عنوان الرواية: جحيم الوعي
كانت أمل تجلس وحدها في زاوية غرفتها المظلمة، عيناها تثقلها أفكار لا تنتهي، قلبها محاصر بين أوجاع الماضي وآلام الحاضر. لا شيء في هذا العالم يبعث في روحها الأمل، وكأن كل شيء حولها يختفي تدريجياً، إلا الوعي. ذلك الوعي الذي لا يفارقها للحظة، ذلك الذي يلح عليها ويضغط عليها كالسلاسل التي تعذبها.
منذ سنوات طويلة، بدأت أمل في رحلة البحث عن ذاتها، محاولة الهروب من هذا الجحيم الذي يسكن عقلها. كانت كل فكرة تمر بها بمثابة سكين يشق روحها، وكل لحظة تمر كانت وكأنها تنغرس في قلبها ذكرى أليمة، تلتهمها ببطء.
عاشت حياتها بين فترات من اليأس العميق والأمل الضعيف. كانت ترى الناس من حولها، يتحدثون، يضحكون، يعيشون، وكأنهم يعيشون في عالم آخر. أما هي، فقد كانت تتخبط في عالمها الداخلي، حيث كانت أفكارها تكاد تلتهمها وتغرقها في دوامة من الحزن. كان الوعي هو عذابها الأسمى، الوعي الذي جعلها ترى تفاصيل الحياة أكثر من اللازم، تجسيدها الحزين للموت البطيء.
في كل مرة كانت تحاول فيها أن تجد السكينة، كان الوعي يعيدها إلى الواقع بألم أكثر. أفكارها عن الحب كانت مشوهة، تتناثر في عقلها كأشلاء. كل ذكرى وكل تجربة كانت تجرها إلى الحافة، حيث التوتر النفسي والخوف من المستقبل.
كان شعور العجز يتسلل إليها، وكأنها محاصرة في عالم لا نهاية له. ومع مرور الوقت، أصبحت الوحدة صديقتها الوحيدة، تهمس في أذنها بأن لا أحد يفهم ما تمر به. الوعي الذي كان يسحبها إلى الأسفل بدأ يبدد كل شيء جميل في حياتها. أصبح كل يوم جديد عبئاً ثقيلًا عليها، وكل صباح كان يزداد قسوة من اليوم الذي قبله.
وفي أحد الأيام، قررت أن تذهب إلى البحر. ربما كان هناك شيئًا ما يمكن أن يخفف عنها. جلست على الشاطئ، تنظر إلى الأمواج المتكسرة، تعكس صورتها في الماء، كما لو كانت تلك هي نفسها، تبتلعها الحياة بدون رحمة. لكن حتى البحر لم يكن كافيًا، كان الوعي يلاحقها، حتى في أحلامها.
كانت تلك هي اللحظة التي أدركت فيها أن جحيم الوعي ليس شيئًا يمكن الهروب منه، بل هو جزء منها، جزء لا يمكن الفكاك منه. وكانت هذه هي اللحظة التي قررت فيها مواجهة كل شيء، بغض النظر عن حجم الألم الذي ستتعرض له.:
---
جحيم الوعي - التكملة
لم تكن أمل لتتوقع أن البحر سيكون قادرًا على أن يخلصها من معاناتها. كانت تعلم جيدًا أن الجروح النفسية لا تُشفى بالهروب أو بالصمت. فحتى عندما كانت تنظر إلى الأفق البعيد، حيث يتلاشى البحر في السماء، كان صوت الأفكار في رأسها أقوى من كل شيء، أكثر من صوت الأمواج المتكسرة على الصخور.
كان الوعي يضغط عليها كالأغلال، يحاصرها من كل جانب. حتى في اللحظات التي كان يمكن أن تشعر فيها بالسلام، كان هذا السلام يختفي بسرعة، يُعكّر صفوه ذلك الصوت الداخلي الذي لا يتوقف عن السؤال: "ماذا لو؟". ماذا لو لم تقابل ذلك الشخص؟ ماذا لو لم تقم بذلك الاختيار؟ ماذا لو كانت الأمور مختلفة الآن؟ تلك التساؤلات التي لا تنتهي كانت تُغرقها في دوامة من الحزن والندم.
مرت الساعات، ثم اليوم، ثم الأسبوع. كانت أمل قد اختارت البقاء في تلك المدينة الساحلية الصغيرة، بعيدًا عن كل شيء. شعرت أن الحياة قد وضعتها في مكان لا مفر منه. كانت تسير في شوارع المدينة الضيقة، يرافقها شبح الوحدة، حيث كانت العيون التي تنظر إليها مليئة بالتساؤلات، لكن أمل كانت تغلق قلبها عن الجميع.
وكلما ابتعدت عن الناس، كان الوعي يقترب منها أكثر. كانت أحيانًا تستغرق في تأملات طويلة، تجلس في مقهى صغير، حيث يُحيط بها الضجيج، ولكنها كانت ترى العالم وكأنه من خلال نافذة ضبابية. لا شيء كان واضحًا في نظرها سوى الألم الذي يزداد مع مرور كل لحظة. الوعي، الذي كان يفترض أن يكون هدية للإنسان، أصبح بالنسبة لها عذابًا لا يُحتمل.
ثم جاء ذلك اليوم، حينما قابلت "رامي"، رجل شاب بدا أنه يملك شيئًا مميزًا في عينيه. كانت أمل تراه لأول مرة، لكنه كان يعرف الكثير عن آلامها. كان حديثه بسيطًا، لكن له تأثير عميق عليها. كان يتحدث عن الحياة وعن الألم، عن طرق التحرر من الوعي المؤلم. ربما كان يعرف شيئًا عن هذه المعاناة التي تخوضها أمل.
جلسا معًا في أحد المقاهي الصغيرة، حيث كان الجو معتدلاً، وأمواج البحر تتلاطم في الأفق. تحدث رامي بهدوء: "الوعي ليس عدوًا دائمًا. قد يكون مرشدًا، لكنه يحتاج إلى أداة للتحكم فيه. إذا تركته يأخذك في طرقه المظلمة، فسوف يهدمك. ولكن إذا تعلمت كيف تهدئه، ستستطيع أن تتحكم فيه. العالم ليس كما يبدو في ذهننا، بل كما نراه بأعيننا."
أمل، التي كانت مغرمة بكل فكرة قد تساهم في تخفيف آلامها، وجدت نفسها تستمع إليه باهتمام شديد. كان حديثه مثل الضوء في الظلام، رغم أن قلبها كان ما يزال يملؤه الشك. **هل يمكنها أن تجد طريقًا للخروض من واقعها.
مرت أسابيع منذ أن بدأت أمل تحاول فهم معاناتها من زاوية مختلفة. لم يكن الأمر سهلاً، فالوعي الذي أثقل روحها لسنوات لم يكن شيئًا يمكن التخلص منه فجأة. كانت تشعر وكأنها تقاتل ظلاً، كلما حاولت الهروب منه عاد ليطاردها بشكل أقوى.
لكنها، رغم ذلك، لم تعد كما كانت من قبل. ربما لم تصل إلى مرحلة السلام، لكن هناك شيء ما تغير. بدأت ترى أن الألم، رغم وحشيته، لم يكن دائمًا عدواً. أحيانًا كان يهمس لها بحقائق لم ترد أن تراها. وبدأت تدرك أن معركتها لم تكن مع الوعي نفسه، بل مع ما صنعته أفكارها من هذا الوعي.
كانت تقضي وقتًا أطول في المشي على الشاطئ، تستمع إلى هدير الأمواج، وتحاول أن تركز على اللحظة بدلاً من الغرق في الماضي والمستقبل. كان رامي دائمًا بجانبها، لكنه لم يكن يفرض وجوده. كان يظهر حين تحتاجه، ثم يختفي ليتركها تواجه أفكارها بنفسها.
وفي إحدى الليالي، وبينما كانت تجلس على الرمال، تحمل بيدها بعض الحصى وترميها في الماء، سألها رامي:
"ماذا لو لم يكن هناك حل؟ ماذا لو كان كل هذا الألم جزءًا منك إلى الأبد؟ هل يمكنكِ العيش معه بدلاً من محاولتكِ المستمرة للهروب منه؟"
نظرت إليه، لم تعرف ماذا تجيب. لطالما اعتقدت أن الحل الوحيد هو التخلص من هذا الألم، القضاء على هذا الوعي الذي يسحقها، لكنها لم تفكر أبدًا في فكرة التعايش معه.
"أنا لا أريد هذا الألم"، قالت بصوت مرتجف.
ابتسم رامي بهدوء:
"لكن هل يمكن أن تتخيلي نفسكِ بدونه؟ إن كنتِ تعيشين منذ سنوات في جحيم الوعي، فهل يمكنكِ حقًا أن تتخيلي وجودكِ بدونه؟ أم أنكِ أصبحتِ جزءًا منه، كما أصبح جزءًا منكِ؟"
لم تجد إجابة. بقيت تحدق في البحر، وكأنها تحاول أن تجد سرًا مدفونًا بين أمواجه. ربما كان على حق. ربما كانت تحاول محاربة شيء لا يمكن القضاء عليه، وربما كان الحل الوحيد هو قبوله.
في تلك الليلة، ولأول مرة منذ سنوات، لم تحاول أمل الهروب من أفكارها. لم تحاول إخمادها أو محاربتها. فقط استمعت إليها، سمحت لها بأن تكون. ولم تكن النتيجة راحة، بل شعورًا غريبًا، مزيجًا بين الخوف والطمأنينة. وكأنها كانت طوال هذا الوقت تخوض حربًا مع نفسها، دون أن تدرك أن الحل لم يكن في الانتصار، بل في إنهاء الحرب نفسها.
لكن هل يمكنها حقًا أن تعيش مع هذا الجحيم؟ أم أنه سيبتلعها في النهاية؟
(يتبع...)
جحيم الوعي – التكملة
مرّت أيام وأمل تحاول التعايش مع هذا الوعي الثقيل. لم يكن الأمر سهلاً، بل كان أشبه بالسير على حافة سكين حاد. كلما حاولت قبول أفكارها، ظهرت أخرى أكثر قسوة، كأن عقلها يختبرها، كأنها كلما حاولت السيطرة على الوعي، تمرد عليها بشكل أقوى.
لكن هناك شيء واحد تغيّر. لم تعد تهرب كما كانت تفعل سابقًا. لم تعد تبكي عند أول موجة من الأفكار السوداوية، ولم تعد تكره نفسها لكونها هكذا. صارت ترى الألم بشكل مختلف، كأنه ظلّها الذي لن يفارقها أبدًا، لكن ربما، فقط ربما، يمكنها أن تعيش معه دون أن يدمرها.
في إحدى الليالي، وبينما كانت تسير على الشاطئ، وجدت رامي يجلس هناك، ينظر إلى البحر بصمت. بدا وكأنه يفكر في شيء ما، شيء أثقل روحه كما أثقلتها أفكارها. جلست بجانبه، دون أن تتكلم. لأول مرة، شعرت بأنها لا تحتاج للكلام، وكأن الصمت بينهما كان يفهمها أكثر من أي كلمات.
"هل تعلم؟" قالت بعد فترة طويلة. "أنا لا أعتقد أن هذا الجحيم سيختفي يومًا. لكن ربما، ربما يمكنني أن أتعلم كيف أعيش فيه."
نظر إليها رامي وابتسم، لكنها كانت ابتسامة حزينة. "ألم أقل لكِ ذلك؟ الوعي ليس سجنًا، لكنه قد يصبح كذلك إن تركته يقيدكِ. الفرق الوحيد هو كيف ترينه أنتِ."
هزّت رأسها، لكن أعماقها لم تكن متأكدة تمامًا. هل هي مستعدة حقًا لهذا؟ هل تستطيع العيش مع كل هذه الأفكار دون أن تنهار مجددًا؟
لكن الحياة لم تمهلها وقتًا للتفكير. ففي صباح اليوم التالي، اختفى رامي. لم يكن له أثر في المدينة الصغيرة، كأن الريح حملته بعيدًا. سألت عنه في كل مكان، لكن لا أحد كان يعرف أين ذهب.
شعرت لأول مرة بعدم اليقين الحقيقي، بشيء أشبه بالفراغ. هل كان مجرد عابر سبيل؟ شخص جاء فقط ليُريها الحقيقة ثم رحل؟ أم أنه كان جزءًا من اختبار آخر لهذا الجحيم الذي تعيشه؟
تساءلت، هل كانت بحاجة إليه حقًا؟ أم أن وجوده كان مجرد وهم شعرت بأنه يمنحها الأمان؟
لكنها أدركت شيئًا آخر، شيئًا ربما كان أكثر أهمية من كل شيء: كانت لا تزال هنا. وحدها، لكن لا تزال واقفة. لا تزال تقاوم.
وربما، فقط ربما، هذا كان كافيًا.
(النهاية…)
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon