...في جنوب إمبراطورية براتانيا، وتحديدًا في بلدة بيلمونت، كانت عربة سفر تهرول على طريق موحل تحت وابلٍ من الأمطار. كان غطاء العربة ممزقًا، وشعار العائلة بالكاد يُرى، حتى بدا حرف "M" كعمودين منفصلين. شقت العربة طريقها عبر غابة أشجار المارونيا التي ازدادت اخضرارًا بفعل المطر، حتى توقفت أمام أحد المنازل الريفية....
...في الداخل، كان المزارع كارل مارتن وزوجته وأطفاله الثلاثة يقضون ظهيرة هادئة حتى فوجئوا بصوت الطرق المفاجئ. نظروا إلى بعضهم بذهول، فمن ذا الذي قد يأتي إليهم في هذا الطقس العاصف؟...
...طَرق!~ طَرق!~ طَرق!~...
...لم يكن لديهم أي ضيوف متوقعين. فتح كارل مارتن، صاحب المزرعة، الباب بحذر وأطلّ إلى الخارج....
..."من هناك؟"...
...كشف الزائر عن وجهه بإزاحة معطفه الأسود المبتل. كان رجلًا مُسنًا ذا شعر فضي منسدلٍ للخلف مثل لبدة أسد، وهيئة قوية رغم تقدمه في العمر....
..."إنه أنا."...
..."آه!"...
...عرفه كارل على الفور. لقد كان البارون ميفيلد، الرجل الذي التقى به قبل أربع سنوات في السوق، عندما أنقذه من عملية احتيال كادت تكلفه إحدى أبقاره....
..."البارون ميفيلد!"...
..."يبدو أنك لم تنسني." ابتسم البارون وأضاف: "قلتَ حينها إنك سترد لي الجميل يومًا ما. حسنًا، هذا اليوم قد حان. أريد منك أن تعتني بهذه الفتاة."...
...أرتبك كارل من كلامه عندها خرجت من تحت عباءة البارون الصغيرةُ التي لم يلحظها أحد. كانت ترتدي عباءة سوداء مماثلة، تخفي جسدها النحيل....
..."إنها حفيدتي الوحيدة، ابنة ولدي الراحل. عمرها ثماني سنوات فقط، لذا لا يمكنني اصطحابها إلى 'إلدورادو'."...
..."إلدورادو؟" تمتم كارل بدهشة....
..."نعم، أخيرًا حصلت على فرصة ذهبية هناك. حان وقت المقامرة الكبرى. عزيزتي هيزل، كوني فتاة جيدة، استمعي إلى السيد والسيدة مارتن، واعتني بنفسك."...
...انحنى البارون بسرعة ليقبل وجنتي الفتاة، ثم غادر بنفس سرعة قدومه، تاركًا الطفلة وحدها وسط الأمطار....
...نظرت مارثا مارتن إلى زوجها بدهشة....
...---...
...طفلة نبيلة، في مزرعة فقيرة...
..."كارل... ما الذي فعلتَه؟"...
..."أنا آسف، أنا حقًا آسف."...
...اعتذر كارل مراتٍ ومرات، لكن وجه زوجته ظل متجهمًا. لم تستطع تصديق أن زوجها، الذي كان دائمًا رجلاً بسيطًا ومستقيمًا، قد أوقعها في مثل هذه المشكلة....
...كانت قد رأت حالة العربة التي أتى بها البارون، ولاحظت بتمعن الفتاة الواقفة في المدخل....
...بقيت الطفلة واقفة مكانها، تحدّق في الباب المغلق بعيون خضراء خافتة البريق. نظر كارل إلى زوجته مارثا بوجه مضطرب، لكن نظراتها كانت غاضبة ومتجهمة....
..."ألم تقل إنك لن تتورط في مشاكل أخرى؟!"...
..."أنا آسف... لم يكن لدي خيار..."...
...لكن مارثا لم تبدُ مقتنعة، فزوجها البسيط الطيب لم يكن من النوع الذي يرتكب مثل هذه الحماقات. نظرت بحدة إلى الفتاة الصغيرة:...
...كان شعرها البني الداكن مصففًا بعناية ومربوطًا بشريط أنيق، كما لو أن جدها قد اعتنى به بنفسه. عيناها الخضراوان كانتَا مطأطأتين، ووجهها شاحبًا. لكن رغم مظهرها الأنيق، كانت حواف فستانها مهترئة ورباطا حذائها مختلفين في اللون، مما كشف عن الوضع المالي السيئ لـعائلة البارون.....
...مارثا، التي كانت ربة منزل اعتادت القلق على المستقبل، توصلت إلى استنتاج فوري:...
... هذه الطفلة ستبقى معهم إلى الأبد....
...ابنة عائلة نبيلة سقطت في الفقر!...
...شعرت وكأن حجرًا ثقيلًا قد استقر فوق صدرها، فأجابت بلهجة باردة:...
..."حسنًا، بما أنك ستعيشين هنا، فأنتِ واحدة من أطفال هذه العائلة. وهذا يعني أنكِ ستعملين أيضًا. الجميع هنا يعمل، إميلي، بيل، ونويل كذلك."...
..."نعم، سيدة مارتن."...
... ردّت هيزل بهدوء مطيع، مما أثار ريبة مارثا أكثر. فقد سمعت الكثير عن أبناء العائلات النبيلة وكيف يتصرفون. لم تكن مستعدة لتحمل دلال فتاة متعجرفة....
... لكن لحسن الحظ، هيزل لم تكن مدللة، ولم تكن كثيرة الكلام. كانت تتحدث بلباقة، تصغي بانتباه، وتتحرك بحذر شديد، وكأنها تخشى أن تكون عبئًا....
...شعرت مارثا بوخزة في قلبها، لكنها تمالكت نفسها....
...كل صباح كانت تكرر: "يجب أن تساعدي، إن كنتِ ستعيشين هنا."...
...قالتها مرارًا، ليس كتهديد، بل كأمر واقع. عندما تبلغ العاشرة، كانت تنوي أن تكلفها بالعمل حقًا، فالمزرعة تحتاج إلى كل يد عاملة....
...حتى جاء اليوم الذي سألتها فيه الطفلة بصوت خافت: "هل أستطيع المساعدة؟"...
...دون أن تفكر، ردت مارثا بلا اهتمام: "افعلي ما تشائين."...
...لكنها لم تدرك حينها أن تلك الجملة ستغير كل شيء....
...---...
..."يد الشمس"...
...في اليوم التالي، عندما كانت مارثا مشغولة بالغسيل، سمعت جلبةً قرب الحظيرة. هرعت إلى الخارج وهي تتوقع كارثة، لكنها وجدت كارل والأطفال متجمعين حول الحديقة الصغيرة قرب الإسطبل، يحدقون بدهشة في صفوف منتظمة من بذور الفاصوليا. ...
...وقفت الفتاة الصغيرة هناك، تنظر إليها بفخر....
..."كيف حدث هذا؟!"...
..."لكن... ألم تدمرها الأمطار؟! كيف؟!"...
...صاح نويل، الابن الأصغر بحماس: "إنها هيزل! أعادت زرعها! لم تكن تعلم أنها غير صالحة، لذا جمعتها وزرعتها من جديد!"...
...وقفت مارثا مذهولة. كانت تعرف كم تألم أطفالها عندما جرفت العاصفة نبتاتهم الصغيرة، وكيف رموا البراعم الذابلة دون أمل. لكنها الآن تراها تنمو من جديد....
..."لكن كيف عرفتِ؟"...
...تلعثمت الطفلة: "أنا... فقط جلست وتأملتها. شعرت أن كل نبتة مختلفة، وكأنها تخبرني بما تحتاجه. بعضها احتاج مزيدًا من التربة، وبعضها قليلًا من الماء، والبعض الآخر كان بحاجة إلى ضوء الشمس. وعندما وضعتها في المكان المناسب، لمستها برفق وقلت لها أن تتحمل، ثم... فجأة بدأت تستعيد عافيتها."...
...كان هناك شيء واحد يفسر هذا....
...تبادل كارل ومارثا النظرات المذهولة، ثم همسا معًا:...
..."إنـهـا یـد الـشـمـس!"...
...---...
..."إنها معجزة!"...
...وفقًا لأسطورة المزارعين، يولد كل مئة عام شخص يمتلك "يد الشمس"—لمسة سحرية قادرة على جعل النباتات تزدهر ، وجعل الحيوانات أكثر صحة، والمحاصيل أكثر وفرة....
...منذ ذلك اليوم، أصبحت هيزل روح المزرعة....
...ساعدت في كل شيء، من العناية بالحيوانات إلى تحضير الخبز، وكان لكل ما تلمسه أثر مذهل. عجنت الخبز، فصار أكثر انتفاخًا ولذة. ...
...حلبت البقرة المشاكسة نورما دون عناء، حتى أن الدجاج بدأ يبيض بيضًا أكبر حجمًا!...
...بمرور الشهور، بدأت الطفلة الخجولة تتحول إلى جزء لا يتجزأ من المزرعة. كانت سعيدة، وبدأت ملامحها تتغير—اكتسبت وجنتاها احمرارًا، وبدا بريق في عينيها. وعندما ركضت مع إيميلي وبيل في الغابة، كانت تضحك بمرح لم يكن موجودًا من قبل....
...أدركت مارثا حينها: عندما يجد التعساء السعادة، فإن الذين يراقبونهم يشعرون بسعادة لا توصف....
...لكن لا شيء يدوم إلى الأبد....
...---...
...في إحدى ليالي الشتاء القارصة، وبينما كانت العائلة تستمتع بدفء الموقد، شوهدت عربة قادمة عبر الجليد ...
...طُرِق الباب مجددًا....
...فتحه كارل، ليجد البارون ميفيلد واقفًا هناك. كان يبدو أكبر سنًا وإنهاكًا من ذي قبل، وثيابه البالية كشفت عن إخفاقه في "إلدورادو". لكنه عاد لسبب واحد—استعادة حفيدته....
... ...
..."حان الوقت للعودة معي، هيزل."...
...ولكن عندما نطق بهذه الكلمات، لم تجبه الطفلة. وعندما نظر الجميع حولهم، لم تكن موجودة....
...بحثوا عنها في كل مكان، حتى وجدها البارون بنفسه، مختبئة في الإسطبل خلف أكوام القش. ...
... ...
...عندما أمسكت يداه بها، صرخت بحرقة:...
..."أنا لن أذهب! سأبقى هنا!"...
...حدّق بها البارون بذهول لم يتوقع هذا.... ...
..."سأعيش في هذه المزرعة!"...
...كانت هيزل تتوق لذلك بشدة. لم يستطع كارل تحمُّل رؤيتها بهذا الحال، فتدخل بوجه مرتبك للغاية....
..."هذه الفتاة الصغيرة يجب أن تعمل في الزراعة. لديها موهبة فطرية في ذلك."...
...نظر البارون إليه وكأنه يسمع كلامًا لا معنى له، ثم هز رأسه وقال بحزم:...
..."هذه الفتاة هي الوريثة الوحيدة لعائلة بارونية مايفيلد."...
...في تلك اللحظة، أدركت هيزل أن كل شيء قد انتهى. ...
...كان عليها أن تغادر هذه المزرعة الجميلة، وكان ذلك أكثر من أن تتحمله فتاة في الثامنة من عمرها. شعرت وكأن الشمس اختفت إلى الأبد، وغرق العالم كله في الظلام....
...استدارت هيزل بخطوات ثقيلة ونظرت إلى الوراء....
...كانت بلمونت بعيدة جدًا. ربما هذه هي المرة الأخيرة التي تراها فيها....
..."عمي كارل، السيدة مارثا، إميلي، بيل، نويل... وداعًا جميعًا."...
...لكنها لم تبكِ. على الرغم من أنها لم تقضِ في المزرعة سوى نصف عام، إلا أن قلبها كان قد أصبح جزءًا من حياة الريف....
...انحنت برشاقة وألقت تحية الوداع:...
..."وداعًا يا عم كارل، السيدة مارثا، إميلي، بيل، نويل. اعتنوا بأنفسكم جميعًا."...
...في بلمونت، لا يُكثر الناس من الكلام عند الوداع. بدلًا من ذلك، يقدمون لك سلة كبيرة مليئة بالخيرات تعبيرًا عن محبتهم....
...تحركت العربة مبتعدة....
...مدّت هيزل رأسها من النافذة، ونظرت إلى الأشخاص الذين تركتهم خلفها: كارل، ومارثا، وإميلي، وبيل، ونويل—كانوا يقفون يلوحون لها بينما تتضاءل المزرعة في الأفق....
...في ذلك اليوم، أدركت هيزل شيئًا مهمًا:...
...بغض النظر عن مدى الحزن، هناك أوقات يكون فيها الوداع أمرًا لا مفر منه....
...ولكن... كان لديها حلم....
...قررت هيزل في تلك اللحظة:...
...'يومًا ما، سأملك مزرعتي الخاصة!'...
...---...
...مرّت السنوات كما تتفتح الأزهار وتذبل ثم تزهر مرة أخرى. وهكذا، مرّت أحد عشر سنة منذ ذلك اليوم الذي ودّعت فيه الطفلة الصغيرة مزرعة بلمونت بدموع مكتومة......
...في مدينة صغيرة تُدعى روشيل، وسط الإمبراطورية، جلست شابة عند نافذة أحد البنوك....
...كانت هيزل الآن فتاة في التاسعة عشرة من عمرها. رفعت شعرها البني الداكن بإحكام مثل زملائها، وكانت تحرك المعداد الخشبي بمهارة بينما كانت عيناها الخضراوان الخاليتان من أي بريق تراقبان الحسابات....
...كانت عيناها الخضراء الباهتة تتجولان بلا هدف حتى وقع بصرها على إعلان صغير في إحدى الصحف التي يحملها أحد العملاء:...
...'مزرعة للبيع بسعر رخيص!'...
...كان السعر مكتوبًا بخط عريض تحت الإعلان:...
...'ثمانية آلاف غولد'...
...أخذت نفسًا عميقًا....
...راتب موظفة بنك مبتدئة مثلها هو 12 غولد شهريًا. إذا ادخرت كل ما تكسبه ولم تنفق شيئًا، فستحتاج إلى 55 سنة لتجمع هذا المبلغ!...
...'سيكون عمري حينها 74 عامًا!'...
...تنهدت هيزل بحسرة....
...منذ أن كانت طفلة في الثامنة، كان لديها حلم واحد: امتلاك مزرعة خاصة بها. ...
...لكن كابنة لعائلة نبيلة سقطت في الفقر ولم ترث شيئًا، بدا ذلك الحلم بعيد المنال. رغم أنها عملت بجد ووفّرت كل قرش، إلا أن راتبها كان ضئيلًا وأسعار الأراضي باهظة....
...'عليَّ أن أوفر أكثر... وأكثر!'...
...بينما كانت غارقة في أفكارها، مرّ المدير بجانبها، وعندما لاحظ توقفها عن العمل، نظر إليها بحدة. أسرعت هيزل في مواصلة العد على المعداد....
...عندما دقّ جرس الغداء، قام الموظفون، الذين كانوا يشعرون بالملل من العمل المتكرر، بسرعة بتوضيب مكاتبهم. التفتت زميلتها روزاليند نحوها وهي تتمطى:...
..."هل ستتناولين الغداء بمفردك مجددًا؟"...
...أومأت هيزل برأسها....
...رغم أنها عملت في البنك لمدة عامين، إلا أنها لم تذهب لتناول الغداء مع زملائها ولو لمرة واحدة. كان رغيف خبز مدهون بالقليل من الزبدة كافيًا بالنسبة لها....
...عندما غادرت البنك خلال استراحة الغداء، تركت شعرها البني الداكن ليتدلى على كتفيها، وفكّت الزر العلوي من قميصها لتتنفس قليلًا. كانت هذه الدقائق القليلة التي تتنفس فيها الهواء الطلق هي أفضل لحظة في يومها....
...ولكن بينما كانت تنزل درجات السلم، توقفت فجأة....
...على الجانب الآخر من الشارع، وقف رجل عجوز يرتدي قبعة قش كبيرة وقميصًا ملونًا وسروالًا قصيرًا مربوطًا بشريط عند الركبتين. كان يلوح لها بذراعيه بحماس....
...كان هذا الرجل غريب الأطوار هو البارون أرتشيبولد سيباستيان ميفيلد، جدّها الذي لم تره منذ أكثر من عام ونصف. ...
..."جدي؟!"...
...كانت هيزل تحبه رغم غرابته. لكنه كان دائمًا ما يعود من رحلاته الغريبة محملًا بأشياء لا معنى لها مثل أعشاب سحرية أو أدوات عجيبة، لذلك لم تأخذ كلامه على محمل الجد....
...ولكن هذه المرة كان الأمر مختلفًا....
...ركض العجوز نحوها وتحدث بصوت خافت بحماس واضح:...
..."لقد حققت صفقة العمر هذه المرة! وأخيرًا، لقد فعلتها!"...
..."ماذا؟"...
...أخرج الجد وثيقة من حقيبته، ورفعها أمامها بفخر:...
..."إنها وثيقة ملكية. يا صغيرتي، لقد أصبحتِ مالكة مزرعة الآن!"...
..."ماذا؟!"...
...اتسعت عينا هيزل من الذهول. لم تصدق أذنيها. لكن عندما قرأت الاسم المكتوب على الوثيقة...
...– هيزل إدويْنا ميفيلد –...
... أدركت أن الحلم الذي راودها لأكثر من عشر سنوات قد أصبح حقيقة....
...لم تستطع منع نفسها من احتضان جدّها بحماس....
..."مزرعتي... لديّ مزرعة حقًا!"...
...---...
...عادت إلى البنك بعد الاستراحة، عندما صرخ مديرها بغضب بسبب تأخرها ثلاث دقائق، نظرت إليه بثقة وابتسمت قائلة:...
..."سأستقيل."...
...وضعت استقالتها على مكتبه وسط ذهوله، وغادرت دون أن تنظر خلفها....
...من الآن فصاعدًا، ستبدأ مغامرتها الجديدة في مزرعتها الخاصة!...
...ذهبت هيزل بخطى ثابتة إلى المنزل المستأجر، تحمل في قلبها قرارًا لا رجعة فيه. وما إن فتح الباب، حتى وقفت أمام العجوز المالكة وقالت بنبرة قاطعة:...
..."أرغب بإنهاء العقد."...
...رفعت العجوز حاجبيها بدهشة، وقالت وقد التوى صوتها بانزعاج:...
..."ما زال أمامكِ نصف شهر مدفوع! لن أعيد لكِ فلسًا واحدًا حتى يأتي مستأجر بديل!"...
...لكن هيزل لم تتردد، رمقت العجوز بنظرة جامدة وأجابت بحزمٍ لا يقبل المساومة:...
..."لا أريده."...
...ثم صعدت إلى غرفتها بخطى سريعة، كأنها تهرب من زمنٍ لم تعد تريده....
...أحضرت حقيبة سفرٍ كبيرة، وبدأت تضع فيها ما تراكم من كنوزها الصغيرة عبر الأعوام السابقة:...
...بذورٌ نادرة، وبصيلات جمعتها بحنان، وأسمدة بعناية، وأعشاب جفّفتها بيدَيها، ومواد طبخ حملت معها طعم الذكريات. ...
...أضافت إليها أدوات المطبخ التي اعتادت استخدامها، وبعض المؤن المتبقية: حليب، مربى، زبدة، لحم مدخن. ثم، دون أن تلتفت، نزلت مسرعة....
...وداعًا يا منزل الإيجار ذو الـ 2 جولد...
...* * *...
...عند وصولها إلى محطة العربات المشتركة، رأت سائقًا يرفع لافتة مكتوب عليها:...
..."عربة متجهة إلى العاصمة أفالون! مكان واحد متبقٍ!"...
...اعتبرت نفسها محظوظة وصعدت فورًا. ما إن جلست حتى انطلقت العربة. تشبثت بحقيبتها جيدًا وهي تحدق عبر النافذة....
...ومن هناك، بدأت الرحلة......
...طويلة، مملّة، تمضغ الوقت بأسنانٍ بطيئة....
...رغم أن العربة تسير بسرعة، إلا أن الزمن بدا وكأنه يمشي على عكاز من غيم....
...تمنت أكثر من مرة لو قفزت وسارت على قدميها، لعلها تسبق الوقت نفسه....
...* * *...
...بعد يومَين من السفر المتواصل، بدأت أسوار العاصمة الرمادية تلوح في الأفق، شامخةً كأحلامٍ خرساء....
...أخيرًا، وصلت إلى أفالون، قلب إمبراطورية براتانيا، وفي الوقت الذي أوصاها به جدها بالضبط — الثاني من مايو....
...لکن فجأة، توقفت العربة تمامًا....
...فتحت النافذة بقلق، فوجدت الطريق مكتظًا بالعربات وعربات الثيران التي غادرت العاصمة بعد انتهاء الاحتفالات....
...همس الركاب بدهشة:...
..."ما الذي يحدث؟"...
..."الازدحام متوقّع... لكن اليوم يبدو أسوأ من المعتاد."...
...ردّ السائق وهو ينظر للأمام:...
..."إنه مهرجان النصر. انتهى الأسبوع الماضي، لكن المدينة ما زالت تتنفّس احتفالاته، والناس يغادرونها الآن."...
...كانت هيزل على وشك الانفجار من التوتر. لقد اقتربت جدًا! ...
...وقفت فجأة وقالت بلهجة حاسمة:...
..."سأنزل وأكمل الطريق سيرًا على الأقدام."...
...رفع السائق يده محذرًا:...
..."أمامكِ مسافة طويلة يا آنسة!"...
...لكنها لم تستمع....
...قبضت على حقيبتها الثقيلة، وغادرت العربة بخطوات سريعة....
...أثارت دهشة المارة، وهم يشاهدون سيدة أنيقة بقبعة عريضة، قميص منسّق، وتنورة طويلة، تسحب خلفها حقيبة تكاد لا تحتملها....
...لم يكن العمل المصرفي سهلًا، لكنه علّمها الانضباط. أما الشغف الذي يضيء عينيها الآن، فقد منحها طاقة تمشي بها رغم كل التعب....
...دخلت بوابات العاصمة، ثم توقفت....
...'ما هذا المكان؟'...
...ما تراه أمامها لا يشبه الذكرى في رأسها....
...شوارع نظيفة، متاجر أنيقة مصطفة، كل شيء يبدو مرتبًا، حضاريًا، لامعًا....
...في أحد الزوايا، رفع رجل مسن زجاجة شراب وهتف بفرح:...
..."تحية للإمبراطور!"...
...نظرت إليه باستغراب....
...ضحك وقال:...
..."إنها تحية تكريمًا للإمبراطور العظيم. مرحبًا بك في العاصمة يا آنسة! لو أتيتِ الأسبوع الماضي لكنتِ شهدتِ مهرجان النصر الكبير! الإمبراطور العظيم قضى على البرابرة تمامًا قبل عامين، ومنذ ذلك الوقت نحتفل بانتصاره."...
...ابتسمت هيزل بخفة وقالت:...
..."أعلم. في الواقع، بفضله حصلت على وظيفة دائمة في بنك روشيل، براتب 12 جولد شهريًا."...
..."إذن، أتيتِ من روشيل؟"...
..."نعم."...
...تأملت المدينة مرة أخرى، وقالت:...
..."لقد تغيرت كثيرًا منذ زيارتي الأخيرة حين كنت طفلة. ألم يكن هنا حي فقير تعمّه الأكواخ والروائح الكريهة؟"...
...أومأ الرجل وهو يضحك:...
..."بلى أنتِ على حق! لكن كل ذلك تغيّر قبل عامين."...
..."لا بد أن عملية إخلاء الحي كانت فوضوية."...
...ابتسم الرجل بدهاء وقال:...
..."في الواقع، لم يجرؤ أحد على مقاومة أمر الإمبراطور. غادر الجميع بهدوء قبل صدور أمر الإخلاء."...
...تساءلت هيزل:...
..."ومن أشرف على العملية؟"...
..."الكونت زيغفالت، قائد فرسان القلعة."...
..."أليس من عائلة ساكسنشبيل؟ من سلالة الإلف؟"...
..."كلا. من عائلة بيرسيركر، أشداء لا يُقهرون."...
...تخلّت هيزل عن مجاراة الحديث واعترفت بصراحة:...
..."في الحقيقة، لا أعرف الكثير. كان البنك يتلقى صحيفة يومية، لكن خلال استراحة الغداء كنت منشغلة بقراءة قسم الزراعة. أما السياسة، فأعتقد أن معرفة ما يكفي للحديث مع مالكي المزارع المجاورين كان كافيًا."...
...ثم توقفت فجأة:...
..."أوه، أنت أول من أتحدث معه هنا. أحببت الحديث، لكن يجب أن أذهب بسرعة. هناك أمر انتظرته 11 عامًا."...
..."أحد عشر عامًا؟!"...
..."نعم! وبالمناسبة، هل تعرف شارع مونماوث؟ إن عرفت الموقع، سأستخدم هذه الخريطة."...
..."اعبري زقاقين فقط وستصلين إلى شارع مونماوث."...
..."شكرًا جزيلًا!"...
...تركت هيزل الرجل خلفها وبدأت تمشي بسرعة....
...على الرغم من انتهاء المهرجان، كانت العاصمة لا تزال غارقة في أجواء الاحتفال. تمايلت الأزهار والشرائط على أشجار الشوارع، وبرز الرقم الروماني "IX"—رمز الإمبراطور—متألقًا تحت أشعة الشمس....
...تمتمت:...
..."هممم... الغراند كافالييه..." ...
...هذا اللقب يُطلق على ثلاثة فقط من أعظم المبارزين في العالم. الأول ناسك أسطوري، والثاني حاكم القبائل الشمالية البعيدة، والثالث هو إمبراطور إمبراطورية براتانيا، رامشتاين التاسع....
...كان الإمبراطور، البالغ من العمر 22 عامًا فقط، قد قاد حملات عسكرية منذ أن كان وليًا للعهد، برفقة أربعة من قادة فرسان القلعة. بفضل إنجازاته العسكرية والإدارية، حاز على حب شعبي هائل....
...تذكرت هيزل حديث زميلتها ميريديث عند عودتها من العطلة العام الماضي:...
..."إنه وسيم بجنون! لم أرَ في حياتي رجلًا مثله!"...
...لكن بالنسبة لهيزل، التي كانت تفضل البطاطا الجيدة على الرجال الوسيمين منذ أن كانت في الثامنة من عمرها، لم يكن الأمر مثيرًا للاهتمام....
..."حتى لو كان الإمبراطور وسيمًا، هل سيقلل ذلك من الضرائب؟"...
...هزّت رأسها، واستعادت نشاطها بمجرد أن عادت أفكارها إلى الزراعة. ما هو نوع البطاطا الذي سينمو بشكل أفضل في مناخ العاصمة؟ ...
...بمجرد أن انشغلت بهذا التفكير، أسرعت خطاها مرة أخرى....
...بعد السير لمسافة طويلة، مرت بجانب لافتة كُتب عليها "الشارع التاسع". أوقفتها هذه اللافتة فجأة....
..."آه؟"...
...أخرجت وثيقة ملكية الأرض وتحققت من العنوان مرة أخرى. الأرض التي ورثتها عن جدها، حيث قيل إنها قريبة من منزل شخص ذي نفوذ كبير، كان عنوانها في "الشارع الأول"....
..."لقد اقتربت!"...
...تسارعت خطواتها بحماس. مرت بالشارع التاسع، ثم الثامن، حتى وصلت إلى الشارع الأول. توقفت أنفاسها للحظة....
...أمامها كان قصرًا ضخمًا، تمامًا كما وصفه جدها. كان مبنى مذهلًا يليق بشخصية ذات سلطة، يعج بالزوار والحراس....
...ترددت قليلًا، لكنها تماسكت....
..."أنا المالكة القانونية لهذا المكان."...
...دخلت القصر بثقة، وسحبت خريطة تفصيلية مرفقة بوثيقة الملكية. ...
...كان المالك الحالي قد اشترى جميع الأراضي المجاورة، لذا تم تمييز كل قطعة أرض بدقة لتجنب الالتباس....
...كان الموقع الذي تبحث عنه القطعة رقم 79. ...
...بدأت تعد المواقع واحدة تلو الأخرى وهي تتقدم: ...
...الحديقة، النافورة، قاعة التدريب، تمثال رامشتاين الأول، القصر الجانبي، وحديقة المتاهة…...
...وأخيرًا توقفت عند حديقة كبيرة أعيد تشكيلها على هيئة شعار الإمبراطورية—حصان مجنّح. في منتصف الحديقة، كانت هناك منطقة محاطة بجدار مؤقت ولوحة مكتوب عليها "تحت الإنشاء"....
...اقتربت هيزل، ورأت أوتادًا مثبتة على الأرض تحمل اسمًا محفورًا بوضوح:...
..."ماييفيلد"...
...ارتجف قلبها بقوة. عندما رأت اسم عائلتها مكتوبًا هناك، تلاشت جميع شكوكها....
...هتفت بفرح:...
..."هذا هو! هذا هو مكاني!"...
...نظرت حولها، غارقة في سعادة لا توصف. ...
...على الرغم من أن المكان لم يكن الغابة التي حلمت بها، إلا أن الحديقة الواسعة ذات الطراز الكلاسيكي كانت ساحرة بطريقتها الخاصة....
...لكن… لحظة....
...رفعت رأسها لتنظر إلى مبنى ضخم مجاور. كان قصرًا ذهبي القبة بأبراج شاهقة وجدران من الرخام الأبيض اللامع. ...
...اتسعت عيناها، والصدمة تتسلّل بهدوء:...
..."انتظر… لماذا يوجد قصر هنا؟"...
...في تلك اللحظة، بدأت تدرك التفاصيل التي غفلت عنها أثناء سيرها: الحراس، قاعات التدريب، التماثيل الملكية…...
...ثم نطقت الحقيقة همسًا:...
..."هل مالك هذه الأرض... هو الإمبراطور؟!"...
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon