...حـيّ تـشـاويـانـغ...
...عندما بلغ سنّ الثامنة عشرة من عمره، تزوّج....
...كان شابًّا من عائلةٍ عسكريّة عريق تزوّج من فتاةٍ من عائلة مُلّاك أراضٍ أثرياء....
...فيُعدّان زوجًا مُناسبًا من حيث النسب والمكانة....
...حيث رتّب الأهلُ الزواج من كلا الطرفين، وتمّت الخطبة وفقًا للتقاليد، ولم يكن على الأبناء إلا الامتثال لما خُطِّط لهم....
...عندما أتى اليومُ المُبارك، عُلِّقت الفوانيس، وزُينت المنازل بالزّهور، وأُطلقت الألعاب الناريّة الحمراء، ووُضع النبيذ الورديّ. حين وصلت العربة إلى المنزل، دخلت العروسُ من الباب، وأدّت طقوس الركوع التقليدي أمام السماء والأرض [1]....
...وفي النهاية، لم يكن بوسعه أن يُحدّد إن كان يحبّها أم لا....
...ففي ذلك الزمن، الزواج كان يُفرض على الإنسان عند بلوغه سنًّا معيّنة، كما يتساقط الثلج في الشتاء: سواء أحبّ ذلك أم لا، فلا مفرّ منه....
...وفي بعض الأحيان، كان قلب الشابّ يتساءل بدافع الفضول: تُرى، ما شكلُ الزوجة التي سيتزوّجها؟ كيف تكون شخصيّتها؟...
...لكنّ تلك الأفكار لم تكن إلا كتموّجات خفيفة على سطح البحيرة، سرعان ما تتلاشى. لوّح بيده مستسلمًا لما سيأتي، وكلّ ما كان يطلبه هو أن تُحافظ زوجته على "الطاعة الثلاثيّة والفضائل الأربع" [2]، فبذلك، ستبقى دومًا زوجته الشرعيّة....
...---...
...وهكذا، في يوم الزواج، انفجرت الألعاب النارية في السماء، وتوقّفت عربة العروس عند باب المنزل....
...مشَت العروس على موقد النار، ركعت أمام السماء والأرض، شربت نبيذ الطقوس… ثم جاء دور غرفة الزفاف....
...لكنه لم يعُد يتذكّر شكلها وهي ترتدي ثوب الزفاف....
...فقد كان قد شرب حتى الثّمالة، بالكاد رفع غطاء وجهها ورأى لمحةً خافتةً من جمالٍ غامض....
...الضوء كان خافتًا، وثوبها الأحمر بدا غير واضح… ثم غلبه النوم....
...---...
...في صباح اليوم التالي حين استيقظ، كان أوّل شيء وقعت عيناه عليها هي هيئةُ فتاةٍ رقيقة الجسد، تقف أمام مرآة الزينة، وشَعرُها الأسود الطويل ينساب كجداول الماء....
...دُهش قليلًا، ثم تذكّر أنّه بالأمس قد تزوج، وأنّها من هذا اليوم اصبحت زوجته، شريكةَ حياته....
...فتقدّم نحوها بخطًى هادئة....
...ومن خلفها، لم يرَ في المرآة سوى شفتين ورديّتين، وذقنٍ رقيق، وبشرةٍ شاحبة تزيدها جمالًا هشًّا كأنّ فيه لمسةَ زُرقةٍ خفيفة....
...وقبل أن تلتفت إليه، ابتسم وقال:...
..."شفاهكِ باهتةٌ للغاية، دعيني أضع عليها قليلًا من اللون لتزداد إشراقًا، ما رأيكِ؟"...
...كانت هذه أوّل جملةٍ يقولها لها....
...فاستدارت نحوه وابتسمت....
...عيناها صافيتان كمياه البحر، وحاجباها كجبالٍ زرقاء رقيقة....
...اقترب منها، وفتح علبة المساحيق، وغمس إصبعه في اللون، ثم مرّره بلُطفٍ على شفتيها....
...وتحت لمسته، بدأت الشفاه تكتسبُ اللون شيئًا فشيئًا، كزهرةٍ تتفتح رويدًا رويدًا....
...ولكن تلك الزهرة… قد غدت له وحده....
...تسرّب الدفء إلى قلبه، وقال بشغف:...
..."من الآن فصاعدًا، سأضع لكِ اللون على شفتيكِ كلّ يوم."...
...رأى أحد الخدم هذا المشهد، وانتشرت الأحاديث سريعًا بين الناس....
...قالوا إنّه شغوف بزوجته، كـ"تشانغ تشانغ"[3]، الذي كان يُضرب به المثل في حبّه لزوجته، وإنّهما يعيشان حبًّا متبادلًا....
...---...
...بـعـد ثــلاث سـنــوات...
...كانت تحبُّ ارتداء الألوان الهادئة كالزهري الفاتح والأزرق السماوي....
...كانت ملابسها اليوميّة بهذه الألوان، ومن يراها من بعيد، كان يظنّها غيمةً تمرّ بهدوء في السماء....
...نادرًا ما كانت تضع مساحيق تجميل، ولم تكن تُلوّن سوى شفتيها باللون الوردي، هو اللون الذي اعتاد زوجها أن يضعه لها....
...حاجباها كالجبل، عيناها كماء البحر، بشرتها نقيّة بيضاء، وشعرها طويل أسود كالليل....
...بسيطةٌ في مظهرها، لكنّها أنيقة....
...كانت شفتاها فقط ملوّنتين بلونٍ أحمر ناعم....
...لكنّ الناس ما عادوا يتحدّثون عن حبّه لها، بل بدأت الهمسات تتحدّث عن أمرٍ آخر:...
...كيف مضت ثلاث سنواتٍ من الزواج، ولم يُرزقا بطفل؟...
...ألم يكن الإنجاب أحد أركان البرّ، وأحد مسؤوليات الزوجة تجاه العائلة؟...
...وفي صباحِ أحد الأيّام، وبينما كانت ترافقه لتحيّة والديه، قالت له فجأة:...
..."لقد قصّرتُ ككنّةٍ في هذا البيت. تزوّجتُ منذ ثلاث سنوات، ومع ذلك لم أُنجِب طفلًا شرعيًّا يحمل اسم العائلة. ولا سبيل للمحافظة على سُلالة العائلة سوى بأن تتزوّج أخرى — حتى وإن كانت جارية — ليظلّ البخور مشتعلًا، وتستمرّ السلالة."[4]...
...---...
...كانت حواجبها لا تزال زرقاء، والعينان ما زالتا بلون البحر. البشرةُ ظلّت شديدة البياض، والشعر ما يزال طويلًا وأسود....
...أما شفتاها الورديتان، الشبيهتان بزهرة الخوخ، فقد نطقتا بهدوءٍ عن موضوع اتخاذ زوجةٍ ثانوية (جارية). وكلّ شيءٍ فيها بدا كما هو في الأيام العادية....
...نظرت الحماة إلى زوجها، وكأنها تنتظر منه الكلام. لكنّه أومأ برأسه دون أن ينبس بكلمة، وكأنه يمنعه من التحدّث....
...إن لم تُنجب الزوجةُ الأولى، فلتُنجب الجارية، وإن لم تُنجب الجارية، فربما الخادمة. إن لم تنفع امرأة، فيتزوج ثانية....
...وإن لم تكفِ اثنتان، فليتزوّج ثالثة، ما دام المطلوب هو إنجاب فتى يحمل اسم العائلة. هكذا كانت العادة في كل منزل؛ نادرًا ما يكتفي أحد بزوجةٍ واحدة....
...ذلك كان دورها. وكان ذلك أيضًا دوره....
...وهكذا، تقرَّر كلُّ شيء. تمامًا كما في العام الذي تزوّجت فيه....
...لم يكن إدخالُ جاريةٍ أمرًا مُستهجَنًا؛ فقط فانوسان أحمران إضافيّان يُعلّقان على السطح، وكلمتان مُبتهجتان تُلصقان على الأبواب....
...لم يكن اتخاذ جارية أمرًا مستغربًا، فقط فانوسان أحمران جديدان يُعلّقان على السقف، وكلمتان مبهجتان تُلصقان على الباب....
...ثمّ قامت بتعديل ثوبه برفق، وهمست: "عربة العروس أوشكت على الوصول إلى الباب."...
...رفع ذقنها برفق، ثم مسح شيئًا من الطلاء على شفتيها، ونظر في عينيها. لكن فجأة، وجد رموشها قد أُغلقت. لم تُزِح نظراته عن وجهها الشاحب، وأخذ يُلوّن شفتيها بهدوء، كما اعتاد دومًا، بأصابعٍ حانية ورقيقة....
...قال بهدوء: "لا تَحزني."...
...فأجابت بابتسامةٍ باهتة: "لا بأس... هذا أمرٌ لا بُدّ منه."...
...أنزل أصابعَه، وأمسك بيديها، وضغط عليهما برفق....
...وفجأة، سُمِع صوتٌ من الخارج: "لقد دخلت العربةُ من البوابة!"...
...---...
...ومع دخول الجارية الجديدة، انشغل الزوج بين الأيام والشهور، يمرّ بها أحيانًا، ويتبادلان كلماتٍ قليلة من السؤال أو التنبيه....
...الشخص الذي اعتاد أن يسأل ظلّ يسأل، والذي اعتاد أن يُصغي ظلّ يصغي. وفي بعض الأحيان، كان يلمح ظلّها في آخر الممر، يغيب بين الطوابق والسلالم وغرف الدار، فيتوقّف فجأةً ويلتفتُ إليها....
...ما زالت الحواجبُ زرقاء، والعينان بحريّتان؛ ولكن، بهتتا أكثرَ من ذي قبل....
...ما الفائدة؟ هو وهي، كلاهما كان يعلم أنّ الأمرَ بديهيّ. الاعتراض لن يُغيّر شيئًا سوى أنه يؤلم القلب....
...---...
...وبعد عام، أنجبت الجارية الثانية فتاة. وحين بلغت الطفلة شهرها الأول، رآها مجددًا....
...كانت ما تزال ترتدي ثيابًا خفيفة، وشعرها طويل، ولكنها كانت أشدّ شحوبًا من ذي قبل....
...ثم مرّ عامٌ آخر، فتزوّج بجارية ثالثة. هذه المرة، لم يُواسيها أحد، ولم يقل لها "لا تحزني" لأنها، هي وهو، والجاريتان، جميعهم أدركوا أنّ هذا أصبح أمرًا طبيعيًّا....
...ثمّ مرّ عامٌ آخر، فأنجبت الجاريةُ الجديدةُ صبيًا. وعندما بلغَ الطفلُ شهرَه الأول، نظّمت العائلةُ احتفالًا كبيرًا، وارتدى كلُّ خادمٍ زهرةً حمراء على صدره....
...حتى هو نفسهُ ضحكَ قائلًا: "أخيرًا، جاء من يحملُ إسم العائلة."...
...وفي تلك السنة، كانت هي الأكثر إنهاكًا من أيّ وقتٍ مضى....
...---...
...مضت الشهور، وتتابعت الأعوام، وتوالت عربات العرائس على أبواب الزقاق. يأتي العام الجديد، ثمّ عيد قارب التنين، ثم عيد الفوانيس، ثم عيد التاسع المزدوج، ثم يعود العام الجديد مجددًا....
...وكانت هي، بجسدها الهزيل وشحوبها المستمر، تمضي في الظلّ خلف زينة الخادمات والجواري، حتى اصبح من النادر أن يُلاحظها....
...شيئًا فشيئًا، بدأت تختفي بين ألوان الحشد الوردي والبنفسجي، فلم يَعُد لها وجودٌ ظاهر....
...---...
...وحين اضطرّ للسفر إلى مكانٍ بعيد، مرضت هي في المنزل مرضًا شديدًا. لم تُجدِ الأدوية نفعًا، وازدادت حالتها سوءًا....
...حين وصلهُ خبرُ مرضها، عاد مُسرعًا إلى المنزل. لكنّ الأوان كان قد فات....
...وجدها مستلقية على السرير، عيناها مغمضتان وكأنّها نائمة. وجنتاها شاحبتان نحيلتان، وشعرها الطويل مبعثر، ولم يبقَ فيها شيءٌ من المرأة التي جلست أمام المرآة قبل سنوات. لم تَعُد رموشُها طويلة، ولا شفتاها......
...وفجأةً، تذكّر شفتيها، وكأنّه أدرك أمرًا مهمًّا. نظر إليهما، فوجدهما باهتتين. نظر حوله بسرعة، يبحث عن عُلبة طلاء الشفاه الأحمر....
...قالت الخادمةُ التي كانت تُرافقها بهدوء:...
..."لقد مضى وقتٌ طويلٌ منذ أن وضعت السيدةُ طلاءَ الشفاه."...
...اندفع نحو المرآةِ، وأخذ يُقلبُ الأدراجَ واحدًا تلو الآخر، حتى وجد أخيرًا علبةَ الطلاء القديمة. فتحها بيدين مُرتجفتين، فإذا بالطلاءِ قد جفّ تمامًا، ولم يتركْ أثرًا على أصبعه....
...تذكّر حين قال لها يومًا:...
..."مـن الآن فـصـاعـدًا، سـأُلـوِّن شـفـتـیـكِ كــلّ يــوم."...
...سقطت علبة الطلاء من يده، وتحطّمت. وتفتّتَ قطع الطلاء الجافّ واحدة تلو الأخرى، وبدأت وتبعثرت تحت قدميه، وكأنّها شظايا الزمن....
...تـبـعـثـرت الـقـطـع كـلـهـا عـلــى الأرض....
...•••...
...𝑇ℎ𝑒 𝐸𝑛𝑑...
..._______...
...[1] طقوس الزفاف التقليديّة في الصين القديمة، من ضمنها الركوع للسماء والأرض كجزء من القسم المقدّس....
...[2] الطاعة الثلاثيّة: طاعة الأب قبل الزواج، الزوج بعد الزواج، والابن بعد وفاة الزوج. - الفضائل الأربع: الأخلاق، الكلام، السلوك، العمل المنزلي....
...[3] تشانغ تشانغ: رجلٌ في الصين القديمة اشتهر بحبّه لزوجته وعنايته بها، فصار مَثَلًا يُضرب في حبّ الأزواج....
...[4] "عود البخور" استعارة تُشير إلى استمرار النسب والذرّيّة في الثقافة الصينية القديمة....
...كان قدري معه مرهونًا بالرقم "ستة"....
...رقمٌ صغير، لكنه في قصتنا... كان أشبه بخيطٍ خفيّ، ربط بين أرواحنا في صمت....
...كنتُ شاردةً، وعقلي يعود من تلقاء نفسه إلى تلك البداية البعيدة، حيث وُلد كل شيء دون أن نشعر....
...كل شيء بدأ عندما جلسنا معًا على نفس المقعد، بعد توزيع الطلاب على صفوفهم في السنة الأولى من الثانوية....
...كان ذا شعر قصير أنيق، وملامح حادة آسرة، وتغمر وجهه ابتسامة هادئة لا تفارقه، تعمّقها غمازة صغيرة تحت زاوية فمه، وكأنها وُجدت فقط لتُثير القلب الذي ينظر....
...رغم أن ذاكرتي قد بهتت بشأن تلك الأيام، إلا أن كلماته ما زالت حيّة في مكانٍ عميق مني، تعود كلما فكرت به....
...* * *...
...حين وطئتُ أبواب الثانوية، كنت ما أزال غريبةً على هذا العالم الجديد....
...كنت منطوية، خائفة، لا أرغب حتى في مشاركة مقعدي مع فتى لا أعرفه....
...جلستُ بصمت، أحدّق في الطاولة أمامي كأنني أهرب من الواقع....
...دخل هو بعد برهة، كان ينظر إلى نتائج امتحان تحديد الصفوف....
...ما إن رآني، حتى ابتسم وقال بابتسامة فخورة:...
..."لقد تفوقتُ عليكِ بستّ درجات!"...
...نظرتُ إليه في حيرة، لا أفهم ما يعنيه....
...تابع حديثه بلطف:...
..."كنا معًا في المدرسة الإعدادية... هل تتذكرينني؟"...
...لكنني، بكل صدق، لم أتذكره....
...ضحك بخفوت، بصوت يشبه نسمة خريفية:...
..."كنتُ في الصف الخامس. كنا زملاء في الصف المتقدم مرة واحدة."...
...آنذاك، لمعت في ذهني صورة باهتة... بدأتُ أتذكره....
...كنت فتاة هادئة في تلك المرحلة....
...غارقة في كتبي، لا ألتفت لمن حولي، لا أذكر حتى وجوه من كانوا يجلسون إلى جانبي، فكيف بمن هم في صفٍ مختلف؟...
...قال إنه لاحظني حين كنّا في الصف الثالث من الإعدادية....
...كنتُ أحتلّ المركز السادس، مركزًا لطالما حلم هو بالوصول إليه، لكنه لم ينجح قط....
...ثم سألني بابتسامة:...
..."هل تحبين الرقم ستة؟ كيف تبقين ثابتة فيه طوال الوقت، وكأن أحدًا لحَمكِ بالمكان؟"...
...ابتسمت، ولم أخبره بالحقيقة:...
...أن الذين سبقوني كانوا أوائل لا يمكن مجاراتهم، فأصبحتُ السادسة إلى الأبد، حتى لقبني الجميع بـ"الستة الصغيرة"....
...لكنني لم أفضِ له بشيء....
...قال وهو يضحك بفرحٍ طفولي:...
..."هذه أول مرة أكسر فيها اللعنة وأتجاوزك، لا تتخيلي سعادتي!"...
...ضحكته تلك كانت مُعدية، جعلتني أبتسم بدوري وأقول له بهدوء:...
..."مبارك لك."...
...لم نكن نعلم آنذاك، أن هذا الرقم البسيط سيكون الحبل الذي يربط أرواحنا كلما ابتعدنا....
...* * *...
...في السنة الثانية، افترقنا بين التخصصات: هو في العلمي، وأنا كذلك... لكن المصادفة أبقتنا في نفس الفصل....
...ولم أدرِ متى بدأنا نقضي وقتًا أطول، ومتى بدأت مشاعري تخرج عن نطاق المألوف....
...في أول امتحان في السنة الأخيرة، فرّقت بيننا ست درجات أخرى....
...لكن هذه المرة، أنا حصلت على توصية للالتحاق بجامعة مرموقة في الشمال، وهو لم يُمنح الفرصة ذاتها....
...تغير... خفت ضوؤه، خفّت ابتسامته، لم يعد يذهب للعب، أصبح يجلس في صمت، يذاكر وحده....
...كنت أودّ أن أقول له:...
..."لا تُجهد نفسك... لا تجعل من التوصية نهاية العالم."...
...لكنني صمتُّ... عضضتُ على كلماتي، ووضّبتُ حقيبتي استعدادًا للرحيل....
...حين مررتُ قربه، استوقفني بصوته الذي تغير:...
..."مستقبلك سيكون مشرقًا."...
...لم أتمالك نفسي... شكرتُه والدموع تتساقط من عيني كأنها تعتذر نيابةً عني....
...* * *...
...عندما عدتُ إلى المدرسة لالتقاط صور التخرج، ناولني ورقة قديمة....
...كانت خريطة المقاعد....
...وأشار إلى المقعد السادس... مقعدنا الأول....
...الأسماء تغيّرت، لكن اسمينا ظلّا محفورين جنبًا إلى جنب، كما لو أن الزمن لم يتحرك....
...قال لي:...
..."وجدتها أثناء تصفحي لكتاب قديم. كنتُ أراها مصادفة، لكنني لم أستطع رميها. فلنحتفظ بها... كتذكار منّا."...
...المقعد السادس... رماد الأيام، ودفء الذكرى....
...* * *...
...بعدها... لم أعد أراه....
...لكنني، دون أن أدرك، كنت قد بدأتُ أفقد نفسي في دوّامة هادئة من الحنين إليه....
...* * *...
...أول لقاء بعد الفراق كان أمام بوابة المدرسة يوم الامتحان الجامعي....
...كنت أقف تحت ظلّ شجرة، أُمسك باقة من الزهور، أراقبه من بعيد يتحدث إلى والديه....
...وكأن قلبه شعر بي، التفت فجأة....
...كانت بيننا جموع كثيرة، بحر من البشر... لكن أحدًا منّا لم يتحرك....
...عندها فقط أدركت أن زمن "المدرسة" قد انتهى... لنا معًا....
...* * *...
...اللقاء الثاني كان على رصيف محطة القطار السريع في مدينة "L"....
...قال لي:...
..."مرحبًا."...
...نظرتُ، فعرفته، وقلت بدهشة:...
..."يالها من مصادفة!"...
...ابتسم وقال:...
..."نعم... مصادفة عجيبة."...
...كان قد قُبل في جامعة جنوبية، وبدأ يستعد للتدريب العسكري....
...أما أنا، فوجهتي كانت شمالًا....
...قطاران... يسيران في اتجاهين مختلفين....
...* * *...
...اللقاء الثالث حدث في جامعتي، بعد أن تخرجت. ...
...كنت أزور أستاذي السابق....
...وأثناء صعودي السلم، منشغلة بمكالمة، رفعت رأسي... ...
...ورأيته ينزل من الجهة المقابلة، بقميص أبيض....
...توقفنا، هو في الأسفل، وأنا في الأعلى....
...تجمّدت اللحظة....
...لم نتبادل سوى جملة باهتة:...
..."مر وقت طويل..."...
...لكن في عيوننا... كانت ألف جملة....
...* * *...
...اللقاء الرابع كان في ليلة رأس السنة، في بلدة صغيرة....
...الثلج كان يتساقط برقة....
...أصدقائي شدّوني معهم إلى الساحة، كانت مكتظة بالناس....
...وفي خضم الزحام، رأيت هيئةً مألوفة....
...نعم... هو....
...لكن هذه المرة، لم يكن وحده....
...إلى جانبه فتاة جميلة، يحدّق فيها بعينين مملوءتين بالطمأنينة....
...كان واقعًا في الحب....
...* * *...
...وبقي الرقم ستة... يلاحقني، لا كرقم، بل كأثر....
...كظلٍّ يلامس قلبي كلما تذكّرته....
...* * *...
...اللقاء الخامس كان في حفلٍ لجمع شتات زملاء الدراسة....
...سنوات مرّت منذ آخر مرة اجتمعنا، ولم أتخيّل أنني سأراه هناك....
...حين حضر، راح البعض يمزح على طريقتهم:...
..."ثلاث سنوات وأنتما تتشاركان نفس الطاولة، ثم لا صداقة تجمعكما اليوم؟"...
...ضحكتُ... لكنّ قلبي لم يضحك....
...* * *...
...اللقاء السادس... كان الوداع....
...لم يكن وداعًا بصوتٍ عالٍ، بل وداعًا يُقام وسط الزينة، والابتسامات، وأغاني الأعراس....
...كانت دعوته تصلني للمرة الأولى، ففهمت أن زواجه قد اقترب....
...العروس هي نفسها التي رأيتها ذات شتاءٍ في ساحة المدينة، واقفة بجواره، تتمايل بضحكتها كزهرة ناعمة في الريح....
...في صورة الدعوة، كانت تميل برأسها على كتفه، بثقة امرأة تعلم أنها سكنت قلب الرجل أمامها....
...وفي الحفل......
...لم تتبدّل النظرات، ولا تغيّر ذلك الصمت العاشق بينهما....
...لم يكن يُخفي حبّه لها....
...كان واضحًا... كما لو أنّ عينيه لا تتقن النظر إلا إليها....
...* * *...
...حين جاءا ليشربا نخب الحياة الجديدة، ابتسمتُ له، وقلت كلمات التهنئة التي يقولها الناس في مثل تلك المناسبات....
...أما هو، فابتسم لي بمكرٍ أخويّ وقال:...
..."أنتِ لم تعودي صغيرة. حان الوقت لتجدي من يُحبّك حقًا."...
...ابتسمت......
...وكانت ابتسامتي أشبه بكلمة وداعٍ لا أحد يسمعها....
...* * *...
...بعد ذلك... اختفى من أيامي....
...رأيته ذات صدفة، عبر صورة نشرها على تطبيق "اللحظات" — صورة له مع زوجته وطفلهما، يستعدون لمغادرة البلاد نحو حياةٍ جديدة في الغربة....
...حينها......
...أدركت أنّ قلبي بدأ يُسامح....
...بدأ يُحرّر نفسه من ذكرى دامت أكثر من نصف عُمري....
...أدركت أن القصة انتهت....
...* * *...
...بعدها بأشهر، نُقلت إلى محافظة أخرى بقرارٍ من العمل، وعشت هناك لسنواتٍ طويلة....
...لم نلتقِ من جديد......
...ولا حتى مرة....
...* * *...
...وذات يوم، جاءت ابنتي تركض نحوي، تمسك بورقة بيضاء، وتهتف بسعادة:...
..."ماما! هذه الورقة فيها سر!"...
...وضعتها تحت ضوء أزرق، فظهرت عليها كتابة خافتة:...
..."ميانميان، أنا أحبك."...
...في تلك اللحظة......
...انفجر الزمن في قلبي....
...تدفّقت الذكريات، وامتلأت عينايَ بصمتٍ لا يُبكَى....
...ياللأسف......
...كُنّا فقط مجرّد ذكرى......
...في ذاكرة بعضنا البعض....
...•••...
...ماذا لو عاد إليكِ من كنتِ قد دفنتِه في الذاكرة، ليقول: "ما زلت أحبك"؟...
...في العام السادس عشر منذ لقائنا الأول......
...عاد إلى البلاد لتلقّي العلاج....
...جاء إلى المدينة التي أعيش فيها، ودخل المستشفى الذي لا يزوره سوى من أرهقهم التعب....
...كنت أنا الشخص الوحيد الذي يعرفه هناك، فذهبتُ لرؤيته....
...كنا قد بلغنا الثانية والثلاثين، لم يعد ذاك الفتى الذي كان يركض خلف الأهداف ويضحك في ردهات المدرسة....
...كان قد هُزِم، جسده بدا هشًا، كمن يحمل مرضه على أكتافه كما يحمل المُذنب صمته....
...جلستُ عند سريره، وغرقتُ في صمتٍ طويل، وفي ذهني كانت ذكريات الماضي تتقافز كظلال لا تهدأ....
...ابتسم لي، وسأل:...
..."هل أبدو قبيحًا الآن؟"...
...قلت، وأنا أشيح بنظري عن ذبول وجهه:...
..."لست كما كنت حين التقينا، لكنّك ما زلت أنت."...
...ثم تنهد وقال، وعيناه نحو سقف الغرفة:...
..."كنّا في السادسة عشرة حين التقينا. والآن نحن في الثانية والثلاثين، نحمل أطفالًا وبيوتًا ووجوهًا تُشبهنا... ولا يمكننا العودة."...
...سألته، بصوتٍ ناعم:...
..."هل تفتقد تلك الأيام؟"...
...لم يجب....
...لكنه استدار ناحيتي، وقال بصوتٍ أشبه بالهمس:...
..."أظن أنني... أقترب من الموت."...
...كتمت أنفاسي....
...ثم ضحكتُ ضحكة المرتبك، وقلت:...
..."ما الذي تقوله؟ كُفّ عن هذا الحديث، إنك متعب فحسب، ولا تدري ما تقول."...
...لكنّه ظلّ ينظر من نافذته الصغيرة، وهمس:...
..."أعرف جسدي جيدًا. وأظنّ أنّني... لن أرى الصيف هذا العام."...
...* * *...
...غادرتُ سريعًا تلك الليلة، كأنني أهرب من شيءٍ لا أستطيع تسميته....
...لكن بعد تلك الزيارة، أصبحت أعرف زوجته....
...كانت تبحث عن مدرسة لابنهما، ولم أستطع أن أقاوم حين رأيت الطفل... ...
...كان يُشبهه إلى حدٍّ يُبكيني....
...ساعدتها....
...وجعلت ابنها في الصف نفسه مع ابنتي....
...ومنذ ذلك الحين......
...كنت أراه....
...لا هو، بل ملامحه الصغيرة تمشي، تتشاجر، وتضحك من جديد....
...* * *...
...ثم أتى الربيع....
...وفي بدايته... رحل....
...لم يسمع صخب الصيف كما قال....
...أقيمت جنازته في المدينة التي شهدت أول لقاء لنا....
...وقفتُ أمام صورته، لا أبكي، ولا أتنفّس، فقط... أنظر....
...عدتُ بعدها إلى مدينتي، وعملت كأن شيئًا لم يكن....
...* * *...
...لاحقًا، دعتني زوجته لزيارتها، برفقة ابنتي....
...دخلنا البيت، وركض الأطفال للعب....
...أما أنا، فتأملت المكان بهدوء،...
...حتى وقعت عيناي على رفٍ خشبيّ صغير، عليه صورة مؤطّرة لخريطة مقاعد دراسية قديمة....
...خريطة... من سنتنا الأولى في الثانوية....
...اقتربت منها، تحدّثني:...
..."تتذكّرينها، أليس كذلك؟ لقد احتفظ بها كل هذه السنوات، حتى عندما سافرنا، أصرّ على أخذها معه. قال إنها ذكرى لا تُنسى."...
...* * *...
...جلستُ إلى جوارها، وسألتها عن نواياها القادمة....
...فقالت بهدوء:...
..."سأكرّس حياتي لطفلي، ولا أظن أنني سأتزوّج من جديد."...
...نظرتُ لها، وقلت:...
..."الوحدة صعبة، كوني مستعدة."...
...فابتسمت بعينين حمراوين، وقالت:...
..."ميانميان... لقد كان زواجنا تقليديًّا، بلا حب. عشنا معًا، وتشاركنا الحياة، لكنه لم يُحبّني قط."...
...شهقتُ، ولم أعرف كيف أُجيب....
...فأكملت، بصوتٍ مكسور:...
..."حين طلبني والديه، صارحني بأنه يحبّ فتاة أخرى. قال لي إن لم أقبل بذلك، فليذهب كلٌ في طريقه. لكنني... كنت أحبّه. وقبلت، رغم كل شيء."...
...ثم صمتت لحظة، وأردفت:...
..."احترمني، وعاش معي بلطف. لكنّي كنت أعلم... أنّ قلبه في مكانٍ آخر."...
...همستُ:...
..."ولِمَ تخبرينني بهذا الآن؟"...
...نظرت إليّ نظرة ممتلئة بالصمت، ثم قالت:...
..."لأنني حين عدنا إلى هنا، أدركت من كنتِ أنتِ. أنتِ... تلك التي سكنت الخريطة، والذكرى، والقلب."...
...صمتُّ، لا أعرف ماذا أفعل....
...فقالت، وهي تضحك ببكاء:...
..."في هذه الحياة... كنتُ أنا من أجبره على البقاء. أما في الحياة القادمة... فسأتركه لكِ."...
...* * * ...
...منذ ذلك اليوم، بقيتُ على تواصلٍ معها....
...كنت أشعر أنني مدينة له... برعاية من بقي من عالمه....
...أما زوجي، فكان رجلًا طيبًا، محترمًا، لكن بيننا لم يكن حب....
...مجرد مودة......
...صداقة على هيئة زواج....
...كنا نحمل أسماء بعضنا، لكن قلوبنا كانت تسكن أماكن أخرى....
...* * *...
...وذات مساء، وأنا أروي لابنتي قصة قبل النوم،...
...عانقتني فجأة وسألتني:...
..."أمي... هل يعيش الناس حياةً أخرى بعد هذه الحياة؟ إن كانت هناك حياة ثانية... عليكِ أن تُحبّي والدي وتُحبّيني أيضًا... حسنًا؟" ...
...صمتُّ....
...ولحسن الحظ، نامت قبل أن أُجيب....
...مددتُ يدي على خدّها الصغير، وقلت لها هامسة، لا تسمعها سوى قلبي:...
..."أنا آسفة، صغيرتي... لكن في حياتي القادمة، سأحبّ رجلًا آخر."...
...••••...
...𝑇ℎ𝑒 𝐸𝑛𝑑...
...خفتت وتيرة الحديث بيني وبين يان تشي في اليومين الأخيرين....
...هو الآن في عامه الدراسي الأخير، بلا صفوف، بلا التزامات، كان يدعوني بين حينٍ وآخر لتناول العشاء....
...لكنني، أنا التي أقضي اليوم كله داخل السكن بلا زينة ولا طِيب، أشعر بأني حين أخرج، لا أبدو سوى باهتة، شاحبة، وربما قبيحة....
...هذا المساء، وصلتني رسالة منه:...
...—"ماذا تفعلين؟ أود التحدث معك."...
...الساعة لم تكن متأخرة، لكن الشتاء يُسرع في سحب النور من الطرقات....
...أجبته فورًا:...
...— "حديث؟ عن ماذا؟"...
...فكتب:...
...— "تعالي للخارج، نتحدث. هل أنتِ متفرغة؟"...
...أخبرته أنني بحاجة للاستحمام أولًا، فـ رد بهدوء:...
...—"حسنًا."...
...لكن نبرته... لم تكن مألوفة....
...خالية من الخفة، من العبارات الماكرة، من الوجوه الضاحكة التي كانت دومًا تخفّف وقع كلماته....
...كان جادًا على نحوٍ مُقلق، وصمته الصارم أيقظ داخلي شيئًا خامدًا....
...فقلت، بخفة اصطناعية:...
...— "عن ماذا؟ نبرتك أشبه بنبرة أبٍ يستعد للتوبيخ."...
...أجابني:...
...— "الأمر جاد... وأخشى أن تبكي."...
...لم أردّ....
...أنا لا أبكي كثيرًا....
...لا تدمع عيناي أمام الأفلام الحزينة، ولا أمام الألم، ولا حتى في لحظات الفرح....
...دموعي لا تنسكب إلا حين يغضبني يان تشي....
...وكان ذلك... في بدايات الحب....
...قال لي ذات مرة إنه اعتاد أن أشتعل غضبًا لمدة ساعة، ثم هو — بصبرٍ غريب — يهدهدني حتى يهدأ كل شيء....
...كان لا يردّ الغضب بغضب، بل كان دائمًا، بعد كل عثرة، يحاول ألّا تتكرر....
...لكنه لم يفهم يومًا لِمَ كنت أغضب، ولذلك، تعبت... وتوقفت عن الغضب....
...أنا أحببته لأكثر من ثلاث سنوات، ولم أبكِ منذ زمن طويل....
...ومع اقتراب لحظة التخرج، قد يكون بانتظارنا كثير من الحوارات الثقيلة، لكن نادرًا ما يكون من بينها ما يجعلني أبكي....
...جلست وحدي في الغرفة....
...لم أرغب في القيام بأي شيء....
...ربما طال انتظاره، فبعث برسالة أخرى:...
...— "ما الذي تفعلينه؟ هل ذهبتِ للاستحمام؟"...
...أجبته:...
...— "لا."...
...لم يسألني لِمَ لم أجب....
...لم يسأل لِمَ تأخرت....
...فقط كتب بهدوء:...
...— "حسنًا."...
...أدركنا نحن الاثنان شيئًا لم يُقال، لكن ما دام لم يُنطق... بقي بيننا أملٌ ضئيل في النجاة....
...قمت، أخذت ملابسي، ودخلت الحمّام....
...بعد عشرين دقيقة، كنت أخرج، وقررنا أن نلتقي في الحديقة الصغيرة داخل الحرم الجامعي....
...سألني إن كنا نذهب إلى مكان أكثر دفئًا، ثم أرسل وجه قطة تعبس كأنها في مساءٍ جليدي....
...أجبته، بنصف ابتسامة:...
...— "لا، لا أريد الدفء... لا يُناسب أن أصفعك هناك."...
...ردّ عليّ بوجه جرو يبكي، لكنني هذه المرة، لم أُبادله المزاح....
...أرسلت له ردًا بسيطًا، جادًا....
...لم أكن أعلم إن كانت المشاعر ستنهمر، لكنني أعلم أنني لا أريد جدرانًا تحاصرنا، ولا ضوءًا يكشف وجهي....
...ذهبت أولًا إلى الحديقة، جلست عند طرف مقعد حجري، جوار أحواض الزهور الباردة....
...لم يكن هناك أحد، ولا أضواء....
...خشيت ألّا يراني، فأشعلت ضوء الهاتف، وضعت إحدى يديّ في جيبي، وكتبت بالأخرى:...
...— "أنا هنا."...
...فهم رسالتي، وظهر من بين ظلال الممر المكسوّ بالخيزران....
...كان يسير نحوي....
...وقف أمامي، قريبًا جدًا....
...قال، وهو يفرك كفيه تحت أنفاس البرد:...
...— "إنه بردٌ قارس... هل تشعرين به؟"...
...كنت قد خرجت للتو من الحمام، والتفّ حولي دفء الملابس الثقيلة، لكن إحدى يديّ كانت مكشوفة بينما كنت أعبث بالهاتف، فمددت يدي له، ليشعر ببرودتها، ثم سحبتها سريعًا....
...شهق بخفة حين لمس برودتها، وأنا، للمرة الأولى، شعرت بحرارة يده....
...في الخريف، قبل أن نعترف لبعضنا، مدّ يده ذات مساء وسألني:...
...— "هل تشعرين بالبرد؟"...
...وضعت يدي الباردة في كفّه، ثم سحبتها خجلًا....
...في تلك الليلة، كتب لي:...
...— "لماذا لم تمسكي يدي؟"...
...أجبته:...
...— "كنت خجولة."...
...وفي اليوم التالي... أمسكت بها....
...ربما لاحظ اضطرابي الآن، اقترب مني أكثر، حتى شعرت وكأن ساقيه تكادان تحتضناني، تحبساني بينه وبين المقعد....
...جلست على الجهة اليسرى، سحبت قدمي من بين قدميه، وتهربت من ضغط وجوده،...
...قال ساخرًا، بنبرة خافتة:...
..."هل تحاولين منعي من الهرب؟"...
...رفعت رأسي، نظرت إليه، لكن الظلام كان ثقيلاً، فغابت ملامحه عن عيني....
...أشرت إلى جانبي:...
..."اجلس."...
...اقترب، لكنه لم يحاول إحتضاني هذه المرة،...
...قال ببساطة:...
..."لا أريد الجلوس."...
...نظرت إليه ثانية، دون أن أقول شيئًا....
...قال:...
..."أنتِ تعرفين ما سأقوله، أليس كذلك؟"...
...أشحت ببصري، نظرت إلى الأرض، قلت ببرود متألم:...
..."لا أعرف... كيف لي أن أعرف؟"...
...قال بصوت خافت، من يميني:...
..."أعني... لا أظن أننا سنكمل الطريق سويًا، أقصد..."...
...كلماته كانت بسيطة، وكأنني أستمع لتقرير جامعي، لا لنبأ ينهار معه القلب....
...سكت طويلًا، لم يكمل....
...فهمست، وأنا ما زلت أنظر بعيدًا:...
..."تابع."...
..."هاه؟"...
...استدرت إليه، نظرت إلى وجهه الغامض....
...قال، وصوته مكسور:...
..."لا أظن أنني أحبك بما يكفي..."...
...قالها يان تشي، وانكسر صوته في منتصف الجملة.. ...
..."فكّرت... إن كنا سنتزوّج لاحقًا، سنحتاج إلى... إلى أشياء كثيرة... ولهذا، فأنا..."...
...لم أجب....
...تحدثنا عن الزواج كثيرًا من قبل....
...وفي كل مرة، كنت أفرح بالحديث عنه....
...كنت أخبره عن رغبات والديّ، عن ذوقهما، عن الأشياء التي يحبونها في شريك ابنتهم....
...ذهبنا معًا إلى "إيكيا" وتحدثنا عن ديكور منزلنا المستقبلي....
...ناقشنا سلالة الجراء الذي سنقتنيه، والاسم الذي سنطلقه عليه....
...سألني مرارًا: "متى ستتزوجينني؟"...
...لكن اليوم…...
...قال لي إنه يريد أن يتزوج يومًا ما… من يحبها حقًا....
...كان بكاء يان تشي واضحًا....
...هو من ذلك النوع الذي يبكي بسهولة....
...قال بصوت مخنوق:...
..."أشعر أنه لو كنت أحبك حقًا… بحق، لكان عليّ أن أُحسن إليك، أن أُعاملك بلطف. لكنني بارد… بارد جدًا معك، أليس كذلك؟ أنت تشعرين بذلك، أليس كذلك؟"...
...لم أتكلم، ولم أنظر إليه....
...فانحنى برأسه، يحاول رؤيتي عن قرب....
...رفعت رأسي فجأة، وقلت بصوت حاد:...
..."أنا لم أبكِ."...
...عندما كنا معًا، أخبرني يان تشي أنه لا يحب رؤية الفتيات وهن يبكين....
...سألته يومًا: "هل ستبكي إذا افترقنا؟"...
...فقال بتردد: "ربما."...
...قلت له حينها: "أنا بالتأكيد لن أبكي."...
...البكاء، بالنسبة لي، سلوك ضعيف....
...وحين يتوقف من أحببته عن حبّي، فلا معنى لاستخدام دموعي كاستجداء للشفقة....
...لا تحبني؟ إذًا، لا تعانقني....
...لا أريد أن أنهار بين ذراعيك....
...رغم أن الجو ثقيل، رغم أن قلبي يضيق، إلا أنني… لا أرغب في أن أبكي أمامه....
...بل، في لحظةٍ ما، وجدتني أرغب في الضحك بسخرية....
...حبيبتك تنزف، أما كنت تستطيع أن تكون لطيفًا… لمرة أخيرة؟...
...لم أكن أرغب بأن يظل واقفًا بينما أجلس على المقعد الحجري المنخفض، لكن أطرافي كانت متجمدة… كأن جسدي رَفَض الحركة....
...ما أخشاه في الفراق… ليس فقط الفقد، بل أن أفقد القدرة على الحب من جديد....
...ذلك النوع من الانطفاء الذي لا أستطيع السيطرة عليه، ولا أستطيع حتى أن ألومه....
...لو كانت الخيانة هي السبب، أو الكذب، لكان بإمكاني أن أصرخ، أن ألعنه، أن أجد مخرجًا للحزن....
...لكن لا أحد مذنب حين يتآكل الحب بصمت....
...لقد أصبحت أرتعب من فكرة الفراق…...
...لأنني أعلم أن الشكوك ستلاحقني طويلًا....
...وحتى لو مرّت سنوات… سأظل غير سعيدة....
...الفراق، في النهاية، حتمي....
...لم أجد ما أقوله....
...أخرجت هاتفي…...
...وحذفته من قائمة أصدقائي....
...ثم طردته من المجموعة التي تجمعنا....
...كان ضوء شاشة الهاتف هو الضوء الوحيد بيننا....
...رآه بوضوح، ثم… اشتد بكاؤه....
...جثا بجانبي، ووضع كفيه على ركبتي، يداه كانت دافئتين، حتى من خلال طبقات ملابسي....
...لطالما أحببت يدي يان تشي…...
...كنت أحدّق بهما كثيرًا....
...نظرت إليهما للحظة....
...كنت أودّ أن أبعد يديه عني، لكنني لم أفعل....
...قال بصوتٍ باكٍ:...
..."أريدنا أن نظل أصدقاء… اليوم، إن وافقتِ، فلنبقَ أصدقاء."...
...كنت أسمع ارتعاش صوته، كان يرفض تمامًا أن نكون من أولئك الأحبة الذين يصبحون… مجرد غرباء....
...وبينما كانت شاشة هاتفي لا تزال مضاءة، وبعد أن قطعت كل الروابط، تنفست الصعداء…...
...ثم أرسلت له طلب صداقة جديد....
...سألني:...
..."هل هناك شيء آخر تريدين قوله؟"...
...والحق أن لدي الكثير…...
...أسئلة، جراح، كلمات ما زالت عالقة على طرف لساني....
...لكنني… لا أريد أن أقول شيئًا....
...هل السينما تحتاج دائمًا إلى مشهد ختامي؟...
...أنا لم أشعر بعد… أننا انفصلنا حقًا....
...منذ شهرين فقط احتفلنا بذكرى حبنا الثالثة....
...أهداني الشوكولاتة التي أحبها....
...وفي عيد ميلاده الشهر الماضي، حضّرت له كعكة، واشتريت له الهدايا، وتمنيت له أمنية....
...خرجنا للعشاء، ثم للنزهة في شتاء بارد....
...ضحكنا على مسرحية، وتشاركنا الشعر....
...وقبل أيام، نشر صورة لنا، ودعاني في المجموعة لنسافر معًا....
...قال مرارًا إنه يشتهي طبق التمبورا....
...وأنا أخبرته أنني أريد الكرز الذي أكلناه ذات مرة، والفراولة التي بدأت بالظهور في السوق....
...قلت له:...
..."أريد ديوان شعر حديث في عيد ميلادي القادم."...
...وها نحن… صامتان....
...أنا، طوال هذا المساء، لم أكن أفعل شيئًا سوى… الصمت....
...جلس إلى جواري، وقال إن الذكريات… طيّبة....
...نظرت أمامي، وسألته:...
..."وماذا أفعل بالذكريات؟"...
...أخرجت هاتفي من جديد، وبدأت أحذف المنشورات والصور، واحدةً تلو الأخرى. ...
...وكان هو… يشاهدني....
...وحين حذفت بعضها، مدّ يده وأمسك يدي،...
...قال وهو يبكي:...
..."لا… أرجوكِ، لا تحذفيها."...
...كانت يداه دافئتين كعادته، لطالما كان يرفض أن أمسّك يده، لكنه لا يمانع إن وضعتُ يدي في جيبه....
...لماذا لا أحذف؟...
...أنا نفسي لا أحتمل رؤيتها…...
...هل أحتفظ بها ليراها من سيأتي بعدك؟...
...حين كنتُ معه، كنتُ أرى منشورات حبيبته السابقة…...
...فلماذا يُفاجأ الآن؟...
...سحبتُ يدي....
...وربما شعر أنه لم يعد يملك الحق في الإمساك بها، فلم يقاوم....
...خرجت يدي بسهولة....
...قلت ببرود:...
..."لا… أنا لستُ أنت."...
...لكن البرد كان قاسيًا....
...وكانت ذكرياته أكثر....
...ثقل الهاتف… وثقل الحزن....
...فأطفأتُ الشاشة، وأعدتُ يدي إلى جيبي....
...سألته، بصوت خافت:...
..."متى قلت إنك بدأت تشعر بالبرود تجاهي؟"...
...قال بصوت خفيض:...
..."منذ أسبوع تقريبًا… بل، ربما قبل ذلك، لكن كانت هناك الكثير من المهام الدراسية…"...
...نحن منخرطان جدًا في حياة بعضنا....
...عملنا في اتحاد الطلبة، الأساتذة يعرفوننا، الزملاء يعرفوننا، والديّ يعرفان أنني أحب زميلًا لي منذ ثلاث سنوات....
...لكني لم أسأله عن كل هذا، قلت فقط:...
..."لو أردت الحديث عن البرود، فأنت هكذا منذ البداية."...
...قال، مترددًا: "ممم…"...
...عدت للصمت....
...لا أعلم إن كانت هذه الفكرة حقيقية أم لا، لكنني لم أعد أرغب بالسؤال....
...تنهدتُ، بعمق....
...قال بصوت مرتجف:...
..."ألن تكرهيني؟"...
...أجبت… من أنفاسي، لا من فمي:...
..."لا."...
...لطالما ظننتُ أننا سنظل هكذا للأبد، لكن فجأة…...
...سقط كل شيء....
...كنا متفاهمين، كنّا نضحك كثيرًا، لكننا لم نعانق، لم نتبادل القبل، ولم نكتب لبعضنا تلك العبارات الدافئة كما يفعل العشّاق....
...ربما… كنا فقط غير مناسبين....
...ليت الفراق أتى باكرًا....
...جلسنا بصمتٍ طويل، ثم همست:...
..."لنرحل."...
...قال يان تشي:...
..."اذهبي أنتِ أولًا."...
...لم أتحرك....
...وبعد لحظات، وقف وقال:...
..."لنذهب."...
...ما زلتُ ساكنة....
...همستُ:...
..."اذهب أنت."...
...وقف للحظة، جامدًا،...
...ثم… ذهب....
...راقبت ظهره يتوارى في ممرّ الخيزران، وفي اللحظة التي اختفى فيها، أخفضت رأسي… وبكيت....
...تمامًا كما كان. ...
...لم يقل "أحبك" حين كنا معًا... ...
...ولم يقل "انفصلنا" حين افترقنا......
...•••...
...𝑇ℎ𝑒 𝐸𝑛𝑑...
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon