الفصل 1
عندما عدتُ إلى المنزل وأنا أحمل أكياس تسوق كبيرة بكلتا يدي، وجدت تجمعًا صغيرًا من الناس أمام بوابة منزلي.
تسألتُ في داخلي إن كان قد حدث شيء، واقتربتُ بفضول. وما إن لمحني أحد أطفال الجيران، توماس، حتى هرع نحوي بقلق.
"أختي شيريل !"
"مرحبًا، توماس. ماذا هناك؟"
ألقيت التحية وسألته، لكن توماس بدا وكأنه يريد أن يقول إن الوقت غير مناسب لذلك، وأمسك بذراعي بحماس.
في تلك اللحظة، تدحرجت برتقالة من إحدى أكياس الورق وسقطت على الأرض. حاولت الانحناء لالتقاطها، لكنه سبقني بخفة وأخذها، ثم داس على الأرض بانزعاج.
"أختي، الأمر ليس عن البرتقال الآن!"
"لكنني كنت أخطط لصنع كعكة به."
"ربما لن يتاح لك الوقت لصنع الكعكة."
قال توماس ذلك وكأنه يتنبأ بشيء غريب، وسحبني معه. شققتُ طريقنا عبر التجمع، ولاحظت أن جميع العيون المليئة بالقلق كانت موجهة نحوي فجأة.
"انظري."
أخيرًا وصلنا إلى البوابة، وأشار توماس بذقنه.
نظرت إلى الشيء الذي كان الناس يقفون بعيدًا عنه بتردد، وصدمتني المفاجأة.
"يا إلهي... سيارة."
كانت هناك سيارة سوداء لامعة، ذات مظهر مهيب ومخيف، متوقفة بطريقة تسد بوابة المنزل.
كتلة صلبة من الحديد تبدو متينة، بتصميم خشن وزجاج رمادي سميك يمنع رؤية الداخل، وعادم فضي يبدو وكأنه يطلق دخانًا كثيفًا، وإطارات كبيرة تضفي عليها وزنًا هائلًا.
لم يكن من المعتاد رؤية مثل هذه السيارة في المدينة، فوجدت نفسي أنظر إليها بذهول.
بلا شك، كانت سيارة رائعة، وتمثل قمة التقدم التكنولوجي. ومع ذلك، شعرت بشيء غريب وغير مريح تجاهها. فكرة أن شيئًا بلا وعي ولا يشعر بالألم يمكنه نقل الناس بدت لي مزعجة.
لم أحب أبدًا السيارات التي تنفث ضجيجًا ودخانًا أسود أثناء سيرها على الطرق، والآن بعد أن رأيت واحدة عن قرب، أدركت أنني لن أتمكن من التعود عليها.
"هذه سيارة عسكرية، أليس كذلك؟"
نظر توماس إليَّ وكأنه يريد التحقق، وارتسمت على وجهه ملامح نصفها اهتمام والنصف الآخر قلق.
كان ذلك مزيجًا من الفضول تجاه سيارة لا تزال بعيدة عن متناول عامة الناس، والخوف من أنها تنتمي للجيش.
تعابير وجوه الحاضرين حولي كانت تحمل نفس المشاعر تقريبًا. عندها فقط بدأت أشعر بشيء من الاضطراب يتسلل إلى صدري.
"أختي شيريل، هل يمكن أن يكون قد حدث شيء... للعقيد؟"
تردد توماس في إكمال عبارته وأغلق فمه.
والدي جندي في الجيش، لذا ليس من الغريب أن تكون هناك سيارة عسكرية أمام منزلنا.
ولكن والدي لم يأتِ بسيارة كهذه إلى المنزل من قبل، ولم يطلب يومًا من أحد مرؤوسيه إيصاله.
كما أنه لم يعد إلى المنزل في منتصف النهار مطلقًا.
لهذا السبب، كان توماس والجميع يظنون أن هناك شيئًا غير عادي قد حدث لوالدي.
"لا تقلق."
حاولت دفع القلق الذي بدأ يغلي داخلي بعيدًا وابتسمت لتوماس.
خفضت صوتي، واقتربت منه وهمست في أذنه:
"أؤكد لك، الأمر ليس خطيرًا. لا تقلق. لكن اسمعني جيدًا، قبل أن يخرج أحد من المنزل، عليك أن تغادر المكان، فهمت؟ بل أريدك أن تخبر الجميع هنا بالعودة إلى منازلهم. بعض الجنود سريعو الغضب، وآخرون متسلطون. لا أحد يريد أن يتعرض لمشاكل غير ضرورية."
"حسنًا... فهمت."
رد توماس بنبرة غير راضية ولكنه أومأ موافقًا.
حتى وهو طفل، كان يعلم أن بعض الجنود يمكن أن يتصرفوا بفظاظة تجاه المدنيين، وقد تصل الأمور أحيانًا إلى حد الإهانة أو العنف.
لأن توماس فتى ناضج بالنسبة لعمره، كنت واثقة من أنه سيتمكن من إقناع الحشد بالعودة إلى منازلهم.
"إلى اللقاء."
ابتسمت لتوماس مرة أخرى قبل أن أضبط مشاعري وأفتح بوابة المنزل، متجهة نحو الباب الأمامي.
***
عندما دخلتُ غرفة المعيشة، رأيتُ رجلين يرتديان الزي العسكري جالسين متقابلين على الأريكة.
بمجرد أن خطوت داخل الغرفة، شعرتُ بجو مشحون بالتوتر يملأ المكان. أدركت على الفور أن ما سيحدث الآن لن يكون أمرًا سعيدًا بأي حال.
"شيريل، عدتِ؟"
كان والدي، بجسده الضخم، أول من وقف عندما رآني. وجهه الصارم بدا وكأنه على وشك الانهيار.
ثم وقف الرجل الآخر، الذي كان يجلس قبالة والدي. لم أكن أرى سوى ظهره في البداية، لكنه أدار جسده ووجهه نحوي، وانحنى برأسه قليلاً في إشارة تحية.
كان شابًا عسكريًا في منتصف العشرينيات.
شعره البني الداكن كان قصيرًا ومرتبًا بدقة، وزيه العسكري كان خاليًا من أي خطأ، ما يعطي انطباعًا عن شخص شديد الانضباط.
ولكن، عينيه الرماديتين كانتا حادتين كأنهما تخترقان من يقف أمامه، وبدتا باردتين وصلبتين، وكأنهما تردعان أي محاولة للاقتراب.
"أنتِ ابنة العقيد وارن، أليس كذلك؟ أنا الملازم في الجيش الوطني، نواه رايز."
عرّف نفسه بنبرة صارمة ودقيقة، مما دفعني للانحناء برأسي بأقصى درجات الاحترام وألقيت التحية.
"تشرفت بلقائك، ملازم رايز. أنا شيريل وارن. أهلًا وسهلًا بك. أعتذر عن عدم وجودي عند قدومك. سأقدم لك الشاي الآن."
"لا داعي لذلك."
رد بصوت بدا رسميًا لدرجة تجعله يبدو باردًا وغير مرحب، بينما رفع يده قليلاً.
لكن الجملة التي كنت أتوقع سماعها، "سأغادر قريبًا"، لم تأتِ. بدلاً من ذلك، توقف عن الكلام ونقل نظره نحو والدي.
كان والدي لا يزال واقفًا، ينظر إليّ بشفتيه مزمومتين، ثم أطلق تنهيدة ثقيلة تشبه الأنين، وعاد للجلوس على الأريكة بطريقة توحي بالإحباط.
وجهه كان محمرًا بشدة، وبدا وكأن رأسه الأصلع يكاد يصدر بخارًا.
لو كان والدي إناءً على النار، لكان قد غلى وطفح منه الماء منذ فترة طويلة.
انحنى بجسده للأمام وغطى وجهه بيديه.
مرّ صمت ثقيل للحظات قبل أن يقول بصوت يشبه الهمس خرج من بين أصابعه:
"شيريل... أنا آسف. لقد ارتكبتُ خطأً فادحًا."
تسللت كلماته إلى قلبي وكأنها يد تسحقه.
── بالتأكيد، هناك شيء ما حدث.
"أبي..."
ركضتُ بسرعة نحو والدي وجثوت على ركبتي بجواره.
"ما الذي حدث؟ أخبرني من فضلك، ما الأمر؟"
وضعتُ يدي بلطف على ساقه، وشعرت من خلال الزي العسكري بارتعاشة خفيفة. والدي، الذي كان يُقال إنه شجاع لا يُقهر خلال الحرب الأخيرة، لدرجة أن قادة الأعداء كانوا يخشونه، بدا الآن ضعيفًا كطفل صغير، وجسده الضخم منحني كأنه يحاول الانكماش.
"بالضبط..."
تحدث الملازم رايز بصوت هادئ بعد أن جلس على الأريكة. كان يبدو باردًا بشكل مزعج، وكأن الأمر لا يعنيه.
عندما التقت عيني بعينيه، أشار بيده ليحثني على الجلوس بجانب والدي.
"العقيد وارن لم يرتكب أي خطأ أو تقصير. ما حدث كان مجرد صدفة سيئة. بالنسبة للعقيد ولنا أيضًا."
"لنا...؟"
سألته بينما بقيت يدي على ساق والدي، وجلست بجواره. كان والدي يخفي وجهه بيديه، وكأنه غير قادر على النظر إليّ.
"لا أستطيع الإفصاح عن التفاصيل. ومن الأفضل لكِ ألا تعرفي."
ابتسم ابتسامة باهتة، وقالها بنبرة تحمل معانٍ خفية.
عندما يفعل ذلك، يبدو قاسيًا بشكل مفرط. ورغم أنه أصغر حجمًا من والدي، إلا أن جسده المنضبط والمشدود تحت الزي العسكري ينضح بهالة غامضة وغير مريحة.
"سأكون صريحًا. العقيد وارن اكتشف عن طريق الصدفة أحد الأسرار العسكرية الهامة. لم يكن ذلك بتقصير منه أو تدخّل. ولكن، بمجرد أن عرف، لم نعد نستطيع التغاضي عنه ببساطة."
أطبقتُ شفتيّ ونظرتُ إلى الملازم الجالس أمامي، ثم إلى والدي بجواري.
رغم أن رتبة والدي أعلى، إلا أن الملازم لم يُظهر أي تردد أو خوف في كلامه أو تصرفاته. بدا وكأن له اليد العليا في هذا الموقف، كما لو أن الملازم يحتل مكانة أعلى من والدي.
وهذا يعني على الأرجح أن "نحن" التي يتحدث عنها الملازم تشمل أشخاصًا أعلى رتبة من والدي، أشخاصًا يمتلكون سلطة تمكنهم من التحكم بوالدي كما يشاؤون.
أشخاص في أعلى هرم القيادة العسكرية، لديهم القوة لاتخاذ قرارات تؤثر على والدي بشكل كبير.
── سر عسكري مهم تشارك فيه قيادات الجيش.
هل يعني ذلك أن هناك مؤامرة بدأت تتحرك داخل المؤسسة العسكرية؟
"حقًا؟"
"إذاً... هل تقصد أن وجودي في زنزانة سيكون كافيًا؟"
"لا، ليس إلى هذا الحد. ومع ذلك... قد يكون الأمر بالنسبة لك مشابهًا."
"ماذا؟"
"على أي حال، الجميع في الجيش يعلمون أن العقيد وارن، بعد فقدان زوجته، أصبح مهووسًا بابنته الوحيدة. إذا كانت تلك الابنة تحت مراقبتنا، فلن يقوم العقيد بأي تصرف غير محسوب. أليس كذلك؟ كل ما نريده هو أن يغلق العقيد عينيه وفمه لفترة قصيرة."
شعرت ببعض الارتياح عندما أدركت أن والدي لن يُقتل هنا والآن. بصراحة، كنت أخشى طوال الوقت أن يقوم الملازم بسحب سلاحه فجأة.
"أن أكون تحت مراقبتكم؟"
"بالضبط. وبطريقة لا تثير الشكوك حولنا. قد لا يكون ذلك مقبولاً بالنسبة لك، ولكن يجب أن تعلمي أن هذا هو أقصى ما يمكننا تقديمه كتنازل."
"وما المقصود بذلك تحديدًا؟"
سألت بنبرة متوترة، محاولةً فهم الموقف بالكامل. بعد لحظة صمت قصيرة، قال الملازم بصوت حاسم:
"ببساطة، أريدكِ أن تصبحي زوجتي."
للحظة، اعتقدت أنني سمعت خطأ.
"زوجة؟"
"نعم."
"زوجة، بمعنى أن نكون زوجين؟"
"نعم."
"أنت تطلب مني أن أتزوجك؟"
"نعم."
"أن نصبح زوجين؟"
"بالضبط، قلت ذلك بالفعل. هل يمكننا التوقف عن تكرار الأمر؟"
قالها الملازم بلهجة نافذة، وبدأ احمرار طفيف يظهر على أذنيه.
في تلك اللحظة، بدا وكأنه تخلى عن قناع البرود والجمود للحظة واحدة، ليكشف عن جانب مختلف تمامًا من شخصيته.
"بالطبع، هذا الزواج سيكون شكليًا فقط لخداع الآخرين. وجودكِ معنا سيُجبر العقيد على الهدوء لفترة. وبحكم قرابتنا، سيكون لدي عذر للبقاء قريبًا منكِ. من الآن فصاعدًا، علينا مراقبة كل تحركات العقيد. وإذا قام بأي تصرف خارج عن المألوف، لن أضمن سلامتكِ."
كانت نبرته قاطعة، وكأنه يبلغنا بقرار نهائي لا مجال لمعارضته. لم يكن لدي أو لوالدي خيار الرفض.
ربما يجب أن أعتبر نفسي محظوظة لأن الخيار الآخر لم يكن القضاء علينا تمامًا.
"إذن..."
نظرت مباشرة إلى الملازم بتصميم.
"إذا تزوجتك... ستضمن سلامة والدي، أليس كذلك؟"
"في الوقت الحالي، نعم."
أجاب الملازم بحذر، مما يعني أنه لا يستطيع تقديم ضمانات طويلة الأمد. ومع ذلك، حتى هذا الرد جلب لي شعورًا طفيفًا بالراحة.
"شيريل... آسف جدًا. كان ذلك بسبب إهمالي أنكِ الآن تواجهين هذا الوضع..."
أخيرًا، رفع والدي يديه عن وجهه ونظر إلي.
وجهه، الذي ربما يبدو كشكل دب غاضب لمن لا يعرفه، كان مليئًا بالحزن والانكسار، وكأنه على وشك البكاء.
أمسكت يديه وابتسمت بلطف.
"لا بأس، يا أبي. لا تحمل همي. طالما أنك بخير، فهذا كل ما يهمني. لا تقلق بشأني، فقط تأكد من تناول وجباتك جيدًا، ولا تعتمد فقط على الحلويات والكحول."
"شيريل...!"
لم يستطع والدي تمالك نفسه، فانفجر بالبكاء. كانت دموعه تنهمر بغزارة، وصوته يرتفع بالبكاء، مما جعلني أرى جانبًا لم أره من قبل.
أما الملازم، فقد بدا مذهولًا تمامًا، وكأنه تحول إلى تمثال.
"الملازم رايز!"
حتى وهو يبكي، استدار والدي نحو الملازم بصوت قوي ومخيف.
دموعه لم تخفف من غضبه، بل أضافت لهيبًا لصوته جعل الملازم يتراجع قليلاً على الأريكة ويقف مشدود الظهر كالجندي أمام قائده.
قبض والدي يده بشدة. رغم أنني لم أره يفعل ذلك من قبل، إلا أنني سمعت أنه في شبابه تمكن من تحطيم صخرة بيديه العاريتين.
نظراته كانت مليئة بالتهديد، وكل ذرة من وجوده تنذر بالخطر.
"يجب أن تفي بوعدك، أيها الشاب...! وإذا خالفت ذلك، سأمزق عنقك، هل تفهم؟!"
عند هذه الكلمات، شحب وجه الملازم قليلاً، ثم وقف ببطء ورد،
"مفهوم، أيها العقيد وارن."
ووضع يده اليمنى على صدغه لتحية عسكرية صارمة.
---
بسبب تلك الظروف، أُقيم حفل زفافي مع الملازم رايز بطريقة متسرعة للغاية.
لم يكن هناك وقت للتحضير، لذلك لم أرتدِ فستان زفاف، ولا طرحة، ولا حتى خاتم.
كان الملازم يرتدي زيه العسكري، وأنا ارتديت بالكاد فستانًا أبيض بسيطًا يصلح للمناسبات الرسمية.
في الجزء الخلفي من الكنيسة الصغيرة المهجورة، جلس والدي على مقعد خشبي بمفرده، يبكي بصوت منخفض طوال الوقت.
ربما كان ارتداء بدلة حداد وربطة عنق سوداء سيكون أكثر ملاءمة لهذا المشهد.
القس، الذي بدا شابًا وغير متمرس، كان يرتدي قبعة كبيرة تغطي نصف وجهه تقريبًا، وبدا مرتبكًا أثناء إتمام الطقوس، حيث أخطأ في الكلمات عدة مرات، وتلعثم في مواضع مختلفة.
لم تكن هناك باقة زهور، ولا ضيوف، ولا أي كلمات تهنئة.
وبالطبع، لم يكن هناك "قبلة العهد".
خلال الحفل، بالكاد ألقى الملازم نظرة نحوي.
"..."
تنهدت بخفة.
في الرابعة والعشرين من عمري، كنت أعلم أن هذا اليوم سيأتي يومًا ما. رأيت حفلات زفاف أصدقائي، وتخيلت كثيرًا كيف سيكون زفافي.
ولكن الواقع كان مختلفًا تمامًا عما كنت أتصوره.
لو كانت والدتي الراحلة هنا، هل كانت ستبكي مثل والدي؟
ربما كانت ستشعر بالحزن الشديد، لكنني شعرت بالراحة لأنها لم تكن هنا لتشهد هذا المشهد.
---
بعد الحفل مباشرة، اصطحبني الملازم إلى مكان إقامتنا الجديد.
لكن الحقيقة هي أنني سأنتقل إلى غرفة في الطابق الثاني من شقة الملازم.
لم يكن لدي الكثير من الأمتعة، فقط بعض الملابس والأغراض الشخصية. وبالنظر إلى أنني مجرد رهينة، كان يجب أن أعتبر ذلك كافيًا.
"هذا هو منزلي..."
قال الملازم وهو لا يزال مرتديًا زيه العسكري، أثناء إدخال المفتاح في القفل. بدا مترددًا بعض الشيء أثناء حديثه. يبدو أن ضمير المتكلم المعتاد له هو "أنا".
"لا تتفاجئي كثيرًا... لا، في الحقيقة، ربما ستتفاجئين."
كانت كلماته تزيد من توتري. لم أزر من قبل منزل رجل شاب يعيش بمفرده، وهذا المكان سيكون بيتي الآن. كان الوضع غريبًا ومقلوبًا رأسًا على عقب.
"على كل حال... تفضلي بالدخول."
عندما فتحت الباب ورأيت ما وراءه، وقفت مذهولة وعاجزة عن الحركة.
المنظر الصادم أمامي جعل كل شعور بالخوف أو القلق من مواجهة شيء رهيب مثل شياطين أو أفاعٍ يختفي على الفور.
"لا بأس، ادخلي."
'…أدخل؟ لكن، لا يبدو أن هناك مكانًا يمكنني أن أدخل إليه أساسًا.'
لم أتمكن من قول الكلمات الأخيرة بصوت عالٍ، لكنها كانت تدور في ذهني بسبب الفوضى الشديدة.
كان داخل الشقة يبدو وكأن عصابة من اللصوص اقتحمت المكان وعبثت به بلا رحمة.
الأشياء متناثرة في كل مكان على الأرض، الكتب مكدسة فوق الرفوف والطاولات، وأكوام من الملابس تغطي الأريكة. في حوض المطبخ تراكمت الصحون غير المغسولة، وصناديق مفتوحة عشوائيًا تحتل جزءًا كبيرًا من المساحة، لدرجة أنه لم يكن هناك مكان للسير بأمان.
تنحنح الملازم رايز بتكلف واضح وقال:
"في الواقع، لقد انتقلت إلى هذه الشقة منذ فترة قصيرة."
"متى؟"
"قبل حوالي عام."
"هذه ليست فترة قصيرة إطلاقًا."
لو كان لديه عام كامل، كان بإمكانه ترتيب المكان قليلاً على الأقل. عندما واجهته بهذه الملاحظة الصريحة، حك الملازم رأسه بمظهر محرج قليلًا.
"عندما يكون العمل مزدحمًا، لا اشعر برغبة في تفريغ كل شيء وترتيبه. لذلك، كنت أخرج فقط الأشياء التي أحتاجها من الصناديق واستمررت بالعيش هكذا، حتى وصل المكان إلى هذه الحالة. كنت أنوي ترتيب المكان قليلاً قبل أن تأتي، لكن..."
سواء كان قد حاول ولم ينجح، أو أنه ببساطة استسلم للفكرة منذ البداية، يبدو أن الملازم تخلى عن جهوده في جعل المكان "أفضل". إذا كانت هذه هي "الحالة الأفضل"، فأخشى أن أتخيل كيف كان المكان سابقًا. ربما كان يحاول الترتيب وانتهى به الأمر إلى إحداث مزيد من الفوضى، وهذا التفسير الوحيد الذي يمكنني تقبله، وإن لم أستطع فهمه بالكامل.
على الرغم من مظهره الرسمي في زيه العسكري، كان من الواضح أن الملازم شخص غير منظم بشكل كبير.
قد يكون جادًا ومنضبطًا في عمله، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أنه شخص دقيق أو مرتب.
"على أي حال، غرفة النوم على الأقل في حالة مقبولة، يمكنك الراحة هناك."
بعد أن قال ذلك، نظر إلي وكأنه تذكر شيئًا وأضاف:
"لا تقلقي، سأنام على أريكة غرفة المعيشة. أنت رهينة مهمة، ولن أمد يدي عليك."
لكن كلماته، بدلاً من أن تطمئنني، بدت وكأنه يضع حدودًا واضحة ويقول لي: "لا تفكري في أي شيء خاطئ."
رغم أننا قد أقمنا حفل زفاف، فإننا لسنا زوجين، ولا حتى صديقين.
أنا رهينة، وهو حارس مراقب.
"يُفترض أن الطعام موجود في الثلاجة، لذا يمكنك تدبر أمرك بنفسك. وبالنسبة للهاتف الموجود في هذه الغرفة..."
وجهني بإشارة من إصبعه إلى الجدار، وبالفعل، كان هناك هاتف أسود مثبت على الحائط.
"من الأفضل أن تفترضي أن أي مكالمة تُجرى من هنا يتم التنصت عليها. سواء كنتُ بجانبك أم لا، كل ما تقولينه أو تفعلينه يصل إلينا. لذا أحذرك، أي محاولة غبية قد تؤدي إلى خطر يهددك أنت ووالدك معًا."
"فهمت."
أجبت بصوت هادئ، لكن شعرت ببرودة زاحفة تصعد من قدمي بسبب نبرة صوته المنخفضة.
"هل عليّ البقاء داخل هذه الغرفة طوال الوقت؟"
"لا، يمكنك الخروج للتسوق في الجوار إذا احتجتِ إلى شيء. أنتِ امرأة، ومن المؤكد أن هناك أشياء ستحتاجينها. ولكن، يجب أن أعرف إلى أين تذهبين، ماذا تشترين، ومع من تتحدثين وما تقولينه."
"حسنًا."
فهمت أنه حتى لو خرجت، سأكون تحت المراقبة. الفرق الوحيد هو أنني أصبحت أشبه بسجينة داخل سجن دون قضبان.
"سأغادر الآن. لا أعرف متى سأعود، لذا لا تقلقي بشأن وجودي. أغلقي الباب والنوافذ جيدًا وارتاحي."
أومضت بعينيّ بدهشة.
"هل ستتركني هنا بمفردي؟"
"لا بأس. تفحصي المكان كما تريدين."
ابتسم ابتسامة ساخرة وهو يضيف:
"مهما بحثتِ في المكان، لن تجدي شيئًا ذا قيمة. لا معلومات عسكرية ولا نقاط ضعف تخصني. أقصى ما يمكن أن تجدينه هو كتل من الغبار أو جثث حشرات ميتة."
"فهمت."
تنهدت مجددًا وكررت نفس الإجابة. نظر إلى وجهي وكأنه يهم بقول شيء آخر، لكنه في النهاية لم يتكلم. ساد بيننا صمت مليء بما لم يُقال، ثم استدار وخرج.
"أتمنى لك رحلة موفقة، أيها الملازم."
لم يرد على كلامي، واكتفى بمغادرة المكان.
أُغلق الباب خلفه بصوت "طقطقة"، وسمعت خطوات حذائه العسكري تبتعد حتى تلاشت تمامًا. أخذت نفسًا عميقًا آخر.
"إذن..."
بدلت ملابسي ورفعت أكمامي بحزم. ثم بدأت بنشاط في تنظيف الغرفة.
هناك أشياء يمكنني تحملها، وأشياء أخرى لا أستطيع.
الفصل 2
قمت بتجميع الملابس المبعثرة في كل مكان وترتيبها داخل الخزانة، ثم نظمت الكتب على رفوف المكتبة، وجمعت كل ما كان واضحًا أنه نفايات في أكياس ورتبتها.
قمت بتنظيف الأرضية بالمكنسة لإزالة كل الغبار، ثم مسحتها بالماء باستخدام الممسحة. غسلت جميع الأطباق المتراكمة بشكل كامل، ولمعت الحوض حتى أصبح لامعًا.
أخيرًا، قمت بتنظيف الطاولة والكراسي التي كانت متسخة قليلاً، وأخرجت الملابس والأدوات المنزلية التي كانت محشورة في صناديق مهملة وأعدتها إلى أماكنها المناسبة بعد تنظيمها.
بهذه البساطة، عادت الغرفة للحياة من جديد وكأنها تبدلت تمامًا.
ورغم أنني لا أستطيع القول إنها أصبحت مساحة فاخرة، إلا أنني نظرت حولي واضعة يدي على خصري وأنا أمسك بقطعة قماش.
عندها أدركت شيئًا.
---
عند ترتيب الغرفة، لاحظت أنها كانت شديدة الكآبة والبرودة.
لم يكن فيها غبار أو شبكات عنكبوت، ولكنها افتقرت إلى الزينة والدفء.
الجدران البيضاء والأرضية الخشبية كانت عارية تمامًا، بلا سجاد أو وسائد، ولا توجد لوحات أو صور أو زهور؛ لم يكن هناك أي شيء يمكن أن يريح النفس.
كانت هناك الكثير من الكتب، لكنها كلها كتب متخصصة وصعبة، ولم يكن بينها أي روايات أو مجلات.
لا هوايات ولا وسائل ترفيه.
كانت الغرفة فارغة بشكل مفرط، خالية تمامًا من أي دفء أو حميمية.
ولم أجد في أي زاوية ما يدل على علاقات شخصية للملازم ريز، سواء أصدقاء أو عائلة أو حبيبة.
فكرت أنه ربما كانت الغرفة المليئة بالفوضى التي كانت عليها سابقًا أكثر راحة بالنسبة له، مما جعلني أشعر ببعض الذنب.
---
عندما انتبهت فجأة ونظرت من النافذة، لاحظت أن الشمس قد بدأت بالغروب.
قلت لنفسي: "بالمناسبة، أنا جائعة".
عندما فكرت في الأمر، أدركت أنني بالكاد أكلت منذ الصباح. وضعت يدي على بطني وأنا أحدث نفسي، ثم توجهت إلى المطبخ وفتحت الثلاجة.
"حسنًا، كما توقعت."
ما وجدته كان عبارة عن الحليب، والجبن، والبيض، وبعض زجاجات الكحول. كان الملازم قد قال شيئًا عن "تدبر أمرك"، ومن الواضح أنه نفسه يتدبر أمره في كل مرة بطريقة مشابهة.
بحثت في المخزن ولم أجد شيئًا ذا قيمة أيضًا. كان هناك قطعة خبز أصبحت قاسية جدًا وكأنها على وشك الجفاف، ولم يكن هناك زبدة أو مربى. كل ما وجدته كان بعض المكسرات التي تُستخدم كوجبات خفيفة مع الكحول، وتفاحة بالكاد صالحة.
لم يكن هناك طحين لصنع العجين.
"يجب أن أذهب للتسوق غدًا مهما كان الأمر."
تنهدت بعمق وهمست لنفسي.
***
بعد أن تناولت التفاحة والحليب لملء معدتي، أخذت حمامًا وجلست على الأريكة. يبدو أنني غفوت دون أن أدرك.
استيقظت على صوت مفتاح يدور في القفل، ولاحظت أن الخارج أصبح مظلمًا تمامًا. عندما نظرت إلى الساعة، وجدت أن الوقت قد أصبح منتصف الليل.
وقف الملازم عند مدخل الغرفة، مذهولًا، وهو يحدق حوله بعينين واسعتين.
"أستطيع رؤية الأرضية..."
قال ذلك بصوت منخفض وهو في حالة من الذهول، ثم حول نظره نحوي.
"هل فعلتِ ذلك؟"
"ومن غيري؟ أهلًا بعودتك، يا ملازم."
وقفت من على الأريكة وأنا أقول ذلك، لكنه لم يرد، واكتفى بزم شفتيه. دخل الغرفة ببطء، ناظرًا إلى كل شيء حوله بتفحص، ثم أطلق تنهيدة تعبر عن دهشته.
"ظننت أنك ستقضين وقتك في البكاء واليأس من هذا العالم بسبب زواج فرض عليكِ بالإكراه، لكن يبدو أنك أكثر نشاطًا مما توقعت."
قال ذلك بنبرة مليئة بالسخرية، فهززت كتفي بابتسامة وقلت: "على الرحب والسعة."
سمعت أن هناك العديد من الضباط العصبيين الذين يحاولون قمع النساء والأطفال من خلال الصراخ أو حتى الضرب، لكن يبدو أن الملازم ليس من هذا النوع. كل ما فعله هو هز رأسه كما لو أنه يستسلم للأمر الواقع.
"أشعر وكأن قلعتي قد تعرضت للغزو والعبث."
"كان حال الغرفة قبل الترتيب أشبه بالفوضى العارمة. على أي حال، ألم تكن أنت من قال لي أن أبحث في البيت كما أشاء؟"
"حسنًا، حسنًا."
قال ذلك وهو يلوح بيده في ضجر.
"اعتقدت أنك فتاة مطيعة كالدمية، تنفذين الأوامر دون أي تمرد، لكن يبدو أنني كنت مخطئًا. على أية حال، أكرر تحذيري: تجنبي التصرفات المتهورة التي قد تثير الشكوك."
"بالطبع، أفهم ذلك."
أجبت بطاعة وهدوء، لكن نظراته ظلت مملوءة بالشك.
"هل أُحضِر لك شيئًا للشرب؟"
عندما سألته، هز رأسه بالنفي.
"لا، ليس هناك حاجة. عدت فقط لتبديل ملابسي، وسأخرج قريبًا."
رغم أنه عريس جديد تزوج اليوم، يبدو أن جدوله مزدحم للغاية. يبدو أن رؤساءه لا يمنحونه وقتًا للراحة.
أو ربما هناك قضية مستعجلة جدًا تتطلب اهتمامه الفوري.
"دعني أساعدك إذًا."
عندما عرضت ذلك، نظر إليّ بنظرة مليئة بالريبة وقال: "ماذا ستساعدين؟"
"تبديل الملابس بالطبع. لقد اعتدت على رعاية والدي، لذا لا تقلق. سأجهز لك ملابس داخلية وزيًّا عسكريًا جديدًا، وأغلي الماء بسرعة لتحضير منشفة معصورة جيدًا لتنظيف جسدك..."
"بـ..."
عيناه اتسعتا بينما حاول قول شيء لكنه توقف فجأة. تغير تعبيره إلى برود شديد.
"لا حاجة لذلك. أستطيع القيام بذلك بنفسي. قلت لكِ ألا تشغلي بالك بي. اذهبي للنوم الآن."
لكن من الواضح أن احمرار أذنيه لم يكن بإمكانه إخفاءه.
"كما تشاء. إذن، تصبح على خير."
انحنيت قليلًا وغادرت الغرفة. لكن قبل أن أغادر تمامًا، سمعته يقول:
"وأيضًا..."
التفت إليه، لكنه كان قد استدار بالفعل.
"لا يجب على فتاة شابة أن تقول مثل هذه الأمور بخفة."
كانت نبرته توبيخية، فأجبته بجدية: "حاضر."
ولكن ما إن خرجت من الغرفة، حتى لم أستطع منع نفسي من الضحك قليلاً.
***
عندما استيقظت في اليوم التالي، لم يكن الملازم موجودًا بالفعل.
على ما يبدو، غادر مباشرة بعد تبديل ملابسه كما قال.
تساءلت إن كان قد تناول طعامه بشكل جيد، لكنني سرعان ما تجاهلت الأمر؛ إذ لا يمكنني معرفة ذلك مهما فكرت.
الآن، مسألة طعامي هي الأولوية. لا أريد أن أعتمد على الخبز القاسي لسد جوعي إلا إذا وصلت إلى حالة يائسة حقًا.
بما أن الطقس جميل، قمت بغسل الملاءات ونشرها لتجف، واستغليت الفرصة لتنظيف غرفة النوم التي لم أتمكن من ترتيبها بالأمس.
وكما قال الملازم، كانت تلك الغرفة في حالة أفضل بكثير مقارنة بغرفة المعيشة والمطبخ، لذا لم تستغرق وقتًا طويلًا لتنظيفها.
بالأساس، لم يكن في الغرفة سوى السرير ورف صغير.
على الرف، كانت الكتب موضوعة بطريقة عشوائية، إلى جانب ساعة صغيرة، و──
"أوه..."
طرفت بعيني وأنا أخرج شيئًا كان مسحوقًا بين الكتب.
"دمية؟"
كانت دمية لطيفة، لكنها بدت وكأنها لا تنتمي إلى هذه الغرفة أو إلى الملازم.
دمية ولد يبدو أنها مصنوعة يدويًا، بأسلوب بسيط.
خيوط الصوف البنية التي تمثل الشعر كانت فوضوية، وملابسها المخيطة يدويًا كانت مهترئة في الأطراف، مع بعض الثقوب الصغيرة.
عيناها المصنوعة من أزرار رمادية، كانت إحداها على وشك السقوط، ومعلقة بخيط ضعيف.
وعلى الرغم من ذلك، كانت الدمية متسخة جدًا.
جسدها مغطى بالسخام والبقع السوداء، مع آثار حروق متناثرة عليها.
وكانت قدماها ملوثة ببقع عالقة، وكأن شيئًا ما انسكب عليها.
"........"
حدقت في الدمية لبعض الوقت، ثم أعدتها بلطف إلى الرف، مع الحرص على عدم سحقها مرة أخرى بين الكتب.
كانت تبدو قديمة جدًا، وكأنها صنعت منذ زمن بعيد.
بدت هشة للغاية، وكأن أي تعامل قاسٍ معها قد يؤدي إلى تلف لا يمكن إصلاحه.
بأقصى درجات الحذر، لمست أطرافها، ورتبت شعرها قليلاً.
لم أكن أعرف قصتها، أو ما تمثله بالنسبة للملازم.
هل كان يعتز بها؟ أم أنه بالكاد يلاحظ وجودها؟
ومع ذلك، شعرت وكأنني لمست جانبًا حساسًا جدًا من قلب شخص آخر، مما جعلني أشعر بالذنب.
رغم أن الدمية لم تنطق بشيء أبدًا، فإن عينيها المعلقة بشدة، والنظرة الحزينة المنبعثة منها، جعلتني أشعر بضيق في صدري وكأنها تحمل ألمًا لا يوصف.
***
كلمات الملازم لم تكن كاذبة، وقد تأكدت من ذلك بمجرد نزولي السلالم الخارجية للشقة وإلقاء نظرة سريعة حولي.
من ظل المبنى المقابل على الجانب الآخر من الطريق، كان هناك شخص يراقبني عن كثب.
لم يكن يرتدي زيًا عسكريًا، لكن الأجواء التي تحيط به كانت واضحة تمامًا أنه ليس شخصًا عاديًا.
كان يرتدي قميصًا مع سترة، وفوقها معطفًا طويلاً، وقبعة مسحوبة بإحكام على رأسه بحيث لا يظهر سوى عينين حادتين. شكله كان يبعث على الريبة.
لم يكن صعبًا عليّ اكتشافه، ليس لأنه سيئ في المراقبة، بل لأنه على ما يبدو لم يكن يحاول الاختباء أصلاً. كان هدفه واضحًا: التهديد والتذكير المستمر بأنه يراقبني.
حاولت ألا أعير له اهتمامًا، وبدأت في السير بخطوات هادئة.
بينما كنت أمشي، استغرقت في التفكير:
── ما هي طبيعة تلك الأسرار العسكرية؟
بحسب ما قاله والدي، فإن الملازم نواه رايز هو شخص غامض الأصل.
على الرغم من أنه لا يمتلك دعمًا قويًا خلفه، إلا أنه برز بسرعة داخل الجيش، وجذب انتباه اللواء جيلينغ.
اللواء جيلينغ يؤمن بأن الكفاءة أهم من النسب في الجيش، وقد ارتقى بنفسه في الرتب بفضل ذكائه وإنجازاته العسكرية. ومع ذلك، أسلوبه الصارم في فرض آرائه كان سببًا في الخلاف مع والدي، رغم أنه يحظى بدعم كبير من الجنود الشباب، مشكّلًا تيارًا قويًا داخل الجيش.
إذاً، من الممكن أن "نحن" التي تحدث عنها الملازم تشير إلى جماعة بقيادة اللواء جيلينغ.
قبل حفل الزفاف، شدد والدي عليّ بوجه قاسٍ عدة مرات:
"اسمعي يا شيريل، إذا حدث أي طارئ، اهربي على الفور. لا تقلقي بشأنّي. غادري بأي وسيلة، لكن ابتعدي عن الملازم رايز. وإلا فقد تجدين نفسك متورطة في الأمور."
عندما سألته عما يقصد بالطوارئ، عبس وقال فقط:
"عندما يحين الوقت، ستفهمين كل شيء بنفسك."
نظرت إلى السماء الزرقاء وأنا أفكر: متى يحين ذلك الوقت؟ ماذا سيحدث حينها؟ وكيف يجب أن أتصرف؟
لا أزال لا أعلم شيئًا.
"شيريل، تذكري هذا جيدًا: لا تثقي أبدًا بذلك الملازم رايز."
صدى كلمات والدي التي كررها مرارًا ظل يتردد في أعماق أذني.
***
عندما بدأت السماء تتلون بالبرتقالي، عاد الملازم أخيرًا.
"مرحبًا بعودتك، ملازم."
استقبلته هذه المرة عند الباب، لكن كل ما فعله هو أن رمقني بنظرة حادة ولم يرد عليّ.
نزع قبعته، وأخذ يشتمّ الهواء.
"لقد عدت في وقت مناسب، ملازم. الدجاج انتهى من الطهي."
"............"
مرّ الملازم بصمت بجانبي، متوجهًا نحو المطبخ الذي كان مرتبًا تمامًا، حيث كانت الأطعمة الشهية مصفوفة بعناية. نظر إليها بنفس تعبير وجهه بالأمس.
"── سمعت أنك ذهبت للتسوق اليوم."
يبدو أنه قد تم إخباره مسبقًا.
"نعم."
"الأشياء التي اشتريتها هي: دجاج، بطاطس، بصل، جزر، زبدة، سكر، دقيق، ليمون، كريمة، نوعان من المربى، شوفان، رقائق الذرة، لحم مقدد، برقوق، وأشياء أخرى."
بدون النظر إلى أي ملاحظات، بدأ الملازم في تلاوة القائمة بشكل مطوّل.
توقف لوهلة، ثم زفر بعمق.
"الرجل الذي أبلغني بذلك قال لي مرتعبًا: هل تنوي تلك الفتاة دعوة مجموعة كبيرة وإقامة حفلة؟"
"للأسف، المكونات غير كافية لإقامة حفلة. لقد اشتريت الحد الأدنى فقط."
حتى مع ذلك، كانت يداي ممتلئتين تمامًا، ولم أتمكن من شراء المزيد. وهذا يعكس مدى خلو هذا المنزل من أي شيء.
"لكن أقول لك، إذا كنت تحاولين استمالتي
بالطعام، فذلك لن ينجح."
"يا لها من فكرة جيدة!"
وضعت يدي على وجهي وكأنني لم أفكر في ذلك من قبل، الأمر الذي جعل تعابير الملازم تزداد حذرًا.
"على أي حال، كان ذلك مزاحًا."
"هل حقًا كان مزاحًا؟"
"لا أقصد أي شيء خاص. فقط أحببت أن أعيش في بيئة نظيفة قدر الإمكان، وأتناول طعامًا لذيذًا إذا أمكن. وإذا كنت تمانع في تناول الطعام الذي أعده أو لا تثق فيه، فلا داعي لتناوله. ولكن بالنسبة لي، سأتناوله على أي حال."
قلت ذلك ثم واصلت تحضير الطعام.
أخرجت الدجاج المشوي من الفرن ووضعته في طبق، لينتشر العطر الشهي في أنحاء الغرفة. تصاعدت بخار مع صوت خفيف، وكانت القشرة الذهبية المقرمشة والدهون اللامعة تبدو مغرية للغاية. أضفت البطاطس المهروسة والجزر المطهي كأطباق جانبية.
وضعت الطعام على الطاولة مع خبز بني محمص وقلت: "هذا الطبق يبدو رائعًا اليوم!"
كان الملازم صامتًا، لكن عينيه كانت مسمرة على الطاولة. يبدو أنه ليس غير مهتم بالطعام كما توقعت.
"حسنًا، سأبدأ بالأكل الآن. ... ملازم، لماذا تقف هناك؟ اجلس وارتاح. هذا منزلك، بعد كل شيء. وإذا لم تكن ترغب في تناول أي شيء، يمكنني إعداد شاي لك."
"............"
تنهد الملازم بامتعاض وجلس بقوة على الكرسي.
"── جهزي طبقًا لي أيضًا."
رغم نبرة صوته الغاضبة، أجبته بابتسامة مشرقة: "حاضر."
أحضرت طبقين، وقطعت الدجاج، وملأت الأطباق بالحساء. مباشرة بعد ذلك، مد الملازم يده لقطعة خبز، لكنه توقف قبل أن يضعها في فمه.
لاحظ أنني كنت أضم يدي للصلاة قبل الطعام. وعندما انتهيت وفتحت عيني، رأيته ينظر إليّ بحرج، وهو يمسك بالخبز.
"آسف على قلة الأدب. لم أعتد على هذه العادة منذ وقت طويل."
"لا بأس، يمكنك التصرف وفق طريقتك الخاصة. كل عائلة لها طريقتها المختلفة."
أجبت بلطف، ولاحظت أنه صرف نظره بشكل غريب عند سماعه كلمة "عائلة". توقعت أن الكلمة أثارت شيئًا ما لديه. لذلك، قلت: "لنبدأ بالأكل." وأخذت ملعقتي.
"هل كنتم تفعلون ذلك دائمًا في منزل والدك؟"
"نعم. أعتقد أن أمي كانت أكثر تدينًا من أبي. كانت دائمًا تقول أن كل شيء هو من إرادة الاله ويجب أن نقبله بفرح."
"هذا مدهش حقًا."
لكن نبرة الملازم كانت أقرب إلى السخرية منها إلى الإعجاب.
"ربما تأثر والدك بذلك أيضًا."
"ربما. ذات مرة علمني أن السعادة هبة من السماء."
قال بصوت منخفض: "كيف يمكن لشخص في زي عسكري أن يصدق السماء هذا ؟"
كانت كلماته هذه المرة مليئة بالكآبة وليس السخرية. ولكن بعد لحظات، عاد لمزاجه السابق، مبتسمًا بخبث:
"إذن، أصبحتِ مسيحية صالحة بفضل والديك؟ وهل تعتبرين ما تمرين به الآن اختبارًا ؟"
"أنا ليست متدينة ."
رفعت نظري إليه بعد أن قلت ذلك، ورأيت عينيه تتسعان في دهشة.
ابتسمت وقلت ذلك وكأنني أمزح.
بمجرد أن بدأ الأكل، شرع الملازم في التهام الطعام الموجود على الطاولة بسرعة كبيرة، حيث أفرغ الأطباق الواحد تلو الآخر.
"ملازم، لا الخبز ولا اللحم سيهربان، لذا تناول الطعام ببطء. قد تعلق في حلقك إن استمريت بهذه السرعة."
"أعتذر، لكن لم أعتد أخذ وقتي في تذوق الطعام. هل لديك فكرة عن مدى سوء طعام المقر الرئيسي للجيش؟ إن لم تبتلعه بسرعة دون التفكير، قد تضطر إلى بصقه من شدة رداءة طعمه. بالإضافة إلى أن قاعدة الجنود الأساسية هي تناول ما هو جيد متى توفّر."
رغم كمية الطعام الكبيرة، أصبحت معظم الأطباق فارغة الآن.
"لو أنك تنظف الغرفة بنفس الحماس الذي تناولت به الطعام..."
"هل قلت شيئًا؟ أنتِ تبدين وكأنكِ عجوز متطفلة رغم صغر سنك، بملامحك وطريقة حديثك."
"وقح!" انتفخت وجنتاي من الغضب.
"لقد اعتنيت بوالدي منذ وفاة والدتي، لذا اعتدت على ذلك. كان والدي، مثلك تمامًا، غير مبالٍ بنفسه..."
توقفت فجأة وشعرت بالقلق.
"كيف هو والدي الآن؟"
بما أن الملازم كان يراقبني ووالدي، لا بد أنه يعرف حاله. عند سؤالي، أخيرًا رفع نظره من الأطباق وحدق في وجهي.
"حسنًا، قد لا يكون في قمة النشاط، لكنه يؤدي عمله بشكل طبيعي. المحيطون به يفسرون حزنه على أنه نتيجة زواج ابنته الوحيدة. يبدو أن حبه الشديد لكِ كان واضحًا. ورغم أنه يتصرف بطريقة مختلفة الآن، إلا أن هذا التفسير يبعد أي شكوك، مما يجعل الأمر أسهل بالنسبة لنا."
كنت متأكدة أن والدي يشعر بالذنب وكأن كل هذا بسبب قراراته. تخيلت والدي بجسده الضخم منحنيًا ومكسورًا، مما جعل قلبي يعتصر ألمًا.
هل يتناول الطعام بشكل لائق؟ أم أنه في حالة لا تسمح له بالاهتمام بأي شيء آخر؟
بدأت هذه الأفكار تقلقني. كنت شاردة، أنظر في الفراغ. وعندما لاحظ الملازم حالتي، هز كتفيه وقال:
"لا تقلقي كثيرًا. والدك ليس شخصًا ضعيفًا ليسقط بهذه السهولة. كل مرة يراني، يحدق بي كما لو كان على وشك الانقضاض عليّ مثل وحش مفترس، لدرجة أن زملائي يتعاطفون معي قائلين: لا بد أنه من الصعب أن يكون لديك حمو كهذا."
رغم أن والدي كان محبوبًا من مرؤوسيه، إلا أنه كان مخيفًا بالنسبة لمن لا يعرفونه جيدًا.
"هل هناك أمر آخر يقلقك؟"
سألني بنبرة فاحصة، وكان ينظر إلى عيني مباشرة بنظرة حادة، مما أعادني إلى واقعي.
"لا، شعرت بالارتياح بعد ما أخبرتني به. بالمناسبة، لدينا حلوى أيضًا. هل تود تناولها؟"
وأشرت إلى فطيرة الليمون، لكن الملازم أظهر تعبيرًا غير مرحب.
"إذا كنتِ تحاولين كسب معدتي بالطعام، فلن ينجح ذلك."
"إذا كنت تشك في كل شيء هكذا، ألا تشعر بالتعب؟ فطيرة الليمون مغطاة بالكثير من الكريمة المخفوقة. إذا كنت لا تحب الحلوى، يمكنني تقطيع قطعة صغيرة لك."
"اجعليها كبيرة."
ابتسمت قليلًا وأنا أقطع الفطيرة.
قدمت له الطبق ونظرت من النافذة. كان الظلام قد حل، والنجوم بدأت بالظهور.
"هل تعتقد أن المطر سيهطل غدًا؟"
تمتمت بنبرة خافتة، لكنه هز رأسه بثقة.
"لن يهطل المطر لعدة أيام. يبدو أن الطقس سيكون مشمسًا لفترة."
"أفهم..." أجبته بينما خفضت حاجبيَّ في استسلام.
الفصل 3
على الرغم من أن حياتي المشتركة مع الملازم رايز كانت غير طبيعية إلى حد ما، إلا أنها استمرت.
ما كنت أراه في حياتي اليومية مع والديّ، أو ما كنت أتخيله بشكل غامض عن الحياة الزوجية، كان مختلفًا تمامًا.
ولكن، بما أننا "زوجان بالاسم فقط"، فربما كان من الطبيعي أن يكون الأمر مختلفًا.
في الواقع، إذا كان الأمر يتعلق بـ"رهينة"، فقد كانت أيامي هادئة، دون خوف أو قلق.
بشكل عام، على الرغم من أننا كنا نعيش تحت سقف واحد، إلا أن الملازم نادرًا ما كان يتواجد في المنزل بشكل منتظم.
عندما يعود إلى منزل، كان معظم الوقت فقط لتغيير ملابسه أو أخذ دش سريع قبل أن يخرج مجددًا.
حتى نومه كان على الأريكة، لبضع ساعات فقط، ثم يستيقظ ويخرج بسرعة.
عندما كنت أودعه أو أستقبله، كنت دائمًا أقول "في أمان الله " أو "مرحبًا بعودتك"، لكنه لم يردّ عليّ أبدًا لأي سبب من الأسباب.
ورغم أنه كان يتحدث معي بشكل عادي في باقي الأوقات، إلا أن هناك جوانب غريبة في تصرفاته العنيدة.
بسبب أسلوب حياته غير المنتظم، كانت أوقات تناول الطعام متفرقة للغاية.
بل إنه بدا وكأنه ينسى شعوره بالجوع ما لم يكن هناك طعام أمامه مباشرة.
لهذا السبب، قررت تطبيق نظام البوفيه.
كنت أضع دائمًا عدة أطباق متنوعة على الطاولة ليأكل منها متى شاء.
إذا كنت مستيقظة، كنت أقدّم له شوربة ساخنة أو أشوي له اللحم، لكن إذا عاد في منتصف الليل، كان يتناول ما هو موجود بنفسه.
في بعض الأحيان، كنت أستيقظ في الصباح لأجد الغرفة فارغة، لكن الأطباق فارغة أيضًا، مما جعلني أشعر وكأنني أطعم حيوانًا بريًا.
ذات مرة، فوجئت عندما وجدت أكثر من نصف كمية البودينغ التي أعددتها في وعاء كبير قد اختفت.
رغم شخصيته، يبدو أن الملازم لديه ميل شديد للحلويات.
منذ ذلك الحين، بدأت أضع الكعك والمافن دائمًا على الطاولة.
كلما رأيته، كان يبدو عليه الإرهاق المتزايد.
كانت الهالات تحت عينيه واضحة، ولون بشرته شاحبًا.
من الواضح أنه لم يكن يحصل على قسط كافٍ من الراحة.
عندما ينام على الأريكة وكأنه ميت، كان يبدو منهكًا لدرجة أنه أحيانًا يتأوه قائلًا: "حار جدًا"، كما لو كان يحلم بشيء سيئ.
لكن، بصفتي رهينة، كان غريبًا أن أشعر بالقلق تجاهه أو أن أهتم به.
كنت فقط أغطيه ببطانية أو أمسح العرق عن جبينه بهدوء.
لم أفعل شيئًا أكثر من ذلك، ولم أقل شيئًا.
عندما يكون مستيقظًا، كان دائمًا مليئًا بالشكوك وغير لطيف، لذا كنت أكتفي بالإجابة على سؤاله الروتيني: "هل هناك شيء غريب؟" بـ"لا، لا شيء".
أما أنا، فكنت أعيش حياتي اليومية بوتيرتي الخاصة.
أنظف، أغسل، وأطهو.
عندما أخرج، كان دائمًا هناك من يراقبني، لكنني لم أكترث لذلك.
أعطاني الملازم بعض المال قائلاً: "استخدمي هذا لشراء الطعام واللوازم المنزلية"، لذا يبدو أنهم كانوا يسمحون لي بالتسوق.
كنت قلقة بشأن والدي، لكن الملازم كان يخبرني عن حاله، لذا حاولت عدم التفكير في الأمر كثيرًا.
والدي ربما كان يعاني، لكنه على الأقل كان بخير، وهذا ما كنت أتمسك به.
كنت أعلم أن هذا الوضع لن يدوم إلى الأبد.
حتى ذلك الوقت الذي تحدث عنه والدي، لم يكن لدي خيار سوى الانتظار بهدوء.
──لكن.
في بعض الأحيان، كان من الصعب كبح شعور القلق المتزايد الذي يراودني فجأة.
***
راودتني فكرة الاتصال بالهاتف مرارًا.
سيكون ذلك بالتأكيد الأسهل.
يكفي أن أخبر والدي بجملة واحدة.
لقد طلبت منه ذلك كثيرًا قبل مغادرتي المنزل، وإذا سمعه الآن، ربما سيشعر بالملل أو يتذكره ويقول: "حسنًا، سأفعل".
بهذا، سأشعر أنا أيضًا بالراحة.
الأمر لا يعدو كونه تافهًا، ومن وجهة نظر الآخرين، مجرد شيء لا أهمية له.
ليس له أي صلة بالمؤامرات التي يبدو أنها تجري داخل الجيش حاليًا.
أي شخص عادي يسمع هذا الحديث سيعتبره جزءًا من محادثة يومية عادية.
ولكن، لهذا السبب تحديدًا، أتردد.
كوني رهينة، إذا اتصلت بوالدي، سيكون من المؤكد أنهم سيشتبهون في الأمر.
هم بلا شك حذرون جدًا من أي اتصال بيني وبين والدي.
ما سأقوله عبر الهاتف، الذي من المحتمل أنه مراقب، سيتم نقله وتحليله من قِبل الملازم، وربما المسؤولين الأعلى منه أيضًا.
كلما كان محتوى الحديث تافهًا، زادت شكوكهم بأنه ربما يحتوي على رموز أو رسائل مشفرة.
وفي حال تسبب ذلك في تعرض والدي للخطر، حتى ولو بنسبة ضئيلة، فلن أسامح نفسي.
عليّ أن أتذكر دائمًا أن تحركاتي مراقبة.
أي تصرف طائش مني قد يسبب مشاكل لوالدي أو للآخرين المحيطين بي.
لذا، التزام الصمت والبقاء ساكنة هو الخيار الأفضل.
ولكن ── ومع ذلك.
ضغطت شفتيّ ونظرت عبر النافذة.
كما قال الملازم، الطقس كان مشمسًا بشكل مستمر مؤخرًا.
لم يكن هناك حتى إشارة إلى سقوط أمطار خفيفة لترطيب الأرض.
……إذا استمر الأمر على هذا الحال، فكل شيء سيذبل.
***
بعد عشرة أيام من الصبر، فقدت تحملي، وقررت ذلك اليوم فتح باب الغرفة.
عندما خرجت من الشقة، كان هناك كالمعتاد رجل يقف في ظل المبنى المقابل، يقرأ صحيفة.
تظاهرت بعدم الالتفات إليه، وتحركت ببطء قدر الإمكان.
بعد قليل، بدأ الرجل بالسير خلفي.
على جانبي الشارع الرئيسي، كانت هناك محلات الحلويات والمخابز ومحلات الأدوات المنزلية ومتاجر الأزياء والحانات والمطاعم، مما خلق جوًا نابضًا بالحياة.
كان الناس يسيرون على الأرصفة الحجرية بوجوه مشرقة مليئة بالحيوية.
وأثناء مراقبتي للمحلات من الخارج، توقفت فجأة أمام متجر معين.
في نافذة العرض الزجاجية، كانت هناك قبعات أنيقة معروضة.
وعلى لافتة خشبية معلقة فوق المدخل، كُتب "متجر القبعات الخاص بمدام تايلور".
رغم صغر المتجر، إلا أنه بدا راقيًا إلى حد ما.
من خلال القبعات المعروضة، رأيت امرأة طويلة القامة تعطي تعليمات لفتاة شابة يبدو أنها تعمل كخياطة.
من المحتمل أن تكون تلك المرأة هي مدام تايلور، مالكة المتجر.
بدت أنيقة وذكية، وطريقة تعاملها مع الفتاة أظهرت شخصيتها القوية والمنظمة.
كانت الفتاة تنظر إليها بثقة واضحة، مما يوحي بعلاقة عمل جيدة بينهما.
تظاهرت بأنني انجذبت فقط للقبعات الجميلة، وتقدمت نحو الباب ببطء، وأمسكت بالمقبض ودخلت.
"مرحبًا بك."
قالت صاحبة المتجر بصوت واثق وابتسمت لي.
رغم أنني كنت زبونة لأول مرة، ولم أكن أبدو وكأنني سأكون زبونة ثرية، إلا أنها لم تظهر أي ازدراء، بل رحبت بي بلطف وسألت: "ما الذي تبحثين عنه؟"
عندها، قررت أن هذه المرأة يمكن الوثوق بها.
خفضت حاجبي وأظهرت تعبيرًا خائفًا.
"آسفة لإزعاجك فجأة، مدام. هل يمكنك مساعدتي؟ في الحقيقة، كان هناك رجل غريب يتبعني منذ فترة."
ضمت يديّ معًا وهززت صوتي وكأنني أطلب المساعدة، مما جعل وجه المرأة الجميل يتلون بالتوتر على الفور.
"تعالي معي."
أمسكت بيدي بسرعة وقادتني إلى داخل المتجر.
في أثناء ذلك، ألقت نظرة حادة خارج نافذة العرض، ورأت الرجل الواقف على الجانب الآخر من الشارع في وضع مشبوه.
"يا له من شخص يبدو مشبوهًا تمامًا!" قالت بغضب واضح.
"من الأفضل أن تهربي من الباب الخلفي. إيلي، خذي هذه الفتاة ووجهيها للخروج."
أومأت الفتاة التي تعمل كخياطة بحماس قائلة: "حسنًا!"، وكانت ملامحها تظهر شغفها بهذه التجربة المثيرة.
لوحت بيدي معتذرة: "أنا آسفة جدًا."
لكن صاحبة المتجر لوحت بيدها بخفة وقالت: "لا بأس، لا تقلقي. سأتعامل مع الباقي. أنا أكره الرجال الذين يتبعون الفتيات بشكل مريب."
ابتسمت إيلي بشكل ساخر وقالت: "يبدو أن الخبرة التي اكتسبتها السيدة من التعامل مع العديد من الرجال سابقًا تظهر الآن."
ضحكت صاحبة المتجر برضا قائلة: "حسنًا، أعرف كيف أتعامل مع الرجال. لذا لا تقلقي."
ثم أخذت تنظر بين القبعات المعروضة، واختارت قبعة زرقاء فاتحة، ومدتها لي قائلة:
"ارتدي هذه القبعة لتخفي ملامحك. لونها يناسب شعرك الأشقر الذي يميل إلى الزرقة قليلًا، كما يتناسب مع ملابسك الحالية. عيناك لامعتان وتجذبان الأنظار، لكنك بشكل عام تتمتعين بمظهر هادئ. لذا، هذا اللون يناسبك تمامًا. إنها جذابة جدًا."
"شكرًا جزيلاً لك..." قلت بخجل وأنا أحاول إخراج المال لدفع ثمن القبعة.
لكنها لوحت بيدها قائلة: "لا حاجة لذلك. أسرعي بالخروج الآن."
دفعتني للخروج من الباب الخلفي بينما سحبتني إيلي من يدي.
قبل أن أخرج، أصررت على إعطاء إيلي ثمن القبعة، مستخدمة أموالي الخاصة بدلاً من الأموال التي أعطاني إياها الملازم.
شعرت بالكثير من الذنب لأنني كنت أخدع هؤلاء الناس الطيبين.
قلت بإخلاص: "شكرًا لك."
ثم ودعتها وركضت بعيدًا.
آمل أن أتمكن من العودة مرة أخرى لأقدم شكري واعتذاري.
---
ولكن عندما اقتربت من المنزل، شعرت فجأة بالإحباط.
بدأت أفكر أن ما أفعله ليس إلا تصرفًا أحمق، وشعرت بالبؤس.
كان الهدف قريبًا، بعد ثلاثة منعطفات فقط.
توقفت ووقفت في مكاني.
فكرت: حتى إذا كان والدي في العمل ولم يكن في المنزل، فهذا لا يعني أنه لا يوجد حراس يراقبون المنزل.
قد يكون هناك من يراقب من أجل زوار مشبوهين.
ماذا سيحدث إذا عدت للمنزل بهذه الطريقة؟
قد تنتهي سلامتي الحالية، وقد يجد والدي نفسه في موقف خطير.
وبحسب المؤامرة الدائرة، قد يكون الخطر أكبر بكثير.
"...".
أطلقت تنهيدة عميقة، وانحنيت بكتفي للأسفل، ثم سمعت فجأة صوتًا خلفي يقول: "أختي شيريل ؟"
قفزت في مكاني والتفت لأجد الصبي توماس يقف هناك، بعينين كبيرتين مستديرتين.
كان يحمل عدة قطع من الخشب الرفيع على كتفه، ربما يساعد والده النجار الماهر.
قال توماس: "ماذا تفعلين هنا؟ الجميع كانوا قلقين لأننا لم نركِ مؤخرًا. حتى أن العقيد بدأ يعود للبيت متأخرًا هذه الأيام."
وضعت يدي على كتف توماس ووضعت إصبعي على شفتي.
فهم توماس الرسالة وأغلق فمه، لكنه نظر إليّ بشك.
"توماس، هل يمكنك إبقاء لقائنا هنا سرًا؟"
"بالطبع. لقد ساعدتني كثيرًا، إذا طلبت مني أن أبقي فمي مغلقًا، سأفعل ذلك حتى أموت."
"شكرًا لك."
فكرت أن من حسن حظي أن ألتقي بهذا الصبي هنا.
ثم سألت بصوت منخفض: "توماس، هل ذهبت إلى منزلي مؤخرًا؟"
أومأ بسرعة وقال: "نعم، عدة مرات. كنت قلقًا عليك. لكن في كل مرة أذهب، لا أجد أحدًا، وكل شيء مغلق بإحكام."
"هل رأيت أي أشخاص غرباء يقفون حول المنزل؟"
"أشخاص غرباء؟"
توماس بدا مذهولًا للحظة، ثم أمال رأسه وكأنه يفكر.
"حسنًا... لم ألاحظ شيئًا. هذه المنطقة بعيدة عن الطريق الرئيسي وهادئة، لذا لو كان هناك أشخاص غرباء يتجولون، لكان ذلك ملفتًا."
"فهمت."
إذاً، يبدو أنهم لم يصلوا إلى منزلي بعد.
"إن أردتِ، يمكنني الذهاب الآن والتحقق."
"لا، هذا غير مسموح."
هززت رأسي بحزم رافضة اقتراحه.
في تلك اللحظة، شعرت بوضوح أنني ارتكبت خطأً فادحًا. لم يكن من المفترض أن آتي هنا بمفردي.
تصرفي الطائش لم يسبب فقط إزعاجًا للأشخاص الطيبين، ولكنه أيضًا عرض أشخاصًا مثل توماس، الذين يهتمون بي، للخطر.
"أنا آسفة، توماس. من فضلك، انسَ أنك رأيتني اليوم، وحاول ألا تقترب من منزلي في المستقبل."
"لماذا؟ ما—"
"أرجوك."
نظر إليّ توماس بعدم رضا بينما ضغطت عليه بنظري الجاد.
"هل أنتِ بخير؟"
"نعم، أنا بخير. لا تقلق بشأني."
ابتسمت له، لكن وجهه بقي متجهمًا.
"توماس، قلت إنك نظرت إلى منزلي من الخارج، أليس كذلك؟"
"نعم، لكن..."
"هل كان يبدو أن الحديقة مهملة؟"
عند سماعه سؤالي، بدا مستغربًا للحظة، ثم أضاء وجهه وكأنه فهم قصدي.
"أوه، صحيح. كنت دائمًا تعتنين بالحديقة بعناية. لا أستطيع القول إنها مهملة تمامًا، لكن الزهور والأشجار لم تكن بحالة جيدة. كانت ذابلة ومنحنية، ربما لأنها تفتقد اهتمامك."
رددت بصوت خافت: "فهمت."
وفي النهاية، لم أذهب إلى المنزل ولم ألقِ نظرة عليه. عدت أدراجي إلى السجن الذي حبست نفسي فيه.
---
كما هو متوقع، تم إبلاغ الملازم بالحادثة على الفور.
عاد إلى شقتي بوجه متجهم، ورآني جالسة بصمت على الأريكة.
"ما الذي كنتِ تفكرين فيه؟" سأل بصوت صارم.
رفعت عيني ببطء ونظرت إليه.
"ما الذي تعنيه؟"
"لا تتظاهري بالبراءة. لقد تخلصتِ من المراقبة واختفيتِ اليوم. أين كنتِ؟ وماذا فعلتِ؟ ومن التقيتِ؟"
بدأت أشعر بالغضب من سيل أسئلته المتتالية. كان صوته يشبه صوت زوج يتهم زوجته بالخيانة.
"لم أذهب لأي مكان. فقط رأيت قبعة جميلة في متجر، ودخلت لشرائها. هل هذا جريمة؟ لو كان مراقبوك قلقين، لكان بإمكانهم الدخول معي. أردت إخبارهم أن قبعاتهم لا تناسبهم."
"هذا ليس ما أقصده. لقد استغللتِ متجر القبعات للهروب."
"هذا اتهام غير عادل. أنا فقط قمت بالتسوق وعدت إلى هنا. هل تريد أن أريك القبعة التي اشتريتها؟ إنها رائعة."
"توقفي عن المزاح!"
"أنا لا أمزح. إذا فقد مراقبتكم لي، فهذا تقصير منكم وليس خطئي. إذا أردت أن تغضب، فلتوجه غضبك إلى رجالك."
عند سماعه كلامي الواضح، ظهر على وجهه تعبير مرير.
"بسببك، تعرض أحد رجالي للإهانة من صاحبة المتجر. أحاط به الناس كأنه مشبوه، وتم استدعاء الشرطة، واضطر إلى الهروب بشق الأنفس."
تبين أن تلك السيدة كانت قوية بالفعل.
رفع الملازم حاجبيه بغضب وهو يتحدث.
"إذا حدثت ضجة بسبب هذا وجذبنا الانتباه بشكل خاطئ، فكل معاناتنا ستذهب سدى. هل تدركين مكانتك؟ لا أعلم ما الذي دفعك للقيام بهذا التصرف الطائش، لكن هل تعلمين كم من الناس سيتضررون بسبب تصرفك؟ أنت ، ووالدك العقيد، وكل من له علاقة بهذه القضية قد يكونون في خطر. إذا فشلنا في خطتنا بسبب هذا—"
"..."
أغلقت شفتي بإحكام، وضممت قبضتي بشدة.
كانت المشاعر القوية التي بدأت تتدفق من أسفل معدتي تسيطر على عقلي وجسدي. كان كل ما كنت قد كتمته طيلة الوقت يوشك الآن على الانفجار بعنف لا يمكن السيطرة عليه.
الخطط، والمؤامرات، والأسرار، والأوامر، والتكتيكات، والسيطرة—كل هذه الأشياء فقط.
لهذا السبب أكره العسكريين.
"إذن..."
وقفت فجأة ونظرت إلى الملازم بتركيز.
توقف عن الكلام، كما لو كان قد دفعه تغيّر ملامحي وصوتي المفاجئ.
"من فضلك، أعطني من وقتك قليلاً غدًا."
"…ماذا؟"
تفاجأ الملازم من طلبي المفاجئ.
"وقت؟"
"لن يتطلب الأمر سوى ساعة واحدة. فقط أعطني هذا الوقت، وسأكون ممتنة. أي وقت يناسبك بين الفجر والمغرب."
"…لماذا؟"
نظر إليّ الملازم بارتباك، فثبت قدمي، ووضعت ذراعيّ عبر صدري، ثم تنهدت بشدة. لم يكن هذا شيئًا تفعله سيدة، لكن في هذه اللحظة لم يعد يهمني ذلك.
"سأحتاجك لتكون معي لمدة ساعة. سأذهب إلى مكان ما وأفعل شيئًا، وستتأكد من كل شيء بعينيك. لأنك إذا استعنت بشخص آخر، ستكون لديك شكوك، كما هي عادةً، ولكن إذا كنت أنت من تراقبني شخصيًا، فلن تكون لديك أي شكوك، أليس كذلك؟"
رفعت قدمي وأطلقت ذراعيّ، ثم وضعت إصبعي السبابة أمام أنفه.
حدق فيّ الملازم بدهشة.
"وأيضًا، إذا كنت تعتبرني زوجتك ولو مؤقتًا، فلا تترك الأمر لأشخاص آخرين، بل يجب عليك مراقبتي بنفسك! هل فهمت؟ قررتُ غدًا، ستكون معي في الخارج!"
"..."
ظل الملازم ينظر إليّ لبرهة، ثم قال بصوت خافت: "…فهمت."
وضع يده على قبعته العسكرية، وأدار رأسه قليلًا وهمس بحيرة:
"كما هو متوقع، ابنة العقيد وارن…"
ثم انفجر ضاحكًا.
---
في اليوم التالي، مع عودته في وقت متأخر من بعد الظهر، خرجت مع الملازم مرة أخرى نحو منزلي.
عندما أخبرته بالوجهة، بدا مترددًا، لكنني وعدته بألا أدخل المنزل، ودخلت عبر البوابة مع شعور بالحنين.
مررنا عبر المدخل ثم اتجهنا نحو الحديقة، حيث حملت طاولة خشبية وكراسي كانت موضوعة في الزاوية، ثم وضعتها في مكان يسمح برؤية الحديقة بأكملها.
"الآن، الملازم، من فضلك اجلس هنا."
لم تكن المسافة كبيرة جدًا، لذا من هذه الزاوية سيشاهدني بوضوح وسيكون قادرًا على مراقبتي بشكل جيد.
"إذاً، ما الذي جئت هنا من أجله؟"
جلس الملازم على الكرسي بعناية، وحرك نظره حوله بحذر وقال:
"ماذا تفعلين هنا؟"
"سأعتني بالحديقة."
"الحديقة؟"
رد الملازم بدهشة، وكان وجهه يعبر عن عدم فهمه لما أقصد.
"سأسقيها، أزيل الأعشاب الضارة، وأقوم بتهوية التربة، وأضيف بعض السماد. يجب عليك مراقبتي عن كثب لترى إن كنت أخفي مستندات سرية في التربة."
بينما كنت أقول هذا، سحبت من سلة الطعام التي جلبتها مفارش بيضاء وضعتها على الطاولة.
ثم بدأت في ترتيب الطعام: فطائر اللحم، والسندويشات، وكعكة الشوكولاتة، بينما كان الملازم يراقب بدهشة وكأنني أؤدي سحرًا.
"…وكأننا في نزهة!"
"أعتقد أنك قد تشعر بالنعاس أثناء المراقبة. لذا قمت بتحضير بعض الأشياء لتبقيك مستيقظًا."
بعد أن انتهيت من الترتيب، أضفت:
"وأعتقد أنك بحاجة إلى بعض السكريات والراحة."
على الرغم من أن الزهور في الحديقة كانت في حالة حرجة، لم تكن قد ماتت تمامًا.
على ما يبدو، كان والدي يرويها رغم عدم خبرته، لكن إن تأخر قليلاً، كانت الأمور ستصبح لا يمكن إصلاحها.
شعرت بالراحة لأن الحديقة التي كانت أمي تهتم بها لم تتحول إلى صحراء قاحلة.
بعد أن انتهيت من العمل وغسلت يديّ، عدت إلى الطاولة حيث كان الملازم في صمت.
لم يلمس الطعام، رغم أنه لم يكن نائمًا.
"لا يوجد سم في الطعام."
أمال رأسه وقال، وهو يرفع يديه:
"كنت أنتظر أن آكله معك، كنت أفكر أنني لا أستطيع مساعدتك في العمل في الحديقة، وأنتِ بالتأكيد ستكونين أسرع."
قال ذلك، وأخذ قطعة من فطيرة اللحم وأخذ قضمة.
ابتسمت له بلطف وقلت:
"شكرًا لك، ملازم."
... بالرغم من كل شيء، لم يوبخني الملازم أو يوقفني عن فعل ما كنت أفعله، بل ظل ينتظر بصمت بينما كنت أرتب الحديقة.
من وجهة نظره كعسكري، كان ذلك يبدو أمرًا تافهًا، ليس له أي أهمية.
تظاهر الملازم بعدم المبالاة وعض فطيرته، ثم نقل نظره إلى الحديقة المليئة بالزهور المتفتحة.
"حديقة رائعة. يمكنك أن تشعر بحماس من كان يهتم بها."
ضحكت بصوت خافت، ونظرت أنا أيضًا إلى الحديقة.
كانت الحشائش الخضراء الممتدة كالسجادة، وفي كل مكان كانت هناك عشباً طرياً من البرسيم، بينما الأزهار البيضاء الصغيرة التي تشبه الرغوة تفوح منها رائحة عسلية حلوة.
كما كانت أزهار الليلك الأرجوانية والأستر الوردية تضيف ألوانًا جميلة، بينما كانت زهرة الهندباء الصفراء تريح العينين.
كانت الورود تتسلق الأقواس، وكانت شجرة الميموزا التي كانت أمي تحبها تزين المكان، جنبًا إلى جنب مع أوراق السرخس ذات الأشكال الفريدة. بالنسبة لي، كانت كل هذه الأشياء جميلة.
حديقة تمثل رمزًا للسعادة.
"… هذه هي الحديقة التي كانت أمي تحبها أكثر من أي شيء آخر."
عند سماع كلماتي، رفع الملازم حاجبه قليلاً.
"لذا لم تستطعِ تركها ؟ لا عجب، بعد تلك المواجهة الحادة التي كانت بينكما. لا بد أن العقيد وارن وأمك الراحلة يشعران بالفخر بكِ، لكونك ابنةً محبةً لوالدتها."
قال ذلك بنبرة ساخرة، ثم هز كتفيه.
أعدت النظر إليه، وفتحت فمي بهدوء.
"هل تعرف، الملازم، لماذا لا يزال والدي يحمل رتبة العقيد؟"
"ماذا؟ هذا مفاجئ!"
أصابته الكلمة في حلقه كما لو كان قد اختنق بفطيرته، ثم تلعثم قليلًا.
"أعلم أن هناك حديثًا عن خرقه للأوامر في الحرب الماضية."
"نعم."
أومأت برأسي.
"لقد كان والدي عسكريًا بارعًا، وحقق الكثير من البطولات في الحرب. ربما كان من الممكن أن يصبح لواء أو حتى عميدًا لو استمر بهذا المعدل. لكن والدي، في تلك الحرب، حصل على شيء غير متوقع."
"شيء غير متوقع؟"
"طفلة."
فتح الملازم عينيه بدهشة. ابتسمت أنا.
"طفلة فقدت والديها في انفجار قنبلة، وكانت تبكي في ساحة المعركة المحترقة. لحسن الحظ، وبسبب ما يمكن أن نسميه لعب القدر، نجت تلك الطفلة، لكن لم يكن هناك أحد ليعرض عليها المساعدة. كانت محاطة بالجثث، وكانت هي الوحيدة على قيد الحياة. لم يكن هناك أحد ليمد لها يد العون أو يسحبها للهروب. كانت الطفلة مستلقية تبكي فقط، ولم تكن قادرة على فعل شيء، لكن والدي لم يستطع تركها هكذا. كان يعرف أنه لو تركها، ستصبح جزءًا من أكوام الجثث الأخرى. لو تجاهلها، لكان ذلك أسهل. لكن بالرغم من ذلك، حملها والدي، وأخذ سلاحه، وقاد رجاله عبر ساحة المعركة ليعود بها إلى معسكرنا. قوبل هذا بفزع شديد."
"لقد صرخوا في وجهه، وضربوه، وكأنهم لا يرحمون، لكن بالرغم من كل ذلك، رفض تنفيذ أمرهم بالتخلي عنها."
واصل، متمسكًا برأيه، على الرغم من المعارضة التي واجهها، وأخذ الطفلة التي لا مأوى لها من أرض المعركة، ثم قام بتربيتها كابنته.
لقد كانت طفلة ضعيفة، هزيلة، وكانت تبكي دائمًا، لكن والدي قدم لها الحب والاهتمام الذي لم يبخل به.
بالطبع، كانت النتيجة أنه أصبح مكروهًا من رفاقه، وأصبح نظرهم له مليئًا بالتشكيك. عند تلك النقطة، أغلق الطريق أمام تقدمه العسكري.
ولكن بالرغم من كل ذلك، كان والدي يقول دائمًا:
"السعادة تأتي من السماء. شيريل، التي وهبتها السماء لنا، هي كنزنا وسعادتنا."
لكن ذلك ليس صحيحًا.
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon