...الـفـصـل الآول...
...•••...
...كان يوماً عادياً،...
...يوماً لا يختلف في ظاهره عن سائر الأيام، حين أشرقت الشمس بهدوء، كما اعتادت أن تفعل كل صباح....
...وكانت نسمات الفجر تعجُّ بزقزقة عصافير «اليابان وايت آي» خارج نافذتي الصغيرة، وكأنّها تغني لحناً للحياة التي بالكاد تتحرك داخلي....
...استعصى جسدي على النهوض، كأن ثقلاً خفيّاً كان يشدني إلى الفراش....
...بخطوات متثاقلة، فتحتُ جهاز طهي الأرز، لكنّني أغلقتها على الفور، إذ لم أجد في نفسي رغبةً بالأكل....
...كان السكون الذي يملأ أرجاء المنزل خانقاً، يلتفّ حولي كغلالة من همسٍ ثقيل....
...يومٌ رتيبٌ آخر......
...يومٌ مرهق تتآكل فيه الروح....
...لبرهةٍ خطرت لي فكرة البقاء حبيسة الجدران، لكنّ خشية الغرق في مللٍ قاتل جعلتني أرفضها وأهزّ رأسي برفض....
...قررتُ أن ألجأ إلى الدفء، أن أغسل عن جسدي هذا الخمول الكئيب، فأعددتُ حماماً دافئاً....
...رغم حرارة الصيف ولهيبه، وكنتُ أكره إهدار الوقود اللازم لتسخين الماء، إلا أنّني لم أحتمل الاستحمام بالماء البارد....
...مع تقدّم العمر، بات النوم سراباً ألاحقه ليلاً دون جدوى....
...أتقلّب تحت وطأة العرق والسكون، لأستيقظ بجسدٍ مبلل، أثقلته الليالي الخالية....
...رغم حرصي على النظافة، باتت روائح غريبة تتسلل من جسدي بسرعةٍ أذهلتني....
...كانت صدمة لا توصف أن أدرك أنّ رائحتي لم تعد تحمل عبق البحر الجنوبي الذي نشأتُ عليه....
...وهكذا، كما لو كنت أؤدي طقساً قديماً أو طهارةً خفية، أخذتُ أغتسل بعناية وحرصٍ شديد....
...تأملتُ جسدي العاري، هذا الجسد الذي كان يوماً ما نحيفاً مرناً، وتحول مع الزمن إلى شيء ثقيل متهالك، ككيس رملي بالٍ....
...ومع ذلك، كان هذا الجسد جزءاً من رحلتي، حملني سبعين عاماً، وعاش معي كل نبضٍ وكل تنهيدة....
...سـبـعـون عـامـاً......
...يا له من رقمٍ عجيب!...
...كيف انقضت الأيام بهذه السرعة؟...
...لقد مضت السنوات التي كنت أظنّها بطيئة مُنهكة، حتى لم تترك خلفها أثراً، ولا ظلاً أستدلّ به عليها....
...خرجتُ من الحمّام، جففتُ جسدي، وارتديتُ ملابسي القديمة التي التصقت بي كرفيق عمرٍ صامت....
...غسلت ملابسي مئات المرات، لكنها كانت لا تزال تحتفظ برائحتي، تلتصق بجسدي كأنها جلد ثانٍ....
...متى كانت آخر مرة اشتريت فيها ملابس جديدة؟...
...أو هل امتلكتُ يوماً ملابس جديدة؟...
...لمحتُ طرف الصندوق الخشبي فوق الخزانة، سرعان ما أشحتُ ببصري عنه، كأنني أخشى ما يحويه من ذكريات....
...وقفتُ أمام المرآة، أحدق في وجهي الذي أعرفه جيداً، ومع ذلك بدا غريباً عني....
...سرّحتُ شعري الذي أصبح أبيض كالثلج. عندها رنّ الهاتف....
...آه، مـکـالـمـة!...
...كم مضى من الوقت منذ آخر مرة اتصل بي أحدهم؟...
...لم أستطع تذكّر مكان هاتفي، وفجأةً غمرتني موجةٌ من الارتباك، بحثتُ بعيني المتعبة في أنحاء الغرفة، حتى وقعت نظرتي على حقيبتي القديمة....
...أسرعتُ إليها، فتشتُ بداخلها، حتى عثرتُ على الهاتف....
...هل يمكن أن تكون ابنتي؟...
...لكن الاسم الذي ظهر على الشاشة لم يكن اسمها،...
...بل كان اسم حفيدتي....
...••••...
...الـفـصـل الـثـانـی...
...---...
..."جدتي... لقد التقيتُ بمن أريد أن أتزوجه."...
..."حقًّا؟"...
...ارتفع صوتي باندهاشٍ، وانفرج صدري كزهرةٍ ترتوي بغيثٍ مفاجئ....
...كانت السعادة التي غمرتني غريبةً عن تلك البساطة التي عرفتها في صغري؛ كانت خليطًا آسرًا من الزهو، والحنوّ، والحزن العميق الذي لا تسمع أنينه إلا روحك....
...آهٍ، لِمَ تتعقد المشاعر كلما مرّ بنا قطار الزمن؟...
...في طفولتنا، كانت السعادة نقيّة كجدولٍ جارٍ، أما الآن، فهي نهرٌ تتشابك فيه ينابيع الحنين والندم والفخر....
...ومع ذلك، كانت سعادتي صادقةً لا مراء فيها....
...وكيف لا، وحبيبتي يوجين، زهرة قلبي، تهمس لي ببدايةٍ جديدة لحياتها؟...
..."يا لها من بشارة! ومن يكون هذا الذي سكن فؤادكِ، صغيرتي؟"...
...ضحكت حفيدتي بصوتٍ متوهج وقالت:...
..."شخصٌ رائع، جدتي... رائعٌ بحق. ونحن الآن في طريقنا إليكِ. أردناها مفاجأة، لكن خشيتُ عليكِ من وقعها، فآثرت أن أنبئكِ. أنتِ في المنزل، أليس كذلك؟"...
..."بلى، بلى! أين أنتما الآن؟"...
...أية سعادةٍ أعظم من قدوم حفيدتي مع رفيق دربها؟...
...كيف كبرتِ يا يوجين حتى صرتِ عروسًا تُزفُّ إلى حبيبها؟...
...غير أن صوتًا قديما ارتدّ في أذني كسهمٍ مسموم:...
...> "لن أعود إلى هنا ثانية... لا أريد أن أراكِ مجددًا، أمي."...
...كانت تلك ابنتي، جي-يون، وقد حفرت كلماتها أخاديد داميةً في قلبي....
...اسمها، الذي لم أقوَ على نطقه، ظل شوكةً مغروسة في أعماقي لا تذبل....
...يوجين......
...هــل كـانـت أمـكِ قـادمـة مـعـكِ؟...
..."سنصل عند الظهيرة، جدتي. هيا، لنخرج معًا ونتناول غداءً شهيًّا. ولا تجرئي على الأكل قبلنا!"...
...ضحكتُ والحنين يثقل صوتي: "ومن أين لي أن أذهب؟ ستعدّ جدتكِ لكما مائدةً تليق بمقامكما."...
..."لا يا جدتي! لا تتعبي نفسكِ. فرحتكِ وحدها تكفينا."...
...فـرحـتـي......
...ألم يكن جديرًا بي أن أفرح؟...
...ابتسمتُ وكأنها أمامي، تحدق في وجهي بضياء عينيها، بينما الدمع يسيل في قلبي دون أن يراه أحد....
..."كفى حديثًا، عودا سريعًا. سأُعدّ طعامًا بسيطًا هنا، في المنزل."...
...ضحكت يوجين ضحكتها العذبة، رنينها كجرسٍ بلله المطر....
...يا لبهاء قدوم الزائرين!...
...قلبي، الذي ألف الصمت الطويل، نبض فجأة كحديقةٍ أزهرت بعد سبات....
...جسدي المتعب استعاد خفةً لم يعرفها منذ دهر....
...ماذا أفعل؟ بأي شيء أبدأ؟...
...هرولتُ عبر الغرفة جيئةً وذهابًا....
...سأنتعل حذائي الجديد، ذلك الذي ما مسّه غبار....
...ثم، كيف يكون الفتى الذي اختارته صغيرتي؟...
...يوجين... كانت دومًا زهرةً بين أشواك العالم، ذكيةً، ناعمة القلب....
...ذهب إلى الولايات المتحدة، درست في أعرق الجامعات، وجدت طريقها إلى واحدةٍ من كبريات دور الأزياء، مثلما كانت أمها ذات يوم مبدعةً بين أقرانها....
...طافت يوجين بين البلدان، وارتقت إلى مرتبة قائدة فريق، واحترمها الجميع لطموحها وإبداعها....
...ولم يكن الزواج يعني لها الكثير وسط طموحاتها، مثلها مثل كثيرين من جيلها، الذين باتوا يعدّون الزواج قيدًا لا سبيلاً إلى السعادة....
...كنا كثيرًا ما نهمس في متجرنا الصغير: "لا تفتحوا باب الحديث عن الزواج للشباب، دعوهم يأتون به حين يشاؤون."...
...كنت أقول في نفسي، مزهوةً بتجربتي:...
...'لو خُيّرت ثانيةً، لما وطئتُ درب الزواج.'...
...من ذا الذي يرغب في قيودٍ، وعالمٌ كامل ينتظر أن يُكتشف؟...
...تعمل، تسافر، تحب كما يحلو لكَ، بلا قيود ولا حدود....
...لكن إن كانت يوجين قد وجدت حبّها، وسعادتها فيه، فلن أكون إلا أول المباركين....
...سرحتُ بعيدًا في أحلامي، فلم أرَ الحجر الذي اعترض طريقي، فتعثرت، وكدت أهوي أرضًا....
...امتدت يدي تستنجد بالجدار، وتألّم معصمي من أثر السقوط....
...آهٍ، كم يخذلنا الجسد حين تسرح بنا الروح بعيدًا......
...نسيم يوليو الدافئ لامس عنقي، والعرق بدأ يخط سطوره على ملابسي....
...لا بد أن أبدو أنيقةً، مشرقةً، أمام زوج حفيدتي المنتظر....
...رفعت رأسي بقوة، وقلت همسًا: "سأنجح."...
...أمامي، امتد المشهد المعتاد، وكأنه لوحةٌ قديمةٌ لا تبهت ألوانها:...
...جدرانٌ يتدلّى منها عبق أزهار البوق البرتقالية، وأعمدة كهرباءٍ مائلة تحضن البحر الأزرق الخفي بين ذراعيها....
...ذلك البحر... الذي عشتُ على ضفافه عمرًا....
..."أمــي!"...
...سمعت الصوت ينبثق من أعماق الذاكرة....
...تخيلت طفلةً تركض نحوي من بين الأمواج، شعرها قصيرٌ يلامس جبهتها، عيناها سوداوان كالتوت الناضج، وحقيبتها الحمراء تتراقص فوق كتفيها الصغيرتين....
...ترى، هل احتضنتُ تلك الطفلة يومًا؟...
...هل شددتها إلى صدري كما ينبغي؟...
...هززت رأسي، أفرّ من طيفٍ يطاردني منذ سنين....
...لكن الألم كان أسبق من أن ينسى....
...كطعناتٍ خفية، كان الندم يثخن قلبي، كلما حاولت النسيان....
...لماذا لا يذهب الألم مهما مرت السنين؟...
...هززت رأسي برفض، وقلت لنفسي:...
..."ما فات لا يُبدَّل. الأخطاء، الندم، الخيبات... تظل كالوشم في القلب."...
...ليس أمامنا إلا أن نسير قُدمًا....
...خطوةً... فخطوة......
...أليس هذا كل ما يُمكن للإنسان أن يفعله حين يطوي العمر صفحةً تلو صفحة؟...
...بينما كنتُ أفتح باب منزل "الهاينيو"، استقبلتني "يوجوداك" بابتسامة دافئة، تخرج من المطبخ برشاقة، وكأنها قطعة من الضوء الذي لا ينقطع....
...كانت الشمس تتسلل عبر النوافذ، تتراقص على أرضية المنزل كما لو كانت تحاكي البحر في هدوءه وعنفوانه. ...
...الغطّاسات قد عدن لتوهن من غطستهن الصباحية، وكل واحدة منهن تحمل في قلبها بضعًا من أسرار البحر وأحلامه. كان الجو مشبعًا برائحة البحر، وجماله كان يطفو في كل زاوية من زوايا هذا المكان....
..."كيف حالكِ؟ سمعتُ أنكِ كنتِ مريضة بالزكام الأسبوع الماضي..."...
..."أنا بخير."...
...أجبتُ بسرعة، مفضلة أن أترك قلقها يذوب في الهواء. كانت لحظة أخرى، لحظة لا تحتمل إلا أن تظل ثابتة، لا تتغير. ...
...مضيتُ في طريقي إلى حوض المياه، حيث التقطت جدرانه الزجاجية الضوء وتلألأت بلون البحر الأزرق الداكن، مستحضرةً مشاهد لا تنتهي من أعماق المحيط. ...
...هناك، كانت الأكواز الكبيرة من الأبازون والمحار تنتظرني، كما لو كانت في حالة سكون يليق بذكرى البحر الذي لا ينسى....
...دون أن أطلب المساعدة، وضعت يدي في الحوض، وهي تمتد ببطء، لا لشيء سوى لأنني كنت قد اعتدت على أنني جزء من هذه المخلوقات البحرية، كما كانت هي جزءًا مني....
...انتقيت أفضل أنواع الأبازون، ثم سحبت أخطبوطًا ذا مجسات مترفة، تتحرك ببطء في المياه المالحة. كانت تلك المكونات التي سأعدّها لـ "يوجين" وخطيبها، اللذين من المتوقع أن يطلا عليّ قريبًا....
..."لماذا؟ هل تخططين لتحضير شيء مميز؟"...
..."يوجين ستأتي."...
...قلت ذلك بينما كنت أضع المأكولات البحرية في حوض مليء بالمياه المالحة، محاطة بأصوات الماء المتناغمة التي تسربت إلى قلبي كما لو كانت أغنية قديمة. ...
...كانت جدران الزمن قد اتسعت لحظة واحدة، فلم أعد أسمع إلا همسات البحر في داخلي....
..."يوجين؟ أوه، حفيدتكِ قادمة؟"...
...كنت سأجيب بأنها لن تأتي بمفردها، بل مع الرجل الذي تعتزم الزواج به، لكنني أغمضت عيني للحظة، وفضلت أن تظل هذه الحقيقة مخبأة في قلبي، تمامًا كما يخفي البحر أسراره في الأعماق....
...ليس كل شيء يُقال في لحظة، وليس كل خبر يستحق أن يخرج من اللسان....
...فكما يُقال: "لا يكتمل الزواج حتى يعبر العروسان باب الكنيسة ويوقعان عقد الزواج". حتى ذلك الحين، كان الحذر هو سيد الموقف....
..."وصلت دفعة جديدة من الحبار الممتاز على قارب الصباح. يجب أن تشوي بعضًا منه – إنه في موسمه وطعمه سيكون رائعًا."...
..."حقًا؟ ماذا عن الساشيمي؟"...
..."لدينا سمك القاروص وسمك "سيبريم الأحمر"....
...وهناك الكثير من سمك الصخر أيضًا."...
...كان الكلام يتناثر في المكان كما لو كان البحر يتحدث من خلالنا، ومع كل كلمة، كنت أرى المكونات التي ستتحول إلى أطباق تبهر الحواس....
...توجهت إلى خزانة أخرى حيث كانت الأسماك الطازجة محفوظة بعناية، وعيني تتسابق مع الزمن. ...
...كانت الأطباق تنتظر أن تُصنع، كما لو أن البحر قد وضع بين يدي تلك المكونات التي تمثل سر الحياة. ...
...مع مثل هذه المأكولات البحرية الطازجة، كان يكفي أن أضعها على النار قليلاً ليخرج طعم البحر بكل عظمته....
...أنا "هاينيو"، تلك التي عاشرت البحر في كل فصوله. ...
...منذ كنت في الخامسة عشرة من عمري وحتى العام الماضي، كان البحر عالمي، كان لي الصديق والأب، والمعلم الذي لا يُخطئ. ...
...كانت أمواجه، بكل تقلباتها، تعرفني كما أعرفها. في بعض الأحيان كان البحر يهدأ ليشبه بحيرة من الزمرد، وفي أحيان أخرى كان يتلاطم بأمواجٍ...
...هائلة، لكنني كنت أظل هناك، أغوص وأغوص، أتفاعل مع أعماقه....
...الوقت الذي قضيته تحت سطح الماء كان قدراً آخر، حيث كنت ألتقط المحار والصدفيات، والأخطبوطات التي تتسرب بين الصخور كالأرواح. ...
...تحت الماء، كنت أعيش في صمتٍ ثقيل، أتنفس ببطء، وأشعر وكأنني جزء من البحر ذاته. ...
...كان كل غطسة تحديًا، وفي كل صعود إلى السطح، كنت أشعر أنني أعود إلى الحياة، كأن البحر نفسه يُعيدني إليه من جديد....
...اليوم، وأنا بعيدة عن البحر، أصبحت تلك اللحظات الذكريات الأكثر جمالًا في حياتي. بيدي المتجعدتين، بدأت أفصل لحم المحار عن قوقعته ببراعة. ...
...كان الأخطبوط قد نُقع بالملح في الماء المغلي، بينما الحبار كان يضج على الشواية، مبدعًا رائحته التي ملأت الأجواء بطعم البحر. ...
...ساعدت "يوجوداك" في تحضير الساشيمي، وقطعت أحشاء المحار لتحضير العصيدة. ...
...وكلما رفعت غطاء القدر، كان بخار كثيف يتصاعد من داخله، محملاً برائحة البحر المالحة، كأنني أستشعره ينبض من أعماق روحي....
...في وقتٍ قصير، تحولت الطاولة إلى مائدة طعام غنية بالألوان والنكهات. ...
...أضفت إليها أطباقًا من الأنشوجة المخللة، وسلطة الأعشاب البحرية، وطحالب الهيجيكي، حتى امتلأت الطاولة بالبهجة. ...
...نظرت إلى الساعة المعلقة على الجدار، وتأكدت أنني كنت على الموعد تمامًا. لكنني تساءلت في نفسي: كم مر من الزمن؟ هل تأخروا؟ أم أنهم علقوا في الزحام؟...
...رفعت رأسي، ونظرت من خلال الأبواب الزجاجية الزاهية نحو الميناء الممتد أمامي....
...كانت المياه الزرقاء، التي تدفقت إلى الداخل كالسائل الذي يسحب بسرعة إلى مجراه، تتلألأ تحت أشعة الشمس كما لو كانت مرآة تومض في وجه السماء. ...
...أما القوارب، التي ابتعدت عن قسوة البحر المفتوح، فقد ربطت على الأرصفة، وكأنها جراء مطيعة في انتظار تعليمات أصحابها....
...أن تجد لك مكانًا تعود إليه هو حقًا نعمة، من نوع السكينة التي تملأ القلب. ...
...ربما يكون هذا المكان هو الذي وُلدت فيه، نشأت فيه، وكبرت بين أرجائه. ربما كانت تلك السعادة التي لم أكن أدركها بالكامل، لكنني كنت أدرك تمامًا أنني هنا، في هذا المكان، ليس فقط لأني أحب البحر، بل لأنني جزءٌ من هذا كله....
...لقد عاشت "يوجين" معي فترة من الزمن، عندما كانت طفلة صغيرة. ربما كان ذلك السبب الذي جعل بيننا رابطًا قويًا، لا يُفكك بسهولة. ...
...كانت الطفلة التي تملأ البيت بالصخب والضحك، حتى حينما كانت "جي-يون" مضطرة للابتعاد للعمل في بوسان....
...هل مرّت ست اعوام؟ أم سبع؟...
..."أمي، هل تكرهينني؟"...
...كان هذا السؤال الحارق الذي ألقته "جي-يون" في اللحظة التي كانت فيها ممسكة بيد "يوجين" لتودعني، خارج أبواب منزل "الهاينيو" المطلة على الميناء. كان صدى الصوت مريرًا، مليئًا بالحزن، كخيوط متشابكة من الأسى التي تلتف حول قلبها....
..."تكرهين أنني وُلدت، أليس كذلك؟ دائمًا شعرتِ بذلك... اعترفي بذلك."...
...كانت كلماتها أكثر من مجرد اتهام؛ كانت صرخات تلتقي مع جروح قديمة. ماذا كان ردّي حينها؟...
...ماذا قلتُ لها في تلك اللحظة؟ هل قلتُ حقًا: "بالطبع لا، كيف يمكنكِ أن تفكري في شيء كهذا؟"...
...هل قلتُ ذلك بالفعل؟ هل كانت تلك هي الكلمات التي خرجت من فمي؟...
..."توقفي عن الكذب."...
...كان هذا ما قالته بمرارة، وهي تحمل في عينيها غضبًا وجروحًا قديمة....
...ماذا قلتُ لأهدئ غضبها؟ كيف سكنتُ هذا البركان المتفجر من الألم؟ ...
..."أستطيع أن أرى ذلك في عينيك، لذا توقفي عن الكذب!" ...
...كانت كلماتها تعصف بالذكريات، وكأنها طوفان يغرقني في بحره....
...صورة "جي-يون" وهي تبتعد عني، غاضبة، وعيون "يوجين" البريئة التي كانت تتبعها، لا تزال حية في ذاكرتي كلوحة حزينة لم تُكتمل....
...مثل سفينة تنكسر ربطاتها وتغادر الميناء، خرجت "جي-يون" بعيدًا عني، تاركة وراءها أثر خطواتها العنيفة التي كان صدى وقعها يتردد في أذني....
...ماذا فعلتُ حينها؟ لماذا لم أتحرك؟ لماذا لم أركض وراءها، ألحق بها وأخبرها بأنها مخطئة؟ هل كانت تبكي حين ابتعدت عني؟ لابد أنها كانت تبكي في صمت، بينما تبتعد عني وتغيب....
..."جـدّتــي!" ...
...في تلك اللحظة، ناداني صوتٌ دافئ كما لو كان الصوت يأتي من عالم آخر. كانت "يوجين"، التي كانت تشبه والدتها في ملامحها، لكن عيونها تحمل نظرة مختلفة تمامًا، نظرة شابة مليئة بالأمل....
..."يـوجـیـن!"...
...ركضت نحوها، دهشة في عيني. كانت "يوجين"، الطفلة التي كبرت بين يديّ، الآن امرأة ناضجة، تحمل في مشيتها قوة وثقة، كما لو كانت قد ورثت كل طاقة الشباب عن والدتها....
..."جـدّتــي!"...
...كان الصوت الذي ناداني به ينبعث من بين خطوات واثقة وطويلة، كانت "يوجين" قد اقتربت مني بسرعة، وعانقتني كما لو كانت تود أن تُخبرني أن الزمن قد عاد بها إلى لحظةٍ كانت فيها طفلة صغيرة بين يدي. ...
...كانت أطول من "جي-يون"، وكانت خطواتها تتسم بالثقة التي تطغى على قلبي كما لو كانت تطمئنني بأن كل شيء سيكون على ما يرام....
...ورائحة عطرها الفاخر، الذي كان يحمل عبير الشباب والحياة، غمرني بشدة. ...
...كانت تتسلل إليَّ مثل نسيم عليل في صباح صيفي، جمالها الشبابي لا يُقاوم، وكأنني أحتضن باقة من الزهور المتفتحة، زهور برية في ذروة الصيف، تتناثر عطورها في الهواء، تنبض بالحياة وتملأ الأجواء بالحيوية....
...آه، كم كانت هذه الطفلة صغيرة في عينيّ ذات يوم! كيف أصبح لديها الآن هذا الجمال، وهذه الحيوية التي تشبه نارًا متقدة تعيش داخلها؟...
...الشباب الذي كان يملؤنا جميعًا، ذلك الشعور الذي كان يتسلل إلى قلوبنا كالنار التي تلتهمنا وتزعجنا، قد غادرني ليحيا في جسدها، كما لو كانت هي من تحمل هذا الوهج المتقد....
..."هل كنتِ بخير؟"...
...نظرت إليّ "يوجين" وهي تحتضن جسدي النحيل المتعب....
...كان وجهها مشرقًا، ناعمًا، مشحونًا بطاقة الحياة، وكانت تنظر إليّ كما لو كانت هي تجسيدًا للشباب ذاته....
...مددتُ يدي ولمستُ وجهَها برفق....
...وجهُ حفيدتي......
...الوجهُ الذي يحملُ ملامح ابنتي......
...كأنّ وجهَ طفلتي، تلك التي وُلِدتْ من دمي ولحمي، قد انعكسَ في ملامحها....
..."جدّتي، لقد اشتقتُ إليكِ كثيرًا!"...
..."نعم... نعم، وأنا أيضًا اشتقتُ إليكِ."...
...كنت أفكّر فيكِ كل يوم، كل لحظة... أنتِ وأمكِ.... ...
..."و... ذلك الشخص؟"...
...نظرتُ من فوق كتف "يوجين" نحو السيارة السوداء التي بدأت تتوقف في موقف السيارات....
...هل يُعقل أن يكون خطيبُها في تلك السيارة؟...
..."جدّتي، أشعر بتوتر شديد."...
..."لا أُصدّق أن هذا اليوم قد أتى أخيرًا."...
..."وأنا أيضًا لم أتخيّل ذلك، لكن رؤيتكِ سعيدة تجعل قلبي ممتلئًا بالفرح."...
...قد قلتُ هذا بصدقٍ كامل....
...إن استطاعت هذه الفتاة أن تجد السعادة، إن استطاعت أن تنال الفرح الحقيقي... فلن أطلب شيئًا بعد الآن....
...توقّفت السيارة عند الميناء، وانطفأ صوتُ المحرّك بنقرةٍ ناعمة، وبدأ باب السائق يُفتح ببطء....
...خرج رجلٌ طويلٌ القامة إلى ضوء الشمس....
...وفي تلك اللحظة، بدا وكأن الزمنَ قد توقّف....
...لا – بل هل كانت أنفاسي هي التي توقّفت؟...
...إنــه هــو......
...ذلـك الـرجـل الـذي كـان يـحـمـل فــي خـطـواتــه ...
...كــل مــا كـنـت أخـشـی أن يـغـیـره الـزمــن....
... ...
...حتى من مسافةٍ بعيدة، التقت أعيننا بشكلٍ تام....
...فاجأتني اللحظة، فأطلقتُ تنهيدة خفيفة وانخفضتُ بسرعة تحت سطح الماء....
...بـلُـوب!~...
...لم أدرك إلا بعد أن اختفيت تحت الماء، لماذا تفاعلتُ هكذا؟ لماذا اختفيت؟ لم يكن هناك ما يدعو للقلق. فلم أكن قد ارتكبتُ خطأً....
...ومع ذلك، لم أكن أعرف السبب....
...هل يجب أن أعود إلى السطح وأنظر إليه؟ كنتُ أرغب في رؤيته، لكنني شعرت أن ذلك سيكون سخيفًا. هل كنت أفقد عقلي؟ تذكرتُ فجأة أنني كنت أرتدي نظارات الغطس. ...
...لم يكن يستطيع ان يري وجهي. بالنسبة له، كنت مجرد "هاينيو" أخرى تطفو بين الآخرين على السطح....
...بُــوونغ~...
... في تلك اللحظة، انطلقت محرك القارب....
... تحركت الأمواج، وعندما رفعتُ رأسي، رأيتُ القارب يدور ببطء ويحدد وجهته. كان يغادر....
...بقيتُ في الماء الأزرق، أراقب القارب وهو يبتعد، بينما كانت ذراعاي تتحركان بلا هدف عبر الأمواج....
...---...
..."هل هذا معقول؟ أليس بإمكانهم رؤية جميع الطوافات التي تطفو على الماء؟ ألا يدركون أن الهاينيو يغوصن تحت السطح؟ يا لهم من أغبياء. ولماذا، من بين كل الأماكن، يتجهون إلى منطقتنا بينما يوجد طريقٌ آخر مناسب؟"...
...ما زال العم يثرثر متذمرًا، ونحن ننتهي من جمع المأكولات البحرية ونتجه إلى "منزل الهاينيو"....
...كانت أشعة الشمس الصيفية الدافئة والمستعرة تتسلل إلى مؤخرة عنقي، الذي لا يزال مبللًا من مياه البحر. ...
...شعرتُ أن جسدي أصبح ثقيلًا كغطاء قطني مشبع بالماء بعد بدء الغطسة في الفجر، لكن الشكوى لم تكن خيارًا....
...ما أهمية كون الرجل وسيمًا أم لا؟...
...الآن، كان الأخطبوط أكثر قيمة بالنسبة لي من أي رجل وسيم....
...اليوم، كما هو الحال دائمًا، لم أتمكن من جمع سوى نصف كمية المأكولات البحرية التي جمعها الهاينيو الآخرون....
...كنتُ لا أزال افتر الى الخبرة ولم يُسمح لي بالذهاب إلى مناطق الغطس العميقة التي تخص الغطاسات المتمرسات....
...كان الهاينيو يحرسون مناطقهم بصرامة، ودخول منطقة أخرى دون إذن كان يعد مخالفة خطيرة....
...لم يكن هناك استثناءات. يمكن أن تعني مثل هذه الخطأ فقدان الحق في الغطس طوال الحياة....
...لكن مع الكمية القليلة التي جمعتها اليوم، سيكون من الصعب حتى مجرد العيش. كانت الهموم المالية تضغط على صدري بسرعة، وطردت جميع الأفكار الأخرى من ذهني....
...ولكن بعد ذلك…...
... كان هناك. ...
...كان واقفًا أمام الخزان الأزرق خارج "بيت الهاينيو"....
..."آه! يا إلهي! يا للهول!"...
...انفجرت مجموعة من التعليقات خلفي عندما توقفت فجأة في مكاني....
...وبسبب انشغالهم بالحديث، اصطدم العم الذي كان يمشي خلفي بالبعض الآخر، مما تسبب في صُدور بعض التذمر منهم....
..."لماذا توقفتِ فجأة؟ آه."...
...انتهى صوت "جا-سونغ" الحاد عندما رأتْه هي أيضًا....
...كان الرجل، الذي كان يقف بجانب المحل المغلق ينظر إلى البحر، قد استدار نحونا عندما اقتربنا....
...وعندما لاحظ نظرات الهاينيو الفضولية، بدا عليه بعض الارتباك، لكنه سرعان ما ابتسم ابتسامة خفيفة....
...طقطقة!...
...لحظة شعرت وكأن قلبي تخطى نبضة. لم يكن هذا عادلًا....
...كيف يمكن أن تكون ابتسامة الرجل جميلة إلى هذه الدرجة؟...
...ابتسامة كالبحر في يوليو—هل من الممكن أن يبتسم رجل هكذا؟...
..."هل من الممكن... تناول الطعام الآن؟"...
...هل كان يتحدث إليّ؟ لا، بدا وكأنه يتحدث إلى الجميع....
...فجأة، شعرت بفيض من الخجل، وتمنيت لو أستطيع الاختفاء....
...بالنسبة له—ذلك الرجل الذي بدا انيقًا ومنعشًا، وكأنه خرج للتو من ملابس جديدة—كنتُ في حالة فوضى، مرهقة وما زلتُ مبتلة من البحر....
..."آه... نحن لم نفتح بعد..."...
...أجابت "جا-سونغ" (التي تعني امرأة مسنّة) من خلفي، وكان صوتها أكثر رقة وحلاوة من المعتاد....
..."ولكن مع ضيف وسيم كهذا، كيف لنا أن نغفل عن فرصة أول بيع لنا؟"...
...انفجرت ضحكات الهاينيو، وملأت أصواتهن المكان بهجة....
..."تعال، تفضل بالدخول!"...
...قالوا، داعين إياه بحرارة....
..."هل يمكنني تناول الطعام على إحدى الطاولات الخارجية؟"...
..."بالطبع!"...
...أجابوا بحماس....
...انقضت الهاينيو حوله كما لو كنّ طيور النورس التي تراقب الأسماك، يسرن بحيوية في كل اتجاه....
...بينما كنت أرغب في الابتعاد عن هذه الضجة، حملت بسرعة أغراضي ودخلت إلى المتجر....
..."واو، ابن من هو؟ إنه وسيم للغاية! يبدو أن لدينا حظًا رائعًا هذا الصباح."...
...قالت إحدى العمات ضاحكة، بينما بدأت في تحضير الطعام....
..."لقد طلب حساء الحلزون فقط، لكن لا يمكننا أن نقدمه له بهذا الشكل! دعونا نقدم له وجبة كاملة، وربما نقنعه بالبقاء معنا!"...
..."لماذا تتصرفين هكذا؟ حتى الماء له قواعد حول من يحصل عليه أولاً. إذا كان سيبقى، فسيبقى معي أنا!"...
...تردد ضحكهن في أرجاء المتجر، وكان خفيفًا ومرحًا. لكنني تجاهلت الحديث، وضعت فرشتي وسلتتي جانبًا، وبدأت في تنظيف الحلزون....
..."سُون-يونغ! هيه، ماذا تفعلين؟ يجب أن تكوني أنتِ من تأخذين له الطعام. بعد كل شيء، أنتِ الأصغر والأجمل بيننا!"...
...كانت تعليقاتهن موجهة إليّ، لكنني لم أكن من النوع الذي يرد على المزاح....
...لكن العمة لم تكن لتتراجع لمجرد أنني أبقيت مسافة بيني وبين دعاباتهن....
..."ماذا تنتظرين؟ بسرعة خذي الأطباق الجانبية له!"...
...قبل أن أتمكن من الاعتراض، دفعتني واحدة منهن، وسلمتني صينية الأطباق الجانبية، فاندفعت نحو الباب....
...مرتبكة، نظرت إلى الصينية التي كانت تحتوي أيضًا على حساء الحلزون، وتقدمت خارجة ببطء....
...تقديم وعاء من الحساء لشخص ليس بالأمر الكبير، كنتُ أقول لنفسي—لا داعي لكل هذا الضجيج....
...تجنبت النظر إلى وجهه مباشرة، وضعت الحساء على الطاولة دون أن أقول كلمة واحدة....
...لكن حينها، توقفتني صوته الهادئ....
..."كيم سُون-يونغ."...
...ماذا؟...
...كيف عرف اسمي؟...
...مفزوعة، التفتُّ إليه بسرعة....
..."نعم؟"...
...كنا غرباء تمامًا. كيف يعرف من أكون؟...
...كان الرجل ينظر إليّ مباشرة....
...على عكس الصورة البعيدة التي رأيته بها من البحر، كانت نظرته الآن هادئة وثابتة، لا يمكن تجنبها....
...ملامحه الرفيعة والأنيقة كانت جميلة إلى درجة مبالغ فيها، وكان واضحًا أنه ليس من هنا....
...كان غريبًا بوضوح، وبقدر ما كنت أعرف، لا علاقة له بي....
...فكيف عرف اسمي؟...
...ثم قال شيئًا غير متوقع....
..."كيم جاي-يول... هو أخوك، أليس كذلك؟"...
...كيم جاي-يول؟...
...ذلك هو أخي—الذي يدرس في جامعة سيول....
..."ماذا؟"...
...حدقت فيه، وعينيّ مفتوحتين على آخرهما....
..."كيم سُون-يونغ. أنتِ أخت كيم جاي-يول، أليس كذلك؟"...
..."نعم، ولكن... من أنت؟"...
...شعرت بقلق مفاجئ يتسلل إلى قلبي....
...في السنوات الثلاث التي قضاها أخي في سيول، لم يأتِ أحد للبحث عنه مثل هذا....
..."في الواقع... أنا هنا مع جاي-يول."...
..."مع... جاي-يول؟ أين هو؟"...
..."اهدئي قليلاً."...
...ماذا؟ أن أخفض صوتي؟...
...شعرت بالتيبس في جسدي، وأنا أراقب بعناية. ...
...حول الرجل نظرته إلى وعاء حساء الحلزون أمامه، وتحدث مجددًا بنبرة هادئة، شبه عادية، وكأنه يناقش شيئًا عاديًا كوجبته....
..."جاي-يول... مصاب. وهو مستهدف. أعرف أن هذا صادم، ولكن لا تردي الفعل. أكملِ هنا ولقيني عند البوابة الرئيسية. سأنتظرك هناك."...
..."ماذا تقول؟!"...
...صرخت، مرتفعًا عن غير قصد. بالكاد تمكنت من كبح الحيرة والقلق الذي اجتاحني....
..."ابقِ هادئة إذا أردتِ أن يبقى أخوك في أمان."...
...أغلقت فمي على الفور....
...على عكس المرة السابقة، كانت ابتسامته الآن تحمل حافة مشدودة....
...أخذ ملعقة من حساء الحلزون، تناوله، ثم نظر إليّ بابتسامة أكثر هدوءًا....
..."إنه ليس مصابًا بشكل خطير، لذا لا داعي للقلق كثيرًا. سأراك قريبًا."...
..."لا داعي للقلق؟"...
...كيف يمكن لتلك الكلمات أن تعني شيئًا في هذا الوقت؟ كان قلبي يشعر وكأنه سقط إلى الأرض وبدأ ينبض بعنف....
...حدقت فيه، رأسي يدور من الحيرة، لكنه لم يقدم مزيدًا من التوضيح. بدلاً من ذلك، استمر في تناول حسائه بهدوء، كما لو أن شيئًا غير عادي لم يحدث....
..."...حسنًا."...
...أخيرا تمكنت من القول، وصوتي يكاد يكون ثابتًا. التفت بعيدًا، وجسدي يرتعش بلا توقف، لكنني جاهدت لعدم إظهار ذلك....
..."ما الذي يحدث؟"...
...ماذا يمكن أن يكون قد حدث لأخي؟...
...تحطم!...
...في حالتي المشوشة، سقط طبق من يدي أثناء غسله، وتحطم على الأرض....
..."ماذا تفعلين؟!"...
...تبعت ذلك توبيخ حاد....
..."آسـ- آسفة."...
...تلعثمتُ، وجسدي الشاحب يرتجف من الارتباك، وأنا أنحني لجمع شظايا الطبق المكسور....
..."في ماذا كنتِ شاردة؟! تبدين وكأنكِ لستِ هنا! كسرتِ الطبق — يا لسوء الطالع في بداية النهار!"...
...صرخت بي العمة "ميونغ-جو"، أكبر الهاينيو سنًّا وأكثرهن هيبة، بصوتٍ قاسٍ، لكنني لم أجد في نفسي القدرة على الرد....
...لم يكن ذهني مشغولًا إلا بشيء واحد: أخي....
...أخي "جاي-يول"، الذي يكبرني بأربع سنوات، كان طالبًا في إحدى أعرق الجامعات في سيول....
...بالنسبة لشخصٍ جاء من قريتنا الصغيرة النائية، المتربعة على أطراف الجنوب، أن يشق طريقه نحو العاصمة ويحقق هذا النجاح الباهر... كان ذلك معجزة حقيقية....
...خصوصًا لعائلةٍ مثل عائلتنا......
...فقدنا والدينا في حادثٍ مروّع حين كنا لا نزال أطفالًا، ولم يتبقَ لنا سوى جدّتنا العجوز، التي تكفلت بتربيتنا وسط حياة أنهكتها الفاقة....
...عائلة عصفت بها رياح الفقر من كل صوب، حتى بدا وكأن الحياة قد عصرت آخر ما فيها من قوة....
...وكان أخي هو أملنا....
...كان أمل جدتي أيضاً — تلك التي هجرت جزيرة جيجو منذ زمن بعيد، وشقت طريقها إلى "تشونغمو"، متحديةً العواصف والغرق، لتعيش حياتها كامرأة بحر....
...وكان أيضًا أملي أنا — أنا التي خطت طريقها في البحر مثلها، منذ أن بلغت الخامسة عشرة من عمري....
...والآن... يبدو أن مصيبة حلّت به....
...كان شعورًا كأنما عتمةً هائلةً تنهض من قاع البحر، مهدِّدة بابتلاعنا جميعًا....
..."أنا... لستُ بخير اليوم، سأذهب إلى البيت مبكرًا."...
...قلتُ ذلك بصوتٍ خافت وأنا أجمع أشيائي. توقفتُ لحظة، ثم التقطتُ "الهومينغي" — أداة الغوص الحادة التي لا تفارق الهاينيو — وضممتها بعنايةٍ إلى حزمتي....
...في هذا العالم، مهما بدا الآخرون لطفاء أو جديرين بالثقة، فإن الوثوق بغريبٍ بلا تروٍّ يُعد ضربًا من الحماقة....
...وبما أن لقائي به ينبغي أن يجري خفية، بعيدًا عن أعين الجميع، كنتُ أحرصُ على أن أكون أكثر حذرًا من أي وقت مضى....
...رفعتُ رأسي ونظرت نحو الباب... الرجل الذي كان يتناول عصيدة الأذن البحرية قد اختفى بالفعل....
...اجتاحتني موجةٌ مباغتة من القلق، فأسرعت بالخروج من بيت الهاينيو، ماضيةً بخطى متعجلة نحو البوابة المركزية....
...كانت تلك البوابة تُفتح للسفن القادمة لتفرغ حمولتها للسوق....
...ومن خلفها، كان السوق يمتد بطول الطريق، تتراص على جانبيه أكشاك التجار الذين يعرضون صيدهم الطازج: أسماكٌ مجففة، سمك الراهب المقدد، أعشاب بحرية، وأوراق "لافَر" حجرية لامعة....
...من الفجر حتى المغيب، لم يكن السوق يعرف سكونًا....
...وحين وصلت إلى البوابة، لم أجد له أثرًا....
...تسللت إلى قلبي فكرةٌ مرعبة:'هل خدعني طيفٌ من الأشباح؟'...
...ترددتُ لحظة وأنا أعضّ شفتي بقلق. هل أبعث رسالة عاجلة إلى "جاي-يول"؟...
...تلفّتُّ في حذر، عيناي تبحثان عنه فى الوجوه الكثيرة المتزاحمة....
...ثم رأيته....
...يخطو خارجًا من أحد المتاجر....
..."آه..."...
...خرجت آهة خفيفة من بين شفتيّ دون وعي....
...اندفعت نحوه بخطًى مسرعة، غير أنَّه تجاهلني تمامًا، واستدار مبتعدًا يتوغّل في عمق السوق....
...تردّدت لحظة، بالكاد، ثم لم أجد بُدًّا من اللحاق به....
...أدخلتُ يدي في حزْمتي وقبضت بإحكام على مقبض "الهومينغي"، أُسرع الخطى كي لا يبتعد عن ناظري....
...كان السوق يغمرني بمشهده المألوف: رذاذ المياه المالحة يتناثر تحت الأقدام، والأسماك الطازجة تتلألأ وهي تتلوّى في الأحواض، ورائحة الأسماك المجففة القوية تتصاعد من السلال المكدّسة....
...كان بعض العابرين ممّن يعرفونني يلقون التحية، فأكتفي بهزّ رأسي سريعًا، أتمتم بكلمات مقتضبة: "نعم، نعم"، دون أن ابعد ناظري عن الرجل....
...مضى أمامي بخطوات واسعة، يتسلل بين الحشود، يغوص أعمق فأعمق داخل السوق....
...'إلى أين يأخذني هذا الغريب؟' تساءلتُ داخلي....
...وحين شارفنا على الطرف القصيّ من السوق، حيث كانت الأسماك الصغيرة تُعرض فوق الأرض، انحرف فجأة واختفى بين زقاق ضيّق يفصل بين متجرين....
...عضضت شفتي وتبعتُه، أزحف عبر الممرّ الضيق، وقلبي ينبض بعنف تحت أضلعي حتى خشيت أن ينفجر....
...'لو كان هذا فخًّا، سأجعله يندم.'...
...شدَدتُ قبضتي أكثر حول الهومينغي...
...لكن فجأة، اختفى الرجل عن أنظاري....
...تلفَّتُ يمنةً ويسرةً، عينيَّ تنظران للزحام، ولم أرَ سوى الباعة والمشترين ينادون على "السونديه" و"الجوكبال"....
...شعرت بالضياع....
..."ماذا يحدث هنا؟"...
...وقبل أن أدرك ما يجري، شدّ أحدهم ذراعي بعنف وجذبني إلى داخل متجر مظلم....
..."آه!" صرختُ من شدّة المفاجأة، فاهتزّت الجدران الصغيرة بصدى صوتي....
...دون وعي، سحبتُ يدي من الحزمة، ممسكةً الهومينغي، وكدت أن أغرز حافته الحادة في عنق الرجل الذي سحبني....
...بمحض الصدفة أو بقليل من الرحمة، توقفت نصل الهومينغي على بُعد شعرة من عنقه....
..."آه!" شهق الرجل، وقد شحب وجهه من الرعب....
...لو مددت ذراعي قليلًا بعد، لكان الأمر انتهى بكارثة....
...تلاقت أعيننا، هو بعينين مذعورتين، وأنا متجمّدة رعبًا....
..."ماذا تفعلين؟" سأل ببرود، صوته ثابت ولكن التوتر كان واضحًا تحته....
...كان عليّ أن أجيبه، لكن لساني انعقد....
...ارتعشت يداي وأنا أحاول أن أتماسك، قبضتي لا تزال مشدودة حول الهومينغ-ي....
..."أنا... ظننتُ أنك... أنا..."...
...ثم، فجأة، جاءني صوتٌ مألوف....
..."سون-يونغ."...
...استدرتُ مذعورة....
...كان هو....
...كان جاي-يول، أخي....
...---...
...كان جاي-يول جالسًا في زاوية من الغرفة الصغيرة بالسوق، متكئًا بضعفٍ على الجدار....
...كان هزيلًا بشكل مخيف، شاحب البشرة، وجهه تغطيه الكدمات، وعنقه عليه آثار جراحٍ واضحة....
...رؤيته بتلك الحالة مزقت قلبي....
...تخلّت عني قوتي دفعةً واحدة، وغامت الدنيا من حولي....
..."أخي!" شهقت وأنا أندفع نحوه....
..."سون-يونغ..." همس وهو يحاول أن يبتسم....
..."ماذا حدث لك؟! من فعل بك هذا؟!"...
...كانت يداي ترتجفان وأنا ألمسه، أخشى أن يتداعى بين ذراعي....
...كان جسده النحيل مليئًا بالكدمات، وذراعه بدا مكسورًا بشكل واضح....
...لم يكن هذا الفتى المفعم بالحياة والطموح، الذي لطالما وُصف بالذكاء والاجتهاد، لم يكن هذا هو نفسه....
...رؤيته بهذه الحالة حطّمتني....
..."لا تقلقي... أنا بخير."...
..."تسمي هذا بخير؟!" صرخت، وكأن العالم انهار فوق رأسي....
..."ديمو..." ...
..."دي... مو؟"...
...همستُ بالكلمة المجهولة، كمن يلامس أطراف سرٍّ لا يفهمه....
..."ما معنى... ديمو؟"...
...لم أسمع بهذه الكلمة طيلة حياتي القصيرة المليئة بالكدح والملح....
..."نعم."...
...أجاب جاي-يول بصوتٍ خفيض، لكن كل حرفٍ منه كان أثقل من صخرة....
..."ألم تسمعي؟ الحكومة وقّعت مؤخرًا معاهدة مع اليابان."...
...نظرت إليه بذهول....
...كيف لي أن أعلم؟ أنا التي انقطعت عن الدراسة مبكرًا، والتي كانت كلمات مثل "حكومة" و"معاهدة" مجرد أصداء بعيدة لا تعني لها شيئًا....
...حتى ملامحه، وهو يلفظ تلك الكلمات، كانت غريبة عني، كما لو كان شخصًا آخر؛ شخصًا جاء من عالمٍ لا أعرفه....
..."لقد جرَّعتنا اليابان الويلات، وأحرقت أرواحنا بالنار والحديد... ومع ذلك، لم تكلّف نفسها حتى بالاعتذار. لا اعتذار... ولا جبر... ومع ذلك، ها هي حكومتنا، خفيةً عن أعيننا، توقّع معهم معاهدة مزيّفة، بلا شرف."...
...شعرت بعضلة وجهي تشدُّ، وكأنني أقف وسط عاصفة لا أفهمها....
...ماذا يعني كل هذا لنا؟...
...متى كانت معاهداتهم تؤثر على حياتنا الصغيرة؟...
...نحن الذين عشنا دومًا على هامش البلاد، نحمل شقاءنا فوق أكتافنا، دون أن يلتفت إلينا أحد....
...لماذا، إذن، كان أخي يحترق هكذا؟...
...لماذا بدت عيناه ممتلئتين بألمٍ عجزت عن تفسيره؟...
..."سون-يونغ... اهدئي."...
...مد يده المرتجفة إليّ، ولكنني دفعتها بعيدًا بحدة، وكأنني أدفع عني كل هذا الجنون الذي لا أفق له....
...كنت على وشك الصراخ....
...كان الألم يغلي في صدري، كمرجلٍ مسعور....
...ما الذي يحدث بحقّ السماء؟!...
...أي عالمٍ هذا الذي تغيّر دون أن أشعر، وخطف أخي من بين يديّ؟...
..."اهدأ؟! أتطلب منّي أن أهدأ؟! كيف أهدأ وأنت تُقحم نفسك في أمورٍ كهذه؟! لماذا تتدخل فيما لا يعنيك؟! سواء باعوا البلاد أم لا، ما شأننا نحن؟!"...
...كنت أصرخ، تكاد الكلمات تتفجر من صدري كما تنفجر الأمواج الغاضبة فوق الصخور....
...كنت على وشك فقدان عقلي من شدّة الغضب والذهول....
...كنت قد سمعت، مثل الجميع، أن الرئيس الحالي استولى على الحكم بسيف العسكر لا برضا الناس....
...فل يتخاصموا، فل يأخذوا المتصب، فل يخونوا الأرض إن شاؤوا…...
...كل هذا لم يكن يعني لنا شيئًا، نحن الذين نعيش على هامش هذا الوطن، نحني ظهورنا تحت ثقل الفقر والملح....
...كنت أعلم جيدًا أن كلمة واحدة قد تزجّ بك في السجن، وقد تكلفك حياتك....
...كم من عائلةٍ سُحقت لمجرد أن أحد أفرادها تجرّأ على الكلام!...
...والآن، ها هو أخي العزيز، نور عيني، يقف في قلب العاصفة....
..."لماذا يا جاي-يول؟! لماذا أنت بالذات؟!"...
...صرخت ثانية، وكأن صرختي قد تردّ القدر....
..."كفى هراءً!"...
...ردّ عليّ بحدة، وعيناه تشتعلان بنارٍ لم أعرفها فيه من قبل....
..."إن لم يتحرّك المتعلّمون، فمن يفعل؟! هل سنظل نقف مكتوفي الأيدي، نراقب هؤلاء اللصوص وهم ينهبون وطننا أمام أعيننا؟!"...
..."فليتحرّك غيرك! هناك المئات غيرك! لماذا أنت؟! ألا يهمك أمري؟ ألا تفكر بالجدة؟! الجدة الآن…"...
...وتوقفت، وانحبست الكلمات في حلقي....
...كان الألم يعتصر قلبي....
...الجدة… حالتها لم تعد تخفى على أحد....
...منذ العام الماضي، وهي تغرق شيئًا فشيئًا في بحر النسيان....
...أحيانًا كانت تتوه في طريق العودة إلى المنزل، وأحيانًا تنظر إلى وجهي وكأنها لا تعرفني....
...قال الجيران همسًا إنها بدأت تُظهر أعراض الخرف، وكل مرةٍ كنت أسمع فيها ذلك الكلام، كان قلبي ينكسر دون صوت....
...ولم أجرؤ يومًا على إخبار جاي-يول بذلك، حتى لا أشتت روحه المنشغلة بالدراسة والأمل....
...أما الآن… أما الآن، وهو يقف أمامي هكذا، محطم الجسد، مكسور الروح…...
...كأنما كانت السماء تطبق على صدري، وكأن قلبي سينفجر من وطأة الخوف والحزن....
...كيف سأعيش إن فقدت أبي وأمي… ثم فقدت أنت؟...
...تساقطت دموعي بغزارة، حتى صارت الرؤية أمامي ضبابًا رماديًّا خانقًا....
...لم يكن يفكر بنا....
...لم يكن يفكر بتلك الجدة التي أنهكها الزمن، ولا بي، أنا التي ابتلعتها أمواج البحر منذ نعومة أظفارها لتكسب فتات العيش....
...كان عقله مشغولًا بوطنٍ ينزف، وقلبه محمّلًا بهمومٍ أكبر من جسده النحيل....
...وها هو الآن، محطمًا، منكسرًا، كأن السماء ذاتها قد أسقطت عليه لعنتها....
...الغضب انفجر داخلي، أعمى وأجوف، لا يجد مخرجًا سوى صرخةٍ مرتجفة:...
..."بماذا كنت تفكّر؟!"...
...صرختها بكل ما تبقى لي من روح، حتى شعرت أن صدري قد تمزق، وأن الأرض تدور من تحت قدمي....
..."اخفضي صوتك!"...
...قال الرجل الذي رافقه، وهمس وهو يقبض على ذراعي المرتجفة....
...لكن لم يكن لشيءٍ أن يوقف سيل الغضب....
...انتزعت ذراعي من قبضته وحدّقت به وكأنني أطعن صدره بنظراتي....
...لم أعد أرى وسامته، ولا رزانته....
...كل ما رأيته أمامي كان وجه من جلب إلينا الخراب....
..."اتركني! من تظن نفسك لتتدخل في حياتنا؟!"...
..."سون-يونغ، انتبهي!"...
...قال أخي، صوته يرتعش كحبلٍ على وشك أن ينقطع....
..."هذا الرجل… أنقذ حياتي."...
...أنقذه؟...
...كان الأولى أن يدعه يهوي إلى هاوية لا قيامة منها....
...كان الأولى أن لا يجلبه إلينا، متورطًا، ملوثًا بكل هذا الدمار....
..."أنقذك؟!"...
...ضحكت ضحكة مرة، أقرب إلى النحيب....
..."ليته تركك تموت هناك!"...
..."سون-يونغ!"...
...صرخ باسمي، ولكنني كنت قد وصلت حافة الانهيار....
...دفعت الباب بقوة، وهربت....
...هربت من وجوههم، من الدخان الأسود الذي ملأ صدري، من وجعٍ لا يعرف له حدود....
...---...
...هل يموت الإنسان واقفًا؟...
...تساءلتُ، وأنا أترنح في الطريق المظلم إلى البيت....
...كل خطوة كنت أخطوها كانت كطعنةٍ في صدري....
...شعرت كأن الأرض قد ألقت عليّ بثقلها كله، وكأن أوزان الغوص الحديدية ما تزال مربوطة إلى روحي، لا إلى قدمي فقط....
...لم تكن الليلة كسابقاتها....
...كانت أشبه بقبر مفتوح، ينتظرني أن أتمدد فيه بهدوء....
...وفي تلك الليلة… لم يعد أخي....
...رغم كل ما فعلته، رغم الصراخ والكلمات القاسية، وجدتُ يدي، من تلقاء نفسها، تملأ القدر بالأرز....
...كأن جزءًا من قلبي كان يحلم بعودته، ولو مكسورًا، ولو دامع العينين....
...حتى تركت نصيبًا للرجل الغريب، رغم أنني كنت أودّ لو أختنقه بيدي....
..."مجنونة! لما تطبخين كل هذا الأرز؟ هل فقدتِ عقلك؟"...
...صرخت جدتي، وهي تحدق بي بعينين مطفأتين، كجذوتين انطفأتا منذ زمن....
...رفعت إليها نظري، وابتسمت ابتسامةً بلهاء، ابتسامة من استسلم لكل شيء....
..."أردت فقط… أن تأكلي أكثر، جدتي."...
...آه، لو كنتُ غبية بما يكفي…...
...لربما كانت الحياة أرحم بي....
...---...
...أين أنت، يا أخي؟...
...وفي أي ظلمة غاص قلبك بعيدًا عني؟...
...كان في تلك الحالة…...
...مصابًا بشدة، غائبًا عن أنفاسي....
...ولم يكن لي، وأنا أفرّ من أمامه كالغبية، أي وسيلة للاتصال به أو الاطمئنان عليه....
...هل كانت الشرطة تلاحقه؟ هل لهذا السبب كان يتحرك بذلك التوتر والقلق، كمن تطارده أشباح لا تنام؟...
...لماذا، لماذا كنت أول من انقضّ عليه بالغضب؟...
...أي حماقةٍ تلك التي جعلتني أصمّ قلبي وأعمي بصري عن جراحه؟...
...كان عليّ أن أصغي، أن أحتويه، أن أقول له: "عُد إلى المنزل أولًا"... ولو بكلمةٍ واحدة....
...الندم كان كصخرةٍ فوق صدري، يسحقني أينما ذهبت....
...سواء كنت أغوص بين ظلمات البحر، أو أتعثر على الطرقات الترابية، عيوني كانت تبحث عنه بلا وعي، يمنةً ويسرةً....
...وكل ليلة، كنت أستلقي على فراشٍ بارد، أعدّ أنفاسي المذعورة، عاجزةً عن النوم، تلتهمني الهواجس....
...ومضت خمسة أيامٍ ثقيلة كالعمر، حتى جاءني شيءٌ بديل عن أخي....
...جاءني "أَغْوِي"....
...---...
...تحطّم شيءٌ بصوتٍ مفزع عند قدمي....
...رفعت رأسي، يملؤه الذهول، لأجد نفسي على طريق المنحدر الغربي في تشونغمو....
...حيث كانت تقع المستوطنة المتداعية، تلك التي لجأ إليها الفقراء المطرودون من أراضيهم زمن الاحتلال الياباني....
...كانت الأدراج الترابية مغطاة بأشلاء الحياة:...
...حوض غسيل محطّم، سلة ممزقة، وأسماكٌ لم يكتمل جفافها، متعفنة فوق الحجارة....
...كان المشهد كالكابوس....
...وما إن دققت النظر حتى خنقتني الصدمة: كانت أشياؤنا!...
...أشياؤنا المبعثرة فوق التراب، كأن حياتنا قد دُهست بالأقدام....
...شهقت، وأطلقت العنان لقدميّ، أصعد الأدراج المتداعية بجنون....
...منزلنا، الذي كان هشًا كجسدٍ يحتضر، بدا على وشك الانهيار التام....
...الجدران المتشققة، البوابة الحديدية الصدئة ذات اللون اليشمي الباهت، والسقف الرمادي المتهالك... كل شيء كان يصرخ بالخراب....
...الصوت قادم من الداخل....
...الجدة!...
...فقدتُ اتزاني، وأفلتت الحزمة التي كنت أحملها من بين يدي دون أن أشعر....
...دفعت البوابة بارتباك، واندفعت إلى الداخل....
...ما رأيته جَمَّد الدماء في عروقي....
...رجلان يرتديان أحذيةً سوداء كانوا يبعثرون أثاثنا الحقير، ينقّبون فيه كضباعٍ جائعة، ورجلٌ آخر، بلباسٍ أسود، وقف كتمثال الموت في ساحة الدار....
...وعند أقدامهم، كانت جدتي المسكينة، سقطت أرضًا، تنتحب وتتلوّى من الألم....
...ارتميت عليها، أضمها بذراعي المرتجفتين....
..."جدتي!"...
...لكن حين رفعت رأسي…...
...حين وقع بصري عليه…...
...رأيتُه....
...رأيت "أغوي"، الشيطان الحديدي....
...---...
...كل من في المدينة كان يتحاشاه كما يتحاشى الموت....
...ابن حطام سفينة الحرب الصدئة، ذلك المكان الذي نبت فيه الحرب كالأشواك السوداء. وأغوي، كان الأشرس بينهم جميعًا....
...بعينه الغائرة في جبهته، وملامحه الملتوية ككائنٍ خرج من قاع البحر، كان يُشبَّه بالمخلوق البحريّ الأسطوريّ أغوي، بل وحتى أطلق عليه البعض لقب "أَغوِي" — الروح الشريرة....
...كم من مرة رأيته من بعيد، وهو يقود مجموعة من الأشقياء لينهالوا ضربًا على طفل أضعف منهم، أو ليسرقوا نقود المارة....
...وكنت، كل مرة، أفر هاربةً، أدعو ألا يقع بصري في بصره....
...---...
...كنا نظن جميعًا أنه سيصبح زعيم عصابةٍ ذات يوم،...
...لكنه فاجأنا....
...تحوّل إلى شرطي....
...بعد التحرير والحرب، كان العالم يعجّ بالفوضى، وكانت الشرطة لا تختلف كثيرًا عن العصابات: وجهان لعملةٍ واحدة....
...ولم يكن أحدٌ يحلم أن يكونوا "خدّامًا للشعب"، كما ندّعي اليوم....
...كانت الهمسات تهمي في الأزقة:...
..."سواء كان شرطيًا أم مجرمًا، أغوي سيبقى أغوي."...
...ظننت أنني سأبقى بعيدة عن عالمه المظلم....
...لكنني كنت مخطئة....
...كما عاد جاي-يول لي ملطخًا بالدماء، وقف أغوي الآن أمامي، كطيف الكارثة....
...---...
..."م-ماذا تفعلون؟!"...
...صرخت، متشبثةً بجدتي التي كانت ترتجف في حضني....
...كانت تشهق كالوحوش المجروحة، تختبئ بيديها الهزيلتين عن قسوة العالم....
...أما هو…...
...كان يقف شامخًا، طويلًا كظل الموت....
...كان، عن قرب، أكثر رعبًا مما احتملته ذاكرتي الطفولية....
...ذلك التعبير البارد، الخالي من أدنى لمحة رحمة، كان لا يزال محفورًا في وجهه:...
...تلك النظرة التي تجمد الدماء في العروق من نظرةٍ واحدة....
...تقدم خطوة....
...وقال بصوتٍ خشن:...
..."هيه."...
...تقدَّم خطوةً أخرى، عيناه تتفحَّصان وجهي المذعور عن قرب....
...كانت يداه مدسوسَتَين عميقًا في جيوب سرواله القاتمة، لكن كل خليةٍ في جسدي صرخت: إنَّه قد يخرج سكينًا في أي لحظة....
..."منزل كيم سون-يونغ..."...
...همس بالكلمات وكأنَّه ينفث البرد ذاته في أذني....
...شعرت بقشعريرةٍ تخترق عمودي الفقري....
...هل كان يعلم؟...
...هل يعرف أغوي أنني كنت تلك الطفلة التي، منذ سنوات، كانت تسرّب الخبر سرًّا إلى الكبار كلما اعتدى هو وعصابته على الأطفال الضعفاء؟...
...أحكمتُ ذراعي حول جسد جدتي الهزيل، حدَّقت فيه بعيونٍ متسعة بالرعب....
...لكنه فقط... ابتسم....
...كانت ابتسامةً غريبة، ثقيلة بالحميمية الزائفة، كأننا صديقان التقيا بعد طول غياب....
...ثم قال، بصوته الخشن:...
..."سون-يونغ... هل ما زلتِ تغطسين جيدًا هذه الأيام؟"...
...تجمدت الكلمات على شفتي....
...لم يكن يعرف اسمي فقط، بل كان يعرف مهنتي أيضًا....
...رأى انعكاس الذهول في عينَي، فارتسمت على شفتيه ابتسامةٌ أوسع، أكثر إيلامًا....
...اقترب خطوة أخرى، كأن الأرض نفسها تنكمش تحته، وسألني بصوتٍ أشبه بالخنجر:...
..."هل التقيتِ بأخيكِ؟"...
...كتمت أنفاسي بالقوة، كأن الهواء صار شوكًا....
...تمسكت بالهدوء، رغم الرعب الذي يعصف بداخلي، وأجبت بتحدٍّ مرتجف:...
..."ماذا تعني؟"...
...ضحك ضحكةً قصيرة، بلا أثرٍ للفرح....
..."آه... أنا أعرف كل شيء، سون-يونغ. الكذب... عادة قبيحة."...
...رفع يده فجأة وصفعني على وجهي....
...برودة لا تشبه برودة الشتاء اجتاحتني، قاطعةً أنفاسي....
...بلا وعي، دفعت يده بعيدًا....
..."ما خطبك؟! أنا لا أعرف شيئًا!"...
...صرخت بصوتٍ مبحوح....
...ابتسم بسخرية، وهز رأسه....
..."لا تعرفين شيئًا؟ إجابة غبية. لو أنكِ لم تريه، لقُلتِ ببساطة: لم أره. لكنكِ قلتِ إنكِ لا تعرفين شيئًا. أنتِ..."...
...توقف لبرهة، وكأن الكلمات التالية كانت ستسحبني إلى جحيمٍ أعمق....
...لماذا كان ينظر إليَّ بهذه النظرة الغريبة؟...
...في تلك اللحظة، لم أكن أعرف شيئًا على الإطلاق....
..."...أنتِ حقًا غبية."...
...ضحك أغوي، وكأنما يستهزئ بي....
..."سون-يونغ، لماذا تتصرفين هكذا؟"...
...جدتي، التي كانت ترتجف بين ذراعي، صاحت كطفلة خائفة....
...كنت أشعر وكأنني على وشك أن أفقد عقلي....
...لم أكن أعرف كيف أجيب، أو ماذا أفعل، أو أي تعبير يجب أن أضعه على وجهي - كل شيء أمامي أصبح أبيضًا....
..."قولي لي، سون-يونغ. أنتِ تعرفين أن أخاكِ فعل شيئًا فظيعًا، أليس كذلك؟"...
...كنت أعرف. كنت أعرف أنه كان متورطًا في تلك المظاهرة....
...فماذا في ذلك؟...
...طوّقت شفتي بشدة، رافضة أن أجيب....
...ضحك أغوي وقام بتعديل وقفته، لا يزال يبدو هادئًا، لكن نظراته الباردة وغير القابلة للقراءة كانت تثقلني....
..."لقد ذهب مباشرة إلى الرئيس وصارخًا في وجهه. هل تصدقين؟ مشى مباشرةً إليه. كان الرئيس قد رأى وجهه بوضوح وسمع كل كلمة قالها ذلك الأحمق..."...
...ماذا؟...
...ماذا فعل أخي جي-يول؟...
...حدقت في أغوي بصدمة. كنت قد سمعت عن المظاهرة، لكن فكرة أن أخي قد وقف وجهًا لوجه أمام الرئيس كانت فكرة جديدة تمامًا بالنسبة لي....
..."فهل تعتقدين أن الرئيس سيسمح لهذا بأن يمر مرور الكرام؟ هل يمكنكِ تخيل مدى غضبه؟ لهذا، أمر الرئيس شخصيًا..."...
...أغوي نظر إليّ وكأنه يلقي حكمًا بالإعدام....
..."...بإلقاء القبض على أخيك."...
...دوي!...
...ركل الرجال الذين كانوا يفتشون الغرفة الباب بقوة واندفعوا إلى الخارج....
..."لا اثر له هنا."...
...بالطبع، لم يكن ليكون هناك شيء. فمَن يفرّ من وجه العدالة، لا يأوي إلى منزله أبدًا....
...للمرة الأولى، شعرتُ بشيء من الراحة لكون أخي لم يعد إلى المنزل....
...كانت جدّتي بين ذراعيّ، جسدها المنهك، وروحها توشك أن تسافر عن الدنيا. احتضنتها كما تحتضن الأرض زهرةً ذابلةً في خريفها الأخير، وحدّقت بعينين تقدحان الشرر إلى ذلك الغادر، "آغوي"....
...تأملني هنيهةً، ثم ارتسمت على شفتيه ابتسامة كالثعابين....
..."حسنًا، فلنبدأ بالتحقيق مع الشاهدة."...
...توقف الزمان لحظةً أمام وقع كلماته....
...قبل أن أفيق من صدمتي، امتدت يده اللئيمة فقبضت على معصمي، قبضةً من حديد....
...هناك، تملكني يقينٌ مفجع: أنّ الشر قد استيقظ....
..."دعني!"...
...صرختُ صرخةً تهزُّ المكان ، ونازعتُه بكل ما أوتيت من قوة، لكن قبضته كانت كالسلاسل....
...ثم رأيت في عينيه شيئًا أعرفه... شيئًا لا يُخطئه مَن ذاق ظلم البشر: نظرةٌ باردةٌ، قاسيةٌ، لا تَعبَأ بألم، ولا ترتدُّ عن جرم. بل كأنها تتلذذ بالعذاب....
...قهرتني دموعي، وتجمد الدم في عروقي....
..."دعني، أيها الوغد! اتركني!"...
...صوتي تكسَّر على صخرة الوحشية....
...أما جدتي، صرخَت حتى بح صوتها، ودفعوها عني كأنها لا شيء....
...وكان الحرس، أولئك الذين تزيوا بثياب الحق زورًا، يسدّون الأبواب، ويدفعون الجيران، والضحك المسموم يعلو في وجوههم....
...أي مصيبة هذه التي حاقت بي تحت عين الشمس؟...
..."مجرد تحقيق بسيط..." قال أحدهم بازدراءٍ مقزز....
...صرختُ فيهم بيأس، "اسألوني هنا! هنا بين الناس!"...
...لكنّ "آغوي" اقترب، وهمس في أذني بلسان كالحية:...
..."هنا؟ وأنتِ، أيتها الحمقاء، ستلتزمين الصمت كما تعلمين."...
...أوه، كيف تهدم الدنيا فوق رؤوسنا ونحن أحياء!...
...آه، أخي!...
...آه، جي-يول!...
...لو أنني أستطيع أن أصرخ باسمك، لكن الخوف ألجم لساني!...
...جرُّوني، وجردوني من حذائي، حتى انفلت من قدمي المسكينة....
...وسط العراك، تمزقت ثيابي الرثة، فانكشف عن خصري النحيل....
...وهناك، رأيت عين "آغوي" السامة، تنظر إليّ نظرةً تقطر وحلًا....
...تجمدت، شعرت بثقل كجبل يطبق على صدري....
...جاهدت، حاولت بكل قواي أن أزيحه، لكنني كنت كريشةٍ أمام إعصار....
...وفجأة......
..."كفى! ما الذي تفعله؟!"...
...رنّ صوت كالرعد في الأفق....
...امتدت يدٌ قوية، انتزعتني من براثنه، ودفعته إلى الوراء....
...وقف الرجل شامخًا أمامي، كالطود الراسخ، يحجب عني عواصف الشر....
...انهمرت دموعي، وأنا أرفع بصري إليه......
...> "كيم سون-يونغ، احفظ لسانك! هذا الرجل هو مَن أنقذني، وبفضله اصبحت هنا، لا زالت أنفاسي في صدري."...
...ذاك الرجل الذي جاء عليّ من حيث لا أدري......
...ذاك الذي جلست أمامه ذات يومٍ فوق قارب صياد، بين الموج والريح، فبدا وكأنه ملك من عالم آخر......
...ها هو ذا اليوم، يقف بيني وبين الهلاك....
...وجهه الوسيم لم يتغير، لكن في عينيه، كان البرد القارص، بردٌ كفيل أن يجمّد الأرض والسماء....
...وكان، في تلك اللحظة، درعي وسيفي في معركةٍ لا ترحم....
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon