..." عين صمصام"...
– السماء مضطربة .. الأرض كذلك!
أشعر بجبل الهاوية يهتز كأنه قشة في وجه الإعصار!
هذا لم يحدث منذ يوم الدك العظيم!
أقف في أقصى الجنوب المتجمد موطن الشتاء والليل الدائم .. لكني أتصبب عرقاً ..
ما الذي يحدث ؟! هل أطلقت جهنم زفرتها ؟ هل مرت ثلاث آلاف سنة بهذه السرعة ؟!
كلا .. ما زال الوقت مبكراً على ذلك .. لا بد أن أمراً مهولا قد وقع في السماء ..
كنا مجموعة قوامها ستون جنديا وخمس كوارث أتوا لإستلام المنفي الذي سيصل إلى البؤرة بعد قليل، وأنا ..قائد حرس البؤرة، صمصام الأشيب، وهذه هي المرة الأولى التي أشعر فيها بالخوف .. المرة الأولى ولكنها ليست الأخيرة ..
300 عام من الخدمة لم يقاطع صمت واجبنا .. سوى أصوات اصتكاك عظامنا بدروعنا الحديدية .. عند حدوث ذلك كنا نشعل النار لتدفئة أطرافنا ..
اليوم جميعنا حول النار .. لكن الأصوات لم تختف .. والنار لا تجدي نفعاً مع الأطراف الخائفة .. بل تفاقم رجفتها ..
كان علي التفكير بطريقة تمزق رداء الرعب الذي غشينا آنذاك:
– كونوا على أهبة الإستعداد أيها الكسالى،
هكذا صرخت بأعلى صوتي، مستطردا:
سيصل بعد قليل ضيف مهم .. لقد تم إبلاغنا أن المنفي هذه المرة ذو شأن كبير .. ابقوا أعينكم مفتوحة .. لا نريد أن يوبخنا السيد رائيل، أنتم تذكرون ماذا حل بنا أخر مرة.
كان هذا كفيلاً بإزالة التوتر، قليلاً .. وفتح باب الحوارات السخيفة للترويح عن النفس ..
الجميع كان يقهقه ضاحكاً ويستذكر أحداث ذلك اليوم .. عدا خمسة كنت سادسهم ظلوا صامتين .. أعينهم على بؤرة المنفى تترقب وصوله.
لاعجب أن خدعتي لم تنطلِ عليهم .. فهم نخبة النخبة:
"رعد الميموني" سيف الصباح وسيد المبارزة الذي لايشق له غبار، فارس نبيل لديه حس عال بالعدالة يحظى بإحترام الجميع، ممشوق القامة مفتول العضلات وجهه كفلقة القمر .. يرتدي خوذة ذهبية عليها ريشة العنقاء.
"قسورة المتلهجم" مبدد الفيالق .. عملاق ضخم عبوس الوجه صعب المراس لكنه ساذج يسهل خداعه، إذا حمل فأسه فلا شيء يمكنه إيقافه.
"زئبق الضحاك" الأفعى الخبيثة .. كأسمه داهية زئبقي، نحيل البنية واسع الحيلة له ابتسامة خبيثة ولحية عنزة، لا أحبه، لكنه عبقري متقد الذكاء لايضاهيه أحد، يستخدم السلاسل في القتال، يحب تقييد أعدائه واستجوابهم قبل القضاء عليهم.
"سرمد الكروبي" العجوز الأبيض .. كهل معمر مهاب وقور، تزينه لحية بيضاء وحاجبان أشيبان معقوفان كجناحي نسر .. طويل القامة يرتدي درعا أبيضا، ويملك صولجانا مذهبا تتوجه ياقوتة حمراء .. محارب مخضرم ورجل حكيم يعرف الكثير ..
"حسم .." أو كما يلقبه سرمد بـ القعر السحيق .. لا أظنه من نفس جنسنا .. قد يكون من عرق بائد أو سائد .. لا أعرف .. لا نعرف عنه الكثير ..
"سرمد" يرفض الحديث عنه، يكتفي بالصمت إذا ما سألته .. فقط نعرف أن حسم رجل غامض نادراً ما يظهر،، وإذا ظهر فإنه غالباً ما يقضي وقته في النوم والإستلقاء، لايتحدث كثيراً لا أذكر متى آخر مرة سمعت صوته .. له شعر طويل أشد حلكة من الليل، ودرع فيروزي متلألئ وسيف طويل قبضتة مهترئة يطلق عليه اسم (المشيئة)، ويحكى أنه لم يخرج من غمده منذ ألف عام، أو أن من رأى ذلك لم يعش ليروي القصة .. لا أثق به .. عيناه غارقتان في الظلام أشد ظلمة من قاع "البؤرة"، باردتان كصقيع الهاوية .. لقد كان الوحيد الذي لم يبدِ أية علامة للخوف في ذلك اليوم ..
لا أحب متبلدي المشاعر .. لايفاجئهم شيء، يفعلون ما يحلوا لهم، يثيرون اشمئزازي.
نحن الستة فقط من لم يجرفهم سيل الأحاديث الفارغة واخترنا الترقب والصمت عوض ذلك .. أو على الأقل كنا كذلك حتى مزقت ضحكة سرمد الجهورية الدافئة سكون الستة:
– خطوة ذكية ياحضرة القائد .
هكذا استهل سرمد، وأردف مبتسماً:
– لقد أضفتَ لمسة من المرح إلى هذا العرض المرعب يا صمصام، انظر إليهم منغمسين في الأحاديث الطفولية، وكأنهم ليسوا في كابوس مروع .. من الجيد معرفة أن الكثير من الحمقى ما زالوا على قيد الحياة هنا في "البؤرة" .. هذا يدعو للتفاؤل !
والتفت إلى الستين جنديا، وأضاف:
– مشاهدة أشخاص في هذا السن ما زالوا يضحكون ويجهلون، أحسدهم على هذا ..
وعاد بنظره نحونا، وقال:
– من يصدق أن الجهل قد يكون نعمة، ألا تتفق معي يا رعد ؟!
كعادته بعينين عسليتين لامعتين أجاب رعد مبتسما:
– لا أدري أيها الحكيم سرمد .. ربما تكون لي نظرة مغايرة، لا أرى أي حمقى في المشهد .. ما أراه أمامي هم مجموعة رجال سعداء ما زال أمامهم طريق طويل ليقطعوه .. الجهل ليس ما يقف خلف ضحكاتهم بل البساطة أتمنى أن يحافظوا عليها وألا تبتلعهم تعقيدات الحياة !
هزنا صوت قسورة الغليظ مقاطعاً:
– لا أدري ما الذي تهذيان به، فكل ما أراه .. أنهم مجرد أغرار ضعفاء.
سرمد ضاحكاً:
– بالطبع هم كذلك يا قسورة .. بالطبع .. واسترسل في الضحك ..
لقد كنت مشدوهاً برعد ومتيماً بما قاله حتى أنني لم آبه بحديث قسورة وسرمد .. لم أسمعه أساساً .. لقد اختفت كل الأصوات وتلاشى كل الخوف بل تلاشى كل شيء.
"رعد الميموني" إلى جانب كونه من نفس القبيلة التي انحدرتُ منها فهو أيضاً يمثل قدوة لكل محارب، بطل لا تشوبه شائبة .. رعد قائد من النوع الذي تريد أن تهبه حياتك، لا أن تكون مثله .. كلا .. بل تهبه حياتك فقط .. إن كان لي حلم أسعى لتحقيقه فهو القتال إلى جانبه ..أتمنى أن يضمني إلى قواته .. لقد غمرني هذا الرجل، وأصبحت عاجزاً عن الشعور بأحد ..
كنت لحظتها أنا ورعد فقط والأمان الذي يشع من وجهه .. أمان إغتالته ضحكة تشبه فحيح الأفعى بثت القشعريرة في جسدي وأعادتني إلى بؤس البؤرة .. مَن غيره ؟! الداهية الذي يجلس على جذع الشجرة جوار برميل التفاح يحمل في يده تفاحة يتفحص جوانبها وعيناه تعكسان لهيب النار ؟! زئبق الضحاك:
– تششششششششششششش .. يبدو أن هنالك ثلاثة مغفلين لم تتم دعوتهم إلى الحفلة .. تششششششششششششش .
ثم رمقني بنظرة خاطفة واستدرك قائلاً:
– أو ربما أربعة .. تشششششش…
سرمد مبتسماً:
– توقعت ألا تكتفي بالصمت أيها الأفعى.
رعد كان هادئاً كأنه يتوقع ذلك .. وقسورة يزمجر كثور هائج:
– رععععععع .
أما أنا كنت مذعوراً فحسب .. أتساءل عما يقصده هذا الخبيث ..
توقف زئبق عن العبث بالتفاحة، بل أمسكها بكلتي يديه وصوب ناظريه نحو نقطة واحدة فيها وبدأ الحديث كأنه يخاطبها:
– أخبرني أيها العجوز ما الفرق بين الجهل والغباء ؟!
كان حديثه موجها لسرمد لكنه لم يشح بنظره عن ثمرة التفاح .. لم يكن سؤالا ينتظر أية إجابة بل افتتاحية تخفي وراءها طريقة تفكير الدهاة، حين استطرد قائلاً:
– الجهل يعني أنك لا تعرف .. أما الغباء يعني أنك لا تفهم ..
– عدم معرفة الأشياء أمر وعدم فهمها أمر مختلف !
– ضع جاهلاً وغبياً على حافة جرف .. أخبرهما أنهما إن وقعا سيفقدان حياتهما ..
– الجاهل سيشكرك على إخباره، أما الغبي سيطلب منك أن تريه ذلك .. لن يفهم حتى يسقط أحدكما .. وعلى الأرجح ستكون أنت .. فالأغبياء يحبون دفع الأشياء إلى الهاوية ..
الغباء أشد خطراً من الشر يا سرمد، يفترض أنك تعرف هذا .. يمكنك تعليم الجاهل بكل يسر، لكن إفهام الغبي عملية مكلفة ..
الآن ما أراه أمامي ليسو جهلة كما تزعم، بل أغبياء يعرفون حقيقة الموقف لكنهم لايفهمون خطورته .. قائدهم الذي يجلس جوارك كذلك ..
الجنود نتاج القادة .. حفنة الأغبياء هؤلاء صنيعته هو .. يضحكون ويتمازحون بسبب "سهولتهم" لا بساطتهم
هل تريد معرفة الفرق بين السهل والبسيط يا رعد ؟!
وبحركة خاطفة وسريعة غير متوقعة، قام زئبق بإلتقاط تفاحة أخرى من البرميل وقام برميهما بقوة، واحدة صوب وجه حسم والأخرى صوب وجه قسورة، الأمر الذي دفع هذا الأخير إلى إنتزاع فأسه والإندفاع كالإعصار لمهاجمته بغضب .. لكن رعد بحركة رشيقة من سيفه تصدى لفأس قسورة وأوقف الشجار قبل حدوثه .. في المقابل "حسم" لم ترمش له عين حتى .. لقد تفادى التفاحة بكل سلاسة وكأن شيئاً لم يكن.
في تلك الأثناء ارتسمت ابتسامة خبيثة على وجه زئبق الذي كان ينظر مباشرة إلى عيني رعد الذي كان يقف بينه وبين فأس قسورة وقال بصوت منخفض:
– هل رأيت الفرق يا بطل ميمون ؟!
هذا العملاق الذي يقف خلفك رجل سهل يسهل خداعه واستثارة مشاعره .. مثال للغباء ..!
ثمرة تفاح غبية .. هل تستحق كل هذه الجلبة ؟!
بينما المريب الآخر لم يكلف نفسه عناء النظر إليها، لقد تفاداها وعاد لمطالعتنا بإزدراء كعادته ..
حسم رجل بسيط !
أن تكون بسيطا فهذا أمر يتطلب الكثير من الذكاء .. شتان ما بينهما .
ثم ضحك بصوت مرتفع والتفت إلى قسورة مراوغا:
– تششششششششش، هدىء من روعك أيها الضخم، لقد كنت أمازحك .. ضعيف مثلي ليس نداً لك تششششششش.
أجاب قسورة وقد بدا عليه الهدوء:
– طالما أنك اعترفت أنني أقوى منك فسأسامحك .. اررررررر .
هكذا أثبت زئبق وجهة نظره تلك بشكل دراماتيكي مثير ..
حل الصمت والسكون على المكان مجدداً .. وعاد الجميع إلى أماكنهم .. واسترسل زئبق في الحديث قائلاً:
– رائع .. يبدو أن الخوف والتوجس عادا ليتسيدا المشهد!
انظروا إليهم .. من سيصدق أن حفلة صاخبة كانت قائمة في هذا المأتم قبيل لحظات ؟!
يضع يديه المتشابكتين أمام فمه ويضيف:
– حسنٌ الآن، ألا تجد هذا غريباً يا سرمد ..عدد الأرقام القياسية التي نحصدها هنا ؟!
سرمد ينصت مبتسماً .. وزئبق يكمل قائلاً:
– أول مرة لايتم فيها الكشف عن هوية المدان .. أول حكم إدانة متوج بختم الرجم.
هل نصنع التاريخ هنا أم ماذا!؟
تشششش .. رجيم…!!!
هذا كل ما تم إخبارنا به!
أتسائل عم اقترفه هذا البائس ؟!
لا شك أنه سيد الشرور على مر العصور!
مجرد مشاهدة خمس كوارث تنتظر في البورة .. يا إلهي!
هذا يوحي أن الوافد جبار منيع ..
وأشار اليّ مستدركا:
– لكن بمجرد التمعن بالنظر ورؤية هذا الغر الغبي ورفاقه الستين معنا يصبح المشهد غير مفهوم ..
وتبدأ في التساؤل .. ماذا يفعل هنا .. أم ماذا نفعل نحن ؟!
وعاد ليتهكم قائلا:
ألم يكن من المنطقي أكثر أن يرافقنا سيد إقليم الهاوية كالعادة .. والقائد الأعلى لحرس البؤرة "رائيل الحصاد" ؟!!
هنالك أمر لست أفهمه .. ينتابني شعور سيء حيال هذا!
كنت أستشيط غضباً لحظتها .. لم أتمكن من تمالك أعصابي، صرخت قائلاً:
– ما الذي تهذي به أيها المغرور .. من تصفهم بالأغبياء هم محاربون أشاوس يضعون حياتهم على المحك لتأدية واجبهم .. وأنا لست غرا غبيا يا صاحب لحية الماعز القبيحة .. أنا صمصام الأشيب الميموني .. تذكر هذا الإسم جيداً أيها الغبي .. صمصام الأشيب .. تذكره!
كنت أرتجف خوفاً وغضباً في نفس الوقت .. شعرت وكأن عروقي ستنفجر .. بل لقد انفجرت كنيزك متقد، و أطلقت صرخة أيقظت منكب الجوزاء من سباته ..
لكن هذا الحقير لم يعبأ بي أطلاقاً .. لم يبد أية ردة فعل، استمر في الصمت والتحديق في يديه .. كل ماسمعته بعد ذلك هو عواء أنفاسي، وضحكة سرمد المهيبة الذي رد على زئبق قائلاً:
– قد يبدو غراً غبياً في الواقع .. لكنه جريء ويملك قلب محارب شجاع ..
والتفت نحوي:
– مذهل أيها الفتى ها ها ها .
واسترسل:
– مع هذا .. لا أخفي حقيقة أنني أتفق معك يا زئبق .. هذا المشهد غير مفهوم .. غير منطقي .. يدعو للغرابة .. ربما هو "إختبار"!
زئبق مقاطعاً وهو يشير نحوي مستغربا:
– له .. ؟!
أهو اختبار له .. ؟!
هذا ما تعنيه أيها العجوز ؟!
سرمد مبتسما:
– أو لك .. أو لي .. أو ربما للعنكبوت التي تحيك شباكها على جذع الشجرة التي تجلس عليها ..
من يدري ؟! أنصت جيداً يا زئبق الجميع تحت الإختبار والجميع هم الاختبار ذاته .. إن لم تكن داخل دائرة الحكمة فستحيط بك دائرة المكر، لا أحد في مأمن ..
خيم صمت تام على المكان .. الجميع كان يفكر بعمق فيما قاله سرمد، لقد كانت كلمات ثقيلة تختزل عصارة 7 آلاف عام من التجارب .. يبدو أن هذا العجوز قد خاض الكثير!
لم يحرك أحد ساكنا أو ينبس ببنت شفه .. عدا ذلك الرجل المستلقي هناك .. القعر السحيق .. حسم الغامض حرك سكونه بثلاث خطوات؛ وقف على قدميه وامتشق سيفه وصوب ناظريه نحو البؤرة وكأنه يستعد لحدوث أمر ما .. ومزق سكوته بست كلمات قصيرة لا أكثر تعقيبا على سرمد:
– أو ربما هو أمر كان مفعولا.
لم يتسن لي التفكير فيما قاله، فقد حدث أمر غير متوقع لحظتها، توهجت السماء ضوءاً أحمر أضاء ظلمة الهاوية، كرة نار مشتعلة تتجه إلينا ..
– هل هذه الشمس !
كلا .. الشمس لاتطلع على هذا المكان، ماهذا الذي أراه ؟! هل سيشرق النهار على البؤرة أخيرا ؟! أم أنه الليل سيخيم على بقية العالم .. ؟! ياعفو الله .. ما الذي يحدث ؟!
كان آخر شيء رأيته هم الخمسة وهم متأهبين حول البؤرة كل في مكانه وموضعه .. ثم حدث الإنفجار .. كان مهولاً، قذفت أنا و جنودي إلى بداية المنحدر الشرقي .. فقدت أربعة عشر جنديا في تلك الليلة بالإضافة إلى وعيي الذي استعدته فور اصطدامي بإحدى الصخور .. كان هذا قوياً وسريعاً .. لم أكن أرى إلا الظلمة:
– أشعر بالدوار .. طنين مزعج لا يغادر أذني .. أطرافي خائرة ..
أين أنا .. ماذا أفعل هنا .. هل أحلم ؟!
كلا .. أنا في البؤرة .. هل هذا مرسوم بإحضار مدان سيصل إلى هنا ؟!
لقد وصل !!
يا إلهي .. هل كل هذا بفعله ؟!
علي العودة !
توكأت على سيفي .. استجمعت قواي .. وعدت سائراً إلى قاع البؤرة .. لم تكن بعيدة .. في حالتي هذه سأستغرق خمس دقائق للوصول .. قطعت تلك المسافة .. كان الظلام حالكاً أشد من المعتاد، لم تكن هنالك أية نيران مشتعلة .. فقط رائحة حريق بلا نار هذا ما كنت أشمه ..
بدأت تضاريس وملامح القاع تتضح أمامي .. لم أر أياً من الخمسة من تلك المسافة التي تفصلني عنهم ..كنت على رابية قريبة .. أرى صحن البؤرة .. تتوسطه نقطتان حمراوان كأنهما جمرتان شديدتا الوضوح
– هل تلك عينان، هل يعقل هذا ؟
واصلت تقدمي شيئاً فشيئاً .. بدأت أجساد الخمسة تتضح أمامي:
– نعم إنهما عينان .. كلا بل حفرتان تقذفان شرراً ونارا .. هل هذا الذي كنا ننتظره ؟
أصبحت على مقربة منهم .. لم يلحظوا ذلك، لكنني كنت أرى ملامحهم جيداً .. أرى كل شيء بدقة .. حسم ترتسم عليه ملامح الغضب والإنفعال .. يمسك سيفه بقوة وكأن شيئا ما يمنعه من إستلاله! قسورة كان مذعوراً بشدة .. عيناه تظهران ذلك .. زئبق يقف متسمراً من الدهشة .. سرمد .. سرمد لم أعرف ماهي الملامح التي على وجهه .. لم أرَ شيئا كهذا من قبل .. أما رعد .. مثلي الأعلى، كان جاثياً على ركبتيه مصعوقا مما يرى!
وأما ذلك الشيء، فقد كان جسداً يميل إلى الحمرة عليه ملابس محترقة يظهر أنها ملكية، من الواضح أنه ذو شأن عظيم .. أو على الأصح كان يوماً ما كذلك!
لم يسعني فهم شيء .. لكنني سمعت رعد آنذاك وهو يقول بصوت متقطع ومتردد مخاطباً صاحب الجسد الأحمر:
– سم .. سموو .. سموووك ..ماذا حل بجناحيك .. لماذا تاجك مكسور .. أين صولجانك ؟! ما الذي تفعله هنا في البؤرة ؟! لماذا على كتفك الأيسر وسم رجيم ؟!
مهلاً .. مهلا .. هل هو أنت .. أنت من كنا ننتظره ؟! هذا لا يعقل، لايمكنني تصديق عينيّ !
ليرد عليه ذلك الوافد بإستخفاف وازدراء بصوت يشبه فرقعة حطب محترق:
– اممممممم .. ما الذي أراه أمامي ؟!
ميموني وكروبي ومتلهجم وضحاك وهذا الغريب الذي يتعطش لقتلي لكنه لا يجروء على ذلك "مشيرا إلى حسم" ..
يسعدني رؤية بعض من ممالك الجن يعملن تحت راية واحدة .. ويؤسفني أن ذلك لن يدوم طويلاً ..
أتساءل عن مصير الأخريات، لم لم يبعثن كوارثهن لإستقبالي .. هل هذه إهانة لي أم ماذا ؟!
يتدخل سرمد قائلاً:
– لسنا هنا لإستقبالك، بل لإقتيادك أيها الرجيم،
ليرد فوراً:
– بل لإستقبالي .. ستثبت الأيام هذا،
قالها وهو يقهقه، فصرخ سرمد متجاهلاً إياه:
– زئبق قم بتقييده فوراً ..
قسورة خذه إلى زنزانة الإنتظار وتولى مهمة حراسته .. حسم .. هذا يكفي، هذا أمر فوق مستوى "مشيئتك" ..
أما أنت يا رعد فيستحسن أن تعود لرشدك وتتوقف عن التصرف كأحمق.
جميعكم .. عدا قسورة الذي سيحرس القفص، اتبعوني لنرى ما نحن فاعلون.
امتثلوا جميعهم لأوامر سرمد وذهبوا وراءه دون أن ينطقوا بحرف واحد .. الجميع، عدا حسم الذي ظل يردد:
– أمر كان مفعولا .. أمر كان مفعولا ..
أنا لم أكن مدعوا إلى الإجتماع بالطبع .. لقد تجاوزوني متجاهلين وجلسوا على يسار شجرة "الزيتون المباركة" ..
وعلى أقصى الميمنة كان يقف قسورة أمام زنزانة الإنتظار، التي كانت عبارة عن تجويف صخري تسد مدخله قضبانٌ حديدية، والمدان الرجيم كان جالساً بداخلها، يسند ظهره إلى الجدار بساق ممدودة والأخرى مثنية يضع يده اليمنى على ركبته وينظر إلى الأفق بإبتسامة خبيثة ومخيفة لم تغادر وجهه منذ وصوله !
يقال أن "كل الوجوه جميلة عندما تبتسم" .. لاتصدقوا ذلك .. ليس هنالك ماهو أشد رعبا من مسخ متوحش إلا مسخ متوحش يبتسم .. لكنه لم يكن مسخا أو هكذا اعتقدت حينها، بيد أنه بدا متوحشا .. ويبتسم، تساءلت:
– هل كان مكبلا بالقيود أم أنها القيود مكبلة به ؟! محتجزا في المكان أم هو يحتجز المكان ؟!
وماخطب تاجه المكسور المائل ؟! لقد زاده رهبة وسطوة .. إن كان يملك شيئا يفوق رعبه ورهبته فهي جاذبيته!
بقدر مايخيفني إلا أن هنالك أمرا يجذبني إليه .. لم أشاهد شخصا مثله قط ..
اووه .. سحقاً .. لقد تذكرت جنودي الذين قذفوا .. علي البحث عنهم .. هل هم بخير ياترى ؟!
ذهبت للبحث في الجوار .. قضيت بعض الوقت .. وجدت 46 من أصل 60، فقدت أربعة عشر جنديا .. لم أجد لهم أي أثر، لا أطراف، لا جثامين، لا أغراض تخصهم، لا شيء! لقد أصبحوا قصة شهيرة و أغنية يرددها ويتناقلها جن الجبال والمغارات إلى اليوم:
...(أربعة عشر مفقوداً بلعتهم ظلال الهاوية .....
...كانوا رجالا أقوياء تركوا الأماكن خاوية)...
لو كنت بشرياً تعيش على مقربة من جبل أو مغارة اليوم، ستسمعها تتردد بين دهاليز المكان إن أنصت جيداً ...لايهم ..
في الأخير .. وجدت من تبقى لم أكن أملك الوقت الكافي للحزن على الأربعة عشر .. تأكدت من سلامة ال46، وعدنا أدراجنا معاً .. سلكنا الطريق القريب من زنزانة الإحتجاز ..
قسورة لم يكن في مكانه، بل يجلس مع الكوارث هناك .. كنت أشعر بضغط الهواء المنبعث من جهتهم .. التوتر كان ظاهرا عليهم .. كانوا يتجادلون .. كان هذا واضحا .. لكني لم أكن أسمع شيئاً، فقط رأيت حسم ينهض من مكانه ويغادر، اختفى خلف الأشجار والصخور، لقد ذهب!
غادرت كارثة .. تبقت أربع!
أمرت الجنود بأخذ قسط من الراحة في ثكناتهم .. وتوجهت صوب الزنزانة .. كان لابد لي من النظر إليه عن قرب .. ومعرفة هويته .. لا أنكر أنني صرت معجبا به .. ولم لا فقد جثم رعد على ركبتيه في حضرته ..؟
وصلت إلى باب الزنزانة .. وقفت أمامها ونظرت إليه مباشرة .. لقد كان كما رأيته لأول وهلة .. نفس الوضعية .. نفس الإبتسامة ونفس الهالة المرعبة الساحرة .. لقد كان ينظر إلى عيني مباشرة لكنه لم يكن يراني .. بل يخترقني .. يخترق كل شيء في مدى رؤيته ..
هل قلت أن النظر في أعين الخمسة كان مرعباً ؟! انسوا ذلك .. الرعب الحقيقي هو هذا ..!
وبصرامة ممزوجة بنكهة الخوف قلت له:
– مم .. ممن .. ممن أنت أيها المحكوم المدان بالرجم من تكون، أجب؟
وكأن نظره عاد من بعيييييد واصبح يراني و ينظر إلي .. رد بصوت كأنه نغمة على وتر كمان يكاد أن ينقطع:
– اممممم، ماذا قلت أيها الضئيل .. من أنا ؟
هل تعني اسمي أم ماهيتي ؟ من كنت، أم من أكون، أم من سأكون ؟
إختر اسئلتك بعناية أيها الفتى الساذج .. ما الذي تريد معرفته ..
من كنت ؟! ..
كنت الزاهد العابد الراكع الساجد الشكور الجسور الصبور الوقور، من صلى لله سبعة آلاف عام في ركعتين، ومن كرمه الله على سائر خلقه مرتين، مرة في الأرض على العباد الهالكة، ومرة في السماء على جناب الملائكة، الطاووس والفانوس وناحت مفتاح الفردوس، ضفة الأمان وجواب الإمتحان والربان وذروة عرق الجان، أنا سيد الجن ونبراسهم وملكهم وأساسهم ووجيههم وكراسهم، من منحه الله منزلة الملاك، البهي السني السخي عزازيل الناسك! هكذا كنت ..
أما من أكون اليوم؟ .. فأنا صاحب الطبل العظيم .. والاسم السقيم قعر دركات الجحيم .. حامل الراية المنهزمة .. نافث الخلافات المحتدمة .. حطب النار المضطرمة .. المغرور المتكبر اللعين السجين .. الهاوي إلى أسفل الدرجات .. الشيطان ابليس أول أقطاب الصراع وآخر أعداء الحقبة .
أما من سأكون؟ .. فأنا هاتك الحرمات مبيح المحرمات مقسم المقسمات، ترس الحومات، سيد الشر وعدو الجن والبشر، خصيم الأرض والسماء وتيار شلال الدماء، ضغينة مئة ألف عام وممزق ميثاق السلام وركام أكوام الحطام والحقد العتيق واللؤم العميق والشر الطليق، الوسواس الخناس وسيد شياطين كل الأجناس ملك الشرور المطلق إبليس الثائر ...
كنت مصعوقاَ من هول ماسمعت .. هل هذا هو العظيم عزازيل ؟ .. هذا من تروى عنه القصص ؟ .. وتتفاخر به كل أمم الجن .. هل أقف أمام الملك الأخضر عزازيل؟ ؟!! لقد كان ينظر إلى عيني مباشرة في تلك اللحظة .. شعرت به يخنس إلى أعماق روحي، وأردف سائلاً:
– وأنت أخبرني عن اسمك أيها الشيطان؟
بحنق تساءلت في نفسي:
– شيطان ؟!! ما الذي يقوله ؟!!
ورددت بإنزعاج وخوف:
– لست شيطاناً .. أنا الجني صمصام الأشيب حارس البؤرة!
قاطعني ببرود وثقة:
– لم تعد كذلك .. يجدر بك البحث عن اسم آخر يناسب شيطان مثلك ..
أجبته بتوتر وحيرة:
– ما الذي تهذي به، أنا جني فخور أخدم وأعبد الله وحده، كف عن الالاعيب السخيفة!
رد بنبرة حازمة:
– لست أهذي، لقد أخبرني الذي لا يكذب ولا يخلف ولا يبدل قولا بذلك !
أجبته مستهجناً:
– لا أعرف ما الذي تهلوس به أيها ال ...
اختنقت بالكلام في تلك اللحظة التي اندفع ابليس بإتجاهي كالبرق حتى التصق وجهه بوجهي، لم تكن تفصلنا إلا القضبان الحديدية .. كانت عيناه قد ابتلعتا نصف وجهه .. سوداوتان مظلمتان يسيل منهما صديد .. أما ناباه البنيان الداكنان كانا مغروزين في شفاهه السفلى كأنهن ظفرا غولة كافرة في أحشاء خنزير .. ولعابه يسيل على ذقنه .. كلا .. لم يكن لعاباً بل دما أحمرا .. تنبعث منه رائحة اللحم المتعفن، ويفح كالأفعى الهائجة قائلاً:
– أخبرتك .. أنها ليست هلوسة أيها التابع الحقير!
سقطت مذعوراً وصرخت:
– النجدة !
لحظتها شعرت بقدوم الكوارث ووقوفهم بجانبي .. كنت أرى خيالاتهم .. لكنني كنت عاجزاً عن الإلتفات والحركة .. تسمرت على الأرض مكاني .. وشعرت بروحي تغادر جسدي ...بينما كنت أنظر إلى إبليس وهو يعود إلى هيئته السابقة مبتسما .. الرؤية تصبح ضبابية .. فقدت الإحساس بنفسي:
– هل سأموت .. هل هو الموت ؟! أيعقل أن أموت فزعا ؟!
كل شيء أصبح أسودا الآن .. لكنه أقل سواداً مما شهدته قبل قليل!
لا أرى .. لا أسمع .. لا أشعر .. لا أشم شيئا .. كان جسدي ملقى على الأرض، هذا آخر شيء شعرت به.
" عين رعد" [ بلسان رعد ]
أنفاسي ثقيلة .. العبء أثقل .. أشعر أنني أغرق .. المكان مظلم، بارد، جاحد !،
إلى أين يجب أن أتجه .. أين سبيل النجاة ؟!! لا أعلم أين هي الإتجاهات .. ! كلها تشير إلى الأسفل، إلى القاع .. إلى الضياع .. إلى المجهول .. إلى المهول !
أين أنا .. كيف وصلت إلى هنا ؟!
النجدة،، فليلتقطني أحدكم ..
النجدددة أنا أهوي ..
النجدة،،
ألا يسمعني أحد ؟!
سحقاً .. أتوسل إليكم: ساعدوني .. النجدددددددددددددددددددددددددددة
أطلقت صيحة الحشر ! أو تهيأ لي أنني فعلت .. لكن لِمَ لم يحضر أحد ؟!
– مهلا…. أتراني أخطأت وأطلقت نقيضتها ..هل هم خامدون ؟!
كلا .. كلا .. هذا أمر مستبعد!
فحتى أنا كنت عاجزا عن سماع أي شيء !
فمهما صرخت .. لا أسمع أي شيء.!
لا حشرجة .. لا أنفاس منهكة .. لا نبرة أخرجها ..
و لا صدى يعود إلي ..
لا صوت لضميري .. ولا أزيز لشياطيني!
الصمت هو المهيمن!
أحب الهدوء .. من لا يحبه؟ يتيح لنا تصفية أذهاننا ! لكن الصمت المطبق مخيف!
ليس ثمة أسوأ من أن تكون محاطا بالحمقى وبؤس الحياة الصاخب، إلا أن تكون محاطا بك أنت واللاشيء .. من يظن أن الوحدة أمرٌ جيدٌ، لم يفكر بعد في شكلها المطلق!
أن تكون لوحدك في الفراغ .. لا شيء يصحبك، لا أفكارك .. لا اذكارك .. لا رغباتك .. لا صلواتك ..لا مادتك .. لا ارادتك .. لا صفاتك ..لا علمك .. لا جهلك .. لا مهلك ..لا عجلتك .. لا اسمك .. لا رسمك .. لا حِلمك .. لا هوسك .. ولا نفسك التي اعتدت الحديث إليها .. لا شيء عداك ! أنت فقط .. و العدم المطلق .. أليس هذا مخيفاً ؟!
– أوافقك الرأي .. وحقيقة أننا نقف عاجزين عن تخيل واستيعاب ذلك تجعل منه أكثر إخافة حتى! فمجرد التفكير في العدم ينفي عدميته ! ومجرد تخيل اللاشيء يصنع منه شيئاً !
هكذا قاطعني صوت غريب لم اسمعه من قبل .. وكرضيع استيقظ، فجأة، ليجد نفسه في الخمسين بعد الثلاثمائة .. صعقت متبلداً، لا أدري أيهما أشد وطأة: ما سمعته، أم كوني سمعته ؟! ؟!
– ما هذا .. صوت من يكون .. مايكون .. ماهو .. ؟!!
أيعقل أن ثمة شيئاً لا أعرفه يعيش بداخلي ؟!
كنت أصارع عبث التساؤلات ومحاولاً فهم مايجري، قلت:
– ممممم .. ممممهلاً .. ممن ..!!!
لكنه أزهق حياة محاولتي مقاطعاً:
– اخرس واستمع إلي جيداً !!
لن تعي أبداً حقيقة الوحدانية إن لم تعِ حقيقة العدم!
ألا يبعث هذا على الشعور بالرهبانية والخشية ؟
أن تدرك أمراً لايسعك إستيعابه ؟!
من كان يظن أن الصفر والواحد بهذه الإستحالة ؟!
يمكنك أن تكون بمفردك لوقت طويل لكنك لن تكون لوحدك طرفة عين،
سيظل هنالك شيء ما، أمر ما، أحد ما، يرافقك أينما ذهبت.
حتى وأنت في غياهب ظلماتك أيها الغريب، ثمة أشياء ستصاحبك على الدوام!
الظلمة .. الخوف .. البؤس .. وأنا!!
لم أكن أرَ شيئاً سوى الظلام، لم يكن للصوت اتجاه معين .. بدا وكأن الظلمات نفسها تتحدث! كنت أصغي، لكنه ليس كصوت عادي أقوم بسماعه بأذني .. كلا بل كان أمرا يجبرني على الإصغاء له بحواسي الخمس مجتمعة .. ومخاطباً إياه بها مجتمعة أيضاً سألته:
من أنت إذاً، وماذا تفعل في الداخل ؟!
ليرد قائلاً:
– هذا سؤال يفترض بي أن أوجهه لك، أنت من يقف على العتبة، أما أنا كنت في الداخل منذ البداية .. لذا فلتجبني بدورك، من أنت أيها الغريب الطارق ؟!
على أمل أن يخبرني عن هويته، أجبت:
– أنا رعد الميموني.
ليرد نافياً:
– هذا اسم أطلقه عليك والدك ولقب اكتسبته من قبيلتك!
هذا لست أنت، غبي مثلك لايعرف بعد من يكون .. ما الذي أتى به إلى هنا ؟!
لم أكن أعلم أن سؤالا مثل هذا قد يحمل في طياته لغزا محيرا! تساءلت في نفسي:
– من أنا فعلاً .. ؟! ماخطب العمق اللامتناهي للصفر والواحد أيضاً .. ؟! ما الذي أقحمت فيه ؟!
يا إلهي!!
صرخت باكياً:
– بحق الواحد الأحد الذي خلق الصفر والعدم ثم خلق كل شيء منهما، فلتخبرني من أنت وما الذي أفعله هنا ؟!
ليجيب هادئاً كعادته:
– أنا البرزخ الذي يفصلك عن الوحدانية! أنا السقف المضيء والقاع المظلم، أنا العرفان والجنون!! أنا العالم المكنون في الأعماق السحيقة ..
أنصت أيها الغريب التائه .. قد تفقد الكثير في حياتك .. أمك إن خذلك الدواء .. ثقتك إن خذلتك الظروف .. شقيقك إن خذلتك الحرب .. أصدقاؤك كذلك .. لكنك لن تفقد "نفسك" إلا إن خذلك إيمانك! ويبدو أنك خذلت وقذف بك إلى هنا.
هذا مايحدث عندما تؤمن بمن لايرقى، وتكرس حياتك لمن لايستحق، وتعقد آمالك على قشة وتقوم بقطع المسافات، ظناً منك أنك على الطريق .. لكنك غريق، و سهم بوصلتك لم يكن إلا حد مقصلتك، وسمو منزلتك لم يكن إلا حلقات سلسلتك التي ستجرك إلى قعر الجحيم!
سكتَ لبرهة .. واستأنف قائلا:
– لقد داهمك بلا شك ذلك الإحساس الثقيل بالخجل من نفسك، ما دفعك إلى لومها وشتمها والسخرية منها معتقداً أن النكات ستفي بالغرض .. لكنها لم تفعل، الأمر الذي أرغمك على كرهها وبغضها ثم إضاعتها، لينتهي بك الحال تطرق بابي لا تعرف ما تريد!
اسمع .. هل فقدت والدتك ؟! .. ليس بعد ؟!
ستفقدها .. ولن ينسيك ألم ذلك إلا ألم فقدان نفسك كما لن ينسيك ألم فقدان نفسك إلا ألم فقداني ..
يحدث ذلك إن خذلت أنت إيمانك، إياك أن تفعلها، فما أن أضيع لايمكن أن أعود!
كان هذا آخر ماسمعته منه .. ثم شعرت به يبعدني .. يعيدني إلى السطح، ويدفعني إلى الخارج ..
عادة مانجلس مع أنفسنا .. نادراً ما نجلس مع الجنون .. مطلقاً ما نكون لوحدنا، إن بداخل كل شخص منا عالما مدهشا لانعرف عنه شيئاً.
شيئا فشيئا عدت إلى جسدي الذي كان يجلس مطفأ تحت الشجرة، بدأت استمع إلى الأصوات المحيطة بي وأرى شجرة الزيتون و سرمد وزئبق وقسورة وحسم على الطاولة التي نجلس عليها .. لم أكن أعرف أي حديث يدور .. فقد كنت في رحلة بحث عن نفسي التائهة إنتهت بإيجاد ما هو أشد وأكثر قيمة منها .. وهذا ما أعرفه الآن ..!!
– لا أدري ما الذي اتفق عليه هؤلاء الأربعة من حولي!
لايهم .. فقد سبق وأن اتخذت القرار .. لقد آمنت بعزازيل وكرست حياتي لأجله، وفقدت نفسي بسببه .. الآن سأرسله للجحيم للبحث عنها .. و لن أؤمن بعد الآن إلا بمن لايخذلني .. الواحد الأحد، خالقي وخالق عزازيل !
نهض حينها "حسم" بهدوء وغادر،
– لم يعد لدي ما أفعله"
هذا كل ماقاله قبل الرحيل .. رحلت كارثة وتبقت أربع .. قال زئبق:
– لقد غادر المريب كعادته .. لا عجب أن سجله خال من الهزائم، كيف يهزم رجل لم يخض أي معركة ؟!
قاطعه سرمد:
– هذا ليس وقت الأحاديث الجانبية .. ستصلنا تعليمات النقل عما قريب، علينا أن نكون في أتم الإستعداد ..
كانت تلك هذرمة الصخب ليس إلا .. تمتمت:
– من يهتم بإجراءات النقل إذا كان الطرد هو عزازيل نفسه ؟! ألا يعي أحد غيري حجم الحدث ؟!
التفت لأجد قسورة بيننا، وبذهول صرخت:
– مهلاً ماذا يفعل قسورة هنا ؟! من يتولى حراسة المدان ؟!
وقبل أن أتلقى أية إجابة، سمعت صراخ صمصام آت من اتجاه الزنزانة:
– النججججججججججدة
ليس ثمة أسرع من الضوء إلا صوت صرخة خائف .. ودون أي تردد .. انطلقت كريشة برق خاطف، لايسعني التأخر عن شخص خائف .. ربما هذا ما يميزني، إن كان ثمة من يستنجد فأنا سأظهر أمامه وإن أجبرت على مجابهة التنين.
كنت أول الواصلين، ولذلك تمكنت من اللحاق بآخر لحظة قبل أن يخفي عزازيل وجهه الحقيقي المشوه المقزز .. كلا ليس عزازيل .. بل المسخ القبيح الذي تم رجمه .. لحق بي البقية بلحظة هي أقل من أن تحسب!
صمصام المسكين كان ملقى على الأرض كجثة هامدة، أما أنا فقد كان البرق يلمع في عيني منبئاً عن استعدادي لتوجيه ضربة قاضية ! هذه فرصتي .. سأقسمه إلى نصفين هو والجبل الذي وراءه .. سأنهي كل شيء هنا وحالاً ..
إتخذت وضعية القتل، أمسكت بقبضة سيفي، لم تكن يدي وحدها على المقبض .. يد سرمد أيضا كانت ممسكة به، منعتني من إستلاله .. قلت بحزم:
– ابتعد يا سرمد .. هذا لم يعد عزازيل الذي نعرفه.
أجاب:
– أعرف ذلك، ولكن هذا ليس ما دفعني إلى منعك
أنا مستغربا:
– ما الذي تعنيه ؟
سرمد وهو يشيح بنظره إلى الأعلى:
– أنظر !!
وجهت نظري إلى حيث أشار سرمد .. كان ثمة كيان غريب أول مرة أشاهده .. لكنه قوي يفوق كل شيء عرفته وشهدته، مجرد النظر إليه أجبرني على العزوف عن رغبتي ..هدأت قليلاً ..
سرمد بمحاذاتي أرخى قبضته، لقد مرت العاصفة .. قسورة وزئبق يقفان خلفي .. العملاق مضطرب، أنفاسه التي تعبث بريشة الخوذة تظهر ذلك، الأفعى هادىء .. على غير العادة .. لكن إن كان هنالك من يمثل الهدوء التام فهو صمصام! الذي لا تظهر عليه أية علامة للحياة.
أما عزازيل المسخ الرجيم، يقف في الداخل يطالعني وعلى وجهه إبتسامة شر ما لبثت أن أصبحت ضحكة هيستيرية، وبشهقات ضاحكة تحدث ساخراً يخاطبني:
– هذا مثير للإهتمام، ألم تكن منذ برهة جاثماً على ركبتيك، مرتعداً عاجزاً عن الوقوف أمامي، وباكياً كطفل صغير أضاع والدته ؟!
ما الذي حدث إذاً .. هل وجدتها ؟! أخبرني أين هي ؟! هل هو هذا العجوز "مشيراً لسرمد" .. أم هو العملاق الذي خلفك "يقصد قسورة" .. كلا، لا تقل ذلك!! هل هو القبيح ذو لحية الماعز، يا لزفرة جهنم .. هذا أسوأ بكثير من إضاعتها، تخلص منها فوراً يا فتى!
ثم ضحك بهستيرية وانحنى ممسكاً على بطنه بإحدى يديه وضارباً بالأخرى القضبان الحديدية مصاباً بنوبة ضحك مردداً:
– يا لزفرة جهنم .. هاهاها سيغمى علي ها ها ها!!
هل سبق وأن رأيتم طفلا شقيا في مأتم عزاء؟ هكذا كان يبدو المشهد، جميعنا صامتون، وهو يقهقه ضاحكاً بجنون! .. توقف لوهلة واستقام بجسده .. و بينما هو يمسح لعابه ودموعه سألنا مستغرباً:
– لم أنتم بغاية الجدية .. هل النكتة سيئة؟
ثم رمق صمصام وأكمل:
– أوه، لقد فهمت الآن .. هذه هي إذاً .. هذا يفسر التجهم والحزن على وجوهكم، سامحوني على فظاظتي لقد نسيت أمره تماماً .. ما كنت لأهزأ أو أسخر من أحد قد تعرض لمكروه .. قد أكون منفياً لكني لست شيطاناً كما تعتقدون!
كانت معرفة الكذوب سهلة بالنسبة لنا، نبضات قلبه، نبرة صوته، حركة عينيه، إتساع بؤبؤيه، والكثير من العلامات التي لايمكن لأي كائن إخفاءها .. لم يكن لأي كذبة أن تمر علينا دون أن نلحظ! ما كنا لنصبح كوارث إن أمكن ذلك .. بيد أن هذا لم يكن يبدِي أية علامة على الكذب!! كان صادقاً أكثر من أي أحد قابلته ..!!
لكنني رأيت وجهه الخبيث، ربما لم ير هؤلاء ذلك .. لكني رأيته .. هل كنت أتوهم ؟! كلا .. لم يكن ذلك وهماً بل يقينا رأيته وشعرت به! لا بد أن الجميع في حيرة الآن!
وقف عزازيل ونظرة الأسف تعلو وجهه وأكمل قائلاً:
– هدئوا من روعكم .. فصديقكم ما زال يتنفس .. ربما لم تلاحظوا ذلك بسبب درعه الغبي!
ثم تنهد واسترسل:
– حاولت مساعدته .. لكن لم أفلح، صرخ مذعوراً المسكين ظن أني أريد أذيته! كنت أحاول فقط إنقاذه من عقرب الزرنيخ الذي قام بلدغه على رقبته! لكن لقسوة القدر، القضبان حالت بيني وبينه!
لحظتها هرعت على جسد صمصام، لقد كان يتنفس بالفعل، وما صعقني هو وجود ثلاث نقاط حمراء على عنقه! إنها آثار لدغة، لاشيء غيره يترك هكذا ندبة .. إنه عقرب الزرنيخ!
– أيعقل أنه يقول الحقيقة .. هذا غير منطقي!
هرع جنود صمصام للاطمئنان عليه، فقد كانوا واقفين خلفنا كأشباح شاحبة .. لقد سمعوا صرخته آنذاك ورأوا وسمعوا المحادثة كذلك .. هموا لأخذه من الأرض بينما هم يبكون مرددين عبارات ساذجة:
– سس سسي سيدي .. أ أنت بخير ؟!! حمداً لله على سلامتك، اعتقدنا أننا فقدناك .. سحقاً للعقارب اللعينة!
كانت عين عزازيل تبرق شراً وشررا وهي ترقبهم، كأنه شيطان مارد عثر على ياقوتة النعيم! وشرع يصفق بيديه كمن يشاهد ملحمة قديمة، وخاطبهم قائلاً:
– رائع يا أصدقائي .. هذا ما يجب أن يكون عليه الجنود الأوفياء، لا شك أن لديكم تماثيل تذكارية في مركز كل اقليم من الأقاليم السبعة.
إفناء حياتكم في هذا المكان البائس ليعيش أسيادكم في رغد وهناء .. هذا أمر يدعو للإحترام لا شك أنكم تحظون بالتقدير الكافي من قبلهم ..ولكن يؤسفني إخباركم أن قائدكم المحبوب لن يذهب لأي مكان معكم، بل سيأتي برفقتنا!!
كنت واقفاً أتساءل وأفكر:
– ما الذي يقوله ؟! ما بال الأحاجي لا تتوقف عن التدفق من هذا اللعين ؟!
وبينما نحاول فك أول شفرة، يباغتنا بالثانية ويتبعها بالثالثة ثم الرابعة فالخامسة .. ما زلنا في دهاليز الأولى ؟!
كان هذا كثيرا علينا .. كنا كمجموعة يعاسيب عالقين في شباك عنكبوت فتباغتهم العقارب! هذه المتاهة تبدو سرمدية بلا نهاية ..
وبينما كنت أهلوس ... ودون أي سابق إنذار .. توهجت السماء بضياء أزرق قاتم مزق ثوب الظلمة الموحش .. لم تكن كرة مشتعلة .. ليس مذنباً تائها .. لم يكن القمر يهوي إلينا بوجهه المكتمل .. كان مجرد خيط ضياء أزرق غير متقطع .. يشع بترف .. وقادما إلينا من علو شاهق، إمتداده يتجاوزمنزلة الأسد مخترقاً سديم الميزان .. كنت أتمتم:
– القادم ثقيل .. أشعر بذلك .. الجميع يشعر بذلك .. لا نعرف ماهو لكننا ندرك أنه أمر كبير .. يبدو أن المفاجئات لن تتوقف عن الظهور.
وصل شعاع الرهبة .. شجرة الزيتون المباركة كانت مستقرة، نادراً ما رأيت سرمد يقف مذهولاً، لكنني لم أره قط جاثماً على ركبتيه مستسلماً بلا حول ولا قوة كهذه المرة! هذا ينذر بأن الوافد شيء أشد من الذهول نفسه ..
شع النور في ديجور البؤرة .. جثونا كلنا خانعين .. شيء ما أرغمنا على ذلك .. عزازيل وحده من بقي واقفاً والحقد يملؤ عينيه ..
صوت يثير الرهبة تردد في الأرجاء قائلاً:
– أيتها المخلوقات الفانية، اقترب ميعاد الأجل، إن هول الساعة جلل، حي على خير العمل .. حي على خير العمل .. حي على خير العمل .. طوبى لعباد الله .. وبئسا للمتكبرين ..
لم نكن قادرين على رفع رؤوسنا ورؤية من يقف هناك، لكن هذه الهالة المهيمنة وهذا الشعور بالثقل والعجز الذي افترس جوارحنا وحواسنا لا يفرضه إلا كيان هو من مستوى آخر.
حتى عزازيل الذي ظل واقفاً .. انحلّ رباط جأشه وهوى بوجهه وجسده إلى الأسفل .. لم يكن جاثياً على ركبتيه مطأطئا لرأسه كحالنا .. كلا!
بل إن جسده بأكمله ملقى على الأرض عاجز عن الوقوف وكأن "المشتري" يسحق ظهره!!
اختفى الصوت لبرهة، لكن الرهبة لم تفعل، بل زادت وتعاظمت .. ثم أكمل مجلجلاً:
– إنه بسم الله الرحمن الرحيم وإنه من حامل المفتاح إلى حاملي عبء الحقبة الجديدة.
سلام من الله عليكم وحرب على المتكبرين .. لقد وصلكم المنفي بعد أن كشف مكره الخفي .. قد حقت عليه اللعنة واستحق العذاب ..
اعلموا أن الله لا يعجزه شيء ..وأن وعده كان مفعولا ..
خمستكم بعد استيفاء النواميس، واستحكام القراطيس وإعلام الفوانيس .. خذوا الرجيم إبليس إلى مستقر بؤسه وتعسه .. متاع إلى حين ..
والله المستعان .
والله غالب على أمره ولو كره الكافرون
اختفى الصوت .. تلاشى الضوء شيئا فشيئا .. رحل الوافد العظيم لكن رهبته مكثت في المكان .. كنت جاثياً على ركبتي ملتفتاً إلى سرمد سائلاً إياه:
– مم مم .. ما هذا يا سرمد، أخبرني بحقك ؟!
سرمد الذي كان مصعوقاً مكانه، تكاد عيناه أن تنفجرا، أجاب بخشية:
– هذذذ .. هذا هو حامل مفتاح "الجبروت" يا رعد .. أحد جنود الله العظماء الذين نادراً ما يظهرون .
قلت معقباً على حديث سرمد:
– ظننت أن الرسل لاتنزل إلا عبر "مهبط البركات"! هذا الشعاع اخترق المكان من فوقنا مباشرة!!
سرمد بصوت مرتعش:
– هذا لا ينطبق على هؤلاء يا رعد، ممثلوا مشيئة الرب سيظهرون متى و أنى يريدون.
زئبق مقاطعاً كعادته:
– ما الذي يعنيه بخمستنا .. هل أخطأ أم ماذا، أيعقل أنه لم يلحظ غياب حسم ؟!
ليجيب سرمد صارخاً:
– أحمق!! أتظن أن هؤلاء قد يخطئون في أمر ما ؟!
ثم نهض نافضاً للثلج الذي غطى ركبتيه، حاملاً صولجانه ..
ضحكة عزازيل -أعني إبليس- الخبيثة قاطعت رهبتنا، وهو يقول:
– ألم أخبركم أنه سيرافقنا .. " مشيراً إلى صمصام الذي كان مايزال فاقداً للوعي" ..
وأكمل موجها حديثه نحو زئبق:
– هذا هو خامسكم أيها النحيل البليد!!
رمقنا سرمد بنظرة مهيبة، ثم قال:
– لقد صدق الكذوب .. جهزوا أنفسكم للرحيل، فالطريق طويلة! والمراسم شاقة !
مر "سرمد" من خلالنا كريح خريفية تصرم أوراق الشجر .. بينما أنا كنت كغصن توت عارٍ، أحملق فيه ببلاهة وهو يحزم أغراضه ويجهز العربة ويستعد للمغادرة، وأحدث نفسي متسائلاً:
– مهلاً هل قلت نفسي ؟! هل وجدتها .. متى .. كيف .. أين ؟! هل أضعتها أساساً ؟! ربما هي تطفو على السطح منذ البداية!
يااااااااا لتعس ميمون .. ما الذي كنت أفكر فيه!!
لا أحد يذهب للمنطقة العميقة بحثاً عن نفسه!
الأنفس تهوى الضفاف تفضل الأسطح تحبذ القشور،
لا تغطس إلى المكنون بملء إرادتها .. عليك جرها مرغمةً إن أردت اصطحابها إلى أعماقك ..
إليك الأخبار الجيدة إذاً: إذا شعرت أن "نفسك" ضائعة ستجدها على السطح بمقربة منك، لا داعي للذعر!
إليك الأخبار السيئة: العثور عليها ليس بالأمر الهام، لا داعي للإحتفال! لم تعثر على حجر الفلاسفة، بل مجرد "نفس" تطفو بجانب مثيلاتها!
فقدان النفس تجربة مؤلمة ستعلمك دروساً عدة، أهمها: أن العثور عليها لم يعد أمراً ذا قيمة!
وجدت نفسي التائهة، ولكن من يكترث الآن .. مايهم أنني وقفت أطالع سرمد ببلاهة وأحدث نفسي متسائلاً:
– نجهز أنفسنا للرحيل!! بهذه البساطة .. حقاً ؟!
ما خطب هذا العجوز البارد ؟! كيف أصبح صمصام خامسنا ؟! ماذا عن لدغة عقرب الزرنيخ تلك ؟! ما كان ذلك الكيان الواقف أعلى الجبل .. لم لم يتم إخبارنا عن هوية المنفي ؟! ماذا اقترف أساساً ؟! لماذا أتت التعليمات من حامل مفتاح الجبروت ؟! هل يعلم السبعة الكبار أي شيء عن نوع الحمولة التي ننقلها إليهم ؟!
شلال من الأحجيات التي لانملك لها أية إجابة، وهذا العجوز الكروبي يتصرف كأنها مهمة روتينية!
فجأة صوت جهوري شق بحر تساؤلاتي:
– رعد .. رعد .. يا حضرة الكارثة رعد!! ما بك شارد الذهن، هيا سنتأخر!
لقد كان صوت سرمد من أيقظني من سبات الحيرة .. وأعادني إلى المشهد الذي كنت غائباً عنه، لقد أنهى الجميع تحضيراته للرحيل.
"سرمد" على متن وسيلة النقل المعدة والمجهزة،
عربة خشبية قديمة نحت على سطحها نجمة سداسية يقبع في منتصفها قفص خشبي متهالك مخصص لإحتجاز المدانين والمحكومين ونقلهم،
ويجرها ثلاثة حمير سوداء تقيدها سلاسل غليظة خطامهن في يد سرمد الذي سيتولى قيادتها .
"زئبق" بكامل عتاده ممتطياً ثعباناً فاقع الصفار مهول الحجم لا يكف عن الفحيح، والسلاسل متدلية من أكمام ردائه .. "قسورة" فأسه الكبير المزخرف يزين ظهره .. بينما يقف على متن المزلجة الحديدية الضخمة التي تجرها ثمان ضباع وحشية ..
كان "صمصام" يرقد بلا حراك على المزلجة الحديدية الخاصة بقسورة .. أما الستة والأربعون جندياً لم يستعيدوا وعيهم بعد .. لقد أغمي عليهم بفعل هالة الشعاع الأزرق، وما زالوا كذلك .
رمقني سرمد بحزم، لم أنتظره ليتحدث، سارعت بحزم أمتعتي .. أسرجت خيلي .. حصانا أسودا ضخما تزين جبينه علامة بيضاء ويملك جناحين عملاقين .. امتطيته وعدت إليهم .. كانوا بجوار الزنزانة .. ينتظرون مجيئي ..
– لاعجب أنهم بكامل عتادهم .. علينا إخراج إبليس ووضعه في القفص، أليس كذلك ؟!
وصلت إليهم .. ترجلت ووقفت بجانبهم عند باب الزنزانة.
كان إبليس يجلس مسترخياً في الداخل بإبتسامة صغيرة يطالع توتر أعصابنا متلذذاً ..
أنهى سرمد لحظة الصمت الباردة تلك قائلاً:
– سأقوم بفك طلسم القيد من على الباب،
زئبق .. كن متحضراً لتقييده مجدداً إذا ماحاول الهرب .. قسورة .. يفضل أن يكون فأسك في يمينك .. رعد .. إياك أن ترخي دفاعك .
وقف إبليس حينها ورد بهدوء:
– هون عليك أيها الكروبي، لست أنوي إثارة المتاعب .. لو أردت .. فلن يمنعني أحد!! لذا افتح الباب بهدوء ودعني أصعد إلى العربة اللعينة فحسب!
ثم ضحك قائلاً:
– سبعة آلاف عام .. ولم تنضج بعد!؟ افتح الباب ..
صاحَبَت هذه الجملة ريح باردة أطفأت المشاعل التي على جدران الزنزانة ..
"افتح الباب" .. بدى وكأنه ملك يأمر حاجباً، لا سجينا في وجه سجان .. لا أدري أيهما أشد رعباً، سكون المقابر أم صخب الإعصار .. لكن هذا الرجل كان يحملهما معاً !
ابتسم سرمد وعيناه تتقدان لهبا أزرقا مهيبا .. أشعل نيران المشاعل مجدداً وأجابه قائلاً:
– بالمناسبة، أبلغ من العمر 6999 عاماً، وأنا ناضج بما يكفي لأتجنب الوقوع في البؤرة!
كلمح البصر اندفع إبليس نحونا، التصق بالقضبان يطالع سرمد بإبتسامة تقسم وجهه إلى نصفين، مجيباً إياه:
– عليك الصعود ومغادرة القاع أولاً يا صديقي! فالأشياء التي تقبع في الأسفل لا تقع .. أنت لم تتجنب الوقوع، كل مافي الأمر أنك لا تستطيع تحقيق ذلك!!
أجاب سرمد ساخراً:
– لا عجب أن أحمق مثلك سقط إلى البؤرة .. ما لا أفهمه هو كيف صعدت أساساً!
ليجيب إبليس بهدوء وجدية:
– ستعرف ذلك .. ستعرفون جميعاً .
حل الصمت مجدداً على المكان ..شرع سرمد في فتح الباب .. ذلك الصرير المنبعث من مفاصل الباب المهترئة كان أشبه بالبكاء .. شعرت به يبكي متوسلاً ألا نخرج هذا اللعين .. لم يكن باب زنزانة، بل باب حقبة تعيسة ونحن من قام بفتحه .
صدرت من إبليس هالة مرعبة، كانت تهز سلسلة أغلاله مصدرة صوتاً كزمجرة الصواعق .. عاصفة هوجاء ستضربنا .. هذا ما شعرت به ..
كنت أنا وسرمد في المقدمة .. قسورة خلفنا .. زئبق يقف في مؤخرة التشكيلة .. إبليس واقفا أمامنا مباشرةً، ولأول مرة منذ مجيئه لم تعل وجهه الإبتسامة .. بل ملامح حادة وعيون تلمع ترقب الأفق بعزيمة قادرة على أن تفل حلقات زحل .. لم ينبس ببنت شفه، فقط حدق فينا لبرهة ثم تجاوزنا دون أن نشعر .. تجاوز قسورة أيضاً .
التفتنا مصعوقين .. لنراه أمام زئبق .. لم يكن بهذه الضخامة وهو في الداخل، هل زاد حجمه أم نحن تضاءلنا ؟!! .. وقف أمام زئبق بثبات ثم أحنى ظهره ليحملق في عيني هذا الأخير .. ثم مد يديه نحوه وخاطبه قائلاً:
– فك قيدي أيها النحيل، لا أخطط الذهاب إلى أي مكان!!
حدث هذا في لحظة كانت أسرع من استيعابنا .. قفز زئبق برشاقة إلى الخلف متراجعاً ومتخذاً وضعية القتال، وكأنه يملك فرصة .. ليضحك إبليس باستخفاف واضعاً يده على وجهه قائلاً:
– يا إلهي .. ما بال هؤلاء لا يفهمون شيئاً.
ثم صعد على عربة النقل ودخل إلى القفص وأقفل على نفسه واستمر بالضحك الهيستيري .. بينما نحن متسمرون في أماكننا !
لقد قام بإيضاح فارق القوة التي بيننا وبينه، بطريقة مهينة .. لقد وصلت الرسالة بوضوح .. قد يكون هذا المسخ أكثر قوة وحنكة منا، ولكن إن كان ثمة أمر أنا متأكد بشأنه هو أنه عاجز عن كسر أو نزع قيوده .. لقد كان كاحلاه مصفدين بسوارين حديديين تربطهما سلسلة تمتد إلى معصميه ثم إلى رقبته ليس بوسع أحد كسرها أو نزعها عدا "زئبق" نفسه الذي صنعها ووضعها ..
جلس في مؤخرة القفص مبتسماً كعادته، بدت الأغلال عليه كأنها أساور وقلائد ملك، أسند ظهره إلى الخلف ومكث ساكناً لبرهة ثم قال:
– هل ستوصلني الحمير بمفردها أم ماذا ؟! الن تكملوا مهمتكم ؟!
أنفاس سرمد كانت تعصف بدفىء كصلاة ناسك في جوف مغارة .. هم العجوز بالصعود إلى العربة ليتولى قيادتها .. زئبق على ظهر ثعبانه يتولى تأمين ميسرة العربة .. أنا على صهوة جوادي أرافق ميمنتها .. أما قسورة فقد تقدمنا بمزلجته الحديدية، لا لشيء، بل كي لا تفزع الضباع عند رؤية الرعب الكامن في القفص .. أما صمصام فهو على حالته السابقة راقد بلا حراك على مزلجة العملاق .. لقد تركنا المؤخرة مكشوفة، لا داعي لتأمينها .. إبليس سيتكفل بحمايتها .. فمن الواضح أنه جاء معنا بملئ إرادته!
بدأنا السير .. كان من الواضح أنها ستكون رحلة شاقة وطويلة .. الأرض مغطاة بالثلوج والطريق وعرة وموحشة، سيتوجب علينا صعود منحدر الهاوية وتجاوزه ثم المضي عبر الغابة المطيرة والتوجه شرقاً وعبور مضيق عنق الزجاجة والمشي عبر السهول الجنوبية المؤدية إلى معبر إقليم الجنوب "الجدار"، كنت أحدث نفسي:
– من هناك سنواصل المسير شرقاً قاطعين كل الأقاليم واحداً تلو الآخر: بدءاً بإقليم الجنوب الشرقي "باب الأبواب" .. ثم إقليم الشمال الشرقي "بلخ"، ثم إقليم الشمال "كيماك"، ثم إقليم الشمال الغربي "البربر"، ثم إقليم الجنوب الغربي "الزايج"، ثم نعود إلى إقليم الجنوب "الجدار"، ثم نذهب إلى إقليم المنتصف "الهضبة" .. ومقابلة مستدرك كل إقليم على حدة قبل لقائهم مجتمعين في المنتصف .. "استيفاء النواميس واستكمال القراطيس" هذا ما جاء في التعليمات، وهذا الطواف أحد النواميس التي علينا استيفاؤها ..
لا شك أنهم باتوا على علم بما نحمله إليهم، أتساءل كيف كان وقع الخبر عليهم ؟!
لم التساؤل .. سنعرف ذلك إن لم يباغتنا هذا الخبيث فجأة!
عمتم بالخير مساءً .. أم هل هو صباحاً ..
أو ربما لا هذا ولا ذاك،
من يدري ..
قد تكونون مخلوقات من عوالم أخرى ليس فيها صباح أو مساء !
على كل حال أنا "نون" ..
وبالمناسبة لست شخصية في هذه الرواية
أو تلك الرواية أو أي رواية أخرى!
ما الذي أتى بي إلى هنا إذاً ؟!
هذا ليس من شأنك .. ليس من شأن الكاتب ..
ليس من شأن أحد .. بعض الأشياء تأتي فحسب!
وأنا أحداها ..
هل أنا جني .. أم بشري ؟
لست هذا ولا وذاك .. أنا "نون"
آخر حرف في العرفان والجنون ..
وقسم القلم وما يسطرون .. وأحد خبايا المكنون.
أنا فقط "ن" وسأصطحبكم في رحلة ..
هل هي "ممتعة .. مفزعة .. شيقة .. مملة"
لا أدري كيف ستكون .. لكنها ستساعدكم على
فهم هذا العالم الذي تبحرون فيه .
المكان:
الأرض قبل حقبة البشر .. أو على الأصح لحظة بدئها.
الزمان:
31,999 بعد الدك العظيم ( ب . د )
أو هذا ما كانت تشير إليه تقاويم الجن في تلك الحقبة .
لم يكن يملكون أي فكرة أنهم بصدد أن يشهدوا حدثا هو جدير بإعادة ضبط التاريخ وبدء حقبة جديدة تسمى عصر "الإستخلاف"
ما كانوا يعتقدونه بداية لألفية جديدة ستتوج حقبة ما بعد الدك بالعام "32000"
لم تكن إلا بداية لأحادية من نوع مختلف ستفتح الباب على تقويم جديد يحمل رقم واحد في أول صفحاته !
العام الأول بعد الإستخلاف .. " 1ب.أ"
هذا العالم يتكون من:
سبعة أقاليم .
واحد في الشرق، و واحد في الغرب، و اثنان في الشمال، واثنان في الجنوب، و واحد في المنتصف .. وتعرف كالتالي:
– الأول إقليم الشرق أو كما يسمى "المطلع".
– الثاني إقليم الجنوب الشرقي "سهيل".
– الثالث إقليم الجنوب الغربي "باب الابواب"
– الرابع إقليم الغرب "الجدار"
– الخامس إقليم الشمال الغربي "كيماك"
– السادس إقليم الشمال الشرقي "بلخ"
– السابع إقليم المنتصف "الصدع"
نظام الحكم وتدرجاته:-
– مجلس "السبعة الكبار":
السلطة التي تحكم الأقاليم السبعة مجتمعة، ويتكون من سبعة أعضاء كل عضو فيهم يحكم يوماً واحداً في الاسبوع.
– "مستدرك الإقليم":
هو أعلى سلطة في الإقليم والرجل المسؤول عن إدارة شؤونه، وتطبيق القانون وحفظ النظام فيه، مستدرك الإقليم هو في الوقت ذاته عضو في مجلس "السبعة الكبار" وحاكم أحد أيام الأسبوع.
– "سيد الرقعة":
هو الرجل الذي يحكم منطقة أو أكثر داخل الإقليم نفسه، قد يضم الإقليم الواحد رقعاً وأسياداً عدة .
– "الفانوس":
رأس العشيرة وشيخها وحكيمها، قد يضم الإقليم الواحد العشرات والمئات من العشائر .
الجيش والقادة ومستوياتهم:
– "الغسق-الشفق": رتبة القائد الأعلى للجيوش السبعة مجتمعة.
– "الزوال": رتبة القائد الأعلى لجيش الإقليم .
– "الظاهرة": نائب قائد الجيش وقائد التشكيلات العسكرية كلها .
– "الكارثة": قائد تشكيلة عسكرية مكونة من 10 ألف إلى 100 ألف جندي .
– "السرعوف": قائد ٣٠٠ – ١٠٠٠ جندي .
– "البرغوث": جندي عادي .
علينا معرفة أن لعالمنا هذا مدخلين ومخرجا واحداً فقط:
– "مهبط البركات":
المدخل الشريف للأرض بوابة التبشير والتنذير ومهبط الرسل الآتين من السماء، أينما كانت وجهة الرسول! فإن عليه أن يهبط في مهبط البركات ثم يواصل طريقه.
– "معراج السماء":
المخرج المكرم والمنفذ الوحيد الموصل للسماء، منه تعرج الأعمال وتعود البشائر والنذائر والرسل إلى بارئها .
– "بورة المنفى":
المدخل الموصود والمهبط المشؤوم ثاني المداخل وآخرها، الحفرة التي يلقى بها العصاة والمذنبون من الملأ الأعلى إلى الأرض، من يصل عبر هذا المنفذ لن يعود للسماء مطلقاً .
بدأت الملامح تتضح قليلاً ؟
رائع .. ولكن مازال أمامنا الكثير ..
في هذا الوقت لنتحدث عن "البؤرة" .. ماهي .. أين تقع .. ما مهمتها والكثير غيرها،
حسن إذاً ..
تقع "البؤرة" في منطقة الهاوية الواقعة في أقصى جنوب الإقليم الثاني، إقليم الجدار.
مستدرك هذا الإقليم هو "زوبعة الكروبي" كهل معمر من عشيرة الكروبيين.
من كبار عشائر الجن وأكبر عشيرة في إقليم الجدار، يميز الكروبيين أن أعمارهم طويلة مقارنة بغيرهم، وهم رجال حكمة وحرب، وموحدون.
المسؤول المباشر عن "البؤرة" هو سيد رقعة الهاوية "رائيل الحصاد"
عالمنا شاسع واسع متخم بالتفاصيل والأحداث، لكنه دقيق ومحكم بشكل فائق ومتقن.
سنتعرف على تفاصيله المذهلة سوياً، إن لم يكن لمشيئة الله رأي مختلف طبعاً.
أعلم أعلم .. لاداعي للتثاؤب والتذمر!
علي الآن إرسالكم إلى البؤرة .. لا أعني نفيكم بل لإكمال رحلتكم .. سأعيدكم إلى رعد وبقية الرفاق.
رحلة موفقة .. إلى لقاء قريب!
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon