اسمه لم يكن يُكتب في الصحف، بل في ملاحظات سرّية على مكاتب المخابرات. لا صورة له، لا سجلّ مدني، فقط اسم حركي يتردد كتحذير: "الظل".
لم يكن يختبئ... بل يتخفّى في وضح النهار.
في شارع عادي كغيره، كان يمرّ كل خميس، في ذات الوقت، إلى ذات العربة الصغيرة التي تبيع الزهور. هناك كانت تقف "ليلى"، ترتّب الورود كأنها تعتني بشيء أسمى من الزينة.
في المرة الأولى، اشترى وردة حمراء، لم يتكلم. في الثانية، دفع ضعف السعر ولم يأخذ الباقي. في الثالثة، سألته بابتسامة:
"أنت تحب كثيراً... أم تشتري لعدة نساء؟"
أجابها بنظرة باردة:
"أشتري لذكرى واحدة فقط... لم أقتلها."
ضحكت بخفة، ولم تعرف أن تلك العبارة كانت صادقة أكثر مما يجب.
لم يكن يتوقع أن تتسلل ابتسامتها إلى ذاكرته. لم يكن يتوقع أن يحفظ صوتها، أو طريقة رفعها للحاجب حين تتساءل، أو كيف تزيح خصلة الشعر من وجهها وتعلّقها خلف أذنها اليمنى.
هو، الذي خذل الجميع... خذل نفسه حين لم يستطع ألا يعود.
في عالمه، كل شيء يُحسب: الخطر، الوقت، الخسائر.
إلا هذه الفتاة... كانت الفوضى الوحيدة التي لم يُرِد أن يُصلحها.
الظل لا يُراقَب.
هكذا كانوا يقولون عنه في ملفات العمليات. الرجل الذي يعرف متى يُغلق عينيه كي لا يظهر في كاميرا، ومتى يُبطئ خطواته كي لا يُسمع.
لكنّه، ومنذ أسابيع، صار هو من يُراقَب... من قبل ليلى.
كانت تلاحظ كيف لا يستخدم هاتفًا، كيف لا ينظر في عيون الناس، كيف يختار الجلوس في الزاوية المقابلة للشارع، حيث يمكنه رؤية كل شيء.
قالت له يومًا:
"أنت مشغول بالنظر أكثر من العيش."
فأجاب دون أن يبتسم:
"أحيانًا النظر هو ما يُبقينا أحياء."
ليلى لم تكن غبية. بدأت تشعر بأن هذا الرجل ليس كما يبدو. ملامحه حادّة، مشيته مدروسة، ونظراته لا تتوه. لكنها لم تخف.
في شيءٍ ما فيه... يشبه الخوف الذي نرتاح له، كأن تضع يدك في النار وتكتشف أنها تدفئك دون أن تحرق.
وفي أحد الليالي، حين كانت تغلق عربتها، جاءها وجه مألوف، لكن ليس محبوبًا.
رجل ضخم، بوشمٍ على رقبته، اعترض طريقها، وطلب منها مال الحماية.
رفضت.
صفعها.
في اللحظة التالية، لم يعد الرجل واقفًا.
لم ترَ من ضربه. لم تسمع خطوات.
لكنها رأت من أعلى السطح، زهرة حمراء تسقط ببطء، كأنها توقيع قاتل في مسرح جريمة صامتة.
رفعت نظرها، ولم يكن هناك أحد.
فقط ظل، يتحرك بين النجوم، ويختفي كما جاء.
ليلى لم تنم تلك الليلة.
الصفعة كانت عابرة، لكنها شعرت أن ما حدث بعدها لم يكن عاديًا. رجل ضخم سقط دون صوت. زهرة سقطت من السماء. لا شهود، لا دليل... سوى شعورٍ غريب بأن أحدهم يراقبها... ليحميها.
في الصباح، وجدت وردة بيضاء عند عربة الزهور. كانت جديدة، ولامعة الندى، وعليها بطاقة صغيرة كُتب عليها:
"أعتذر... على أنهم لم يفهموا أنكِ لا تُشترى."
بدأت تشعر بالخوف، لكنّه لم يكن خوفًا من رجل مجهول، بل من شيء آخر... من أن تعتاد وجوده.
في اليوم التالي، عاد هو، بنفس البدلة السوداء، نفس النظرة الهادئة.
لكن عينيه، هذه المرة، كان فيهما شيء غريب... ارتباك؟ قلق؟ ربما شيء يشبه الضعف.
اقتربت منه وسألته:
"هل كنت هناك البارحة؟"
لم يُجب.
قالت: "من أنت؟"
أخفض عينيه للحظة، ثم همس:
"أنا الذي لا يجب أن تريه، ولا يجب أن يراك."
صمتَ لحظة طويلة، ثم قال:
"لكنني أراك... كل يوم. أكثر من اللازم."
ليلى شعرت بشيء ينهار بداخله، كأنه رجل اعتاد أن يكون جبلًا، واكتشف فجأة أنه قابل للسقوط.
قالت له بهدوء:
"حتى الظلال تحتاج إلى ضوء."
ابتسم للمرة الأولى. كانت ابتسامة مشروخة، كأنها خرجت من تحت ركام أعوام من البرودة.
وقبل أن يغادر، همس دون أن ينظر إليها:
"اسمي ليس مهمًا. لكنكِ... الاسم الوحيد الذي لم أنسه منذ عرفت النسيان."
في الليلة التي تلت ذلك اللقاء، استيقظت ليلى على صوت انفجار بعيد. لم يكن في منطقتها، لكنها شعرت به في قلبها. شيء ما أخبرها أن هذا الانفجار ليس مجرد حادث... بل رسالة.
في اليوم التالي، لم يأتِ.
مرّ يوم، اثنان، أسبوع كامل. الزهرة الحمراء لم تظهر، ودفتر ملاحظاتها ظل فارغًا.
ثم، عند منتصف الليل، طرقت باب شقتها طرقة واحدة، هادئة... دقيقة... كما في الأفلام.
فتحت بحذر. لا أحد.
إلا صندوق صغير، أسود.
في داخله، مسدس. غير محشو.
وبطاقة. كُتب عليها:
"إذا طرق بابك أحدهم وسأل عني، قولي أنكِ لا تعرفين رقم ١٧."
ما هو رقم ١٧؟ ولماذا شعرت وكأنها تمسك قطعة من قلبه داخل هذا الصندوق؟
في اليوم الثالث، ظهر رجلان ببدلات رمادية ونظرات ميتة.
"نبحث عن شخص يرتاد هذا المكان كثيرًا. قد يستخدم أسماء متعددة. هل تعرفين أحدًا يُدعى نزار؟ يوسف؟ أو رقم ١٧؟"
تجمدت ليلى.
تذكرت كل لحظة معه. كلماته التي كان يُخفيها داخل الصمت.
لكنها ردّت، بنبرة ثابتة:
"لا أعرف أحدًا... ولا أبيع أرقامًا."
غادرا دون كلمة.
تنهّدت. لكن قبل أن تغلق الباب، سمعت صوتًا مألوفًا من خلف الجدار، صوتًا لم تسمعه إلا مرتين:
"شكراً... لأنك اخترتيني."
استدارت، لم تره. لكن قلبها خفق كما لو عانق ظلًا.
في شقة مظلمة لا تُطل على شيء، جلس "الظل" — أو كما كانوا يسمّونه في الوثائق السرية: الملف ١٧.
كان يشاهد كاميرات مراقبة مرتبطة بمكان واحد فقط: عربة الزهور.
لم يكن يراقبها بدافع الهوس... بل بدافع النجاة.
فكل مرة تظهر فيها، يتأكد أنه ما زال إنسانًا.
لكن الأمور لم تعد كما كانت.
رقم ١٧ هو اسم ملفه الأخير، والأخطر.
كان يحتوي على قائمة بأسماء من خانوه... وأسماء من عرفوا أكثر مما ينبغي.
وكان اسم ليلى قد كُتب فيه — فقط لأنها أحبّته.
كان عليه أن يختار:
أن يحذف اسمها... أو يختفي إلى الأبد.
في اليوم التالي، وجدت ليلى عند عربتها ظرفًا صغيرًا.
في داخله صورة قديمة لرجل شاب، مغطى بالدماء، يجثو على ركبتيه في أرض حرب، عيونه مغمضة وكأنه يدعو، وسطر واحد أسفل الصورة:
"أنا لم أبدأ الحرب... لكني أنهيتها."
في المساء، وجدت رسالة على بابها، مكتوبة بخط يده:
"إذا لم أعد، فتذكّري: كنتُ رجلًا سيئًا... حتى اخترتِ أنتِ أن تريني جيدًا. وهذا أكثر من أيّ غفران."
مرت أيام. ثم أسابيع.
لم يظهر. لا وردة. لا ظل.
ظنّت أنها فقدته. وأن الحب الذي نشأ في الهوامش، مات قبل أن يُكتب.
لكنها كانت مخطئة.
كان الجو خريفيًا، والريح تحمل معها روائح غريبة: غبار، دخان، وشيء يشبه الوداع.
ليلى جلست على مقعدها قرب عربة الزهور، كعادتها، لكن قلبها لم يكن هناك.
هو لم يعد.
ولم يعد أحد يستطيع أن يملأ الفراغ الذي تركه خلفه… حتى هي.
وفي ظهيرة لا تشبه أي ظهيرة قبلها، توقّف رجل عند عربتها. رجل عادي، ببنطال رمادي، وسترة جلدية، يحمل كتابًا بين يديه.
قال دون أن يرفع رأسه:
"هل ما زالت الزهور تتذكّر من حملها؟"
نظرت إليه جيدًا.
الصوت... تعرفه.
العين... تعرفها أكثر من نفسها.
"أنت..."
قالتها ويداها ترتجفان.
هو كان مختلفًا. حلق لحيته. غيّر ملامحه. كأنّه خلق حياة جديدة.
ابتسم بلطف حزين:
"نعم. لم أمت. فقط مسحتُ ماضيّ بما يكفي كي أستحقك."
سألته بصوت شبه مكسور:
"وهل يمكن لماضٍ مثل ماضيك أن يُمحى؟"
أجابها وهو يمدّ يده نحو وردة حمراء:
"لا. لكنه يمكن أن يُعاد كتابته… إن كتبتِه معي."
مدت يدها، وأعطته الوردة. ثم قالت بابتسامة:
"لكن هذه المرة… لا تتركني في الهامش."
ردّ بنبرة هادئة:
"أنتِ... الصفحة الأولى."
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon