NovelToon NovelToon

Shadows Of The Case”

سليفر

عندما جئت إلى هذه الدنيا، لم يكن الطريق أمامي واضحًا كأي مولود آخر. وُلدت في مستشفى كان يشع منها الضوء والهدوء، حيث كانت أمي، طبيبة الأطفال،. كانت ملامح وجهها تفيض بالطمأنينة، لكنها لم تخفِ التوتر الذي يرافق أي أم في لحظات كهذه. أما والدي، فقد كان ضابطًا في قسم التحقيق الجنائي، لا يكف عن التفكير في كل حالة جديدة تطرأ على مكتبه، ولكنه في تلك اللحظة كان يقف بجانب أمي، مشغولًا بنظراته بين طفله المولود وأسرار الحياة التي لا تنتهي في عالمه المهني. كان جمعًا غريبًا، بين هدوء الطب وصخب التحقيقات، لكنه كان يشير إلى أنني ولدت في بيئة لا تشبه غيرها

نشأت في بيت يعج بالتحديات والذكاء. كانت أمي تعمل بلا كلل كطبيبة أطفال، دائمًا مشغولة بعلاج الصغار، بينما كان والدي يقضي أيامه في حل الألغاز المعقدة في قسم التحقيق الجنائي. ورغم أنني كنت صغيرًا، كنت ألاحظ كيف كان والدي يدقق في التفاصيل الصغيرة في كل قضية، وكيف كانت أمي تتعامل مع الأطفال بكثير من الصبر والحب.

منذ طفولتي، بدا أن عقلي لا يتوقف عن العمل. كنت أجد متعة في حل الألغاز التي لا يفهمها الأطفال في سني. الأرقام والكلمات كانت تشكل لي تحديًا دائمًا، وكنت أتمكن من فك شفرات الأمور التي يصعب على غيري فهمها. لم يكن والدي وأمي يتوقعان ذلك في البداية، لكن مع مرور الوقت أدركا أن لديَّ قدرة غير عادية على التفكير والتحليل.

كنت في الخامسة عندما تمكنت من حل أول لغز معقد أمام أمي. كانت قد وضعت لي لعبة تعليمية تحتوي على مجموعة من الأشكال المتشابكة، وكنت أستطيع ترتيبها بسرعة ودقة. استغربت أمي من قدرتي، وقالت لي حينها: “أنت تفكر بطريقة مختلفة عن بقية الأطفال.”

في المدرسة، كان الأمر نفسه. كنت دائمًا الأول في كل مادة، وفي الاختبارات كنت أحقق درجات كاملة بينما كان زملائي يعانون. لم يكن الأمر سهلاً على نفسي، فقد شعرت بأنني في بعض الأحيان غريب عنهم. لكنني تعلمت كيف أتأقلم، كيف أحتفظ بتفوقي دون أن يزعج ذلك الآخرين، حتى أصبحوا يرونني مجرد طفل هادئ ومجتهد، لا يعلمون أن عقلي كان يطير بين الاحتمالات، يحلل ويبحث عن حلول في كل لحظة.

ربما كانت هذه القدرات هي التي جعلتني أشعر بأنني دائمًا في حالة بحث مستمر، كأنني أبحث عن شيء ما في هذا العالم الذي يبدو محيرًا في بعض الأحيان. وفي هذا الجو من التحدي والفضول، كانت الطفولة تمر سريعًا، وكل يوم يضيف إلى شخصيتي لمحة من القوة والذكاء التي ستمهد لي الطريق في المستقبل.

في السنوات التي تلت طفولتي المبكرة، أصبح واضحًا أنني لست كبقية الأطفال في سني. في المدرسة، كنت أتميز بذكاء يفوق أقراني، ولكني لم أكن أظهره بشكل فاقع. كنت أحتفظ به داخلي، أراقب وأستمع أكثر مما أتحدث. رغم تفوقي الدراسي، لم تكن الأمور دائمًا سهلة. كنت غالبًا ما أجد نفسي وحيدًا في الفصل، لا أشارك في ألعاب الأطفال أو في محادثاتهم، لأنني ببساطة لم أستطع أن أجد متعة في أمورهم البسيطة.

ومع مرور الوقت، بدأت أمي تلاحظ شيئًا غريبًا في سلوكي. كانت تقول لي دائمًا: “أنت ترى العالم بطريقة مختلفة.” وكانت محقة. كنت أبحث في كل شيء من حولي عن التفاصيل الصغيرة، التي لا يلاحظها الآخرون. كنت ألاحظ تعبيرات وجوه الناس وأحركات أيديهم، وأستطيع أن أخمن مشاعرهم أو أفكارهم من مجرد لمحة.

أما والدي، فكان أكثر اهتمامًا بتطوير مهاراتي التحليلية. كان دائمًا يطرح عليَّ أسئلة معقدة، يعطيني مسائل تدور حول المنطق والاستنتاج، وكان ينتظر مني أن أجيب بسرعة. كنت أستمتع بهذه التحديات، ولكني كنت أدرك في بعض الأحيان أن والدي يختبرني بطرق خفية، ربما ليكتشف ما يمكنني أن أحققه في المستقبل. لم يكن لديه شك في أنني سأكون قادرًا على التفوق في أي مجال أختاره، خاصة مع البيئة التي نشأت فيها، حيث كان يعيش وسط الغموض والألغاز التي كان يواجهها يوميًا في عمله.

في تلك الفترة، بدأ يلاحظ معلمي أنني كنت أتميز ليس فقط في المواد الدراسية، بل في قدرتي على التفكير النقدي والتحليل العميق. فقد كانت لدي قدرة غريبة على ربط الأشياء ببعضها البعض، وعندما كان أحدهم يسألني عن شيء، كنت أبدأ في طرح أسئلة أكثر مما أقدم إجابات. كنت دائمًا أبحث عن السبب وراء كل شيء، وكأنني كنت أبحث عن حل لغز كبير في هذا العالم.

لكن ماضيَّ لم يكن خاليًا من الصعوبات. في بعض الأحيان، كنت أعاني من شعور بالوحدة، فقد كان من الصعب عليَّ التفاعل مع الآخرين لأنني كنت دائمًا أرى الأشياء بطريقة مختلفة. كنت أفكر أكثر من اللازم، وكان ذلك يجعلني في كثير من الأحيان أبدو غريبًا في عيون الآخرين. ولكن، بدلاً من أن يزعجني ذلك، كنت أستخدمه كفرصة لتطوير نفسي أكثر.

كان أكثر ما يؤرقني هو أنني لم أكن أعرف بعد ما الذي أريده من الحياة. كان لديَّ هذا الشعور الغامض أنني أُعد لشيء أكبر من مجرد التفوق الدراسي. كان عقلي لا يهدأ، وأنا لا أستطيع إلا أن أبحث في كل شيء من حولي عن إجابة لهذا السؤال الكبير.

بدايه اكتشافي لحب التحقيق

عندما بلغت سن الخامسة عشر، بدأ شيء غريب يتشكل داخلي، شعرت كما لو أنني كنت أكتشف جزءًا من نفسي كنت قد غفل عنه طوال السنوات الماضية. كانت تلك الفترة هي التي تغير فيها كل شيء بالنسبة لي. كنت قد أصبحت أكثر نضجًا في تفكيري، وأصبحت أواجه الأسئلة التي كانت تراودني منذ الطفولة: ماذا أريد حقًا؟ لم أكن أدرك أن الإجابة كانت تقترب مني أكثر مما كنت أتخيل.

كان هذا العام مليئًا بالتحديات التي أظهرت لي جانبًا آخر من حياتي. بدأت ألاحظ أنني كنت أقل اهتمامًا بالأشياء العادية التي كنت أستمتع بها في الماضي، مثل الألغاز والألعاب العقلية. بدلاً من ذلك، بدأت أميل إلى قراءة القصص البوليسية والكتب التي تتعلق بالتحقيقات الجنائية. كانت تلك الكتب تأخذني إلى عالم موازٍ مليء بالألغاز المعقدة، والشخصيات الغامضة، والحلول المفاجئة التي تترك القارئ في حالة من الدهشة.

أذكر أنني في يوم من الأيام كنت أقرأ كتابًا عن تحقيقات في جريمة قتل غامضة في مدينة كبيرة. كان هناك شيء في الطريقة التي كانت تتبع بها الشرطة الخيوط المفقودة، وكيف أن كل خطوة كانت تؤدي إلى خطوة أخرى، حتى اكتشاف الحقيقة، جعلني أعيش حالة من الحماس لم أشعر بها من قبل. كنت أقرأ كل تفاصيل القضية، أدرس تحليل الأدلة، وأتخيل نفسي مكان المحقق، وأنا أربط بين جميع الخيوط. كانت لحظات كهذه تجعلني أشعر وكأنني في قلب الحدث، أعيش كل لحظة، أفكر كما يفكر المحققون، أتابع الأدلة وأحل الألغاز.

وذات يوم، بينما كنت في مكتبة المدرسة، التقطت مجلة عن قضايا جنائية قديمة، كانت تحتوي على تفاصيل تحقيقات شهيرة في جرائم قتل تم حلها بعد سنوات من الغموض. كان شيء ما في تلك القضايا يعجبني ويثير فضولي، فقررت أن أبدأ في دراسة كل قضية بعمق. وشيئًا فشيئًا، بدأت أستوعب كيف أن كل تفصيل صغير يمكن أن يكون له دور كبير في حل اللغز، وكيف أن المحققين يستندون على أدلة بسيطة قد تبدو تافهة للبعض، لكنها حاسمة في كشف الحقيقة.

تلك اللحظات من الدراسة والتحليل جعلتني أدرك شيئًا مهمًا: أريد أن أكون محققًا. ليس لمجرد حل الألغاز، بل لأكون جزءًا من العملية التي تقف وراء تحقيق العدالة، تلك اللحظة التي يتبين فيها الحقيقة وينكشف الظلام.

بدأت أتطور أكثر في هذا المجال، فبينما كان أصدقائي مهتمين بالرياضة أو الأنشطة الاجتماعية، كنت أنا أغرق في كتب التحقيقات، وأحاول تحليل الشخصيات في القصص التي أقرأها. كنت أدرس أنماط الجرائم وكيفية حدوثها، وأدقق في طريقة تفكير المحققين. كنت أعتقد أنه يمكنني أن أكون يومًا ما أفضل منهم.

في تلك الفترة أيضًا، بدأت ألاحظ شيئًا آخر، وهو أنني كنت أمتلك قدرة غريبة على قراءة الأشخاص. كنت أستطيع أن أرى في عيونهم ما لا يستطيع غيري أن يراه. كانت تعبيرات وجوههم، حركات أجسادهم، وحتى نبرات أصواتهم، تتحدث إليّ بطريقة لم أكن أفهمها تمامًا في البداية. لكن مع مرور الوقت، أدركت أنني كنت أمتلك قدرة فطرية على ملاحظة التفاصيل التي يغفل عنها الآخرون، وهذه كانت مهارة أساسية لأي محقق.

ذات مرة، وأنا في حفلة مدرسية، حدث موقف غير عادي. كان هناك شجار بين اثنين من زملائي، وعندما اقتربت منهم لمعرفة ما يجري، لاحظت شيئًا غريبًا في تصرفات أحدهم. كان يحاول أن يبدو هادئًا، لكن عيونه كانت تكشف عن شيء آخر. قررت أن أظل أراقب الوضع عن كثب، وفي النهاية اكتشفت أن الشخص الذي بدا هادئًا كان هو من بدأ الشجار، وكان يحاول إخفاء ذلك.

هذا الموقف كان بمثابة بداية حقيقية لاكتشاف شغفي بالتحقيقات. بدأت أرى نفسي في مواقف مشابهة، أراقب وأحلل وأربط بين الأمور بطريقة لم أكن قد فعلتها من قبل. بدأت أتساءل عن كيفية استخدام هذه القدرة في حياتي المهنية، وأيقنت أن هذا هو الطريق الذي أريد أن أسلكه.

ومع مرور الوقت، بدأت أمي تلاحظ هذا التغيير في اهتمامي. لم تكن متفاجئة، فقد كانت تعرف من قبل أنني كنت مختلفًا، ولكنها كانت تشجعني على متابعة هذا الطريق. كانت دائمًا تقول لي: “أنت لديك عقل لا يشبه الآخرين، وإذا أردت أن تكون محققًا، فاعلم أنك ستحتاج إلى الكثير من الصبر والتحليل. لكنني أعلم أنك قادر على ذلك.”

ومع دعمها، بدأت أطور مهاراتي في مجال التحقيق. كنت أتابع القضايا التي تجذبني، وأحاول تحليل الأدلة، وأتعلم كيفية ربط الخيوط المفقودة. ولم يكن والدي بعيدًا عن هذا التغيير، فقد بدأ يدعمني أيضًا. لم يكن يعلم أنه سيرى فيني ذات يوم محققًا يمشي على خطاه، ولكن كان يدرك أنني كنت على وشك أن أبدأ رحلة جديدة في عالم مليء بالتحديات والألغاز المعقدة

الدراسه في الجامعه

بعد أن تخرجت من الثانوية، كان الطريق أمامي أكثر وضوحًا من أي وقت مضى. كانت السنوات التي قضيتها في اكتشاف شغفي بالتحقيقات قد منحتني قاعدة صلبة لبناء مستقبلي المهني. لم يكن الأمر مجرد قرار عابر؛ كان هناك إحساس عميق في داخلي بأنني موجه نحو هذا المجال، وأنه لا شيء يمكن أن يوقفني الآن.

التحقت بأحد الجامعات التي تقدم برنامجًا مخصصًا لدراسة القانون والتحقيقات الجنائية، وهو المجال الذي كنت قد بدأت في الاندماج فيه منذ سنوات. كانت الأيام الأولى في الجامعة مليئة بالتحديات، لكنني شعرت بأنني في مكاني الصحيح. على الرغم من أن الكثير من زملائي كانوا يختارون التخصصات الأكثر شيوعًا مثل الطب أو الهندسة، كنت أنا الوحيد الذي ظلّ في عالمي الخاص من التحقيقات والألغاز.

كنت أدرس كل شيء يتعلق بالقانون، أدلة الجريمة، تحليل الأماكن، وتقنيات التحقيق المختلفة. كلما تعمقت في الدراسة، شعرت وكأنني أغوص أكثر في عالم كنت أراه كحلم، ولكنه أصبح الآن أكثر واقعية من أي وقت مضى. كنت أمضى ساعات طويلة في المكتبة، أقرأ عن القضايا الشهيرة، كيف تم حلها، وما هي الأخطاء التي وقع فيها المحققون وكيف تصرفوا عند مواجهة المواقف الصعبة. بدأت في تحليل القضايا الجنائية القديمة من منظور مختلف، وكأنني أضع نفسي مكان المحقق وأبدأ في محاولة فهم كل قرار اتخذوه، وأتخيل ماذا كنت سأفعل لو كنت في مكانهم.

أمي، التي كانت دائمًا داعمة، شجعتني على هذا التوجه. قالت لي ذات مرة: “لقد اخترت الطريق الصعب، ولكنني واثقة أنك ستجد فيه مكانك. التحليل ليس فقط في قراءة الأدلة، بل في فهم الناس وتفكيرهم، وهذا ما يميز المحقق الجيد.” وكانت كلماتها بمثابة إشعار لي بأنني على الطريق الصحيح.

أما والدي، فقد أصبح أكثر دعمًا لي عندما اكتشف مقدار الجدية التي أبذلها في هذا المجال. لم يكن يمانع أبدًا أن أستعير بعض من أدواته أو أرافقه أحيانًا في زياراته الميدانية التي كانت تقودني إلى أماكن الجريمة أو التحقيقات المعقدة. أصبح تدريجيًا يعاملني كزميل له في هذا المجال، وكان دائمًا يطرح عليَّ أسئلة صعبة تختبر قدرتي على التفكير التحليلي والتوصل إلى حلول منطقية.

مضت سنوات دراستي الجامعية، ومع كل يوم كنت أشعر بأنني أقترب أكثر من حلمي. تم تدريبي على العمل في أقسام مختلفة تتعلق بالتحقيقات، مثل تحليل الأدلة الجنائية، استجواب الشهود، وكيفية فهم وتحليل تصرفات الأشخاص. كان لديّ شغف غير طبيعي بكل هذه التفاصيل الصغيرة التي كانت تشكل جزءًا من الصورة الأكبر التي يجب على المحقق أن يراها.

ومع اقتراب التخرج، كنت قد نضجت بشكل كبير، وأصبحت أكثر قدرة على فهم وتطبيق كل ما تعلمته في سنواتي الجامعية. كنت قد قررت أنني سأسلك طريقًا محددًا في مجال التحقيقات الجنائية، وأنني سأخوض عالم الجريمة بكل تفاصيله.

وفي يوم تخرجي، وقفت أمام عائلتي وأنا أشعر بالفخر. لم يكن مجرد تخرج من جامعة، بل كان بداية رحلة مهنية كنت قد بدأت في تخطيطها منذ سنوات، رحلة طويلة مليئة بالتحقيقات والألغاز التي ستحتاج إلى كل ما تعلمته طوال تلك السنوات. كنت أعلم أن الطريق سيكون صعبًا، ولكنني كنت مستعدًا لتحدي أي شيء يأتي في طريقي.

٢

بينما كنت أستعد لبدء حياتي المهنية في مجال التحقيقات، لم يكن لديّ أدنى فكرة عن المفاجأة المأساوية التي كانت في انتظاري. تخرجت من الجامعة بحلم كبير في قلبي، وعزيمة أقوى من أي وقت مضى. عائلتي كانت فخورة بي، وأنا كنت على يقين أنني سأكون قادرة على المضي قدمًا في هذا المجال الذي طالما أحببته.

كنت قد بدأت في إجراء تدريبات عملية مع الشرطة، وأمضيت أيامًا طويلة في متابعة القضايا والتحقيقات. كانت الحياة تسير على ما يرام، حتى جاء ذلك اليوم الذي قلب حياتي رأسًا على عقب.

كنت عائدًا من العمل في إحدى الليالي المتأخرة. الشوارع كانت هادئة، والضباب يلف المدينة، كما لو كانت الأرض تسرح في عالم آخر. كنت أستقل سيارتي وأفكر في القضايا التي أعمل عليها، أفكر في المستقبل، وفي كيف سأواجه تحديات أكبر قريبًا. بينما كنت أقترب من أحد الأحياء الهادئة، لفت انتباهي ضجيج غير عادي.

نزلت من سيارتي بحذر، متوجهًا نحو مصدر الصوت. كان هناك مجموعة من الأشخاص يتشاجرون في الزاوية، يتراشقون بالكلمات والأيدي. كنت أسمع أصوات صراخ وشتائم، ولاحظت أن الموقف كان يزداد عنفًا. حاولت أن أهدئ الوضع، فاقتربت منهم بهدوء، محاولًا استيعاب ما يحدث.

وقفت على مسافة قصيرة منهم، وأطلقت صوتًا هادئًا، محاولًا تهدئة الأجواء: “توقفوا! ما الذي يحدث هنا؟”

لكن، كما لو أن اللحظة قد تجمدت في الزمن، لقيت نفسي عينيّ تلتقطان تفاصيل دقيقة لم أكن أتوقع أن ألاحظها. كانت حركة أحدهم، الذي كان يبدو أنه يحاول الابتعاد عن الشجار، غريبة. لم يكن ينظر إليّ، ولكن عيونه كانت متوترة، تتفحص كل شيء حوله. ومع ذلك، كانت يده مشدودة نحو جيب معطفه.

في لحظة خاطفة، أدركت ما كان يحدث. لم يكن الشجار مجرد مشادة كلامية، بل كان مخططًا للجريمة. وعندما حاولت التقدم للاقتراب منهم، شعرت بشيء ثقيل في الجو، وكأن كل شيء يتغير في لمح البصر.

قبل أن أتمكن من التحرك، شعرت بشيء حاد يخترق جسدي. كان الألم عنيفًا. نظرت إلى الأسفل فوجدت أنني قد تعرضت للطعن في خاصرتي. كان الدم ينزف بسرعة، والألم يكاد يعطل تفكيري. نظرت إلى الرجل الذي كان يقف أمامي، وقد أدركت فجأة أنه هو من طعنني. كانت عيناه باردة، خالية من أي ندم أو شعور بالذنب.

في تلك اللحظة، حاولت التنفس بعمق، لكن جسدي كان يخونني. سقطت على الأرض، والنظر إلى السماء لم يعد يبدو كما كان. كانت الأصوات من حولي تتلاشى تدريجيًا، كل شيء أصبح بعيدًا، كما لو أنني كنت على حافة الهاوية. لكن في تلك اللحظات الأخيرة، لم يكن لدي سوى فكرة واحدة تطاردني: كيف انتهى بي المطاف هنا؟

لم يكن أمامي وقت كثير. في آخر لحظة، تذكرت كلمات أمي التي كانت دائمًا تقول لي: “كوني قوية، لا تتركي أحدًا يوقفك عن تحقيق هدفك.” حاولت أن أستجمع قوتي لأستنشق المزيد من الهواء، لكنني كنت أعلم في أعماقي أن الطريق قد انتهى.

بينما كنت أغلق عيني، شعرت بشيء غريب، كأنني أسمع أصواتًا من الماضي. صوت أمي، صوت والدي، وحتى تلك اللحظات التي كنت فيها أبحث عن الحقيقة. كان كل شيء يعود إليّ، وكأنني كنت أعيش حياتي مرة أخرى، وأتساءل إذا كنت قد اكتشفت بالفعل ما كنت أبحث عنه.

ثم، كما لو أن الزمن توقف، شعرت بجسدي يفقد قوته شيئًا فشيئًا. كانت النهاية قد جاءت، ولكن كانت هناك لحظة من السلام التام، كأنني ارتحت أخيرًا من كل الأسئلة التي طالما حملتها في داخلي.

وهكذا، رحلت عن هذا العالم، تاركة خلفي أحلامًا لم تكتمل، وقصة لم تُروَ بعد

بينما كنت أفقد وعيي في تلك اللحظات، كانت الحياة تلتف حولي بسرعة شديدة، وكأنها تبتعد عني شيئًا فشيئًا. صوت الشجار الذي كان يملأ المكان، والعنف الذي أوقعني في فخ الموت، بدأت تلك الأصوات تتلاشى في ذهني. ومعها، بدأ الظلام يحيط بي تمامًا. لكن شيئًا غريبًا حدث؛ فجأة، شعرت بشيء يشدني، وكأنني كنت أُسحب إلى مكان آخر.

استفاقت عيناي ببطء، وكان أول شيء شعرت به هو الصمت. كان صمتًا غريبًا، غير طبيعي، وكأن العالم بأسره قد تجمد لحظة واحدة. حاولت تحريك جسدي، فشعرت بألم خفيف، لكنه لم يكن مثلما توقعت. لم أكن في المكان الذي كنت فيه قبل لحظات. كانت غرفتي… ولكنها لم تكن كما كانت. كان كل شيء مختلفًا، كأنني عدت إلى الوراء.

نظرت حولي، وكان هناك شيء غير عادي في المكان. كانت الجدران نفسها، السقف نفسه، لكن كل شيء بدا أصغر. والأثاث، الذي كان يبدو عاديًا في السنوات الماضية، كان الآن يبدو وكأنه جزء من ذكريات بعيدة. وبدأت تتسلل إلى عقلي فكرة غريبة. هل يمكن أنني في الماضي؟ هل عدت إلى الوراء؟ نظرت إلى تقويم الحائط… ثم شعرت بصدمة. كان مكتوبًا عليه: “السنة الدراسية 2017”.

تمكنت من التنفس بصعوبة، وأنا أحاول استيعاب ما يحدث. كيف لي أن أعود سبع سنوات إلى الوراء؟ كيف يكون من الممكن أن أعيش مجددًا في السنة الأخيرة من الثانوية، قبل أن تموت كل تلك اللحظات المظلمة؟ لكن السؤال الأكثر إلحاحًا كان: ماذا يجب عليّ أن أفعل الآن؟

نظرت إلى نفسي في المرآة. كنت لا أزال في جسدي القديم، الذي كنت فيه في تلك الفترة. لكن عقلي… عقلي كان الآن ممتلئًا بكل تلك السنوات من الخبرات والمعرفة التي عشتها. كنت أعرف ما سيحدث في الأيام المقبلة، كيف ستسير الأحداث، وكيف أنني كنت على حافة الموت بسبب تلك اللحظة المأساوية. لكن السؤال الكبير الآن كان: هل كان لديَّ فرصة لتغيير مصيري؟

رحت أتأمل في تلك اللحظة بعمق، وكأنني أخوض صراعًا داخليًا مع نفسي. ماذا لو كان لديَّ فرصة لإصلاح كل شيء؟ ماذا لو استطعت أن أتجنب ذلك الشجار؟ ماذا لو كنت قادرًا على النجاة وتغيير كل شيء، بما في ذلك حياتي؟ كان شعورًا غريبًا للغاية، ولكنني شعرت بشيء ما في أعماقي يقول لي: “لن تترك هذه الفرصة تضيع منك”.

ثم تذكرت آخر لحظة قبل أن أغشي عليّ. كنت في الحفل المدرسي، حيث كان ذلك الشجار يتصاعد بين زملائي. في تلك اللحظة، كان من المفترض أن أتدخل وأحاول تهدئة الوضع. ولكنني لم أفعل، وبسبب تلك اللحظة القصيرة من التردد، انتهت حياتي. الآن، لديَّ فرصة ثانية. لكن هل سأتمكن من اتخاذ القرار الصحيح هذه المرة؟

فجأة، دخلت أمي إلى الغرفة، تنظر إليّ بقلق. كانت عيونها مليئة بالحيرة، وكأنها تشعر أن شيئًا ما قد تغير فيني. “هل أنت بخير؟” سألت بصوت متردد، بينما كانت تقترب مني، وتراقبني بتركيز، كأنها تبحث عن شيء غير عادي في وجهي.

لم أتمكن من الرد مباشرة. شعرت بشيء ثقيل في صدري، وكأنني على وشك الانفجار. كل شيء كان غريبًا، كل شيء كان مختلفًا. دون تفكير، انحنيت إلى الأمام، واحتضنتها بقوة. كانت يدي ترتجف وأنا أضمها إليّ، كأنني أخشى أن أفقدها مجددًا.

أمي تجمدت للحظة، ولم تتوقع هذا التصرف مني. كانت عيونها مليئة بالدهشة، ثم حاولت دفعني برفق بعيدًا، بينما كانت تقول: “عزيزي، ما بك؟ ماذا يحدث؟”

لكنني لم أتمكن من الابتعاد، كنت بحاجة لهذا الحضن، لهذا الشعور بالأمان، وهذا الشعور الذي كنت أفتقده بشدة. همست في أذنها بصوت خافت، “أحبك.”

أمي كانت في حالة من الصدمة. لم تفهم ما يحدث. كانت تنظر إليّ بعينين واسعتيْن، وكأنها تحاول استيعاب الوضع. “ماذا؟ ماذا تعني؟” قالت، بينما كانت تسحبني بعيدًا قليلاً، تحاول فهم السبب وراء هذا التصرف الغريب.

“سبب تافه… فقط لأنني حلمت حلمًا مرعبًا.” قلت بصوت مختنق، محاولة إخفاء التوتر الذي شعرت به. لم أكن أستطيع أن أخبرها بالحقيقة، بما في ذلك ما مررت به. “كان مجرد حلم، أمي، مجرد حلم.”

لكن أمي كانت تشعر أن هناك شيئًا عميقًا في كلماتى، وأن ما يحدث ليس مجرد حلم عادي. كانت تراقبني بصمت، وعينيها مليئة بالأسئلة التي لم أتمكن من الإجابة عليها. “هل أنت متأكد أنك بخير؟ أنت لست على طبيعتك.”

“نعم، أنا بخير. فقط… كنت بحاجة إليك.” همست، بينما كنت أعتصر حضنها أكثر.

بعد أن انفصلنا عن العناق، شعرت بنوع من الهدوء. رغم أنني كنت أعلم أنني لم أستطع إخبار أمي بكل شيء، إلا أن وجودها بجانبي كان كافيًا ليشعرني بالأمان. قررت أن أستغل هذه الفرصة لأكون أكثر قربًا منها.

فيما كنت أرتب الأفكار في رأسي، نظرت إليها وهي تقوم بتحضير الطعام في المطبخ. قررت أن أذهب وأساعدها، كأنني أبحث عن شيء يشغلني عن الأسئلة التي كانت تتراكم في داخلي. توجهت نحو المطبخ، وقلت وأنا أقترب منها: “أريد مساعدتك في المطبخ.”

أمي نظرت إليَّ بعيون مستغربة، ثم ابتسمت بخفة وقالت: “أنت؟ تساعدني في المطبخ؟ ماذا حدث لك؟”

“أريد أن أساعد، أمي. فقط دعيني أساعدك.” قلت وأنا أبدأ في ترتيب بعض الأطباق على الطاولة. كانت يدي ترتجف قليلاً، لكنني حاولت أن أبدو طبيعيًا.

أمي استدارت نحوي بحذر، ووضعت يديها على خصريها وقالت، “حسنًا، ولكن لا تنسى أنك في السنة الأخيرة من الثانوية. دراستك أهم من أي شيء آخر في هذه الفترة.”

“أعلم، أمي، لا تقلقي. سأتأكد من أنني سأركز في دراستي، لكنني أيضًا أحتاج أن أكون معك الآن.” قلت وأضفت مبتسمًا: “أنتِ تعرفين أنني لا أستطيع أن أرفض مساعدتك.”

أمي أوقفت العمل لثانية، ثم نظرت إليَّ بتمعن. كانت تشعر أن شيئًا ما قد تغير في تصرفاتي، لكنها لم تستطع تحديد ما هو. “أنا فقط أخاف عليك. الدراسة صعبة في هذا الوقت، خصوصًا مع الضغوط التي ترافقها.”

“لا تقلقي، سأتعامل معها. فقط أحتاج لبعض الراحة.” قلت وأنا أساعدها في تقطيع الخضار، على الرغم من أن عقلي كان لا يزال يدور في دوامة من الأفكار.

ثم تابعت أمي حديثها وهي تراقبني: “يجب أن تركز أكثر، لا تشتت نفسك، يا بني. المستقبل يحتاج منك كل جهدك.”

“أعدك، سأركز.” قلت وأنا أبتسم لها، محاولًا أن أطمئنها.

كنت أعرف أن الدراسة كانت الأهم في هذه الفترة، لكنني أيضًا كنت أعلم أن هذه الفرصة التي أُعطيت لي، بأن أعود إلى الماضي، لا يمكنني أن أضيعها.

٣ كلوفر

بعد أن انتهيت من مساعدة أمي في المطبخ وعدت إلى غرفتي، شعرت بنوع من الإرهاق، وكأن كل هذه الأحداث الغريبة تسحب طاقتي شيئًا فشيئًا. لكن بينما كنت أفتح باب غرفتي، سمعت صوتًا مألوفًا جعلني أتجمد في مكاني.

“هييي! ما هذا الوجه الجاد؟ هل تحولتَ فجأة إلى عجوز؟”

نظرت إلى الداخل، وإذا بصديقي كلوفر يجلس على سريري، وهو يمضغ بسكويتة بشكل طفولي، وابتسامته العريضة تكاد تضيء الغرفة. كلوفر؟ لكن… كيف؟ لم أره بهذه الهيئة منذ سنوات. كان أصغر سنًا، وبدا مختلفًا تمامًا عن الشخص الذي عرفته في سنواتي الأخيرة.

بصوته المرح الذي يحمل طابع السخرية المعتاد، قال: “كنت أفكر أنك ستعود بسرعة، لكن يبدو أن الطبخ مع والدتك أخذ منك عمرك كله! هل تحتاج دورة تدريبية لتعلم كيف تقطع الخضار؟”

وقفت هناك أنظر إليه، شعور غريب يغمرني. هذا هو كلوفر، صديقي المقرب الذي كان دائمًا يشتهر بحماقته ومرحه. لكن في المستقبل، لم يكن كذلك. كان كلوفر الذي عرفته قبل موتي أكثر هدوءًا، متحفظًا، وكأنه يحمل هم العالم فوق كتفيه. هذا التناقض الحاد بين شخصيته الآن وما أصبح عليه لاحقًا أربكني.

“ماذا هناك؟ لماذا تنظر إليَّ هكذا؟ هل نسيت شكلي الوسيم فجأة؟” قال كلوفر وهو يضحك بصوت عالٍ.

حاولت أن أبتسم لأخفي دهشتي، وقلت: “لا، لا شيء. فقط… لم أتوقع أن أراك هنا بهذه السرعة.”

نهض من السرير واقترب مني، ثم وضع يده على كتفي وقال بابتسامة ساخرة: “أوه، لا تكن جادًا هكذا! نحن في آخر سنة، وهذا يعني أنها سنة المرح والتهور! صحيح أنني أعتمد عليك لإنقاذي من الدراسة، لكنك أيضًا تحتاجني لأذكّرك بكيفية الاستمتاع بالحياة.”

ضحكت بخفة، رغم أن عقلي كان منشغلًا بما سيحدث له في المستقبل. شعرت برغبة قوية في حمايته من التغيرات التي أعرف أنها قادمة. لكن كيف يمكنني فعل ذلك دون أن أكشف له أي شيء؟

“حسنًا، كلوفر، لماذا لا نبدأ من الآن؟ لنرى إن كنت حقًا قادرًا على إعادتي إلى الاستمتاع بالحياة.”

ابتسم كلوفر بغرور وضرب صدره بيده قائلاً: “اترك الأمر لي، أنا أفضل خبير في هذا المجال! ولكن أولاً، أحضر لي شيئًا من المطبخ. لماذا يبدو أنك فقط من حصل على المكافآت اليوم؟”

ضحكت وأنا أهز رأسي، ثم توجهت نحو الباب، أفكر في هذه الفرصة الغريبة لأعيش مع كلوفر مجددًا، وأحاول أن أصنع ذكريات أفضل.

بعدما ذهبت إلى المطبخ وأحضرت له بعض العصير والبسكويت، عدت إلى الغرفة لأجده مستلقيًا على السرير وكأنه ملك يجلس على عرشه. “أخيرًا! لقد تأخرت! ماذا كنت تفعل، تصنع هذا العصير بنفسك؟” قال كلوفر وهو يتناول الكوب مني بابتسامة واسعة.

جلست على الكرسي المقابل له، أراقبه بصمت للحظات. كان يلتهم البسكويت بطريقة عشوائية، يترك الفتات على السرير بلا مبالاة، تمامًا كما كان يفعل دائمًا. لم أستطع منع نفسي من الابتسام، لكن في داخلي كان هناك شعور مختلط. هذا الشخص الذي أمامي هو كلوفر القديم، الصديق الذي كان ينشر الفرح أينما ذهب، قبل أن تغيره الحياة.

“ماذا؟ لماذا تنظر إلي وكأنني أرتكب جريمة؟” قال وهو يرفع حاجبه بفضول.

ابتسمت وقلت: “لا شيء، فقط… كنت أفكر كيف يمكن أن تكون أحمق إلى هذه الدرجة.”

“هاه؟ هذا لأنك لا تملك حس الفكاهة الذي أملكه. الحياة تحتاج لروح خفيفة، وليس لوجه عبوس مثلك!” قال وهو يرمي وسادة نحوي.

أمسكت بالوسادة قبل أن تضربني وقلت بجدية أكثر: “كلوفر… ما خططك لهذه السنة؟ أعني… هل فكرت يومًا فيما تريد فعله بالمستقبل؟”

تغيرت تعابير وجهه للحظة، ثم عاد ليضحك بخفة وقال: “المستقبل؟ هذا كثير علي الآن. بالكاد أستطيع التركيز على الاختبارات القادمة! لماذا تسأل بهذه الجدية؟ هل تخطط أن تصبح فيلسوفًا أو شيء من هذا القبيل؟”

لم أستطع إخباره أنني أعرف كيف ستسير حياته، وكيف سيبتعد عن شخصيته هذه بسبب الأحداث الصعبة التي ستواجهه. كنت أعرف أن هناك لحظات حاسمة ستؤثر عليه، لكن ربما، فقط ربما، أستطيع أن أغير مصيره.

قلت له بابتسامة خفيفة: “لا، فقط تساءلت. لكن أظن أنني سأكون هنا دائمًا لأذكّرك أنك تحتاج لخطط، حتى لو كنت أحمق.”

ضحك وقال: “وأنا سأكون هنا دائمًا لأذكّرك أن تخفف من جديتك المبالغ فيها. الصفقة عادلة، أليس كذلك؟”

ابتسمت وأنا أشعر بالراحة لوجوده مجددًا في حياتي بهذه الطريقة. ربما هذه المرة أستطيع أن أصنع ذكريات جديدة، وأمنحه فرصة ليبقى كلوفر الذي عرفته دائمًا، الشخص الذي لا يخشى الضحك، ولا يخشى الحياة.

لكن في داخلي، كنت أعلم أن هذا لن يكون سهلاً.

بعد كتابة ملاحظاتي، وبينما كنت أحاول أن أبدو كشخص جاد ومركز على “تغيير المصير”، قفز كلوفر مجددًا إلى غرفتي دون أي إنذار.

“آها!” صرخ بصوت عالٍ وهو يرفع وسادة من على سريري ويرميها في وجهي. “ما هذا؟ هل بدأت فعلاً بوضع خطط لتدمير العالم؟ أم أنك تكتب رواية مملة أخرى عن حياتك؟”

ابتسمت وأنا أمسك الوسادة وأرميها عليه بقوة: “كلوفر، لو أنني أكتب عن حياتك، فستكون أكثر رواية مضحكة في التاريخ. عنوانها سيكون: الأحمق الذي لم يتوقف عن الأكل والثرثرة!”

ضحك بصوت عالٍ وبدأ يتفحص دفاتري كعادته الفضولية. “حماية كلوفر من الانكسار؟ ما هذا؟ هل أنا كوب شاي قابل للكسر؟”

حاولت أن أنتزع الدفتر منه، لكنه كان يقفز حولي مثل طفل صغير. “أنت أكثر شخص أعرفه معرض للكارثة بمجرد أن يفتح فمه!” قلت وأنا أحاول الإمساك به.

“آه، إذاً تعتقد أنك بطل خارق الآن؟ رائع! إذًا، ماذا عن علاقتك مع الفتيات؟ هل ستكتب خطة لتجنب الفشل أيضًا؟” قال ذلك وهو يغمز بغرور مزيف.

رفعت حاجبي وقلت ببرود: “علاقاتي؟ ربما يجب أن أبدأ بخطتك أنت لتجنب إحراج نفسك أمام الفتيات كل مرة تقول: مرحبًا، هل تحبين البطيخ؟”

ضحك كلوفر حتى انحنى ظهره. “يا رجل، البطيخ كان استراتيجية عبقرية. من يعرف؟ ربما فتاة أحلامي كانت تحب الفاكهة!”

“حسنًا، استمر في محاولاتك العبقرية. ربما تصل في النهاية إلى فتاة تحب الأحمق الذي لا يتوقف عن الضحك.”

جلسنا بعدها على الأرض، وبين الضحك والثرثرة، شعرت بشيء مختلف. كلوفر كان صديقًا مميزًا، غريبًا لكنه مخلص جدًا. كنت أعرف أنه سيقف بجانبي مهما حدث، حتى لو لم يفهم ما يجري بداخلي.

وفي اللحظة التي بدأ فيها كلوفر التحدث عن خططه “العبقرية” لتجنب الرسوب في الامتحانات (والتي تضمنت على ما يبدو النوم فوق الكتب بدلاً من قراءتها)، أدركت أن هذه اللحظات البسيطة، الضحك والجنون مع كلوفر، كانت واحدة من الأشياء التي سأفعل أي شيء للحفاظ عليها.

“إذن؟” سأل وهو يأخذ لقمة كبيرة من شطيرة أحضرها من المطبخ دون إذن. “ما أول شيء ستفعله في خطتك العظيمة؟”

ابتسمت وقلت: “أول شيء؟ سأقنعك أن تأكل أقل.”

“مستحيل!” قال وهو يرفع الشطيرة في الهواء، كأنه يحميها من هجوم وشيك. “لكنني سأدعمك رغم هذا الجنون!”

ضحكت وأنا أراقبه. هذه الرحلة ستكون طويلة… ولكنها ستكون ممتعة، بفضل هذا الأحمق المرح.

بينما كلوفر جالس على الأرض يلتهم شطيرته بنهم، خطرت لي فكرة غريبة: “كلوفر، بما أنك عبقري زمانك، كيف كنت تفكر في إنقاذ مستقبلك؟”

نظر لي بجدية مصطنعة، مسح فمه بكمه (رغم وجود منديل بجانبه)، وقال: “الخطة بسيطة جدًا. أولًا، سأكسب قلب معلمة الرياضيات.”

كتمت ضحكتي بصعوبة: “آه، معلمة الرياضيات؟ وهل أنت متأكد أنها تملك قلبًا في الأصل؟”

هز رأسه بثقة: “طبعًا! كل ما عليّ هو أن أبتسم في وجهها وأقول: الأستاذة، الرياضيات صعبة جدًا بدون توجيهاتك العبقرية. بعدها، أنا متأكد أنها ستعطيني 100 درجة من الشفقة!”

انفجرت ضاحكًا: “بالطبع ستعطيك 100 درجة… في مدى سذاجتك!”

“لا تسخر مني، يا عبقري المستقبل. على الأقل لدي خطة!” قال وهو يضع يديه على صدره بفخر.

“خطتك تحتاج خطة لإنقاذها!” قلت وأنا أمسك دفتر ملاحظاتي وأكتب: مهمة إضافية: التأكد أن كلوفر لا يدمر مستقبله بنفسه.

قاطعتني رنّة هاتف كلوفر. نظر إلى الشاشة واتسعت عيناه بدهشة. “يا إلهي! إنها ميمي!”

رفعت حاجبي: “ميمي؟ من ميمي؟”

“ميمي، أذكى فتاة في صفنا! أخيرًا، لقد استجابت لرسالتي!” قال وهو يقفز بحماس.

“وأي رسالة أرسلت لها؟”

ابتسم بغرور وأجاب: “كتبت لها: هل تؤمنين بالحب من النظرة الأولى؟ أم يجب أن أمر أمامك مرة أخرى؟”

انفجرت ضاحكًا لدرجة أنني سقطت من على الكرسي: “أوه، رائع يا كلوفر، أنت حقًا شاعر! لماذا لم تطلب أن تُدرَّس أشعارك في المناهج الدراسية؟”

كلوفر، وكأنه لم يسمع سخريتي، كان مشغولًا بإصلاح تسريحة شعره في مرآتي. “إنها مسألة وقت قبل أن تقع في حبي. فقط شاهد.”

بينما كنت أراقب هذا الكوميديا الحية، لم أستطع منع نفسي من التفكير: ربما هذه هي الطريقة التي سأتعامل بها مع هذه الحياة الثانية. الضحك، المرح، وقليل من الجدية في الأوقات المناسبة. ومع كلوفر، يبدو أن الضحك سيبقى جزءًا كبيرًا من هذه الرحلة.

ثم، فجأة، سمعت صوتًا يأتي من المطبخ. أمي صرخت: “من أخذ قطعة الكعكة التي كنت أخبئها؟!”

نظرت إلى كلوفر الذي توقف عن التفاخر وهرب نحو النافذة مثل لص مبتدئ. صرخت خلفه: “كلوفر! حتى الكعكة؟!”

رد من النافذة بابتسامة: “الطريق إلى قلب ميمي يحتاج وقودًا!”

أمسكت الوسادة ورميتها نحوه، لكنه كان قد قفز واختفى. هذا اليوم كان مجرد بداية لحياة مليئة بالجنون، بفضل صديقي المرح، كلوفر.

وقفت في منتصف الغرفة وأنا أضحك بشكل لا إرادي. “كلوفر، كلوفر… أنت فعلاً مشروع كارثة متنقلة!” قلت لنفسي وأنا أنظر إلى النافذة التي قفز منها.

قررت أن أترك أمر الكعكة لأمي، على أمل أن كلوفر ينجو بنفسه من غضبها. لكن قبل أن أتمكن من التفكير أكثر، عاد كلوفر فجأة وهو يتنفس بصعوبة. “رجعت! نسيت حقيبتي!”

نظرت إليه بدهشة: “جدياً؟ هربت مثل لص محترف ثم رجعت لأنك نسيت حقيبتك؟”

“ماذا أفعل؟! الحقيبة فيها خططي العبقرية لمستقبلي… وأيضاً بعض الشطائر الإضافية.” قال وهو يبحث حوله بجنون.

أمسكت حقيبته ورميتها له: “خذ حقيبتك واهرب قبل أن تأتي أمي وتحوّلك إلى فطيرة جديدة!”

لكنه وقف مكانه وقال فجأة: “انتظر! ماذا لو اكتشفت أني أخذت الكعكة؟ ستعرف أني كنت هنا! علينا أن نخترع قصة تغطي علينا!”

“علينا؟” قلت وأنا أرفع حاجبي. “أنت من أخذ الكعكة، وأنا بريء!”

“لكننا فريق! إذا سقطت، تسقط معي!” قال وهو يضع يده على كتفي بجدية درامية.

“لا، كلوفر. إذا سقطت، سأكون من يدفعك للأسفل!” قلت وأنا أضحك.

لكنه تجاهلني تماماً وبدأ يمشي ذهاباً وإياباً في الغرفة: “حسنًا، خطة الطوارئ: سنقول إن هناك شبح الكعك في المنزل. أمي ستصدق، أليس كذلك؟”

وضعت يدي على وجهي وأنا أحاول كتم ضحكتي: “شبح الكعك؟ حقاً؟ كلوفر، أنت عبقري في نوع جديد من الغباء.”

لكنه أصر على فكرته: “هذا أفضل من أن أواجه غضب أمك! دعنا نبدأ بصنع قصة مقنعة. الشبح يظهر فقط ليلاً، يسرق الكعك، ويترك رسالة غامضة!”

قبل أن أرد عليه، دخلت أمي فجأة إلى الغرفة ووقفت عند الباب تنظر إلينا بحدة. “حسناً، من منكما أخذ الكعكة؟”

كلوفر تجمد مكانه، ثم قال بابتسامة بريئة: “تتحدثين عن كعكة؟ لم أسمع عن كعكة قط! ربما… ربما الشبح أخذها!”

“شبح؟” قالت أمي وهي تضع يديها على خصرها وتنظر إليه نظرة لا تبشر بالخير. “أي شبح هذا؟”

“شبح الكعك!” قال كلوفر بثقة وكأنه يقدم محاضرة علمية. “أوه، إنه مشهور بسرقة الحلويات. شوهد آخر مرة في هذا الحي قبل يومين!”

أمي نظرت إليه طويلاً، ثم إليّ، ثم قالت: “إذاً الشبح يأخذ الكعك؟ حسنًا، سأبحث عن هذا الشبح… وأعلّمكم دروسًا في الخيال!”

“أعتقد أنني سأذهب الآن!” قال كلوفر وهو يلتقط حقيبته ويهرب نحو الباب بأقصى سرعة.

أما أنا، فقد بقيت في مكاني أضحك، محاولاً تفسير كيف سأعيش هذه الحياة الثانية مع شخص ككلوفر في حياتي. شيء واحد كان مؤكدًا: الملل لن يكون جزءاً منها!

لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon

تحميل PDF للرواية
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon