الفصل الأول 🩷
قد لا تصدّقون ذلك، لكن لديّ ذكرياتٌ من وقت كنتُ حديثة الولادة.
بالطبع، كانت الذكريات القليلة التي تخطر ببالي تتضمن البكاء بصوتٍ عالٍ في المهد أو أن يتم حملي بين ذراعيّ المربية وأتدحرج مرّةً تلو الأخرى. كانت تلك المشاهد الغائمة، بالكاد يمكن اعتبارها ذكريات، مجرد شذراتٍ عابرة من الماضي. كنتُ أحتفظ بها لنفسي، وكأن البوح بها أمام والديّ أو إخوتي سيجعلهم يسخرون مني.
لكنّ هناك شذرةٌ واحدةٌ كانت واضحةً تمامًا.
سقفٌ مملوءٌ بالدّخان الأسود.
الحرارة الشّديدة التي تُلامس بشرتي.
ما أنقذني من النيران كان شخصًا ذراعيه باردة كالثلج. سمعتُ صوتًا أشبه بالغناء، وسرعان ما وجدتُ نفسي بين ذراعيّ شخص آخر. كطفلةٍ لم تعرف النطق بعد، بدأت أفهم أصوات ذلك الوقت عندما بلغت السابعة من عمري.
الرجل قال لي بوضوح:
[ما كان يجب أن تولدي أبدًا.]
بدا وكأنني سمعتُ بضع كلماتٍ قصيرة أخرى بعد ذلك، لكن مهما حاولتُ تذكّرها، بدت غائمة وبعيدة. ما أعرفه يقينًا هو أن صوته عَكَـسَ سنواتٍ طويلةٍ من الشكوك ومشاق الحياة. بدا لي واضحًا أن الشخص الذي أنقذني، والذي أنكر وجودي في ذات الوقت، كان رجلًا مسنًا.
وفقًا لما قالته والدتي، فقد بقي المنقذ بجانبي لبعض الوقت، كفارس، بعد أن أنقذني من الحريق. ماذا كان يقصد بذلك؟
[ما كان يجب أن تولدي أبدًا.]
لماذا أحبّني بمنحه الحياة لي لكنهُ أنكرني بكلماته؟
احتفظتُ بهذا السؤال لنفسي دون أن أخبر أحدًا. وكأنه بداية قصّةٍ بوليسية أو مغامرةٍ للبحث عن القطع المفقودة من الأحجية، كانت تلك الشكوك تراودني بين الحين والآخر.
كان هذا السؤال شيئًا أرغب بشدّةٍ في طرحه على ذلك الشخص يومًا ما.
لماذا وُلدتُ؟
لماذا أنقذتني رغم أنه ما كان يجب أن أُولد؟
كلاك، كلاك.
خطواتٌ صغيرةٌ متتالية تردّد صداها عبر الممر الهادئ.
استمرّت الأصوات بخطٍ مستقيم دون تردد، لكنها توقّفت للحظة عند نقطةٍ ما، وأحيانًا بدت مشوشة واتخذت طريقًا ملتفًا عائدةً من حيث أتت.
نعم، هذه هي أصوات خطواتي.
كنتُ أجري بهدوء.
هل أنا مشغولةٌ بأمرٍ ما؟ لا.
هل يطاردني أحد؟ أمرٌ مُستبعَد.
ومع ذلك، عند التدقيق، كان من الصعب نفي كلا الاحتمالين تمامًا.
ومع ذلك، كان هدفي واضحًا: 'الهروب دون أن يتم القبض عليّ.'
لم يتبقَ الكثير للوصول إلى المنطقة المرتفعة. مستعينةً بقدرتي الممتازة على استيعاب المساحات ورشاقتي، نزلتُ بسلاسةٍ من الطابق الرابع، الذي كان أشبه بالسجن، إلى الطابق الثاني. الآن، عند مفترق الطرق أمامي، إذا انعطفتُ يمينًا ونزلت الدرج...
"هل اختفت لاريسا؟"
في لحظةٍ، توقّفت خطواتي بشكلٍ غريزي عند سماعي صوتًا قريبًا.
"نعم، تلقّيتُ للتو خبرًا من أستاذ التاريخ الخاص بها. لقد مرّت حوالي عشر دقائق منذ غيابها."
"لماذا تخبرني بعد عشر دقائق؟"
"إنه أمرٌ روتينيٌّ أن يتأخّر اثنان من كل ثلاثة طلابٍ لمدة ثماني دقائق لأسباب تتعلّق بالحمام. لكنهم دائمًا يحافظون على حدّ الثماني دقائق بدقّة، لذا بما أن هذه هي المرة الأولى التي تتجاوز العشر دقائق، اعتقدت أنه يجب إبلاغكَ فورًا."
"ميخائيل."
"نعم..."
ورطة.
لم أتوقّع أن يكون هناك عائقٌ في الممر الأيمن المؤدي إلى الدرج.
"الأمر متروكٌ لكَ لتقرر. هل ننتقد الأستاذ على حكمه الحاد؟ أم نطرده بسبب عدم كفاءته؟"
"هلّي أن أُدلي برأيي؟"
"تفضل."
"أنا أفهم تمامًا قلقكَ، يا صاحب السمو ولي العهد. أليس أستاذ التاريخ الخاص بها قد تم تغييره أكثر من أربع مرات في عامٍ واحد؟ إذا حدثت تغييراتٌ أخرى، فسيكون من الصعب على صاحبة السمو التركيز في دروسها، وأهم من ذلك..."
خلعتُ حذائي وجواربي بحذر. البرودة التي شعرت بها تحت باطن قدميّ العاريتين جعلت القشعريرة تمتد حتّى عظامي، لكنني أدرت ظهري وتجاهلتها.
اتخذتُ عشر خطواتٍ أو إحدى عشرة خطوةٍ بسرعة، لكنني لم أستطع إجبار نفسي على الابتعاد أكثر عن الدرج. كان الهدف قريبًا جدًا، ومع ذلك كان عليّ العودة من حيث أتيت!
لكن الفاكهة الحلوة تُقطف بالصبر. بمجرد أن أتغلّب على هذا العائق، ستأتي الفرص مرّةً أخرى. انعطفتُ يسارًا عند التقاطع الذي مررت به.
لكن، لسببٍ ما، يبدو أن هذا الخيار لم يكن جيدًا جدًا. كان هناك تحدٍّ آخر يقترب، ليس بعيدًا، من الجانب الآخر من الممر.
'خادمٌ ملكي؟ أهو خادمٌ ملكي؟'
لا، لم يكن كذلك. الشخص الذي كان يسير من الجانب الآخر لم يكن يرتدي ربطة العنق السوداء غير الأنيقة (التي تشبه ملابس الجنازات) أو الزي الرسمي الذي يرتديه الخدم الملكيّون. حتى حضوره افتقر إلى الرزانة المعتادة.
'من يكون؟'
أمسكتُ الحذاء بكلتا يديّ وركضتُ وكأنني أطير، مما قلّص المسافة بيني وبين خصمي. وعلى الرغم من أن الشخص لاحظ وجودي، إلا أنه لم يبد متفاجئًا أو متجمّدًا في مكانه. بدلاً من ذلك، كانت تعابيره غريبةً بعض الشيء، تشبه شخصًا يراقب عرضًا بهلوانيًّا.
"لا تثر أيّ ضجةٍ، وابلغ المسؤول. على أي حال، لم تكن لتتمكّن من الخروج من القصر حتى الآن."
يا إلهي! الأشخاص الذين كانوا يبحثون عني كانوا طوال القامة، لذا كانت خطواتهم واسعة، وسرعان ما قلّصوا المسافة.
لم يكن لدي الوقت الكافي لتأكيد ملامح وجه الشخص الغريب الواقف على بعد خطواتٍ قليلة مني. كل ما استطعت تذكّره هو أن هذا الشخص كان رجلًا، وليس امرأة، وعمره كان غامضًا بين صبيٍّ وشابٍّ بالغ... رجلٌ وسيمٌ بشعر فضي قصير يلمع ووجه جميلٌ يكاد يخطف الأنفاس.
عندما كان على وشك المرور بجانبي، أمسكتُ يده وسحبته نحو النافذة. وكأن السّماء ساعدتني، كان المكان الذي سحبته إليه ممرًا يحتوي على نافذةٍ كبيرةٍ بارزة، وكانت هناك ستائرٌ طويلةٌ غير موجودة عند النوافذ الأخرى، مرتبة بجانب أريكة قريبة من الجدار. وبين الستائر الكثيفة والنافذة البارزة، اختبأتُ وطلبت منه.
"رجاءً، اخفني هنا."
لكن، بدلاً من أن يُفاجأ بطلبي المفاجئ، ضيّق الرجل عينيه وأظهر تعبيرًا وكأنه يقول: 'أعتقد أنكِ اختبأتِ بالفعل بشكلٍ جيّد. ما الذي تريدين مني إخفاءه أكثر؟'
بصراحة، كنتُ متفاجئةً قليلاً أيضًا. هذا الوسيم ذو الشعر الفضي كان غريبًا بالنسبة لي، شخصًا لم أُقابله من قبل.
لكن هذا ليس مهمًا الآن. وقفتُ أراقب مفترق الطرق، وفتحتُ فمي بسرعة.
"الأمير فاسيلي سيمرُّ بهذا الممر قريبًا. أحتاج إلى الوصول إلى الطابق الأول دون أن يراني! لا تحتاج إلى إخفائي، لكن إذا سألكَ إن كنتَ قد رأيتني، فقط قُل لا، ورجاءً، لا تقل شيئًا آخر. هل فهمت؟"
نظرة الوسيم ذو الشعر الفضي بدت وكأنها تقول: 'من أنتِ لتطلبي مثل هذا الطلب؟ هل تعرفينني؟ آه، لا أعرفكِ أيضًا!'
في الواقع، كان هذا أفضل. التعامل مع نبيلٍ شابٍّ يبدو أنه يظهر في القصر لأوّل مرّةٍ كان أسهل بكثيرٍ من التعامل مع نبيلٍ عجوز. على الرغم من أن هدوءه المفرط أزعجني قليلاً، إلا أنني كنت أعلم أنني إذا اختلقتُ قصةً معقولة، فإن تسعة من كل عشرة أشخاص سيصدقونها.
ارتسم على وجهي أتعس تعبيرٍ يمكن أن أُظهره وأمسكتُ بكمّه بإحكام.
"أنا لا أفعل شيئًا سيئًا. أُريد فقط أن أُعطي بعض الحلوى للارا. لارا هي كلبتنا من نوع يوركشاير تيرير، لكن فاسيل لم يعطها أي وجبةٍ خفيفةٍ منذ أكثر من أسبوع لأنها اكتسبت وزنًا. لذلك، كانت تشعر بالحزن الشديد مؤخرًا. بالطبع، تسللتُ خلال حصة التاريخ، لكن... لا يمكنني رؤية لارا إلا الآن. أعتقد أن فاسيل كان قلقًا من أنني سأعطيها وجباتٍ خفيفة. لقد منعني من لقاء لارا لأكثر من عشرة أيام الآن!"
التسلّل من حصة التاريخ لمقابلة كلبة يوركشاير تيرير المحبوبة سرًّا! ألا يُعتبر هذا من براءة ولطف فتاةٍ تبلغ من العمر ثلاثة عشر عامًا؟
ما لم يكن الشخص بلا قلب، فلا يمكنه الرفض.
لكن لماذا أشعر بعدم الارتياح؟
"ما نُخفيه اليوم، سأبقيه سرًّا طوال حياتي."
غطَّيتُ جميع الاحتمالات التي قد تساور الشخص الآخر.
"سأُعطي لارا وجباتها الخفيفة وآخذ درسًا تكميليًّا في التّاريخ."
لكن الغريب في الأمر أن الجمال الفضّي لم يظهر عليه التعبير المعتاد من الحيرة أو الشك.
عادةً ما يبالغ النُّبلاء الشباب في ردود أفعالهم حتى لأصغر الأمور بسبب الضغط الذي يتعرّضون له في القصر. ومع ذلك، كان الجمال الفضّي يرف عينيه بهدوء، وكان يتفحّص وجهي وكأنه يبحث عن شيء.
بدأ الأمر يصبح محبطًا. إذا وصل الأمر إلى هذا الحد، لم يكن أمامي خيار سوى اللجوء إلى الملاذ الأخير، حتى وإن بدا ذلك مشبوهًا قليلًا!
"أنا الأميرة لاريسا نيكولاييفنا نوفاروف! من الآن فصاعدًا، أُصدر لكَ أمرًا. اخفِني. العصيان هو أقبح العقوبات، سأعاقبكَ بأكثر العقوبات إهانةً -بحلق رأسك..."
"فالنتين؟"
يا إلهي!
توقفتُ عن التنفّس، بسرعةٍ أطلقتُ يد الرجل وأسرعت للاختباء خلف الستار. تأكّدت من أنني أرمقه بنظرةٍ تهديديّة قبل أن ألتفت برأسي.
مسحَ الغبار عن كمّه المتجعد بازدراء، كما لو كان إمرأةً جميلةً تزيل الغبار عن وجهها، ثم انحنى بإيجازٍ أمام الرجل الذي وقف أمامه.
"سموّكَ، الأمير فاسيلي."
الآن كان الشكلين يقفان بجانب بعضهما البعض. حبستُ أنفاسي، مشدودة الأذنين، مُجمَّدًة في مكاني.
"لم أتوقع أن ألقاكَ هنا. ألم يكن من المفترض أن تكون مع والدي؟"
"أرسلني بعيدًا، قائلاً إنه متعب. يبدو أن وجهي غير مرحبٍ به."
"حسنًا، بالنظر إلى وضعك، لم يكن أمام والدي خيارٌ سوى ذلك. فالنتين، لا تبدو لي في حالٍ جيّدةٍ أيضًا. هل ترغب في العودة إلى غرفتك للراحة؟ لا، قبل ذلك، أود أن أسألك شيئًا. لا تأخذها كمفاجأة."
"نعم، سموّكَ. إذا كنتَ تسألني إن كنت قد صادفتُ الأميرة لاريسا نيكولاييفنا نوفاروف، فإن الإجابة نعم، قد فعلتُ."
ماذا؟!
انتظر لحظة.
"صادفتما بعضكما البعض؟"
"اختبأتْ عندما تقاطعنا. هنا بالضبط."
لم أُصدّق ذلك!
الفصل الثاني 🩷
لم يكن هناك وقتٌ للشعور بالإحراج. ذلك الخائن الوقح ذو الشعر الفضّي فتح الستارة التي كنتُ أختبئ خلفها بلا تردد!
وما إن رُفِعَت الستارة الحمراء حتى وقعت عيناي على عيونٍ أرجوانيّة—عيون فاسيلي، وليُّ عهد إمبراطوريّة أوهالا، وأخي.
"لاريسا."
لم يكن فاسيلي يبدو صارمًا. بل انفجر في ضحكةٍ فارغةٍ تحمل نظرةً مليئةً بالدهشة، ثم التقطني بين ذراعيه واحتجزني داخلهما. عندها فقط بدأ يقرص خدي بتعبيرٍ مرح، دون أن يكون مخيفًا أو مؤلمًا.
"كنتُ أتساءل أين ذهبتِ أيتها المُشاغبة الظريفة. لقد حاولتِ جهدكِ إقناع فالنتين، لكنه كان اختيارًا سيئًا."
هذا ما كنتُ أفكّر فيه أيضًا. حتى لو تم الإمساك بي، لم أكن أتخيّل أن يكون ذلك مع هذا الشخص غير المحظوظ، فالنتين!
فاسيلي، غير مُدرِكٍ لغضبي، نظر إلى الرجل الجميل الذي يُدعى فالنتين بعينين معتذرتين.
"أنا آسف، فالنتين. ألم تُهددكَ هذه الطفلة بكل أنواع الأعذار؟"
"لقد حذّرتني بأنها ستقوم بحلق رأسي إن لم أساعدها."
في هذه الحالة، هل رأيتُ كل أنواع البشر في حياتي؟
لم أرَ شخصًا وقحًا بهذا الشكل طوال ثلاثة عشر عامًا من حياتي.
ألا تشعر بالشفقة على الفتاة الصغيرة التي سمعَت ما قلتَه لولي العهد؟
هل من الضروري أن تكشف كل شيءٍ على الفور؟
هل هذا الرجل عديم الرحمة لا يشعر بالتعاطف مع طفلةٍ تخطّت الحصص الدراسيّة سرًّا فقط لتقابل كلبتها الصغيرة من نوع يوركشاير؟
"حسنًا. لم يعد هناك ما يمكن قوله يا لاريسا. لا يمكن تجاهل ما حدث اليوم. سأضطرّ إلى إخبار والدتنا لاحقًا."
نظرات فاسيلي أصبحت أكثر صرامةً بينما كان يمدّ خدي. بالطبع، لم يكن ذلك مؤلمًا على الإطلاق، لكن قلبي كان قد تعرّض للإهانة بما يكفي.
"لقد كنتِ سيئة الحظ هذه المرّة يا صاحبة السمو، الأميرة لاريسا. لقد اخترتِ الشريك الخاطئ."
همس المسؤول، الذي أخبر فاسيلي عن اختفائي، بسخرية. لم أستطع تحمّل الأمر أكثر. أشرت بإصبعي نحو فالنتين، ذلك الجمال الفضّي الوقح الذي كان يقف وكأن الأمر لا يعنيه.
"انتظر لحظة! أنا الأميرة لاريسا نيكولاييفنا نوفاروف. إذا كنتَ لا تريد المعاناة لاحقًا بسبب ما حدث اليوم، فافصح عن اسمكَ بهدوء."
ارتفعت زوايا شفتَي فالنتين في سخريةٍ واضحة.
"لا أستطيع أن أُعطي اسمي لشخصٍ هدّدني بكل ثقةٍ بحلق رأسي. من الآن فصاعدًا، سأبذل قصارى جهدي لتجنّب أن تلاحظيني يا صاحبة السمو الأميرة. هل تمانع أن أُغادر الآن، سموّك فاسيلي؟"
"حسنًا، لا بد أنك مُتعَب. اذهب واسترح. لا تأخذ كلمات هذه الطفلة على محمل الجد."
"إلى أين تذهب؟ افصح عن اسمك! انتظر لحظة، ألم أُخبرك أن تتوقّف؟ لا، حسنًا، فقط اخبرني باسم عائلتك وغادر!"
فالنتين الوقح مرّ بجواري، بينما كنت محمولةً بين ذراعيّ فاسيلي، دون أن يُظهر أيّ خوفٍ حتى.
نظرتُ إليه بعينين متّسعتين، مُتمنّيةً أن يلتفت ولو لمرّةٍ واحدة، لكنه مضى في طريقه. كنتُ عاجزة، يتم اصطحابي بعيدًا، وأنا أصرّ على أسناني.
رغم عزيمتي على الانتقام، لم تدم طويلًا.
لأسبابٍ عديدة، ربما أهمها أن يومين قد مرّا منذ ذلك الحين. ثانيًا، على عكس أُمّي، لم يكن أبي يوبّخني كثيرًا. ثالثًا، لم يكن السبب أنني تخطّيت حصّة التاريخ لسببٍ عظيم.
أنا فقط لم أحبها.
'ليس الأمر أنني لم أُحبّها، بل إنها الأسوأ.'
حصص الفنون والرياضة، مثل البيانو والرسم وركوب الخيل، إلى جانب الرياضيّات والجغرافيا واللغات الأجنبيّة واللاهوت، لم تكن سيئة. الشيء الوحيد الذي كرهته كان حصة التاريخ. وللحديث بعمقٍ أكثر، حصّة تاريخ الإمبراطوريّة تحديدًا كانت سيئة. كنتُ أكره حصة تاريخ الإمبراطورية.
جميع أفراد العائلة المالِكة يبدأون في أخذ حصص تاريخ الإمبراطوريّة الإلزاميّة في سن الثانية عشرة، عندما يغادرون رعاية المعلّمين الخصوصيين، لتعزيز شعورهم بالفخر بانتمائهم إلى أسرة نوفاروف الإمبراطوريّة. لذلك، بالنسبة لي، التي وُلدت كابنةٍ ثانيةٍ وأصغر أميرة في إمبراطوريّة أوهالا، كانت حصص تاريخ الإمبراطورية مُهمّةً مثل حصص اللغات الأجنبية.
لكن هذه الحصّة كانت مُملّةً جدًّا.
لم يكن درس التّاريخ الوطني مشوقًا، ولم يكن مسببًا للصداع مثل اللغات الأجنبيّة أو الرياضيّات، ولم يكن مُمتعًا مثل لعبة الكريكيت أو ركوب الخيل. كان مجردًا ومملًا للغاية. الملل بلا مهرب كان أسوأ عيبٍ في هذا الدرس، الذي تطلّب قراءة وحفظ فخر أجدادنا الطويل والمُمل.
ما مدى فظاعة درس التاريخ لدرجة أن معدتي كانت تؤلمني كلما اقترب موعده، وشعور بالمرض، لم يكن موجودًا من قبل، يتسلّل إليّ؟
أشعر بالأسف تجاه الأستاذ بيرتشا، لكنني كنتُ أخطّط للاستمرار في التغيّب عن دروس التاريخ كلما أُتيحت لي الفرصة. لكن هذا التهرّب لن يسبب الكثير من المشاكل في حياتي، لأنني أميرةٌ نبيلةٌ وذكيّةٌ ولدي مستقبلٌ واعد.
حسنًا. لنتوقّف عن الشكوى هنا.
كان هناك سببٌ رابعٌ وراء تراجع اهتمامي بـ 'فالنتين'، الجمال الغامض العمر، الذي لم يكن فتىً ولا بالِغًا.
من بين الأشخاص المحيطين بي، الضيّقين والمحدودي الأفق بطبيعتهم، كان الشخص الذي فهم هذا السبب الرابع أكثر من أيّ شخصٍ آخر هو تاتيانا، الابنة الكبرى لعائلة نوفاروف المالكة وأختي الكبرى، التي تكبرني بأربع سنوات.
"أنتِ تعيشين فقط في القصر، لذا لا يمكنكِ إلا أن تجهلي. إنه الابن الأكبر لعائلة دميتريف، وقد مُنح لقبين من الدرجة الأولى غير وراثيين في سنٍّ مبكّرة. يبلغ السابعة عشرة هذا العام، ومن المقرر أن تُقام مراسم بلوغه الشهر المقبل. هو مشهدٌ يستحقّ المشاهدة بحق."
"في سنّ السابعة عشرة؟ كيف يمكنه فعل ذلك؟"
الأواني الفضّية التي كانت تتلألأ تحت أشعة الشمس الصباحيّة أصدرت صوتًا خافتًا للغاية. تاتيانا، التي كانت تأكل التوت البري برشاقة، ابتلعت الطعام في فمها قبل أن تجيب.
"يا هرّتي الصغيرة، لارا. هل كنتِ نائمةً في درس اللاهوت؟ يُعتبر فالنتين دميتريف مبعوثًا لعقيدة جافريل، وُلد بعد قرنٍ تقريبًا من المبعوث الأخير. بفضل نبوءته، مُنح أراضي ولقب ماركيز في مملكة تشلينسكو، وأنقذ أكثر من خمسة آلاف شخصٍ من فيضان. وبالمثل، حصل على أراضٍ واسعةٍ ولقب فيكونت في مملكة أوبلونسكي. كونه المُفضّل المطلق للبابا، فلا بد أنه ذُكر في درس اللاهوت."
بعد تقديم شرحٍ طويلٍ نيابةً عن جهلي السّياسيّ، رفعت تاتيانا المنديل ومسحت زاوية فمي. وبعد أن ضغطت عدّة مرات، ابتسمت برضا، وقبّلت خدي وهمست.
"لذا، حاولي ألا تُظهري الكثير من الاهتمام. زوجكِ المستقبلي سيتم اختياره بشكلٍ مثالي من قِبلي وفاسيلي. اسم فالنتين لن يكون حتى في قائمة الاحتياط."
كنتُ أعتقد أن وجهه رائعٌ فقط، لكنه بطلٌ معروفٌ في كلِّ مكانٍ دون الحاجة إلى الاعتماد على سمعة عائلته؟
ذلك الموقف المريح والمغرور الذي أظهره قبل يومين بدأ يبدو منطقيًا. ومع ذلك، لم أفهم كل شيء.
"لماذا؟"
"لماذا، ماذا؟"
"إن كان شخصًا عظيمًا جدًا، لماذا لا يمكنه الزواج بي؟ بالتأكيد، هو ليس أفضل من مجرد أميرةٍ مثلي، أليس كذلك؟"
"لا تذهبي إلى أي مكانٍ قائلةً أشياء كهذه، يا لارا. يجب على الناس أن يكونوا دائمًا متواضعين. كم مرة عليّ أن أخبركِ بأن التقليل من شأن الآخرين بناءً على مكانتكِ هو أمرٌ لا يليق بعائلةٍ مالِكة؟"
الشخص الذي تحدّث نيابةً عن تاتيانا كان إيفان، الابن الثاني لعائلة نوفاروف المالِكة وتوأم تاتيانا. نظرتُ إلى إيفان، الذي كان يتناول إفطاره بهدوء، ثم سألت تاتيانا مجددًا.
"إذن لماذا لا يمكنه الزواج بي؟"
"هل تتجاهلين ما قلته؟"
الفصل الثالث 🩷
"أولًا، سُمعَتهُ أعلى مما ينبغي. يستحق الثناء كونه رجلٌ وسيمٌ بشكلٍ استثنائي، لكن بسبب سمعته وثروته الكبيرة، لا تتركه النساء وشأنه. وجود رجلٍ مشهورٍ للغاية بجانبكِ قد يكون مرهقًا. أليس الأمر يشبه اختيار وريث أرملةٍ ثريّةٍ كزوج؟"
ألم يكن ذلك أشبه بالنحل المُتجمّع حول زهرة، حيث يأخذ أحدهم العسل في النهاية؟ شخصيتي لا تسمح بسهولةٍ للآخرين بلمس ممتلكاتي. لذا، كلام تاتيانا أثار صدى في داخلي.
"ثانيًا. شخصيته لا تناسب شخصيتكِ."
لم تكن هناك حاجةٌ للتعمّق في السبب هذه المرة.
"مفهوم. أنا بالفعل أملك شخصيّةً صعبة."
ابتسمت تاتيانا بلطف، 'يا إلهي' ثم مرّرت يدها بلطفٍ على ذقني وابتسمت بحرارة.
"لا، لا. شخصية هرّتي الصغيرة جميلةٌ في أيّ وقتٍ وأيّ مكان! المشكلة تكمن فيه هو. لا تسألي أي جزء هو المشكلة، فهذه الأشياء يصعب شرحها لأنها تُحسّ عبر الحواس. ما أردتُ قوله هو أنه لا حاجة للتقرّب من شخصٍ ما إلا إذا كان صديقًا."
ذكّرتني تلك الكلمات بوجه فالنتين المُزعج وهو يسحب الستارة بلا تردد. بدلًا من إظهار أدنى شعورٍ بالذنب، كانت تلك العيون تبدو وكأنها تُزيل علقة مزعجة! حتى بعد مرور يومين، كان ذلك التعامل لا يُنسى بسهولة.
"لست مُهتمةً على أي حال. سألتُ فقط بدافع الفضول."
"نعم، نعم."
لكن ماذا يمكننا أن نفعل الآن؟ لن أستدعيه إلى القصر الإمبراطوري وأتحداه في مبارزةٍ قائلة 'اقبل العقاب على خطايا ذلك اليوم.' سيكون من السّخف استدعاؤه لهذا السبب التافه، خصوصًا من وجهة نظر والديّ.
علاوة على ذلك، إذا فكّرتُ بطريقةٍ أكثر نضجًا وإيثارًا، فإن استدعاءهُ فقط لأنه ذكر هروبي من الحصة سيكون تصرّفًا سخيفًا.
'هذا شيءٌ قد يفعله شخصٌ في الثالثة عشرة من عمره. فهو لم يرتكب جريمةً خطيرة.'
أنا أميرةٌ طيّبة القلب، لذا دعونا نتجاوز الأمر بعفو. هذا أيضًا كان بالتأكيد جزءًا من النضج.
في اليوم التالي بعد الظهر، عزمتُ على نسيان وجود فالنتين المزعج تمامًا.
لكن، القدر كان له رأيٌ آخر. التقيتُ بالجمال ذي الشعر الفضّي مرّةً أخرى في القصر.
بل وحتى أمام نافذة الطابق الثاني التي التقينا عندها أوّل مرّة!
لم تكن بيننا علاقةٌ سيّئة. كانت فقط مجرّد رابطةٍ عابرة.
كنتُ على وشك تحيّته بشكلٍ عابرٍ والمضي قدمًا، لكن فالنتين، بشكلٍ غير متوقّع، تجاهلني تمامًا ومشى بعيدًا. كان الأمر لا يُصدّق.
"أنت... لا، أنت!"
لحسن حظ فالنتين المزعج، كانت عيناه فقط المتضرّرة، لكن يبدو أن أُذنيه بخير. استدار لينظر إليّ.
السّماء ليست عادلةً بالتأكيد. عن قرب، بدا فالنتين كأنه أميرٌ خرج مباشرةً من قصّةٍ خياليّة.
لم يكن لديه شعرٌ فضّي ناعم فقط وبشرةٌ بيضاء صحيّة بدت كأنها منسوجةٌ من أنهار الصيف، بل حتى حاجباه الجميلان المُمتدّان على طول جسره الأنفي البارز كانا رائعين. علاوةً على ذلك، عيناه التركوازيتان الواضحتان كانتا نابضتين بالحياة كالفستق المطحون.
لكن، ما فائدة مثل هذا الجمال الاستثنائيّ إذا كان صاحبه يحمل تعبيرًا يقول 'ما الخطب؟' بفضل هذا، انهارت ثقتي بنفسي كبرجٍ حجريّ أصابه البرق.
"أنتَ، الذي أرسلتني إلى العدو في ذلك اليوم، كيف تجرؤ على وضع قدمكَ في القصر الإمبراطوري مجددًا؟!"
في تلك اللحظة فقط، ظهر تعبيرٌ غريبٌ على وجه فالنتين.
تحوّلت ملامحه إلى تلك التي ترى علقةً لم يكن يتوقّعها، لقاءٌ تافهٌ وغير سار.
"أعتذر. كان خطئي. سأختفي من أمام عينيكِ فورًا، صاحبة السمو."
"... "
مجرّد وجهٍ وسيم، لا، والكثير من المال، لا، والكثير من الشهرة... حسنًا! فالنتين المزعج، الذي يملك كل شيءٍ عدا اللباقة والذوق، تراجع بخطواتٍ قليلةٍ من باب المجاملة، ثم استدار على الفور ومشى ببطءٍ بعيدًا.
'هل سيغادر حقًّا بهذه الطريقة؟!'
كانت الصدمة والعبثيّة التي شعرتُ بها في ذلك اليوم كبيرة جدًا لدرجة أن شرارةً ضخمةً أشعلت حطب 'الانتقام لشفاء كبريائي الجريح'، وهو شيءٌ لم أكن أعلم بوجوده أصلًا.
يمكن للمرء أن يتحمّل مرّة، ولكن ليس مرّتين.
اتّخذتُ قراري.
اعتبارًا من اليوم، تمامًا كما يرغب فالنتين فلاديميروفيتش دميتريف، سأصبح علقةً حقيقيّة.
أنا أعلم. من وجهة نظري، كان الأمر يتعلّق بمعاقبة شابٍّ نبيلٍ جاهلٍ أهان كبرياء العائلة المالِكة، ولكن من وجهة نظر فالنتين، كانت فرصةً سيّئةً للوقوع بين يديّ أميرة ذات شخصيّة سيّئة.
لكن، مهما حاولتُ، لم أستطع أبدًا أن أسامح فالنتين المُزعج على نظرته الدونيّة لي!
ازداد هذا أكثر بعد أن علمتُ من تاتيانا أنه كان مُطارَدًا من قِبل النّبلاء من جميع أنحاء قارة نوست.
'يا ترى، كم كنتُ أبدو سخيفة؟'
كما تبيّن، فإن مرسول ديانة غافريل كان يتمتّع بنفوذٍ أكبر بكثيرٍ مما توقّعت.
'ما الذي يعنيه أن تكون مرسولًا؟'
حاولتُ الإجابة عن هذا السؤال من خلال فاربن، أستاذ مادة اللاهوت الذي كان منشغلًا بالقيلولة وهو أيضًا أسقف.
لم يستطع إخفاء دهشته من حماسي للتعلّم، الذي لم يره منذ وقتٍ طويل، وشرح الأمر كما يلي.
[أوه عزيزتي. يبدو أن صاحبة السمو الأميرة أصبحت مُهتمّةً جدًّا بالشخص الأعظم، المرسول، بعد لقائها بفالنتين الخاص بنا.
إن صاحب السيادة فالنتين هو مرسولٌ وُلِد بعد 120 عامًا، وهو شخصٌ سيعود بفائدةٍ عظيمةٍ على العالم باستخدام الوحي، العين المُقدّسة.
وفقًا للسجلات، عادةُ ما يُدرك المرسولون قوّتهم بعد سن المراهقة، لكن فالنتين الخاص بنا يبدو أنه أظهر قوّته في نفس سنّ صاحبة السمو، محققًا مساهماتٍ كبيرةٍ في إحلال السّلام العالمي...]
عندما أتذكّر ذلك الوقت، لا أشعر بشيءٍ جيد.
قدّم فاربن فالنتين بنبرةٍ ودّيةٍ وفخر، مشيرًا إليه باسم 'فالنتين الخاص بنا'. تمامًا كما أصبح فالنتين، وهو مواطنٌ مولودٌ في إمبراطوريّة أوهالا، مؤمنًا دون أي صلّة بالبابوية.
'حسنًا، ليس فقط بالبابوية، على ما أعتقد.'
عائلتا تشيرينسكو وأوبلونسكي المالكتان، اللتان منحتاه لقبًا عظيمًا، كانتا بلا شك تتسابقان أيضًا لمدح فالنتين من أجل إنجازاته العظيمة، على أمل أن يميل لواحدٍ منهما.
شعبيته المذهلة ربما تكون السبب الحقيقي في أن فالنتين يراني كـ'ذبابة'. بما أنه يحظى باعترافٍ حتى من الإمبراطور، فقد تكون أميرةٌ بعمر الثالثة عشرة مثلي غير جديرة بانتباهه. أليس كذلك؟ يا لي من شخصيّةٍ تافهة!
في اليوم التالي لإهانتي الثانية من فالنتين.
كان الإفطار قد انتهى للتو، ولأوّل مرّةٍ منذ فترة، تمسكّتُ بساقيّ فاسيلي على الطاولة بينما كان يتلقّى التقرير اليومي من رئيس الخدم بدلًا من والدي، الذي يعاني من ألمٍ في ساقه اليسرى بعد سقوطه من حصانٍ قبل عشرة أيام. وضع يده تحت ذراعي ورفعني كعادته.
"لارا، ما نيّة هذه المُشاكِسة التي تجعلها تأتي وتتمسّك بي؟"
لو كشفتُ الأمر بسلاسة، ربما كان سيبعدني، لذا بقيتُ صامتةً وتصرّفتُ وكأنني لم أسمع شيئًا.
"انظري إلى هذا. لا تفتح فمها حتى؟ تاتيانا، هل زرعتِ فكرةً سخيفةً في رأسها مرّةً أخرى؟"
"أنا أتساءل."
تاتيانا، التي كانت تفتح الرسائل التي وصلت في الصباح واحدةً تلو الأخرى، ابتسمت بسخريةٍ وعينيها نصف مفتوحتين.
"ربما هي بداية المُراهَقة المُبكِّرة لهرّتي الصغيرة."
"هل تحتجُّ على شيء؟"
"لو كانت تحتجّ، لما كانت تتصرّف بغباءٍ بهذا الشكل اللطيف. دعها وشأنها. أنا فضوليّةٌ لمعرفة ما الذي تفكّر به وهي تتمسّك بك مثل الكوالا."
فاسيلي، الذي كان يتأمّلني بعينيه المتفحّصتين، مسح خدي بلطف.
"لحسن الحظ، يبدو أن جدول اليوم مُريحٌ قليلًا. لنراقبكِ، لارا. من يدري ما الخطة الشريرة التي تخفينها؟"
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon