حين غابت الشمس وظهرت ملامح القمر في الأفق، وفي الجناح الشرقي من قصر بيلتون، كانت آنجيلا، الابنة النبيلة لعائلة دوق بيلتون، تستمتع بحمامها في حمام فاخر تحيط به تماثيل ضخمة للملائكة من كل الجهات.
كانت آنجيلا تجلس وحدها في حوض استحمام يتسع بسهولة لعشرات من الرجال والنساء الأشداء. في لحظة ما، فتحت عينيها بهدوء بعد أن كانتا مغمضتين كأنها غارقة في نوم عميق. عندما ارتفعت جفونها المثقلة برفق، ظهرت عينان خضراوان بإشراقة باهتة، لتزيدا من هالة الغموض حولها.
بعد لحظات، خرجت آنجيلا من الحوض، وقطرات الماء الساخن تتساقط من جسدها. وسرعان ما لامس بشرتها الرطبة قماش ناعم، حيث بدأت مربيتها "إيفون"، التي اعتنت بها منذ ولادتها، بتجفيفها بعناية فائقة وكأنها طفلة حديثة الولادة.
تلاشت قطرات الماء المتساقطة بسرعة، وحلّت محلها بشرة جافة ناعمة. ثم قامت إيفون بإلباسها رداء النوم الأبيض وعباءة حريرية ناعمة. بدت آنجيلا، بهذا الرداء الأبيض، وكأنها ملاك أضاع طريقه إلى الأرض. حتى رائحتها العطرة كانت تشبه شيئًا لا ينتمي إلى هذا العالم.
ولكن، ربما بسبب طبيعتها السيئة، لم يكن من السهل لمن يعرف حقيقتها أن يربطها بالملاك الذي تبدو عليه. في تلك اللحظة، كانت آنجيلا تحدق بمربيتها إيفون بنظرات باردة ومزعجة، وكأن هناك شيئًا لا يعجبها. نظراتها كانت قاسية لدرجة أنها بدت وكأنها تفتقر إلى أي دفء إنساني.
لم يكن غريبًا أن من تعامل مع آنجيلا حتى ولو لوقت قصير، كان يهمس قائلًا:
"آنجيلا بيلتون ليست سوى شيطان صعد من الجحيم."
لذا، لم يكن مفاجئًا أن تبدو الخادمات المسؤولات عن ترتيب غرفة نومها متجمدات في أماكنهن عندما دخلت الغرفة. فقد كان من المعتاد أن يصبح خدم قصر بيلتون ضحايا لمزاج آنجيلا السيئ وسلوكها المستبد.
عندما ظهرت آنجيلا، كتمت الخادمات أنفاسهن وأحنين رؤوسهن. كان هذا السلوك نتيجة لتجاربهن السابقة؛ فقد شهدن كثيرًا كيف يؤدي حتى صوت نفس أو حركة عابرة إلى وقوع مشكلة.
أسرعن بإنهاء عملهن ومغادرة الغرفة دون أي تأخير، خوفًا من إثارة غضبها. بدت خطواتهن السريعة مليئة بالقلق. ولم يجرؤ أحد على النظر مباشرة إلى عيني آنجيلا، حتى مربيتها إيفون، التي بقيت وحدها معها بعد مغادرة الخادمات.
بعد أن رتبت إيفون سرير آنجيلا وانتظرت حتى تستقر فيه، أعادت ترتيب الأغطية بخفة، متجنبة النظر إلى وجه آنجيلا طوال الوقت.
قالت بانحناءة خفيفة:
"تصبحين على خير، آنستي."
ثم استدارت لتغادر دون تردد، بخطوات أسرع قليلاً من المعتاد، وإن لم تكن متسرعة بشكل واضح كما كانت الخادمات.
تمتمت آنجيلا بصوت منخفض، وهي تحدق بظهر إيفون المبتعد:
"تشبه الجرذان."
رغم أن إيفون سمعت كلمات آنجيلا الجارحة، لم تتوقف أو تظهر أي رد فعل وهي تفتح الباب وتغلقه خلفها.
آنجيلا، التي كانت تراقب الباب المغلق بنظرات حادة، جذبت الأغطية بقوة واستدارت بجسدها لتولي ظهرها للباب. ثم أغلقت عينيها الكثيفتي الرموش بإحكام.
لكن مهما حاولت، كان من المستحيل أن تنام. الأرق الذي عانت منه لفترة طويلة لدرجة أنها لم تعد تتذكر متى بدأ، كان الشيء الوحيد في قصر بيلتون الذي واجه آنجيلا بنظرات ثابتة دون تردد.
"..."
كانت آنجيلا تمسك بالغطاء بكلتا يديها، متظاهرة بالنوم بينما تنتظر أن تمر الليلة.
لم تنجح في النوم إلا عندما تسللت أولى خيوط الفجر عبر الشقوق الضيقة للنافذة.
انعكست أشعة الصباح الباهتة على وجهها الصغير، مما جعل بشرتها البيضاء تبدو شاحبة كأنها جثة. لم يكن هذا سوى نهاية يوم آخر عادي بالنسبة لها. انتهى يوم آنجيلا المتأخر عن الآخرين أخيرًا.
**
“هاه…!”
استيقظت آنجيلا فجأة وهي تأخذ نفسًا عميقًا، تلهث وكأنها كانت تغرق في الماء وتم إنقاذها للتو. كان ظهرها مبللًا، وكأنها أفرغت سيلًا من العرق البارد.
بعد لحظات من محاولتها استعادة أنفاسها، جلست ببطء، ووضعت يديها على السرير لتدعم وزنها، فشعرت بملمس ناعم تحتها. نظرت إلى الأسفل لترى الأغطية المألوفة.
أمسكت بالغطاء قليلًا وهي تحدق فيه، ثم بدأت بسرعة بتفحص الغرفة بعينيها، كأنها تحاول التأكد من كل ما حولها.
سرير مزين بمظلة فاخرة، طاولة بجانب السرير مزخرفة بنقوش فراشات ذهبية، طاولة كبيرة تتسع لعشرة أشخاص مع أريكة واسعة، نافذة كبيرة تسمح لأشعة الشمس بالدخول، وستائر مزينة ببذخ.
بلا شك، كانت هذه غرفتها.
إذًا، كان حلمًا.
حلم، حلم، حلم…
كابوس بغيض.
رددت آنجيلا تلك الكلمات وكأنها كانت تلقي تعويذة على نفسها. لكن رغم محاولتها طرد آثار الحلم، بقيت الصور واضحة تملأ عقلها دون أن تتبدد.
كانت متأكدة… لقد ظنت أنها استيقظت بالفعل. عيناها المغلقتان كانتا تؤلمها من شدة الضوء الذي رأته.
ولكن حين فتحت عينيها، لم تكن المناظر أمامها تلك التي اعتادت عليها كل صباح. بدلاً من ذلك، وجدت نفسها محاطة بظلام لا نهاية له.
لم تكن هناك أشعة شمس تُعلن الصباح، ولا خادمات يساعدنها على الاستعداد، ولا كوب الشاي المعطر الذي اعتادت عليه.
بين هذا الظلام الذي ابتلع كل شيء كان يجب أن يكون موجودًا، فكرت آنجيلا:
"آه، هذا حلم."
وفي تلك اللحظة، سمعت صوتًا:
"آنجيلا بيلتون."
"يا للغباء الذي لوّث الاسم الذي مُنح لك لتكوني ملاكًا."
ظهرت فجأة بريقات ضوئية بلا شكل محدد، وبدأت تتحدث إلى آنجيلا.
"حتى في الكوابيس؟"
تمتمت آنجيلا لنفسها، وعبست بحاجبيها بينما كانت تفكر أن هذا حلم مزعج جدًا.
وفي تلك اللحظة، اقترب أحد تلك الأضواء الغريبة من خدها الأيمن ولمسها برفق قبل أن يقول بنبرة ساخرة:
"الجميع يشيرون إليك بأصابع الاتهام، آنجيلا."
حتى في الحلم، لم تستطع آنجيلا تحمل هذا النوع من المعاملة. فتحت عينيها على اتساعهما بغضب، وكانت عيناها الزمرديتان مليئتين بوهج من الغضب المتقد.
نظرتان قاسيتان كانتا تشعان بضوء غريب، تبعتهما نقرة خفيفة على الخد الآخر لأنجيلا، جعلتها تشعر بألم طفيف.
"أهذا كل ما تستطيعين فعله بعينيك الجميلتين؟ لا عجب أن ينعتوكِ بالشيطانة."
"كيف تجرؤ على...!"
"قلت لكِ، الجميع."
كلمات الضوء كانت حازمة، وكأنها سحقت محاولة أنجيلا الحادة للرد، ثم اندمج الضوءان معًا ليصبحا واحدًا، لينظر إليها بنظرة تقشعر لها الأبدان، كما لو كان يمسح جسدها بالكامل.
شعرت أنجيلا بعار كمن تُرك بلا قطعة قماش واحدة تسترها، كأنها قد جُردت قسرًا من ملابسها.
كيف تجرؤ؟!
ارتفعت موجة الغضب في داخلها حتى بلغت عنان السماء، ولو استطاعت لأنقضت على ذلك الضوء ومزقته إلى أشلاء. لكن ما بدا أنه حيلة من الضوء حال دون ذلك. جسدها لم يستجب كما أرادت؛ وكأنها مقيدة بحبال غير مرئية، بالكاد تستطيع تحريك إصبع واحد.
ما هذا بحق الجحيم؟!
"يا أنجيلا الحمقاء."
ضحك الضوء كأنه يقرأ أفكارها، ثم انقسم مجددًا إلى اثنين ليهبطا كل منهما على أحد كتفيها.
"آه!"
رغم أن الضوء بلا هيئة مادية، إلا أن ثقله كان أشبه بكتلة حديدية ضغطت على كتفيها، مما جعلها تطلق أنينًا غير قادر على كتمه.
أما الضوء، فلم يكترث لأنينها أو حالتها.
"لا أحد يحبك."
"كيف يمكن لأحد أن يحبك وأنت بهذا الشر؟"
"لقد سمعنا الدعوات يوميًا. يا إلهي، عاقب هذه الشقراء الشريرة. أرجوك. أرجوك. أرجوك."
"لقد كانت أصواتهم مزعجة للغاية، فقررنا معاقبتك."
تبادلت الأصوات، التي كانت متشابهة لكنها مختلفة في ذات الوقت، همساتها القاسية في أذن أنجيلا. رغم أنها لم تكن صاخبة، إلا أنها دوت في رأسها كالرعد، حتى بدت كأنها ستحطم أذنيها.
مع كل كلمة كان الضوء ينطق بها، شعرت أنجيلا بآلام مبرحة، وكأن طبلة أذنها تتمزق، ورأسها يكاد ينفجر.
لابد أنه حلم!
لكن الألم كان حقيقيًا للغاية، جعل وجهها يلتوي من شدة المعاناة.
في النهاية، استسلمت شفتاها التي كانت تضغط عليهما بعناد، وبدأ الدم يتجمع بينهما، لينساب كقطرات قاتمة.
حينها فقط، تراجع الضوء عن كتفيها واندمج ليصبح واحدًا، ثم بدأ يحوم فوق رأسها كأنه يربت عليها. كانت تلك اللمسة مليئة بالدفء رغم ما حملته كلماته السابقة من قسوة.
ومع هذا، شعرت أنجيلا أن الألم الذي كان يمزق رأسها، كغراب ينقر في دماغها، بدأ يهدأ شيئًا فشيئًا.
أخيرًا... أستطيع التنفس.
أطلقت زفرة مرتجفة مليئة بالارتياح.
لكن في تلك اللحظة، انقسم الضوء مجددًا وانطلق في كل اتجاه، ليعود ويتحد فجأة أمامها، متحركًا بسرعة مذهلة.
للحظة، شعرت أنجيلا أن هذا الضوء بلا عيون قد تلاقى مع نظراتها، وأنه كان يحدق في أعماقها، كما لو كان يخترقها إلى ما وراء وجهها.
"... لكن يا أنجيلا."
أخيرًا، كسر الضوء الصمت بعد فترة طويلة.
"سأكون كريمة وأمنحك فرصة."
"......"
"هذه الرحمة التي أقدمها لك تنبع من معرفتي ببؤسك. عليك أن تشعري بالامتنان."
بعد هذه الكلمات، بدأت البقعة الضوئية تدور حول آنجيلا بسرعة، ثم اخترقت مباشرة منتصف صدرها.
شعرت آنجيلا وكأن قبضة غير مرئية تقبض على قلبها، مما جعلها ترتجف وكأنها على وشك أن تتقيأ. انتشر شعور غريب بالحرارة عبر جسدها، واشتد دفء قلبها حتى بدا وكأنه يحترق. كان الألم مروعًا.
ربما كان ذلك السبب وراء ظهور الهلوسات أمام عينيها المشوشة. رأت في هذه الهلوسات فتاة صغيرة للغاية، أصغر من أقرانها.
"آه... هاه... هيييك..."
كانت الفتاة الصغيرة، بشعرها المتشابك، تبكي بحرقة وهي تخدش بابًا مغلقًا بأظافرها. كانت تحاول فتح الباب بلا جدوى.
"افتحوا الباب... أرجوكم... لقد أخطأت... أنا آسفة..."
قالت الفتاة بصوت متقطع وسط نحيبها، وكأنها تناشد الرحمة.
"ما هذا...!"
عندما سمعت تلك المناشدة المؤلمة، أدركت آنجيلا أن هذه الهلوسة ليست سوى شظايا من ماضيها، وأن تلك الفتاة الصغيرة هي نفسها في طفولتها. صرخت بصوت عالٍ، كأنها تعترض:
"ماذا تفعلون بي؟! توقفوا!"
مع صرخة آنجيلا، ظهرت البقعة الضوئية مرة أخرى أمامها. انقسمت إلى قسمين، بدأت بالدوران حولها، ثم تحدثت بألطف نبرة سمعتها آنجيلا حتى الآن:
"اهدئي، نحن فقط نحاول زرع حقل من الزهور الجميلة في قلبك القاسي."
"لقد زرعنا البذور الآن، لذا عليكِ أن تجعليها تزهر."
"لكن احذري ألا تتحول البذور إلى أشواك قاتلة."
"لأن الأشواك الحادة قد تخترق قلبك... وقد تموتين."
رغم أن الكلمات بدت مثل لغة يمكن فهمها، إلا أن معناها كان غامضًا تمامًا. أرادت آنجيلا أن تصرخ وتسأل عن المعنى وراء هذا الكلام الغريب، لكن البقعة الضوئية لم تنتظر.
قبل أن تتمكن من قول شيء، اندمجت البقعتان في واحدة واختفت فجأة دون أي أثر. كل ما تبقى كان صدى صوت غير واضح—ضحك أم بكاء—يتردد في أذنها بينما كانت واقفة وحدها في الظلام.
---
"هاه، حديقة زهور؟ يا للسخرية..."
تمتمت أنجيلا بغيظ وهي تضغط على جبينها، ثم عبست فجأة عندما شعرت بحرارة طفيفة تتصاعد منه.
هل يمكن أن تكون حالتها الصحية السيئة هي ما جعلها ترى هذا الحلم السخيف؟
بنقرة لسان مستاءة، مدت يدها لتحرك الحبل الطويل المتدلي بجانب السرير، مستدعية إحدى الخادمات.
لم تمض لحظات حتى فُتح باب غرفة النوم بعنف، واندفعت خادمة إلى الداخل وهي تجري بخطوات سريعة. الطريقة المزعجة التي دخلت بها أثارت استياء أنجيلا.
كانت أنجيلا بالفعل في حالة مزاجية سيئة بسبب الحلم الكريه، لذا وجهت نظرات حادة نحو الخادمة. لكن الخادمة توقفت فجأة كأنها رأت شيئًا مرعبًا، ثم ركضت خارج الغرفة بوجه مصدوم.
"ماذا؟"
حدقت أنجيلا مذهولة نحو الباب الذي خرجت منه الخادمة. صحيح أن الخادمات كن يتهربن من التعامل معها، لكن لم يحدث أن هربت إحداهن بهذه الطريقة المذعورة.
هل يُعقل أنني ما زلت في الحلم؟
بدأت أنجيلا تنظر حولها بقلق، وعندما كانت منشغلة بالتفكير، بدأت أصوات غامضة تأتي من خارج غرفة النوم.
"ما الذي يحدث بحق السماء؟"
نفد صبر أنجيلا، فركلت الغطاء الذي كان يلف ساقيها، وأنزلت قدميها إلى الأرض. كانت قدماها بيضاء كأنهما لم تلامسا أشعة الشمس أبدًا.
لكنها لم تجد حذاءها المنزلي في مكانه المعتاد بجانب السرير. بالتأكيد عبثت به إحدى الخادمات الحمقاوات.
"هذا عبث!"
لم يكن هناك شيء يسير كما تريد. بصقت أنجيلا كلماتها بغضب ثم وقفت حافية القدمين على الأرض الباردة، التي بعثت قشعريرة في ظهرها.
بوجه متجهم، سوت خصلات شعرها الذهبي الطويلة وهي تفكر في العقاب الذي ستناله خادمات غرفة النوم.
وفي تلك اللحظة، وضعت يدها فجأة على صدرها.
كانت أناملها تقبض بقوة على مقدمة فستانها، مما أدى إلى تجعيده بشكل مؤلم.
ما... ما هذا؟ ما الذي يحدث الآن؟
لم تستطع حتى الصراخ؛ كان الألم في قلبها لا يُطاق.
ظهرها، الذي كان دائمًا مستقيمًا ومشدودًا، انحنى بضعف أمام الألم المفاجئ، مما جعل هيئتها تبدو أصغر وأضعف مما هي عليه بالفعل.
"نحن نحاول أن نزرع حديقة زهور جميلة في قلبك القاسي."
"لقد زرعنا البذور، والآن يجب أن تنميها لتزدهر."
"لكن احذري... إن سمحت للأشواك بالنمو بدلًا من الزهور، فقد تخترق قلبك وتموتين."
فجأة، ارتجت أجزاء من الحلم البغيض في ذهن أنجيلا. التحذيرات التي أطلقها الضوء بشأن نمو أشواك قاتلة في قلبها كانت تصدح في رأسها كأنها لعنة لا يمكن التخلص منها.
عينان مضطربتان بلون الزمرد اهتزتا بقلق، كما لو كانتا أمواجًا خضراء هائجة.
لا بد أن الأمر مجرد صدفة. صدفة، بالتأكيد.
حاولت أنجيلا أن تهدئ نفسها بهذه الكلمات، لكن كل شيء حولها أعاد إلى ذهنها تفاصيل ذلك الحلم، مما جعل قلبها المضطرب يرفض الهدوء.
لا يُعقل... ومع ذلك، الشكوك التي حاولت قمعها تفجرت في عقلها مثل نافورة لا تهدأ.
في تلك اللحظة، انفتح باب غرفة النوم مجددًا، لكن هذه المرة كان فتح الباب فجًا جدًا لدرجة أنه لا يمكن أن تكون الخادمة هي من عادت.
أنجيلا، التي كانت لا تزال ممسكة بصدرها، استقامت ببطء لتتعرف على هوية الزائر الذي اقتحم غرفتها بهذه الطريقة.
"يا للوقاحة."
كان الصوت العميق أول ما وصل إلى أذنيها.
"قيل إنكِ لم تفتحي عينيكِ لمدة أربعة أيام."
اقترب رجل ذو وجه وسيم للغاية، يُقال إنه الأجمل في إمبراطورية فيلون، بخطوات ثابتة نحوها.
"لقد خُدِعتُ مجددًا."
كاليان فلورينس.
"بغباء."
كان خطيبها البارد الذي بالكاد يظهر مرة واحدة في الشهر.
"أنتِ..."
رفعت أنجيلا رأسها، محدّقة بذهول إلى ملامح وجهه المرتفعة عنها.
كاليان فلورينس، الرجل الذي حصل على لقب الكونت بفضل إنجازاته العسكرية في النزاعات الحدودية المتكررة لإمبراطورية فيلون، كان يحدق بأنجيلا بنظرات صارمة.
تحت شعره الأسود، تألقت عيناه السوداوان كالجواهر. في اللحظة التي التقت فيها عيناه بعيني أنجيلا، بدأ قلبها ينبض بألم مختلف هذه المرة.
"ما هذا الكلام السخيف؟"
حاولت أنجيلا أن تخفي اضطرابها بنبرة حازمة.
"إذا كنتِ تمثلين، فقد سئمتُ من هذه المسرحيات، فتوقفي."
خلع كاليان عباءته الداكنة عن كتفه بتكلف، وكأنها عبء ثقيل عليه. التفت العباءة الزرقاء الداكنة حول ذراعه القوية، ورغم بساطة الحركة، كانت مفعمة بهيبة الفارس الذي يحمي الإمبراطورية.
"أليست هذه مجرد حيلة لإجباري على القدوم إلى هنا؟"
نبرته كانت قاطعة بلا رحمة.
"ماذا؟"
"في المرة القادمة التي يحدث فيها هذا، لن أكترث حتى لو وصلني نبأ وفاتكِ."
وجهه البارد كان ينطق بالجدية؛ بدا كأنه لن يهتز حتى لو ماتت أنجيلا أمام عينيه. لم يكن هذا سلوكًا مقبولًا تجاه شخص وعدها بالزواج.
ولكن بالنسبة لأنجيلا، كان الأمر أكثر من مجرد وقاحة. فهي من أنقذت كاليان عندما كان مرتزقًا يتيمًا من أصول متواضعة، حين وطأت قدماه قصر عائلة بيلتون لأول مرة، لا يجيد حتى التصرف كإنسان طبيعي.
كيف يمكن لمن يدين لها بفضل أن يرتقي ليصبح كونتًا في السادسة والعشرين من عمره، ثم يتعامل معها بهذه الطريقة الجاحدة؟
كان من الطبيعي أن تعض أنجيلا شفتيها غضبًا.
لكن من وجهة نظر كاليان، كان هناك أسباب تجعل ردود أفعاله بهذه الحدة.
كانت أنجيلا تتذرع دائمًا بمرضها لاستدعائه إلى قصر عائلة بيلتون. لم يكن يهمها إن كان مشغولًا بعمله، أو بعيدًا في رحلة، أو حتى على وشك التوجه إلى ساحة المعركة.
كانت أنجيلا عندما تدعي المرض، تجبر كاليان على القدوم إليها بغض النظر عن ظروفه. وإذا رفض، لم تتردد في كشف طبيعتها التدميرية. ذات مرة، عندما تجاهل طلبها، أرسلت خادمًا لإحضاره، وعندما عاد الخادم دون تحقيق المطلوب، عاقبته بالضرب.
تصرفاتها لم تكن غريبة على من يعرفها عن قرب. حتى بين الناس، كانت تُعرف بأنها متعجرفة ومتلاعبة، لدرجة أن البعض وصفها بأنها أكثر من مجرد كاذبة؛ بل شخصية مخادعة لا تستحق الثقة.
كان كاليان على وشك أن يبتلع غضبه المكبوت عندما سألته أنجيلا، بنبرة تتحدى برودة وجهه:
"من أوصل الرسالة إليك؟"
كانت كلماتها تشير إلى الخادم الذي أوصل خبر مرضها هذه المرة.
بدا أن سؤالها كان مفاجئًا، إذ إن كاليان رفع حاجبيه وكأنّه يحاول فهم دوافع أنجيلا الخفية. لكنّها، بابتسامة خفيفة بدت كأنّها لإزالة أي سوء فهم، قالت وكأنها تكشف عمّا يدور في ذهنها بوضوح:
"من يتجرأ على الافتراء عليّ بوقاحة، يجدر به أن يُعاقب بقطع لسانه."
لم تكد تنتهي كلماتها حتى انكمش وجه كاليان بازدراء واضح. ولكن هذه المرة، كانت أنجيلا تشعر بصدق أنها مظلومة.
كاليان فلورنس لم يكن يأتي إليها ما لم تبذل جهدًا لإحضاره بنفسها، رجل بالكاد يشعر بوجودها، لدرجة أنه يكاد يجعل منصب خطيبته يبدو بلا معنى. حتى في عيد ميلادها، كان يغادر إلى مقاطعته بحجة التفقد.
لذلك، كان عليها دائمًا أن تبادر، أن تطلب، بل وتضغط عليه ليأتي إليها. لكنها هذه المرة لم تفعل أيًا من ذلك.
لم يسبق لأنجيلا أن فقدت وعيها لأربعة أيام، ولم ترسل أبدًا رسائل تستغل فيها حالتها الصحية لإجباره على زيارتها. ما قاله كاليان كان مجرد افتراض خاطئ ومهين.
"إذا لم تودّ أن تخبرني، فلا بأس. سأبحث بنفسي."
قالت أنجيلا بحزم وهي تتجاوزه، مستعدة للذهاب للتأكد من معاقبة الخادم الذي قد يكون تجرأ على الكذب عليها.
لكن كاليان، الذي كان يعلم أنها لا تمزح، أمسك بمعصمها بقوة ليوقفها.
"آه!"
أو على الأقل حاول أن يمسكها.
صوت أنين مكتوم صدر عنها وهي تسقط أرضًا فجأة. لو لم تسقط بهذه السرعة لتمكّن من الإمساك بمعصمها النحيل.
نظر كاليان إلى يده الخالية، قبض قبضته بغضب مكبوت، بينما أنجيلا على الأرض تحاول التقاط أنفاسها بصعوبة.
وضعت كلتا يديها على صدرها وضغطت بقوة على المنطقة التي يخفق فيها قلبها. نبضاته كانت عنيفة لدرجة تخيفها، وكأن قلبها على وشك الانفجار.
كانت ترتجف وهي جاثية على الأرض، وشعرها الذهبي الطويل ينسدل حولها كأنه فقد قوته هو الآخر. شعرت أنها قد تفقد حياتها في أية لحظة.
لكن الصوت الذي جاء من فوقها كان باردًا كصقيع الشتاء.
"ألم أخبركِ أن تتوقفي عن هذه المسرحيات؟"
في تلك اللحظة، بدا أن الغرفة، رغم دفئها المعتاد، أصبحت باردة كأنّ عاصفة ثلجية تجتاحها.
لم تحتج أنجيلا أن تنظر إلى كاليان لتعرف تعابير وجهه. كانت تعرف بالفعل أنه ينظر إليها بازدراء، وجهه خالٍ تمامًا من أي تعاطف أو حنان تجاه خطيبته المزعومة.
رفعت رأسها ببطء بعد أن أخذت شهيقًا عميقًا، وحاولت الوقوف بثبات، متظاهرة وكأن شيئًا لم يكن.
"يا لبرودة قلبك، يا كونت فلورنس."
قالت بحدة وهي تنظر إليه مباشرة، متجاهلة ألمها كما لو لم يكن.
ضحك كاليان بسخرية، ثم قال لنفسه بصوت خافت: "قلق عبثي على امرأة لا تستحق."
لكن قبل أن يكمل أفكاره، كان صوت صفعة حادة يقطع الصمت في الغرفة.
يد أنجيلا ارتفعت بسرعة مدهشة وارتطمت بخده بقوة جعلت صوتها يملأ الغرفة.
ساد السكون للحظة، ولم يكن يُسمع سوى أنفاسهما المتسارعة.
ثم كسرت الصمت مرة أخرى، هذه المرة بصوت أنجيلا، وهي تقول بنبرة تحمل مزيجًا من الغضب والازدراء:
"عندما تخبرك خطيبتك أنها مريضة، يجدر بك أن تتظاهر بالتصديق، على الأقل."
اقتربت خطوة منه، وأردفت بسخرية حادة:
"حتى لا تغضب منك، أليس كذلك؟"
الشخص الذي تلقّى الصفعة هو كاليان، لكن أنجيلا تصرفت وكأنها هي التي تعاني، عابسة وجهها بطريقة مبالغ فيها وهي تمسح يدها وكأنها تألمت.
لم يصدق أحد أن هذه المرأة قد مارست عنفًا قاسيًا منذ لحظات. بل على العكس، مَن لا يعرف القصة قد يشعر بالتعاطف معها بسبب مظهرها الضعيف والهش.
قالت وهي تزم شفتيها بخفة، متذمرة بطريقة بدت جذابة:
"كونت فلورنس، يبدو أنك لا تعرف النساء على الإطلاق."
من يراها هكذا، سيعتقد أنها شديدة الجاذبية، لدرجة أن أي رجل قد يقع في حبها من النظرة الأولى، وربما يقدم على التضحية بكل شيء من أجلها.
لكن كاليان لم يكن كذلك.
كانت عيناه تنظران إليها ببرود، مظلمة كسماء خلت من الشمس، وقد انخفض صوته ليصبح غائمًا ومليئًا بالكآبة، وقال:
"كيف يمكنني أن أعرفهن؟"
ثم أكمل بلهجة مشحونة بالمرارة:
"كل امرأة تقترب مني، حتى لو لم يكن بيننا سوى ملامسة أطراف الملابس، تسحبينها لتُعاقب بلا رحمة. متى كان لديّ فرصة لمعرفة النساء؟"
ثم أضاف بتهكم واضح:
"ربما يجب أن أبدأ الآن. هل تسمح لي خطيبتي الجميلة بالذهاب لتعلم المزيد عن النساء؟"
كانت كلماته كأنها عاصفة مطرية، تقطر غضبًا وسخرية.
أنجيلا، التي لم تكن مستعدة لمثل هذا الهجوم، وقفت في مكانها كأن المطر يغرقها تمامًا. نظرت إليه بعجز، غير قادرة حتى على الرد.
اقترب منها كاليان بخطوة واحدة، ثم انحنى قليلاً ليصبح في مستوى أذنها. كان الفرق في الطول واضحًا، ومع ذلك انخفض ليهمس بجانبها.
قال بنبرة هادئة مشحونة بالبرود:
"آنسة بيلتون."
شعرت أنجيلا بوخزة خفيفة في أذنها بسبب أنفاسه التي لامست بشرتها الحساسة، مما جعلها تنتفض قليلاً دون قصد. لم تكن تتوقع كلمات دافئة أو إيماءات لطيفة منه، لكنها شعرت بالإهانة عندما رأت ابتسامته الساخرة.
أدارت رأسها بعنف إلى الجهة الأخرى، محاولةً تجاهل كل شيء. لكن المطر لم يتوقف، ولا البرودة التي أصابت قلبها.
قال كاليان بنبرة مهددة وباردة:
"لا تختبري صبري أكثر من هذا. لديّ حدود، وأنتِ لا ترغبين برؤية نهايتي. إذا كنتِ لا تستطيعين التصرف بعقلانية، فعلى الأقل تظاهري بذلك."
غرست كلماته كالطين القذر في أعماق قلبها. شعرت بثقلها يضغط عليها، وبأن ما قاله سيترك أثرًا لا يمحى حتى لو جف تمامًا. ارتجفت أصابعها بخفة، كأنها تعترف بمدى الضرر الذي لحق بها.
ثم، دون انتظار أي رد منها، استدار وقال ببرود:
"سأذهب الآن."
كانت كلماته قصيرة وبلا أي اكتراث، وغادر الغرفة بخطوات ثابتة.
شاهدته أنجيلا وهو يبتعد، ظهره المستقيم يختفي تدريجيًا حتى غاب تمامًا خلف الباب. عندما سمعت صوت الباب يُغلق، أمسكت بصدرها، حيث كان قلبها ينبض بألم شديد، وكأنه يصرخ بأن طاقته قد نفدت.
نظرت إلى المنطقة فوق قلبها، فرأت بقعة سوداء داكنة ظهرت فجأة ثم اختفت. كان ذلك كافيًا لتصيبها الصدمة.
شهقت بقوة، وانهارت على الأرض، فاقدةً قوتها تمامًا.
وبعدها كان من المفترض أن تكافح لتجعل جسدها يجد الراحة على الفراش الوثير، لكن الأرض الصلبة التي احتضنتها لم تكن مستعدة لتركها.
---
"ماذا... ماذا قلتِ الآن؟"
كانت المربية إيفون هي أول من عثر على أنجيلا ملقاة على أرض غرفة النوم بمفردها. حينها، كانت أنجيلا تقاوم بصعوبة أن تفقد وعيها تمامًا، تتشبث ببقايا إدراكها وسط حالة من الفوضى والارتباك.
صاحت إيفون بفزع: "سيدتي!" وهي تركض نحوها بوجه شاحب من الرعب. أسرعت لتطمئن عليها وتساعدها على الانتقال إلى السرير الناعم، حيث أرقدتها بحرص.
بعد أن استقرت أنجيلا على السرير وشعرت براحة أكبر، بدأت آلامها تتراجع تدريجيًا، ما سمح لها باستعادة بعض الهدوء. لكنها لم تكن تتوقع أن تسمع من إيفون ما صدمها حقًا.
قالت إيفون إن أنجيلا قد قضت الأيام الماضية في سبات عميق. كلماتها دفعت أنجيلا إلى نفض الغطاء والجلوس بسرعة.
"ماذا؟ هل تقصدين أنني... لم أستيقظ طوال أربعة أيام كاملة؟" سألت أنجيلا بدهشة وصدمة، وهي ترفع جزعها بصعوبة.
هزّت إيفون رأسها وهي تعدّل الغطاء فوق خصر أنجيلا لتغطيها قليلاً، وقالت:
"نعم يا سيدتي، لقد كنتِ فاقدة للوعي طوال هذه الفترة. حتى الطبيب هايم جاء ولم يتمكن من تحديد السبب، وكان الوضع كارثيًا حقًا."
الطبيب ريموند هايم، الذي لم يتجاوز الثلاثين من عمره، كان من الجيل الثالث لعائلة هايم التي خدمت كأطباء خاصين لعائلة دوق بيلتون على مدار الأجيال. لذلك، كان يُعتبر شخصية موثوقة في مجاله.
ومع ذلك، إذا كان قد أعلن أن السبب مجهول، فإن "الكارثة" التي ذكرتها إيفون لم تكن مبالغة على الإطلاق. لو تأخر استيقاظ أنجيلا أكثر، ربما كانوا سيبدأون بالتحقق من وجود وصية لها أو لا.
أخيرًا، فهمت أنجيلا لماذا بدت الخادمة التي دخلت غرفة نومها سابقًا وكأنها قد رأت شيئًا لا يُصدق. فقد اندفعت تلك الخادمة مسرعة لتخبر إيفون أن أنجيلا قد استيقظت.
ورغم أن تسلسل الأحداث كان مضطربًا وغير منظم، إلا أن رد فعل الخادمة لم يكن بلا سبب.
لكن لسوء الحظ، وصل كاليان قبل أن تتمكن إيفون من الحضور. كان كاليان قد جاء بناءً على الأخبار التي تشير إلى أن أنجيلا كانت فاقدة للوعي. لذا، عندما وجدها تقف على قدميها بصحة جيدة، بدا الأمر وكأن كل شيء كان مجرد خدعة.
تنهدت أنجيلا بعمق وهي تضغط بإصبعها على صدغيها اللذين بدأا يؤلمانها بشدة.
.
أربعة أيام، أربعة أيام، أربعة أيام...
أربعة أيام؟
كم من السنين مضت وأنا أعيش متأقلمة مع الأرق الذي يتبعني بإلحاح كظل، متقبلة أن النوم العميق مستحيل بالنسبة لي، فكيف لي أن أصدق أنني قضيت أربعة أيام وأنا مستلقية؟ لا أستطيع تصديق ذلك حتى وأنا أسمعه.
أنجيلا، كما هو حالها دائمًا، نامت قبيل الفجر بعد معاناة مع كوابيس بشعة. استيقظت صباحًا وكأن شيئًا لم يكن. لكن نفيها المطلق للأمر لم يكن كافيًا لتفسير الحلم الغريب، والنوم غير الطبيعي لعدة أيام، والألم الغامض في القلب، وآثار سوداء تشبه العفن التي انتشرت على صدرها واختفت فجأة.
بدلاً من ذلك، إن اعترفت أن كيانًا ما -إلهًا أو شيطانًا- كان يعبث بها، فإن كثيرًا من الأمور سيبدو لها منطقيًا.
"هذا جنون!" تمتمت أنجيلا بحدة. وبينما كانت تغرق في متاهة أفكارها، جاءها صوت.
"آنستي، جربوا هذا من فضلكم."
إيفون، التي غادرت الغرفة لجلب شيء يمكن تناوله بعد فترة طويلة من عدم الأكل، عادت تحمل حساءً معدًا بعناية. وضعت الصينية على الطاولة الجانبية قرب السرير، ثم سحبت كرسيًا وجلست بجانب أنجيلا، وكأنها تنوي إطعامها بنفسها.
عندما رأت أنجيلا ما تفعله، نظرت إليها بتمعن بينما بدأت إيفون تبرر تصرفاتها.
"فكرت أن تناول شيء خفيف سيكون أفضل للمعدة الفارغة، لذا حضرت حساءً خفيفًا. صباح الغد، سأستدعي الدكتور هايم لفحصكم، وإذا كانت الأمور على ما يرام، يمكننا التحضير لوجبة عادية."
إيفون كانت تخاطب أنجيلا بلطف مبالغ فيه، وكأنها تعتني بطفلها الخاص، دون حتى أن تجرؤ على النظر في عينيها مباشرة. بينما كانت أنجيلا تراقب وجهها الدافئ بصمت، تساءلت فجأة.
"إيفون."
"نعم، آنستي؟"
"هل كنت قلقة؟"
عندما طرحت أنجيلا السؤال ببرود، توقفت يد إيفون التي كانت تحمل ملعقة الحساء في الهواء، متجمدة في مكانها. لم تستطع إخفاء ارتباكها.
"ماذا؟"
"كما سمعتِ. يقولون أنني لم أستيقظ لأربعة أيام. هل كنت قلقة؟"
"بالطبع... بالطبع كنت قلقة! لا يمكنك تصور مدى خوفي وقلقي، لكن الحمد لله أنك استيقظت أخيرًا."
ردت إيفون، محاولًة جاهدة أن تعطي إجابة مرضية لأنجيلا، ثم قدمت لها الملعقة وكأنها تحاول إغلاق فمها عن المزيد من الأسئلة.
"حقًا؟" ردت أنجيلا ببرود وهي تتناول الحساء. كان الحساء خفيفًا، يذوب في فمها بمجرد تناوله. وبينما كانت تراقب الملعقة تقترب منها مجددًا، شرد ذهنها، مستحضرة ذكرى ذلك الضوء في الحلم.
ذلك الضوء الذي بدا وكأنه ينتمي إلى كيان خارق للطبيعة، أخبرها بأن دعوات يومية تطلب معاقبة فتاة شقراء كانت تصل إليه. دعوات متواصلة، يومًا بعد يوم، بصوت مزعج.
من يمكن أن يكون صاحب تلك الدعوات؟ هل يمكن أن تكون هذه المرأة الجالسة أمامها، التي تعاملها كأنها طفلها الخاص؟
نظرتها تحولت فجأة إلى حادة، تحدق في إيفون التي كانت تتفادى النظر في عينيها وتركز فقط على شفتيها. عندها سألتها أنجيلا:
"وماذا لو طلبت منك الآن أن تحضري لي بياتريس؟"
تحول وجه إيفون إلى لون باهت في لحظة. وكأنها لا تستطيع تصديق ما تسمعه، رغم وضوح الكلمات.
بياتريس؟ من هي بياتريس؟
كانت بياتريس الوحيدة في قصر بيلتون التي تحمل اسم العائلة، بخلاف الدوق دومينيك وابنته أنجيلا. كما أنها كانت ابنة إيفون.
نعم، بياتريس كانت ثمرة علاقة بين دومينيك، دوق بيلتون، وإيفون، مربية أنجيلا. حدث ذلك عندما كانت أنجيلا في الخامسة من عمرها.
في إمبراطورية فايلون الكبرى، لم يكن وجود العشيقات أمرًا مستغربًا بين النبلاء، ولم يكن هناك ما يمنع إيفون، التي دخلت قصر بيلتون بعد أن فقدت زوجها وطفلها في الحرب، من أن تكون عشيقة الدوق.
ولكن البشر لا يتعاملون مع الأمور بعقلانية بحتة. زوجة الدوق، غريس، التي أنجبت أنجيلا وكانت تعاني من تدهور سريع في صحتها، لم تكن قادرة على تجاهل تصرفات زوجها. امتلأت غريس بالغضب والكراهية حتى لحظة وفاتها، وهي تردد كلمات مليئة باللعنات:
"لقد دمرت سعادتي، فكيف تجرؤ على أن تكون سعيدًا؟ ستكون تعيسًا دائمًا. وأي لحظة سعادة قد تشعر بها، ستبدأ معها معاناة جديدة. تذكر هذا، ستكون تعيسًا."
في ظل هذه الظروف، لم تكن العلاقة بين أنجيلا وبياتريس ودية أبدًا.
منذ أن بدأت بياتريس المشي، كانت أنجيلا تستدعيها لتجلس وتتعرض للمضايقات.
ومع أنها لم تتردد في ترك علامات واضحة على جسد بياتريس، إلا أن أنجيلا كانت تمتلك دهاءً غير عادي. كانت تعرف تمامًا كيف تحطم الروح.
كانت تجلس للقراءة بينما تجعل بياتريس تجثو في الزاوية دون سبب. تبكي بياتريس وتتوسل الغفران بلا جدوى، بينما ترد أنجيلا بوجه بارد وكلمات مليئة بالتهديد.
"إذا سقطت دموعك على سجادة غرفتي الثمينة، فسألفك بها وألقي بك خارج القصر."
بياتريس كانت ترتجف شحوبًا من شدة الخوف، وفي تلك اللحظة، كانت أنجيلا تبتسم ابتسامة باهتة قبل أن تعود بنظراتها إلى الصفحة التي كانت تقرأها، مستأنفة القراءة بهدوء. عيناها الخضراوان، التي كانت تذكر بالغابات الخضراء المورقة، انزلقتا برقة على السطور المكتوبة، بينما كانت عيون بياتريس الكهرمانية تقاتل بشدة لمنع دموعها من الانهمار.
مشهد كهذا كان مؤلمًا للغاية، حتى بالنسبة لأي مشاهد خارجي، فكيف سيكون شعور الأم؟ كلما حاولت إيفون التدخل، تصاعدت الأمور سوءًا.
"آنسه، آنسه... من فضلكِ، عاقبيني أنا. أنا المخطئة. عاقبيني بدلاً منها، أرجوكِ."
"إيفون؟"
"نعم... نعم، آنسه."
"أحضري العصا."
مع هذا الطلب، كانت حالة بياتريس تسوء أكثر. أنجيلا لم تكن تتحمل رؤية إيفون تحاول حماية بياتريس وكأنها والدتها.
لكن كل ذلك كان قبل ست سنوات. عندما بلغت بياتريس سن الثانية عشرة، تم الاعتراف بها رسميًا كابنة لدوق بيلتون وصُنّفت كابنة ثانوية للعائلة. منذ ذلك الحين، لم تعد أنجيلا قادرة على إساءة معاملتها بالطريقة نفسها. بدلاً من ذلك، بدأت أنجيلا بتجاهلها تمامًا، كما لو أن بياتريس لم تكن موجودة. سواء في قاعة الطعام، الممرات، أو الحديقة، كانت أنجيلا تعبر بجانبها دون أن تلقي نظرة واحدة.
ومع ذلك، من منظور بياتريس، فإن هذا التجاهل والابتعاد كانا أفضل بكثير. فقد كانت لا تزال ترتجف وتدمع بمجرد سماع اسم أنجيلا.
لكن الآن، بشكل مفاجئ، أنجيلا تفكر في استدعاء بياتريس؟ لم يكن من الصعب فهم ما يعنيه هذا القرار: إعادة الأمور إلى سابق عهدها.
"آنسه..."
"أجيبيني، إيفون. إذا طلبت الآن استدعاء بياتريس، هل ستظلين سعيدة لأنني استيقظت؟"
"أنا... آنسه... لا أعلم..."
إيفون لم تتمكن من الإجابة. كانت ترى بوضوح صورة بياتريس التي أُنهكت حتى العظم من قسوة أنجيلا. هل يمكن لشخص مثلها أن يشعر بالقلق على أنجيلا بصدق؟
أنجيلا، التي كانت قد تذكرت أمنيتها الطفولية ذات مرة: "أتمنى لو كانت إيفون أمي"، لم تستطع إلا أن تسخر من نفسها.
إيفون بقيت صامتة، ولم تنطق بأي كلمة.
"انظري."
أنجيلا أشارت لإيفون بأن تأخذ صحن الحساء وتغادر. بمجرد أن طُرحت فكرة بياتريس، تغيرت تصرفات إيفون فجأة، وكأنها لم تعد تهتم بحالة أنجيلا الصحية.
عندما حاولت إيفون المغادرة بسرعة، قالت أنجيلا بنبرة حادة:
"إذا كررتِ تلك الأكاذيب السخيفة حول القلق أو الصدمة، فسأجعل وجه بياتريس، تلك الفتاة الوقحة، ممزقًا لدرجة أنكِ لن تتعرفي عليها حتى كأم لها."
كلماتها كانت تهديدًا باردًا وواضحًا، مما جعل يد إيفون ترتجف بشكل لا إرادي. ارتطمت صحن الحساء بالصينية بصوت مسموع بسبب ارتعاشها.
ثم أضافت أنجيلا بصوت جليدي:
"إيفون."
"......نعم، آنسة."
"اخرجي، ولا تصدري أي ضجيج."
استلقت أنجيلا على السرير، مغمضة عينيها وكأنها تستعد للنوم. ومع ذلك، تسللت أصوات بكاء خافتة إلى أذنيها، صوت محمّل بمشاعر مختلطة، بدا وكأنه مزيج من الخوف والغضب.
لكن إيفون لم تصدر أي صوت آخر، وكأنها تراجعت على الفور. حتى تلك العبارة المعتادة التي كانت تقولها كل ليلة: "تصبحين على خير"، لم تُسمع تلك الليلة.
"امرأة سيئة."
همست أنجيلا بحدة، ثم عضّت على شفتها وانقلبت على جنبها، ملتفة على نفسها كأنها تحمي شيئًا داخليًا. كانت تشعر بألم في قلبها منذ فترة، وكأن هناك أشواكًا حادة تنمو بداخله، تمامًا كما وصفها الضوء الذي رأته في حلمها. كان جسدها يتقلص تلقائيًا، كأنها حيوان يحاول الحفاظ على دفء جسمه.
في تلك الليلة، عجزت أنجيلا عن النوم تمامًا. بدا وكأن شيء ما داخلها قرر أن يعاقبها، ينتزع منها أربعة أيام من النوم دفعة واحدة. استمرت طوال الليل بعينين مفتوحتين، تعاني مع أفكارها.
وعندما أشرقت شمس الصباح الساطعة، دافعةً آخر بقايا الليل، وصل إلى أنجيلا خبر جديد.
إيفون، أخيرًا، ستصبح دوقة بيلتون.
في إمبراطورية فايلون، كان يُسمح للنبلاء المتزوجين بالاحتفاظ بعلاقات غرامية علنية، لكن إدخال الأطفال الناتجين عن هذه العلاقات في السجل الرسمي للعائلة كان يتطلب إجراءات صارمة. أحد الشروط الأساسية كان الحصول على موافقة جميع أفراد الأسرة، وهو ما منع دومينيك، دوق بيلتون الحالي، من الاعتراف رسميًا ببياتريس كابنته لفترة طويلة.
كانت زوجته السابقة، غريس، قد أنكرت وجود بياتريس حتى اللحظة الأخيرة من حياتها. ولم تحصل بياتريس على الاعتراف الرسمي كجزء من عائلة بيلتون إلا بعد وفاة غريس قبل ست سنوات.
لم يضيع دومينيك الوقت، إذ أخذ كومة من الأوراق القانونية المتعلقة بالاعتراف ببياتريس كابنة شرعية وتوجه بها إلى أنجيلا مباشرة بعد انتهاء جنازة زوجته.
وقّعت أنجيلا على الأوراق وأعادتها بعد يومين.
لم يكن أحد يتوقع ذلك. الكثيرون كانوا يعتقدون أنها ستمزق الأوراق، قائلةً: "أخت شقيقة لطفلة من دماء وضيعة؟ اقتلوني أولاً. لن أسمح بهذا طالما أنا على قيد الحياة."
قرار أنجيلا أحدث صدمة كبيرة، لدرجة أن المجتمع الراقي لم يتوقف عن الحديث عنه. الرأي السائد كان أنها إما فقدت عقلها، أو أنها استغلت هذا الاعتراف للحصول على مكاسب ضخمة.
وانتهت التكهنات إلى استنتاج منطقي: أن إيفون ستصبح قريبًا دوقة بيلتون التالية. حتى أن البعض بدأ في تقديم الهدايا لإيفون، باعتبارها وسيلة للتقرب إليها قبل أن تصل إلى مكانة لا تُطال.
لكن إيفون، التي كانت محور كل هذه الشائعات، اختارت الصمت. وفي النهاية، قررت أن تظل فقط مربّية لأنجيلا.
كان الناس مشوشين وغير قادرين على فهم موقفها. لكن أنجيلا لم تسأل، وإيفون لم تبرر.
مرت السنوات الست، حيث ظلت بياتريس الابنة المعترف بها للعائلة، بينما بقيت العلاقة بين أنجيلا وإيفون كما كانت: آنسة ومربّية.
لكن الآن؟ فجأة، تقرر إيفون أن تصبح دوقة بيلتون؟
"هاها، هاهاها!"
ضحكت أنجيلا بمرارة.
تهديد بياتريس كان يكشف دائمًا هذا النمط من الدفاع. يبدو أن إيفون، بتلك الرأس الصغيرة، اعتقدت أن عليها امتلاك القوة لحماية ابنتها. فهي، بلا شك، أم مذهلة إلى حد مرعب.
أنجيلا، التي لم تستطع كبح انفعالاتها، بدأت تضحك بجنون وهي تتقلب على السرير، ثم، في نوبة غضب، أخذت تمزق الغطاء بيديها.
"لو كانت إيفون أمي، لكان ذلك أفضل."
من كان يتخيل أن الأمنية الطفولية تلك ستتحقق بهذه الطريقة الغريبة؟
كأن الماضي اجتاحها كأمواج عاتية، عصف بها بشدة، دون رحمة.
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon