NovelToon NovelToon

همسات العظام

صمت العظام

تخيمُ ظلال الليل على بلدة مورغان الصغيرة، حيث يُطل الظلام على كل زقاق وركن، وتبدو الأرواح وكأنها تهمس بأسرارٍ منسية في صمتٍ لا ينقطع. عند حافة الضباب الكثيف، يقف منزل آل مورغان، ذلك المبنى العتيق الذي صُمم في عهد مضى، والذي يحتفظ في جدرانه بألم الزمن وآثار الذكريات القاسية. كان المنزل، بطوباته المتهالكة التي بُنيت يد الزمن، يشهد على قصص ضائعة وأسرار دفينة، ولم يكن مجرد مبنى مهجور بل كان كالسجل الحي لمعاناة الأرواح التي لم تجد لها مفرّاً من القدر.

في تلك الليلة الباردة، التي تسودها رياح الشتاء الباكية والغيوم المظلمة التي تخفي القمر خلف ستار من الضباب، وصلت آنا إلى المنزل وهي تشعر بمزيجٍ من الفضول والخوف. كانت آنا امرأة رقيقة الطباع، تحمل في قلبها آلام الماضي التي لطالما رافقتها منذ نعومة أظافرها، وتسببت لها ذكريات الطفولة في تراكم أسئلة لا تجد لها إجابة. كانت تبحث عن إجابات لأسرار عائلتها، تلك الأسرار التي لطالما طُويت صفحاتها دون أن يفصح عنها أحد، وكأنها أحلام كابوسية تراودها في الليالي الحالكة.

دخلت آنا المنزل بخطى حذرة، تشعر وكأن كل خطوة تخطوها تنقر على قلب زمانٍ بائس لا يرحم. استقبلها صمتٌ خانق مكسو بالغموض، يتخلله صوت خافت لا يمكن تحديد مصدره، كأنه همس من أعماق الماضي يُردد كلمات لم تُفهم. لاحظت آنا منذ اللحظات الأولى أن المكان يحمل عبقاً من الحزن والظلام؛ جدران الغرفة الرئيسية كانت تعكس حكايات منسية، وقطع الأثاث المهترئة تبدو كأنها شهود على زمنٍ انقضى دون رحمة.

جلست آنا على كرسي هزاز قديم بجوار نافذة مكسورة تطل على الفناء الخارجي، وتناولت دفتر والدتها القديم الذي ورثته معها منذ أن كانت طفلة. كانت الصفحات مصبوغة بخطوط من الحبر وأحياناً بدماء قديمة، تُظهر رسومات مبهمة وكلمات مشوهة تعكس صراعات داخلية وآلاماً عميقة. كانت والدتها قد حدثتها في طفولتها عن طائفة سرية تُعرف باسم "الصمت الأزلي"، طائفة كان يُعتقد أن لها قوى خارقة تتغذى على صمت الضحايا، وأنها تجري طقوساً بحتة تتعلق بنقل الألم وتحوير الأرواح.

ومع كل كلمة كانت تلتقطها آنا من صفحات الدفتر، بدأت تشعر بأن المنزل ليس مجرد موقع مهجور؛ بل هو كيان حي ينبض بذكريات ضحايا لم يجدوا من يناديهم بالمساعدة. ففي كل زاوية من زوايا المنزل، كان هناك صدى لصرخات مكتومة وهمسات تسرد قصص من ألمٍ دفين، وكأن الجدران نفسها تحتفظ بأسرارٍ عن تلك الأرواح الملعونة.

لم يمض وقت طويل حتى بدأت الأصوات تتداخل مع خطواتها، ففي ساعة متأخرة من الليل، حينما بدت السكينة تكتسي المكان بهالة من الغموض، بدأت تسمع آنا همسات خافتة تنبعث من أعماق القبو تحت المنزل. ترددت في ذهنها كلمات محفورة بتلك الحروف القديمة: "أخرجي... قبل أن يُعيدوا ترتيب العظام." كان الصوت كأنه إنذار من عالم آخر، عالم يتجاوز حدود العقل البشري، يدعوها إلى مواجهة مصيرها المحتوم.

دفعتها تلك الكلمات إلى النزول عبر الدرج المتآكل الذي يؤدي إلى القبو، حيث كان الهواء أكثر برودة وثقلاً من خارج المنزل، يحمل معه رائحة العفن والدماء القديمة التي تلتصق بجدران المكان. كل خطوة كانت تخطوها آنا تشعر بأنها تخترق حجاباً من الزمن، لتجد نفسها في قلب قصة لم تكن لتتخيلها في أحلامها. كانت عيونها تلاحق خيوطاً حمراء تمتد عبر الحوائط، تشبه بصمات دماء جافة، ونقوشاً غامضة محفورة بدقة كأنها لغزٌ من لغز الأزمان.

وفي أحد الزوايا المظلمة للقبو، لاحظت آنا وجود صندوق خشبي قديم، منقوش عليه رموز لا تنتمي إلى هذا العالم، كأنه مفتاح لفتح سرٍ دفين مخبأ تحت طبقات الزمن. فتذكرت حينها قصص والدتها عن الطائفة التي كانت تُقيم طقوسها في هذا المنزل، طقوساً كان الألم فيها هو اللغة والصمت هو الوسيلة. كانت الطائفة تُعتبر الصمت علامة على النقاء، وكانت تفرض على ضحاياها أن يُدفنوا حيّاً داخل جدران المنزل إذا ما خمد صوتهم، لتبقى أرواحهم حبيسة في دوامة من العذاب والذكريات.

بقلقٍ متزايد وفضولٍ لا يُقاوم، تقدمت آنا نحو الصندوق، مفتونةً بتلك النقوش الغامضة التي بدت وكأنها تروي قصة منسية عبر العصور. لم تكن تعلم أن هذه اللحظة ستُغير مصيرها إلى الأبد، فكل رمزية وكل نقش كان يُشير إلى فصل جديد من فصول الألم واللعنة التي تكتنف منزل آل مورغان.

مرت ساعات طويلة في القبو، حيث بدأت آنا تكتشف غرفاً صغيرة مخفية خلف جدران سميكة، كل غرفة تحمل طابعاً مختلفاً؛ غرفة تحتوي على مرآة ضخمة مكسورة، وأخرى تحفظ سجلات قديمة وصوراً باهتة لعائلة مورغان في لحظات من السعادة الغائبة. كانت المرآة الضخمة تجذبها بشكل خاص، فقد لاحظت أن انعكاسها لا يتطابق تماماً مع حركاتها، وكأن هناك كياناً آخر يقف خلفها، يراقبها بصمتٍ قاتم. في تلك المرآة، رأت لمحات من وجوه ضحايا الطقوس، وجوهاً تُظهر ألم العصور وصرخات لم تُسمع قط. كلما نظرت إليها، شعرت وكأنها تتحدث بلغة الأرواح، لغة تحمل بين طياتها أسراراً لا يستطيع العقل البشري فهمها بسهولة.

مع تزايد الأصوات، بدأت آنا تشعر بأن المنزل يحاول التواصل معها بطريقة لا يمكن تفسيرها. كان هناك تداخل بين الأصوات والخطوات، وكأن جدران القبو تتحدث بصوت خافت يروي قصة زمنٍ بعيد. كلما تقدمت نحو عمق القبو، زادت الأصوات وضوحاً، وتباينت بين همسات خافتة وصراخ مكتوم. كانت تلك الأصوات تذكرها بأن الماضي لا يموت، بل يستمر في العيش في صمت العظام، وأن كل خطوة تخطوها تقربها من مواجهة حقيقة لم تكن لتخطر على بالها.

بدأت ذكريات آنا تتداخل مع مشاهد من كوابيسها، حيث رأت والدتها في لحظات من الضعف والمرارة، تتحدث إليها عن أسرار الطائفة وعن مآسي كانت قد وقعت في منزل آل مورغان منذ أجيال. لم تكن تلك القصص مجرد حكايات تُروى في الهمس، بل كانت تفاصيل دقيقة تُنقش في الذاكرة، كأنها علامات تُحدد مصير كل من يدخل إلى هذا المنزل. كانت والدتها تقول لها بصوتٍ مكسور: "يا ابنتي، ليس كل ما يختبئ في الظلام يُمكنك فهمه، وبعض الأسرار قد تكون مريرة للغاية لتستطيعي حملها." ولم تفهم آنا حينها مدى عمق تلك الكلمات، لكنها الآن بدأت تدرك أنها كانت تحذيراً من القدر.

بينما كانت تتنقل بين أروقة القبو، بدأت آنا تلاحظ علامات على الجدران، رسومات مبهمة تشبه خريطة زمنية تقودها إلى غرفة مخفية لم تُفتح من قبل. دفعتها شجاعة الفضول إلى تتبع تلك العلامات حتى وصلت إلى غرفة صغيرة في عمق القبو، لم ترَ مثلها من قبل. كان الباب مصمماً من خشب قديم متصدع، محفور عليه رموز دينية وأساطير قديمة، وبدا كأنه يحمي سرًا لا يجب أن يعرفه أحد. بحذر شديد، فتحت آنا الباب لتجد نفسها أمام مشهد لا يوصف؛ غرفة مملوءة بصور عائلية باهتة، وأوراقاً قديمة توثق أحداثًا مؤلمة، ونصوصاً مكتوبة بخط اليد تحمل شهادات من شهود عيان لعصورٍ مضت.

في ركنٍ من الغرفة، وجدت آنا سجلاً جلدياً قديمًا، بدا كأنه يوميات إحدى ضحايا الطقوس، يسرد فيه تفاصيل دقيقة عن ليلة مرعبة شهدت اختفاء العائلة بأسرها. كانت الكلمات على الصفحات تنطق باليأس والخوف، وتذكر بطقوس كانت تُقام في تلك الليلة الملعونة، حيث اجتمعت الأرواح لتعلن عن لعنة لن تنتهي. كلما قرأت المزيد من تلك الصفحات، شعر قلب آنا يضيق من شدة الألم والمعاناة التي سُطرت فيها كل كلمة، وكأنها تعيد إحياء جراحٍ قديمة لم تلتئم.

وفي تلك اللحظة، تداخلت الأصوات مع ضوضاء قلبها، وأصبحت تتساءل: هل هذه النصوص مجرد خيالات أم أنها تعكس واقعًا مريرًا؟ كان الشك يتسلل إلى عقلها، لكن الفضول كان أقوى من كل ذلك. وفي صمتٍ مهيب، بدأت تتذكر تفاصيل طفولتها؛ ذكريات لأصوات خافتة وأحلامٍ غريبة عن منزلٍ تسكنه أرواح لا تعرف الراحة. تذكرت كيف كانت والدتها تهمس لها بأسرارٍ لا يُمكن للعقل فهمها، كيف كانت تخبرها بأن هناك شيئاً أكثر من مجرد جدران وحجارة، وأن لكل حجر في هذا المنزل قصة ترويها.

مع مرور الوقت، بدأت آنا تنقب في أعماق ذاكرتها لتجمع شظايا ماضٍ نُسي، حتى وجدت نفسها محاطة بذكريات مؤلمة لعهدٍ كانت فيه الطقوس تُمارس دون رحمة، وكان الألم هو العملة الثمينة التي تُباع وتُشترى به الأرواح. شعرت بأن كل تلك الذكريات قد تشكل مفتاحًا لفهم اللعنة التي حلت بمنزل آل مورغان، وأن عليها أن تجمع بين ما هو مكتوب في الصفحات وما هو موجود في أعماقها.

تسللت آنا إلى الجزء الخلفي من الغرفة حيث كانت تجد نفسها أمام مرآة عملاقة، لكن هذه المرآة لم تكن كبقية المرايا في المنزل؛ كانت تحمل طابعًا مهيبًا، مع إطار من الخشب المزخرف يبرز عصوراً من الفن القديم. نظرت إلى انعكاسها في تلك المرآة، وفي لحظةٍ مفاجئة، تبددت الحواجز بين الواقع والخيال. بدأت الوجوه تتداخل مع صورتها؛ وجوه ضحايا الطقوس، وجوه تبتسم بأسى وتصرخ بصمتٍ لا يُحتمل. كان الصوت الذي يسمعه قلبها يزداد سرعة، وكأن الزمن نفسه استعاد قوته وبدأ ينطق بأسرارٍ دفينة.

تخيلت آنا أن المنزل يحكي لها قصةً طويلةً عن الألم والسراب، عن أيامٍ كانت فيها الأرواح تحوم في كل زاوية، عن لحظاتٍ كان الخوف فيها رفيقها الدائم. وفي تلك اللحظة، بدأت دموعها تتساقط على صفحات الدفتر القديم، وكأنها تحاول أن تروي للعالم ما لا يستطيع الكلام عنه. كان الألم يختلط مع الرهبة، والحنين مع الخوف، لتصبح كل لحظةٍ من تلك اللحظات كأنها فصلٌ من فصول رواية لا تنتهي.

وفي عمق تلك الغرفة، رصدت آنا ممرًا صغيراً يؤدي إلى غرفة أخرى مخفية، غرفة لم تكن مذكورة في أي من النصوص أو القصص التي قرأتها. دفعتها شجاعة الفضول إلى فتح الباب، لتكشف عن غرفة ضيقة تنبعث منها رائحة عتيقة تختلط برائحة البخور والدماء. هناك، على طاولة خشبية متآكلة، وُضع مجمعٌ من الرموز والأوراق القديمة التي تبدو وكأنها خريطة لعوالم مجهولة. وبينما كانت تلمس تلك الأوراق برفق، بدأت تسمع أصواتاً تتردد من بعيد، أصوات تشبه صراخاً مكتوماً يأتي من أعماق الذاكرة الجماعية للعائلة.

توقفت آنا لحظةً تتأمل تلك الأوراق، وفكرت في معنى تلك الرموز. كانت كل رمز يحكي قصةً، وكل ورقة تحمل تفاصيل عن طقوس قديمة كانت تُمارس في الليالي الحالكة. تذكرت حينها أن والدتها كانت تقول لها: "ليس كل سرّ يجب أن يُكشف، فبعض الأسرار تُبقي على الإنسان في حالة توازن بين الحياة والموت." لكن الآن، وجدت آنا نفسها في مفترق طرق؛ هل تبقى في درب البحث عن الحقيقة مهما كانت ثمنها، أم أن هناك طريقة للهروب من هذه الدوامة المظلمة؟

مرت ساعات طويلة في تلك الغرفة، وبينما كانت تقلب الأوراق وتقرأ النصوص المتلاشية، بدأت تشعر بأن هناك قوة خفية تراقبها. كان الهدوء يزداد سوءًا مع كل دقيقة تمر، وكأن الأرواح المحتجزة في زوايا المنزل قد قررت أخيراً أن تتحدث بصوت واحد. في تلك اللحظة، سُمع صوتٌ غامض يهمس في أذنها، صوتٌ لم يكن من عالم الأحياء: "استمري، فالسر الأكبر لم يُكشف بعد." ارتجف قلب آنا من شدة الرهبة، لكنها في الوقت نفسه شعرت بدافعٍ غريب يدفعها للاستمرار في البحث عن الحقيقة مهما كانت مرارة النتائج.

بدأت آنا تروي في ذهنها قصة العائلة الملعونة؛ قصة بدأت منذ أجيال طويلة، حينما كانت عائلة مورغان تحكمها أساطير من الدماء والألم. كانت الحكايات تقول إن كل مولود من هذه العائلة يحمل لعنةً لا يستطيع الفرار منها، وأن المنزل نفسه كان مختوماً بطقوس سرية لم تُفهم أبدًا. كانت تلك الطقوس تعتمد على تحريف الصمت وتحويله إلى لغة تُعبّر عن ألمٍ لا يُمكن للكلمات أن تصفه. وكلما تكرر تكرار تلك الطقوس، كانت الأرواح تُحاصر في جدران المنزل، تنتظر اللحظة التي يُكسر فيها الصمت لتعود إلى الحياة بطريقة مشوهة.

بدأت آنا تتذكر مرةً من طفولتها حينما كانت تجلس على أرجوحة في حديقة المنزل الخلفية، وتسمع همسات لا يستطيع أحد سواها سماعها. كانت تسمع تلك الهمسات تصف لها قصصاً عن أيامٍ مضت، عن لحظاتٍ كان الخوف فيها رفيقها الدائم، وعن أسرار لم يُفصح عنها أحد. اليوم، بينما كانت تقف في مواجهة تلك الهمسات، شعرت أن كل تلك الذكريات قد جُمعت لتشكل لغزاً كبيراً يجب عليه الحل.

خرجت آنا من الغرفة المخفية، حاملةً بين يديها الأوراق القديمة والرموز الغامضة، لتعود إلى القبو حيث كان الصندوق الخشبي ينتظرها. جلست على الأرض الباردة، محاطةً بصمتٍ خانق، وبدأت تكتب في دفترها الجديد ما رأته وسمعته. كل كلمة كانت تنساب من قلبها وكأنها رسالة إلى عالمٍ آخر، رسالة تحذر من عواقب التدخل في أمور لا تُفهم. كانت تشعر بأن الزمن قد توقف، وأن كل لحظة تمر تحمل بين طياتها عبئاً من الذكريات والآلام.

في تلك اللحظات الحرجة، استوقفها صوتٌ غامض يأتي من خلفها، صوته كان مزيجًا من الهمس والصرخ، وكأنه صدى لعقودٍ من الألم. لم تجرؤ آنا على الدوران فورًا، بل شعرت بأن هناك عيناً تراقبها من الظلام. لم تكن تلك العين مجرد صورة عابرة، بل كانت رمزاً لللعنة التي تحوم حول المنزل، لتؤكد أن الماضي لا يمكن الهروب منه مهما حاول الإنسان إنكاره. فجأة، انعكس في المرآة الكبيرة أمامها وجهٌ لم تعرفه؛ وجه امرأة ترتدي ثوباً قديمًا، وعيناها تلمعان بالحزن والأسى، وكأنها تحمل رسالة تحذيرية من عالم آخر.

سألقت المرأة بنظرة عميقة في عيون آنا، وهمست بصوتٍ بارد: "لقد وصلتِ إلى مفترق طرق لا عودة منه، فأنتِ الآن جزء من قصةٍ أكبر مما تعتقدين." ترددت كلماتها في أذهان آنا، فتراجعت قليلًا، لكنها سرعان ما استجمعت شجاعتها وسألت بصوت مرتجف: "من أنتِ؟ وما الذي تريدي؟" لم تجب المرأة على الفور، بل اقتربت منها بخطوات بطيئة، لتترك أثراً من البرد على قلب آنا. في تلك اللحظة، انطلقت ذكريات وآلام دفينة، تجسدت في ملامح تلك المرأة، لتُعلن أن الماضي ما زال حيًّا بيننا، وأن لكل من دخل هذا المنزل نصيبه المحتوم من الألم.

مع مرور الوقت، بدأ ضوء الفجر يلوح من خلف الضباب الكثيف، ليغسل القبو من ظلال الليل البهيم. لكن آنا، رغم قدوم النور، لم تستطع أن تفرّ من ذلك الشعور بأن الليل لم ينتهِ بعد، وأن الظلال ما زالت تتراقص في كل زاوية من زوايا المنزل. كانت تعلم جيداً أن كل جواب قد يقود إلى سؤال آخر، وأن اللعنة التي تحيط بمنزل آل مورغان لن تزول بسهولة مهما حاولت جاهدة فك شفراتها.

استمرت آنا في تدوين ملاحظاتها بكل دقة، وكلما تعمقت في قراءة الوثائق القديمة والتفاصيل المدونة، ازداد شعورها بأن الزمن قد تشابك مع الخيال، وأن حدود الواقع باتت غامضة لا يمكن تمييزها. بدأت تساؤلاتها تتوالى عن أصل الطقوس وعن سبب اختيار هذه العائلة بالتحديد لتحمل لعنةٍ تبدو مستمرة عبر العصور. هل كانت تلك الطقوس نابعة من رغبة في الانتقام؟ أم أن هناك قوةً خارجية تستغل الضعف البشري لتحويل الصمت إلى سلاح؟

في إحدى الليالي الهادئة، وبينما كانت تجلس بمفردها في غرفة الدراسة الصغيرة التي وجدت لها ملاذاً مؤقتاً، رأت آنا في دفترها ملاحظة لم تلاحظها من قبل. كانت عبارةً مكتوبة بحبرٍ أحمر: "لا تثقي بصوت الظلال، فهو لا ينطق إلا بما يريد أن يُخفي." انطلقت في ذهنها سلسلة من الأفكار، وتساءلت: هل يمكن للظلال أن تكون شاهدة على أحداثٍ لا تُروى؟ وهل هو الصمت الذي يحمل بين طياته أصوات الضحايا أم أن هناك قوى خفية تُدير مسار هذه الأحداث؟

ترافق ذلك مع صوت طرق خفيف يأتي من الخارج، فتقدمت نحو النافذة المكسورة لتجد في الظلام ظلّ شخصٍ لا يُمكن تحديده. بدا كأنه يتلمس حدود المنزل، وكأن لديه رسالةٌ للمرء الذي يسكنه. حاولت آنا التقاط أنفاسها، واستجمعت شجاعتها لتفتح النافذة الباردة، لكن الرياح كانت تعصف بقوة، وتداعب الهمسات التي كانت تتسلل من كل اتجاه. آنذاك، أدركت أن المنزل ليس مجرد مكانٍ مهجور، بل هو كيانٌ حيّ يحرس أسراره بقوة، وأن كل شيء فيه ينبض بالحياة، سواء كانت حياة البشر أم حياة الأرواح المحتجزة في عمق الماضي.

وفي تلك اللحظة، بدأت تقلب صفحات الدفتر القديم لتجد نصوصاً عن طقوس استُخدمت لاستدعاء الأرواح من عالم آخر. كانت تلك الطقوس تعتمد على الصمت المطلق، حيث يُعتقد أن كل صمتٍ يُسجل هو بمثابة عقد يُبرم مع قوى خارقة، وأن كل دمعة تنهمر هي ثمرة لخيانة بين الحياة والموت. آمنت آنا بأن هذه الطقوس قد تكون المفتاح لفهم اللعنة التي حلت بمنزل آل مورغان، لكنها كانت تدرك أيضاً أن المعرفة تأتي بثمنٍ باهظ لا يُمكن تحمله بسهولة.

انطلقت أيام وآخرها، وتراكمت الأحداث في ذهن آنا كأنها فصولٌ من رواية قاتمة لا تنتهي. بدأت تلتقي بأشخاص من البلدة، كل منهم يحمل بين كلماته لمحةً من الأسرار، ويروي قصصاً عن أصواتٍ يسمعونها في الظلام وأحلامٍ يراها في الليل. كان كبار السن يحكون لها عن عادات قديمة وعن طقوس لا يفهمها الجيل الجديد، بينما كانت الأصوات الخافتة تدور في أروقة البلدة كأنها تتحدث عن خيانة وألمٍ متوارث.

في إحدى الأمسيات، بينما كانت تجلس في مقهى صغير في وسط البلدة، اقترب منها رجل غامض يرتدي معطفاً داكن اللون ونظارات تغطي عينيه. قال لها بنبرة هادئة: "أنا أعرف عن أسرار منزل آل مورغان أكثر مما تتخيلين. لكن المعرفة لها ثمنٌ، ولربما لا ترغبين في دفعه." تحدّث الرجل عن طائفة "الصمت الأزلي" وعن لعناتٍ لا تنتهي، وعن ضحايا لم يجدوا لهم مفرّاً من قسوة القدر. ترك الرجل آنا مع شعورٍ من الفضول والرعب معاً، مدركاً أن كل كلمة تنطقها تحمل في طياتها مفتاحاً لفصلٍ جديد من تلك القصة الغامضة.

بدأت آنا تجمع بين المعلومات التي حصلت عليها من اللقاءات المحلية والوثائق التي اكتشفتها داخل المنزل. كلما تعمقت في البحث، اتسعت دائرة الشكوك حول مصير عائلتها ومصيرها الخاص. كانت تتساءل إن كان بإمكانها أن تُعيد ترتيب شظايا الماضي لتكشف الحقيقة وراء اللعنة، أم أنها ستظل أسيرة لأسرارٍ لا يمكن فك شفرتها. كانت ترى في كل زقاق في البلدة ملامح وجوهٍ قديمة، وكأن الأرواح تتحدث من خلال الهمسات التي تهمس بها الرياح.

مع مرور الأيام، بدأت آنا في رسم خريطة ذهنية تربط بين أحداث المنزل والقصص الشعبية التي رُويت على مر الأجيال. كانت تكتشف أن كل رمز وكل حرف في الوثائق القديمة يحمل دلالات فلسفية عميقة، تتعلق بالهوية والقدر، وأن اللعنة ليست مجرد قصصٍ تُروى، بل هي حقيقة يعيشها كل من يدخل في دائرة تأثيرها. وفي إحدى الليالي العاصفة، بينما كان المطر يهطل بغزارة، جلست آنا أمام نافذة غرفتها تراقب قطرات الماء وهي تنزف على الزجاج، لتشعر بأن كل قطرة تحمل رسالة من عالمٍ آخر، رسالة تحذيرية من فاجعة قادمة.

في تلك اللحظة، بدأت الأصوات تتداخل مع صوت المطر، لتصبح كأنها أوركسترا حزينة تعزف أنشودة الموت. ارتجفت آنا من شدة الرهبة، لكنها لم تفقد عزيمتها؛ بل عززت من تصميمها على معرفة الحقيقة مهما كلفها الثمن. بدأت في تدوين كل ما تسمعه وترى، محاولةً جاهدًا جمع شظايا اللغز التي تحيط بمنزل آل مورغان. وكلما تقدمت في بحثها، ازدادت الأمور تعقيداً؛ فقد ظهرت لها رؤى وأحلام مرعبة عن ليلٍ كانت فيه الأرواح تتجسد وتصرخ بصمتٍ مكتوم، كما لو أن الزمن نفسه عاد ليعيد كتابة فصولٍ من الماضي.

كان الليل يتوالى على آنا معانقةً أسراره المظلمة، حتى تذكرت قصص والدتها التي كانت تحذرها من أن بعض الأسرار لا يجب أن تُستكشف، وأن المعرفة قد تكون عبئاً لا يُطاق. ولكنها كانت تعلم في قرارة نفسها أن كل إجابة ستأتي مصحوبة بسؤالٍ جديد، وأن الطريق إلى الحقيقة محفوف بالألم والمخاطر. مع كل صفحة من الدفتر الذي تكتبه، شعرت بأن الزمن يعود ليتوقف، وأن كل لحظة تمر تصبح شاهدةً على معركة بين النور والظلام داخل قلبها.

وفي إحدى الليالي الباردة، حينما كان القمر يظهر بخفة من خلف سحب كثيفة، حدث ما لم تكن آنا تتوقعه. أثناء جلوسها في إحدى الزوايا المظلمة للقبو، سمعها صوتٌ يأتي من أعماق الجدار، صوت بدا وكأنه ينطق بكلمة واحدة متكررة: "حرّرنا." شعرت آنا بأن قلبها ارتجف من شدة الخوف، لكنها في ذات الوقت أدركت أن هذه الكلمة تحمل في طياتها دعوة للحرية، دعوة لإنهاء معاناة ضحايا الطقوس القديمة. دفعتها تلك الكلمة إلى اتخاذ خطوة جريئة، فتبدأ في البحث عن مخرجٍ أو مفتاحٍ يمكن أن يكسر هذه الدائرة اللعينة.

بدأت تتنقل بين غرف المنزل باحثة عن أدلة، تلتقط كل رمز وكل نقش، وتجمع كل شظايا الماضي لتكوّن صورةً شاملة عن اللعنة التي تحوم في أرجاء المكان. وفي إحدى الغرف الصغيرة، وجدت لوحة قديمة مغطاة بالغبار، تُظهر مشهداً لعائلةٍ مجتمعة حول مائدة كبيرة، وفيها وجوه ترتسم عليها ملامح الفرح والسرور. لكن شيئاً ما في تلك اللوحة كان غير طبيعي؛ فقد كانت هناك عيون تخترق الناظر، وكأن الأرواح تنظر من خلال الوجوه لتخبر قصصاً من عالمٍ آخر. أدركت آنا حينها أن تلك اللوحة ربما كانت رمزًا لمرحلة من الزمن قبل أن يتحول المنزل إلى مسرحٍ للعذاب.

استمرت رحلة آنا في البحث عن الحقيقة حتى وصلت إلى غرفة مخصصة للطقوس القديمة، غرفة كان يُعتقد أنها موطن أسرار لا تُفصح إلا لمن يمتلك شجاعة مواجهة المجهول. هناك، وسط رماد الزمن وأوراق الخطوط القديمة، وجدت سجلاً آخر يروي تفاصيل ليلية عاصفة حيث اجتمعت الطائفة لأداء طقسٍ يُعتقد أنه يُعيد ترتيب العظام ويُحيي الأرواح. كانت الكتابة مشوشة، مليئة بالرموز والأرقام التي لم تستطع آنا فهمها، لكنها شعرت بأن كل رقم وكل رمز يحمل رسالةً من زمنٍ بعيد. مع كل قراءة، كان قلبها يزداد ثقيلاً، وكأنها تحاول أن تحمل عبء سنواتٍ من الألم والمعاناة.

وصلت الساعة إلى وقتٍ لم تعد فيه الأصوات مجرد همسات بل صارت تضرب بجدران قلبها، وأصبحت الحروف على الصفحات تنطق بمفردها، لتخبرها بأن كل خطوة تخطوها تقربها من مواجهة حتمية لا مفر منها. كان المنزل ينطق بلغة خاصة به، لغة تتشكل من دموع الأرواح وصرخات المنسيين. وكلما ساد الصمت، كان ذلك الصمت يحمله معه أشباح الماضي التي كانت تنتظر لحظة الانهيار لتعلن بداية جديدة من العذاب.

في تلك اللحظات المظلمة، وبينما كانت تتلمس طريقها في متاهة الأسرار، أدركت آنا أن عليها أن تختار؛ إما أن تنغمس في عمق اللعنة وأن تكتشف الحقيقة مهما كانت مريرة، أو أن تحاول الفرار والهروب من مصير محتوم. لم يكن القرار سهلاً، إذ كانت تشعر بأن كل خيار يحمل بين طياته رسالة من القدر لا بد أن تُفهم. مع بزوغ أول خيوط الفجر، جلست آنا أمام نافذة غرفتها الصغيرة، تتأمل في انعكاسها على الزجاج المكسور، وكأنها ترى نفسها في مرآة تُظهر لها ملامح الألم والقدر.

ترددت في ذهنها كلمات والدتها القديمة، تلك الكلمات التي كانت تحذر من التدخل في أسرار الماضي: "الحقيقة قد تكون مريرة، وابحثي عنها بحذر، فليس كل ما يلمع ذهباً." لكن آنا، التي اختبرت الألم ومعاناة البحث عن الذات، قررت أن تسلك طريق المعرفة حتى لو كان يؤدي إلى عوالم مظلمة لا يُمكن تصورها. كانت تعلم أن كل خطوة تخطوها قد تُعيد كتابة تاريخها، وأنها ربما لن تعود كما كانت.

وبينما كانت آنا تضع يدها على الدفتر الذي يُجمع بين حبر الماضي وحبر الحاضر، سمعت صوتًا آخر ينبثق من عمق المنزل؛ صوتٌ كان يأتي من وراء جدارٍ سميك، كأنما يحمل رسالة أخيرة من ضحايا الماضي: "افتحي، وانظري إلى ما كُتِب في صمت العظام." لم تستطع آنا مقاومة ذلك النداء، فتوجهت نحو الجدار المُشار إليه، وبدأت تبحث عن شقوق أو علامات تُدل على سر مخبأ. وبعناية فائقة، تمكنت من العثور على فتحة صغيرة خلف سجادة قديمة، فتسللت عبرها لتكتشف غرفةً سرية لم تكن معروفة لأحد.

داخل الغرفة، كان الجو مشبعاً برائحة البخور المختلط برائحة الدخان والدماء القديمة. كانت الجدران مزينة برموز قديمة نقشتها يد الزمن، وتعلق على إحدى الجدران لوحة ضخمة تحمل صورة امرأة ترتدي ثوباً ملكياً، وعيناها تلمعان بالحكمة والحزن معاً. قرأت آنا بجانب الصورة نصاً قديمًا، كُتب بخط اليد بلون أحمر باهت: "في صمت العظام تكمن الحقيقة، ولا يستطيع أحد الفرار من مصير الزمان." أدركت حينها أن كل تلك الرموز والكتابات كانت تحكي عن دورة لا تنتهي من الألم والبحث عن الخلاص، وأنها الآن جزء لا يتجزأ من تلك الدائرة.

عادت آنا إلى غرفتها وهي تشعر بعبءٍ جديد على قلبها، لكنها كانت مفعمة بالعزيمة. بدأت تكتب في دفترها الجديد ما شاهدته وسمعته، محاولةً ربط خيوط اللغز التي بدأت تتشكل في ذهنها. كلما كتبت، كان لديها شعورٌ بأن الأرواح الحبيسة تقترب منها، وأن الماضي ما زال ينبض بالحياة في كل كلمة تكتبها. وفي تلك اللحظة، أدركت أن عليها أن تكون جسرًا بين عالم الأحياء وعالم الأرواح، وأن تستخدم معرفتها لتحرير ضحايا الطقوس التي طالما ظلت أسرارها مخبأة في صمت العظام.

استمرّت أيام البحث والمواجهة، حيث زارت آنا المقابر القديمة في البلدة، والتقت بشهود عيان يحملون ذكريات عن العائلة الملعونة. تحدثت مع امرأة مسنة كانت تقضي أيامها في سرد قصصٍ عن روحٍ ما زالت تتجول في أروقة المنزل، وعن ليلةٍ كان فيها كل شيء قد تغير إلى الأبد. كانت تلك القصص تروي تفاصيل دقيقة عن طقوس جرت في زمنٍ مضى، وعن صرخات لا تزال تتردد في قاعات المنزل، لتُظهر أن الألم والسراب لا يفترقان أبدًا.

وفي إحدى تلك اللقاءات، أخبرها رجل مسن، بصوتٍ هادئٍ مرتجف، عن كيفية اختطاف روح ضحيةٍ منذ زمن بعيد، وكيف أن تلك الروح لازالت تطرق أبواب الأمل بحثاً عن خلاصٍ من اللعنة. كانت كلماته كالنقطة التي أسقطت الحجر في بحيرة صمتٍ عميق، فأدركت آنا أن مصيرها مرتبط بمصير ضحايا الطقوس القديمة، وأن عليها أن تجد الطريقة لإنهاء دائرة العذاب هذه. بدأت تُجمع القطع المتناثرة من المعلومات وتربطها بخيوطٍ من الحكمة القديمة، لتكوّن بذلك صورةً شاملةً عن اللعنة التي تحوم فوق منزل آل مورغان.

مرت أسابيع من البحث المكثف، وفي كل ليلة كانت تنقلب الأحلام والكوابيس على عقولها، لتختلط الحقيقة بالخيال. كانت ترى في منامها صورًا من الماضي، لأشخاصٍ لم تجد لهم الراحة، وصورًا لطقوس كان يُعتقد أنها تُعيد ترتيب العظام وتحرير الأرواح بطريقة مشوهة. كل حلم كان يحمل في طياته رسالةً، وكل رسالة كانت تُشير إلى أن الطريق نحو الخلاص محفوف بالمخاطر. شعرت آنا بأن عليها أن تختار بين البقاء أسيرة لهذه الدائرة المظلمة أو أن تخاطر بكل شيء لتفكيك اللعنة التي ابتليت عائلة مورغان.

وفي إحدى الليالي الحالكة، وبينما كانت عاصفة من الأمطار تتهافت على النوافذ، جلست آنا في غرفة الدراسة تطالع إحدى الوثائق القديمة المكتومة التي لم يسبق لها قراءتها. كانت الوثيقة تتحدث عن "الطقس الأخير"، ذلك الحدث الذي كان يُعتقد أنه سيحرر الأرواح المحتجزة، لكنه أيضاً يحمل في طياته ثمنًا باهظًا على من يتجرأ على التدخل فيه. قرأت الكلمات بصوتٍ مرتجف، وكانت تتساءل: هل هي مستعدةٌ لتحمل عبء ذلك الثمن؟ هل يمكن للحقيقة أن تُغلق دائرة الألم التي لا تنتهي؟

مع كل ورقة تقلبها، كانت ترتسم أمامها مشاهد من مآسي قديمة؛ مشاهد لأطفال فقدوا براءتهم، ولنساء انتُهكن من قسوة القدر، ولرجال ابتُلوا بخيانة الزمان. ومع كل مشهد، كان قلبها يزداد ثقلاً، لكنها كانت تعلم أن عليها أن تثبت لنفسها أن البحث عن الحقيقة لا يمكن أن ينتهي بالفرار من الألم. كان لديها إيمانٌ بأن تحرير ضحايا الطقوس قد يكون السبيل لإنهاء لعنة المنزل، وإنقاذ أرواحٍ تائهة بين عالم الأحياء وعالم الموت.

بدأت آنا تجمع بين الوثائق والشهادات التي حصلت عليها من السكان المحليين، لتشكّل ما يشبه لغزاً كبيراً يجب عليه الحل. كلما تعمقت في البحث، تكتشف أن أسرار منزل آل مورغان لا تنحصر في الجدران البالية والرموز القديمة، بل تمتد إلى كل زاوية من البلدة، حتى في قلوب الناس الذين عاشوا ظلاً من تلك الكارثة. كانت الأصوات التي كانت تسمعها في الليالي الحالكة لم تكن سوى صدى لوجعٍ قديم، لم يُغسل بمرور الزمن، وظلت تلك الهمسات تذكر الجميع بأن الماضي لا يُمحى بسهولة.

وفي نهاية تلك الرحلة الطويلة، وبعد أن جمعت آنا ما يكفي من الأدلة والشهادات لتكوين صورة شاملة عن اللعنة التي حلت بمنزل آل مورغان، أدركت أن عليها أن تخوض المواجهة النهائية مع تلك القوة الغامضة. كانت تعلم أن الخطوة القادمة ستكون الأصعب في حياتها، وأنها قد تضطر إلى مواجهة روحٍ محتجزة، أو ربما حتى مواجهة ذاتها في مرآة الألم. مع بزوغ الفجر في صباحٍ جديد، استعدت آنا لوضع خطة مفصلة لإنهاء تلك الدائرة الملعونة، محاولةً الجمع بين قوة الإرادة والمعرفة المكتسبة من سنوات البحث المضني.

في تلك اللحظات الحاسمة، وقفت آنا أمام مدخل القبو، حيث بدأت كل الأصوات تعلو وتتناغم في صوتٍ واحد يشبه أوركسترا حزينة تعزف لحن الوداع. وبخطى ثابتة رغم كل المخاوف، دخلت إلى أعماق القبو لتواجه ما لا يُمكن تفاديه. كان الجو هناك مختلفاً، كأن الزمن توقف بين جدرانٍ قديمة تروي قصصًا منسية. كان هناك نور خافت ينبعث من زاوية بعيدة، كما لو أنه الوهج الأخير لروح تحاول أن تبعث برسالة من عالمٍ آخر.

وبينما كانت آنا تقترب من ذلك النور، بدأت الأصوات تتحول إلى صرخات مكتومة، وحينما وصلت إلى المصدر، وجدت شيئاً لم تكن تتوقعه؛ كانت هناك تمثالٌ حجري يبدو كأنه يمثل إلهًا قديمًا، محفورًا بدقة على الجدار، وعيناه الخاليتان تبرزان بشدة في الظلام. وبجانب التمثال، كانت هناك أسطرٌ مكتوبة بخطٍ متعرج، تُعلن عن سرٍّ دفين: "في صمت العظام، تتجلى الحقيقة؛ فإما أن تُحرر الأرواح، أو تُلعن الأبد."

توقفت آنا لحظةً لتستجمع قواها، وقد بدأ قلبها ينبض بسرعات لم تشعر بها من قبل. كانت تعلم أن اللحظة قد حانت، وأن عليها اتخاذ قرارٍ قد يغير مجرى حياتها إلى الأبد. مع كل ما جمعته من أدلة، ومع كل معاناة عاشتها في تلك الليلة المظلمة، قررت أن تواجه اللعنة، وأن تُنهي معاناة ضحايا الطقوس مهما كان الثمن. دفعت يدها نحو التمثال الحجري، وكأنها تلمس ملامح الماضي، لتجد نفسها فجأةً محاطة بهالةٍ من الضوء الخافت والظلال المتراقصة، وكأن الأرواح التي احتُجزت في جدران المنزل قد اجتمعت لتعلن عن نفسها.

في تلك اللحظة، بدأت الأرض تهتز، وتراجعت جدران القبو ببطء، لتكشف عن ممرٍ سري يؤدي إلى غرفةٍ لم ترَ مثلها من قبل. دخلت آنا الممر، وتذكرت كلمات الدفتر القديم، تلك الكلمات التي كانت تحذرها من أنه لا مفر من مواجهة الحقيقة. مع كل خطوة، كانت تشعر أن الماضي والحاضر يندمجان في مشهدٍ واحد، وأنها على وشك كتابة فصلٍ جديد من قصة لم تنتهِ بعد.

وبينما كانت تخطو داخل الغرفة الجديدة، تلاشت الأصوات لتترك خلفها صمتاً رهيباً، وبدأت تشعر بأن كل جزءٍ من جسدها يتماشى مع نبض ذلك الصمت. كان هناك مزيجٌ من الخوف والأمل يملأ الجو، وكأنها على وشك اكتشاف سرٍ قديم لا يُمكن للكلمات أن تصفه. جلست آنا على حجر بارد في منتصف الغرفة، وبدأت تستعرض ما جمعته من معلومات، محاولةً ربط الأحداث مع بعضها البعض. وفي تلك اللحظة، تسللت إلى أذهانها فكرة واحدة لا تُقاوم: أن تحرير الأرواح المحتجزة في هذا المنزل قد يكون المفتاح لإنهاء اللعنة، ولكن ذلك لن يكون بدون مواجهة أعمق مع نفسها ومع ماضيها.

استمرت آنا في تلك الغرفة لساعات طويلة، متأملةً في رموز النقوش والأوراق القديمة، وكلما أمعنت النظر، بدأت ترى في تلك النقوش وجوه ضحايا الطقوس تتحدث إليها بصمتٍ مكتوم. كان الحوار مع الماضي يبدأ في ذهنها، حيث تناغمت الأصوات لتخبرها بأن كل قرار تتخذه الآن سيؤثر على مصيرها ومصير كل من دخل هذا المنزل. شعرت بأن تلك اللحظات هي نقطة التحول، حيث يصبح الخوف دافعًا للبحث عن النور وسط الظلام.

ومع شروق شمس يومٍ جديد، خرجت آنا من المنزل، حاملةً بين يديها كومةً من الوثائق والرموز التي جمعتها خلال الليل. كانت تعرف أن رحلتها للتعمق في أسرار منزل آل مورغان لم تنتهِ بعد، وأن الطريق أمامها لا يزال مليئًا بالتحديات والمخاطر. لكنها كانت أيضًا مُصممة على أن تكشف الحقيقة مهما كان الثمن، وأن تُحرر الأرواح المحتجزة في صمت العظام لتعود إلى حيث تنتمي.

هكذا بدأت فصول جديدة من قصة منزل آل مورغان، حيث يتحول الألم إلى لغة، والصمت إلى رسالة، والظلام إلى مرآة تعكس أعمق أسرار الوجود. وبينما تمضي الأيام، تستمر آنا في رحلتها، وكلما تعمقت في البحث عن الحقيقة، اكتشفت أن المعركة ليست فقط مع لعنة الماضي، بل مع أبعادها الفلسفية التي تدور حول الهوية والقدر. كان عليها أن تتعلم أن الألم جزءٌ لا يتجزأ من الحياة، وأن التحرر الحقيقي يأتي من مواجهة تلك الحقائق مهما كانت قاسية.

وفي نهاية ذلك الفصل الطويل من البحث والمعاناة، تظل آنا واقفةً على مفترق طرقٍ جديد، محاطةً بأسرار المنزل وأصداء الأرواح التي لم تجد لها راحة. كلما نظرت إلى الأفق، كانت ترى خيوط النور تتخلل الغيوم الداكنة، تهمس بأن لكل نهاية بداية جديدة، وأن كل صمت يحمل بين طياته وعداً بإفراجٍ عن ضحايا الزمن. وهكذا، انتهى هذا الفصل من قصة "صمت العظام" لتترك القارئ في حالة من الترقب، متسائلاً عن مستقبل آنا، وعن اللعنة التي لم تنتهِ بعد، وعن حقيقة الصمت الذي يتحدث بصوتٍ أعلى من الكلمات.

--------------------------------------------------‐--------------------------------------------------------------------

أتمنى تكونوا استمتعتوا نراكم في الفصل القادم

 

أصداء في الظلام

الظلام في منزل آل مورغان لم يكن عاديًا. كان حيًا، نابضًا بأنفاس الماضي وآهات الضحايا. بعد الليلة الأولى التي قضتها آنا في المنزل، لم تستطع النوم. كلما أغمضت عينيها، كانت ترى وجوهًا غريبة تحدق بها من خلف المرآة المكسورة في القبو. ظلالٌ تتلوى في العتمة، وعيونٌ تُراقبها من خلف الشقوق في الجدران.

عندما بزغ الفجر خافتًا خلف غيوم الشتاء الرمادية، جلست آنا على الأرضية الباردة بجوار المدفأة القديمة. كانت نيرانها خامدة، لكنها شعرت بدفء خافت ينبعث منها، كأنها لا تزال تحتفظ بحرارة أرواح من رحلوا منذ زمن بعيد. في حجرها، استقرت صفحات الدفتر القديم. كانت عينها مثبتة على رمز غريب نُقش بدقة في منتصف الصفحة. كان أشبه بدائرة من العظام، تتخللها خطوطٌ من الدماء الجافة.

لم تكن الرموز مألوفة. حاولت آنا أن تُقنع نفسها أنها مجرد أوهام، لكن عقلها كان يخبرها بشيء آخر. والدتها كانت تعرف هذا الرمز. لقد رأته على معصمها عندما كانت طفلة، محفورًا على جلدها كما لو كان جزءًا من هويتها.

رفعت آنا بصرها عندما سمعت صوت خشخشة خافتة في الممر. نهضت ببطء، قلبها ينبض بسرعة تحت ضلوعها. تقدمت بخطوات حذرة إلى خارج الغرفة، حيث امتد الممر الطويل أمامها. الجدران المتهالكة كانت تزفر برائحة العفن والرطوبة.

"من هناك؟" سألت بصوتٍ متحشرج.

لم يُجبها أحد. لكن الخطوات استمرت، بطيئة، كأن شخصًا يجرّ قدميه فوق الأرضية الخشبية. تابعت الصوت، حتى وصلت إلى باب القبو.

ترددت للحظة. ثم وضعت يدها على مقبض الباب البارد. شعرت بشيء ينبض تحته، كأن الدم يسري في جسده. فتحت الباب بحذر، لتكشف عن السلم الحجري الذي غمره الضباب الخافت.

"آنا..."

كان الصوت واضحًا هذه المرة. همسٌ عميق، يحمل نبرة مألوفة.

نزلت الدرج ببطء، كل خطوة تُصدر صريرًا مكتومًا. عندما وصلت إلى أسفل الدرج، رأت المرآة الكبيرة المكسورة في الزاوية. كانت شظاياها تعكس ظلالًا مشوهة. على الجدار المقابل، رأتها...

يدٌ مغطاة بالدماء. ثم وجهٌ مشوه يظهر خلفها. ملامحه لم تكن واضحة، لكن عيناه كانتا سوداوتين تمامًا.

"مَن هناك؟" سألت آنا، صوتها يرتجف.

"لقد عدتِ."

التفتت آنا بسرعة، لتجد رجلاً يقف أمامها. كان طويلًا، ذو شعر داكن يتدلى على عينيه. ابتسامته باردة، كأنها شق في وجه ميت.

"مَن أنت؟" سألت بصوت مرتعش.

"أنا جزءٌ من هذا المكان... وجزءٌ منكِ."

تراجعت آنا للخلف. "أنت... لستَ حقيقيًا."

تقدم الرجل خطوة. "وما هو الحقيقي في هذا المكان، آنا؟"

أدركت أنها لا تستطيع التراجع أكثر. كان الجدار خلفها.

"لقد كانت والدتكِ تعرفني. كانت جزءًا من كل شيء."

شعرت آنا بدمائها تتجمد. "ماذا تعني؟"

مد الرجل يده، مشيرًا إلى الجدران. "ألا تشعرين بذلك؟ العظام... إنها تتحرك."

تسارعت أنفاس آنا عندما سمعت صوت طقطقة خافتة. نظرت إلى الجدران، فرأت الشقوق تمتد ببطء. عظامٌ بيضاء بدت تحت الطلاء المتهالك، تتحرك كأنها تستيقظ من سباتٍ عميق.

"ما هذا؟" همست آنا.

"إنه صوت الطقوس القديمة. كان يجب أن تُدفني هنا منذ ولادتكِ. لكن والدتكِ حمتكِ."

"أمي؟"

"لقد أخبرتها الطائفة أن عليكِ أن تُقدَّمي كقربان. لكنها خالفت القوانين. لذلك قتلوها."

تراجعت آنا، دموعها تترقرق في عينيها. "أنت تكذب."

ضحك الرجل ببرود. "هل أنا؟ إذًا كيف تفسرين العلامة على معصمكِ؟"

نظرت آنا إلى يدها. العلامة التي كانت تُعتقد أنها وحمة، بدت الآن أوضح. دائرة من العظام، تتخللها خطوطٌ داكنة. تمامًا كما في الدفتر.

"لقد وُلدتِ لتكوني جزءًا من الطائفة. الطقوس لم تكتمل لأن والدتكِ هربت بكِ. لكنها لم تنقذكِ. لقد أجّلت المصير فقط."

ارتجفت آنا. "لا... هذا مستحيل."

اقترب الرجل منها. "إنه مقدرٌ لكِ أن تعيدي ترتيب العظام. عليكِ أن تُكملي الطقوس."

"لماذا أنا؟"

ابتسم الرجل. "لأنكِ النسل الأخير للطائفة."

بدأت الجدران تهتز. سقطت قطعٌ من الطلاء، كاشفةً عن عظامٍ مدفونة تحتها. الأصوات تعالت.

"آنا..."

سمعت صوت والدتها.

"أمي؟"

"إنه فخ!"

عندها، شعرت بيدٍ تُمسك بمعصمها. كان الرجل يقبض عليها بقوة.

"أطلقي سراحي!" صرخت آنا.

"لقد اخترتِ هذا الطريق، آنا. الآن، لن تعودي."

تراجعت آنا بقوة، ثم أمسكت بقطعة من الزجاج المكسور على الأرض. طعنت يد الرجل، لكنه لم يتألم.

"لا يمكنكِ قتلي. أنا جزءٌ من هذا المكان."

لكن الدم بدأ يسيل من يده. تراجع ببطء، وبدأ وجهه بالتشوه.

"لقد... خنتِ الطائفة."

انفتح الجدار خلفه، كاشفًا عن فراغٍ مظلم.

"سأعود..."

تراجع الرجل، ثم سُحب إلى الظلام. أُغلق الجدار خلفه.

سقطت آنا على ركبتيها، أنفاسها متقطعة. كانت يداها مغطاة بالدماء. نظرت إلى الجدران. العظام توقفت عن الحركة.

لكنها سمعت همسًا خافتًا.

"لقد بدأت الطقوس..."

نهضت آنا، عيناها تشتعلان بالخوف. ثم سمعت صوتًا آخر.

"آنا... الدور التالي سيكون لكِ."

وقفت في الظلام، تتساءل إن كانت قد انتهت من هذا الكابوس... أم أنه قد بدأ لتوه.

 

أحداث أكثر و أسرار أكثر راح تنكشف شيء فشيء خلوكم معنا 🖤🖤🖤🖤

طقوس الدم

كانت الليلة مظلمة على نحو غير طبيعي، وكأن السماء نفسها رفضت أن تمنح العالم حتى بصيصًا من الضوء. جلست آنا على الأرض في غرفتها، يداها ترتجفان بينما تقلب صفحات الدفتر القديم. الدم الجاف الذي غطى أطرافه بدا وكأنه ينبض تحت أصابعها. الكلمات المحفورة على الورق كانت قديمة، بلغة غريبة، لكنها رغم ذلك فهمتها بوضوح تام، وكأنها كانت محفورة في عقلها منذ الأزل.

"الدم هو البوابة... والتضحية هي الثمن."

لم يكن هذا مجرد دفتر موروث عن والدتها… بل كان دليلًا على شيء أعمق وأخطر. والدتها لم تكن فقط جزءًا من هذه الطقوس — لقد كانت القائدة. آنا الآن بدأت تفهم لمَ اختفت والدتها فجأة قبل خمس سنوات.

سمعت صوت خشخشة عند الباب. التفتت بسرعة، فوجدت تلك الدمية القديمة تجلس عند المدخل، رأسها مائل قليلًا، وعيناها الزجاجيتان تحدقان فيها بثبات. لكنها كانت متأكدة أنها لم تكن هناك قبل لحظة. نهضت آنا ببطء، ثم اتجهت نحو الباب بحذر. عندما فتحت الباب، رأت والدتها تقف في نهاية الممر.

"أمي؟!"

لم ترد والدتها. كانت ترتدي ثوبًا أبيض طويلًا، ووجهها شاحبًا بشكل غريب. تقدمت آنا خطوة للأمام، لكنها شعرت بأن شيئًا باردًا يسحبها للخلف. فجأة، انطفأت الأنوار، وغمرت العتمة المنزل بأكمله.

ثم همس صوت في الظلام:

"عودتكِ كانت ضرورية... الطقوس لا تكتمل إلا بدمكِ."

ارتجف جسد آنا بالكامل. "مَن هناك؟!"

ظهر نور خافت على الجدار أمامها، كأن أحدهم رسم رموزًا بالنار. عيون كثيرة بدأت تظهر من بين الجدران، تحدق فيها بعنف. ثم خرجت يد نحيلة من الظلام، وسحبتها بقوة نحو الداخل.

وجدت نفسها في القبو. كانت الشموع الحمراء تشتعل، ورائحة الدم تخترق أنفها. كانت الأرض مغطاة بالرموز نفسها التي رأتها في الدفتر. في منتصف القبو، كانت هناك طاولة حجرية، وعلىها جسد والدتها ممددًا.

"أمي؟!"

فتحت والدتها عينيها. كان البياض يكسوهما بالكامل. ابتسمت ثم قالت بصوت منخفض:

"لقد آن الأوان، آنا. أنتِ المختارة."

شعرت آنا بشيء يحيط بمعصمها. نظرت للأسفل، فرأت سلاسل سوداء تخرج من الأرض، تلتف حول يديها وقدميها. حاولت المقاومة، لكنها شعرت بقوة غير مرئية تشدها نحو الطاولة.

"ماذا يحدث؟!" صرخت آنا، لكن صوتها غرق وسط أصوات الهمسات القادمة من الجدران.

"أنتِ الوريثة، آنا."

سمعت صوتًا خلفها. التفتت فرأت والدتها تقف، رغم أن جسدها كان ممددًا على الطاولة. كانت النسخة الواقفة منها تحمل عيونًا سوداء بالكامل.

"أنتِ خليفة الدم. هذه ليست لعنة... إنها إرث."

شعرت آنا أن دمها يغلي في عروقها. الرموز على الأرض بدأت تتوهج، والجدران بدت وكأنها تنصهر. نظرت إلى الطاولة، ثم رأت أن والدتها الحقيقية قد بدأت تذوب، جلدها يتقشر، وظهرت من تحتها عظام سوداء.

"أمي؟!"

ضحكت النسخة الأخرى من والدتها.

"هي لم تكن والدتكِ الحقيقية، آنا. والدتكِ ماتت منذ سنوات. هذه كانت مجرد وعاء للطقوس."

صرخت آنا، لكن الألم بدأ يسري في جسدها. شعرت أن عظامها تتمزق من الداخل. نظرت إلى يديها، فرأت أن جلدها بدأ يتحول إلى لون رمادي داكن، وأظافرها أصبحت طويلة ومدببة.

"ماذا يحدث لي؟!"

"لقد ولدتِ لهذا. دماء العائلة ملعونة... ونحن نخدم الظلام."

تذكرت آنا كل اللحظات الغريبة في طفولتها: تلك الأصوات التي كانت تسمعها في الليل، العيون التي كانت تراها في الظلام، وكيف كانت والدتها دائمًا تحذرها من الاقتراب من القبو. لم يكن ذلك خوفًا — بل كان تحذيرًا من شيء لا يجب أن تكتشفه.

"لا... أنا لست جزءًا من هذا!"

حاولت المقاومة، لكن الألم كان لا يُحتمل. بدأت الرموز على الأرض تتوهج أكثر، وظهرت أشكال في الظلام. كائنات ذات عيون حمراء وأسنان حادة كانت تزحف من بين الجدران.

"لقد اخترناكِ منذ ولادتكِ، آنا. الآن، ستصبحين واحدة منا."

شعرت آنا بدمها ينسحب منها. كانت الكائنات تقترب، لكنها لاحظت أن الدمية كانت تقف عند المدخل. عيناها كانتا مملوءتين بالدموع. ثم فجأة، تحدثت الدمية بصوت ناعم:

"آنا... تذكري الدم الأول."

فجأة، عادت ذكرى إلى ذهنها: والدتها الحقيقية، قبل أن تختفي، أعطتها قلادة صغيرة وقالت لها:

"إذا شعرتِ بالظلام يقترب... استعملي هذه."

مدت آنا يدها إلى رقبتها، فوجدت القلادة هناك. كانت باردة، لكن عندما أمسكتها، شعرت بدفء مفاجئ. ضغطت عليها بقوة، فاندفع نور ساطع في أرجاء القبو.

بدأت الكائنات تصرخ، والنسخة الأخرى من والدتها بدأت في الذوبان. الرموز على الأرض بدأت تتلاشى.

"لاااااااا!!"

انهار القبو بالكامل، وسقطت آنا على الأرض. فتحت عينيها، فوجدت نفسها في غرفة والدتها. القبو كان قد اختفى. الدمية كانت ما زالت عند الباب، لكنها الآن كانت مكسورة.

نهضت آنا ببطء، ثم اتجهت نحو المرآة. نظرت إلى انعكاسها، فرأت عينيها قد أصبحتا بلون أحمر خافت. عرفت أن شيئًا ما قد تغير فيها.

على الطاولة، كان هناك الدفتر القديم. فتحته آنا ببطء، ووجدت صفحة جديدة كُتب عليها:

"لقد بدأت الطقوس."

ابتسمت آنا، ثم همست لنفسها:

"أنا الآن... من نسل الدم."

الفصل القادم هو الأخير ❤️❤️🖤🖤

لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon

تحميل PDF للرواية
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon