من سلالة نادرة، تحمل في روحها قُدرةً غريبة، تكاد تكون لعنة....
...كانت من قومٍ لا تدبّ الحياة فيهم إلا إن احتفظ أحدهم بذكراهم....
...فإذا ما نُسوا، أو لم يعد على الأرض من يعرفهم، خبت أرواحهم وذبلوا وماتوا كما تموت الأشجار حين تُجتث من الجذور....
...وحين يُنسى أحدهم، أو يرحل آخر من بقي يتذكّره، تبتلعهم الأرض كأنهم لم يكونوا، ويصبح الموت قدرًا لا مفر منه....
...لهذا، وقف قومها على حافة الاندثار....
...وفي ذات يوم، كان الإمبراطور يجتاح أولئك الذين استعبدوا السلالات النادرة، فأنقذ والدتها من قيدها، واصطحبها إلى القصر الإمبراطوري، ووعدها بالحماية....
...كانت امرأة لا تشتهي شيئًا، كل ما أرادته: القليل من الأمان، وشيئًا من السكينة....
...كانت تحب الهدوء وتفرح ببساطة الأشياء....
...فأكرمها الإمبراطور بأن وهبها قصرًا صغيرًا، في أقصى أطراف المدينة الإمبراطورية، حيث لا ضجيج ولا عيون تترصّد....
...استُدعيت أيادي البستانيين لتقليم الأشجار الكثيفة، وأُمر الخدم بتنظيف الحجرات، وجيء بأمهر البنّائين لترميم ما تآكل من الجدران....
...ورغم أن للإمبراطور زوجة رسمية، إلا أن قلبه رقّ لتلك المرأة التي أوشكت أن تُمحى من العالم، امرأة حملت ملامح الانقراض وأوجاع الفارين من سطوة البشر....
...لم يكن زواجه بالإمبراطورة زواج حب، بل زواج تحالف…...
...رابط بينهما كان الثقة، لا الشغف....
...وكانت الإمبراطورة ذات صدر رحب، فلم تمانع أن تُضم تلك الغريبة إلى حريم القصر، طالما أنها لا تطلب سلطة ولا تنافس على قلبٍ لم يكن لها منذ البدء....
...أمّ الفتاة، لم ترغب إلا بالحياة....
...أما قلبها، فقد سكنه حب الرجل الذي أنقذها من النسيان....
...وفي إحدى الليالي، أُنجز الواجب، والتقيا…...
...ومن لقاءٍ واحدٍ، حملت المرأة....
...الإمبراطور لم يوبّخها، لم يغضب، فقد كان له من الأبناء ما يكفي، وكان ولي العهد قد اختير بالفعل....
...وإن جاءت طفلة، فلن تُشعل نارًا في القصر....
...كان إمبراطورًا حكيمًا، يُطفئ الفتن قبل أن تولد....
...لكن… في اليوم الذي كانت الفتاة على وشك أن تولد فيه، سقط نجمٌ من السماء....
...وكان الإمبراطور ينتظر في بيت الولادة، فلما جاءه خبر النجم الساقط، اضطر أن يغادر، يُخمِد الفوضى، ويستردّ الشُعاع الذي انشطر....
...وخلال غيابه… لفظت والدة الطفلة أنفاسها الأخيرة....
...قالت، وعيناها تنطفئان:...
..."سامحيني، صغيرتي… طمعي هذا هو من تركك وحدك..."...
...بقايا حياتها، ما تبقّى من نورها، زرعته في ذاكرة الطفلة....
...ثم، كما لو لم توجد قط… اختفت من ذاكرة العالم....
...كان هذا… ثمن الحب....
...الحب الذي تمنتْه طويلًا، ثم قُتلت به....
...✧✧✧...
...يُقال إنّ من يحمل بقايا نجم ساقط، من نسل الشمس، يرث القوى، ويُصبح امتدادًا ليده على الأرض....
...ومنذ سبع أعوام، سقط نجم آخر في الإمبراطورية....
...ومن ذلك النجم، وُهب اثنان من الأمراء، وأميرة، القوى....
...حتى الإمبراطور نفسه، حين كان وليًا للعهد، رآى نجمًا يهوي....
...أن يسقط النجم على جيلين متتالين، جعل الناس يؤمنون بأن هذا العصر مُبارك، فأصبحت أصوات المديح لا تنقطع، وأصبح أربعة من أبناء الإمبراطور يحملون النور....
...تغنى الشعراء ببطولاتهم، وامتلأت المسارح بحكاياتهم، وكانت قصصهم الأعلى مبيعًا بين الناس....
...إلا واحدًا فقط…...
...ابنة لم يعرفها أحد....
...* * *...
..."اليوم… سأكل أي شيء، فقط حتى لا أموت."...
...قالت الفتاة، تتكور على نفسها، في عينيها جوعٌ وحشي، يشبه نظرة الذئاب....
...باتت ترى الأصفر في كل شيء، لا تدري أهو وهم أم حقيقة....
...تحمّلت أيامًا طويلة على الماء، وقضمت أعشابًا جافة…...
...لكن حدود الاحتمال بدأت تنهار....
..."سأموت إن استمر هذا."...
...في الحديقة شجرة فاكهة، لكن هذا العام… لم تزهر، لم تثمر....
...كان من المعتاد أن تنضج في هذا الوقت، لكن أوراقها جفّت ولم تبُح بزهرة....
...ولم يتبق للفتاة طعام، كل يوم، تسير على حافة الجوع....
...قالت:...
..."زيون، اليوم دوري. سأخرج لأبحث عن طعام."...
..."كيوو؟"...
...أمال السحلية الصغيرة رأسه، كأنه يسألها....
..."هناك، خارج الجدران، الكثير من الأشجار… لا بد أن أجد واحدة تحمل الثمار."...
..."كيوونغ؟"...
...لم يظهر عليه الرفض....
...ذيله سكن في مكانه، فابتسمت الفتاة....
..."أنا خائفة أن أخرج وحدي… تعال معي."...
...همست، وضمته إلى صدرها....
...ثم ركضت حافية، بخفة طفلٍ لم يطأ الأرض، اقتربت من بوابة القصر، وأطلت منها، كأنها تطلّ على عالمٍ لا تعرفه....
...لم تخرج من هذا المكان يومًا....
...كان عالمها محصورًا بجدران هذه القلعة الصغيرة....
...في الخارج… بشرٌ مخيفون....
...وكانت تخشاهم....
...لكن الشجرة لم تُزهر....
...والذي أخبرها أن الفاكهة تأتي في هذا الوقت… لم يعد....
...لن تراه حتى يحلّ الشتاء....
...لقد علمها النطق، المشي، الحروف…...
...وكان صوته، دائمًا، دافئًا، عميقًا، يقول لها:...
..."إن حدث لكِ مكروه، سأظهر… فلا تخافي حتى لو كنتِ وحدك."...
...تذكّرت صوته، تذكّرت دفء غيابه،...
...وأمسكت بقبضتها الصغيرة، وقالت:...
..."هيا… إلى العالم."...
...تنفّست الطفلة الصغيرَة نَفَسًا طويلًا، كأنها تحاول أن تحشو صدرها بشجاعة مستعارة، ثم ضمّت "زيون" إلى صدرها مرّة أخرى بقوّة. ...
...كمن يضمّ آخر من تبقّى له في هذا العالم، قبل أن تطلّ بعينيها من خلف الجدران، تراقب الخارج وكأنها تطلّ على غابة مجهولة....
...لحسن الحظ، كان المكان مهجورًا. لا يمرّ به الناس كثيرًا، ولذلك، لم يكن ثمّة خوف من أن تراها أعين الغرباء....
...لكنها، وهي التي لم تعرف عن هذا العالم إلا القليل، لم تكن تدري....
...بثوبٍ مهترئ جرّته خلفها، ركضت حافية القدمين، تتسلّل خارج القصر، وتخفي جسدها الضئيل خلف جذوع الأشجار، كفأر بريّ يبحث عن مأوى....
...كانت تُنقل نفسها بخفّة بين الأشجار، تتقافز، تتوارى، كما لو أن الأرض نفسها قد تتآمر على وجودها....
...لكن حين أكملت دورتها الصغيرة حول أشجار القصر......
...رفعت بصرها وقالت في خيبةٍ عميقة:...
..."لا... لا ثمار. لا شيء هنا..."...
...أنزلت رأسها وقد خيّم عليها شعور بالحزن القاسي،...
...وبينما كان الأمل يتبدّد من وجهها، أطلّ "زيون" من بين ذراعيها، وأخرج لسانه الطويل، ثم لعق ذقنها بلطف يشبه مواساة الكائنات الصامتة....
...قالت بتمتمة يشوبها الذهول:...
..."أشخاص العالم الخارجي... جشعون كما توقعت. يسرقون كل شيء. حتى الطيور... لن تجد ما تأكله."...
...رفعت رأسها عاليًا حتى اشتدّ عنقها من الانحناء،...
...وهمست وهي تنظر إلى الأشجار:...
..."لو ابتعدت أكثر، سأكون بعيدة جدًا عن القصر..."...
...بدأت قدماها الصغيرتان تخفقان في تردّد، ثم استدارت ببطء، كأنها تحاول الرجوع......
...لكن فجأة —...
..."آااه!"...
...صرخة صغيرة خرجت منها حين داست على شيء حادّ، تراجعت إلى الوراء، تتألّم، وعيناها تدمعان بلا إرادة....
..."ماذا... ما هذا؟"...
...نظرت إلى موضع الألم، لتجد قلادة غريبة الشكل، تلمع في ضوء الشمس كأنها ابتلعت نجومًا....
...كانت ثقيلة، مصنوعة بخشونة، لكن في جوفها كانت حبيبات صغيرة تشبه الشُهب، وحين اطلت الشمس عليها، ارتجف الضوء منها كوميض السماء....
..."كيو!"...
..."زيون!"...
...قفز المخلوق الصغير من حضنها، وأسرع نحو القلادة، أمسكها بين فكيه، وعاد يركض نحوها، ثم تسلّق جسدها بخفة....
...نظرت إليه بدهشة، ثم تناولت القلادة من فمه بحذر....
..."إنها جميلة..."...
...قالتها، وما إن وضعتها بين يديها، حتى انبعث منها ضوء مفاجئ، حادّ، وكأنها انفتحت على عالم آخر....
...فزعت، ورمتها بعيدًا بكلتا يديها، لكن الضوء كان أسرع…...
...اخترق جلدها، وانساب إلى داخلها كأنما كانت تنتظره منذ وُلدت....
...وفي ذات اللحظة، دوّى صوت من بعيد:...
..."أختي! وجدتها! يبدو أن هناك تفاعلًا في هذا المكان!"...
...تجمّدت الطفلة في مكانها، ثم قفزت واقفة وهي تتلفّت برعب....
..."حقًا؟! يا لحظّي!"...
..."لو أنك لم تضيعها منذ البداية، لما حدث هذا!"...
..."وكأنني أردت ذلك! ديريك، تعلّم كيف تخاطب السيدات أولًا!"...
...كان الصوتان لفتى وفتاة، في عمر اليفاعة، يرتديان ملابس فاخرة، ويقتربان بخطى متسرّعة، يتجادلان....
...كانت أصواتهما تتعاظم في أذن الفتاة كلما اقتربا،...
...فاشتدّ الارتباك في قلبها، وضمّت "زيون" بقوة، لكنها لم تستطع الحركة، فهذا أول مرّة ترى فيها بشرًا على هذا القرب......
...ولم تكن مستعدة....
..."هناك أحد ما هناك! انظر! إنها تهرب!"...
..."أليست سارقة؟!"...
..."جيرين! أوقفها!"...
..."أنا لست أحد جنودك، تذكّرِ ذلك دائمًا."...
...قالها الفتى الأشقر بهدوء ساخر، ثم ضغط على الأرض برجله، وانطلق....
...خطا فوق غصن، ثم قفز عاليًا في السماء....
...جسده الخفيف دار في الهواء بدورة كاملة، ثم هبط بخفة، أمام الفتاة مباشرة، يسدّ طريقها كما يسدّ القمر ممر الليل....
...ارتبكت الطفلة، توقّفت فجأة،...
...لكن الألم في قدمها ازداد —...
...فهي ما زالت تعاني من الوخز الناتج عن القلادة....
...فقدت التوازن... وسقطت....
...أغمضت عينيها بقوة، وشدّت جسدها، ترتجف وهي مستلقية على الأرض....
..."لقد تأخّرت..."...
...همست في داخلها....
...كأنها تعرف أن أحدًا لن يُنقذها هذه المرة....
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon