في صباح بارد، كانت الرياح تصفع وجهي بينما أسير على طول شارع "يامانوتي". كان الضوء الشاحب للشمس لا يكفي لتدفئة المدينة التي بدت وكأنها تستفيق ببطء من ليل طويل. كنت أتعثر في قدمي وأنا أحاول التخلص من عبوات السجائر الفارغة التي كنت أرميها على جانب الطريق. في تلك اللحظة، شعرت أن كل شيء حولي غارق في الفوضى، وأن الغرفة الصغيرة التي أعود إليها كل ليلة، كانت أكثر من مجرد مأوى؛ كانت ملاذًا يعزز وحدتي.
الشخصية الرئيسية: "يومي" هو اسمي. فتاة يابانية، تعيش في مدينة كبيرة يلتهمها الصمت، رغم كل الضجيج الذي يحيط بي. عيوني مرهقة من قلة النوم، وذراعيّ متصلبتان من البرد. أتذكر كيف كانت أمي تقول لي دائمًا: "الحياة لا تنتظر أحدًا". لكني توقفت عن انتظار أي شيء منذ زمن.
بينما أسير، أتذكر تلك المحادثة الأخيرة معه، عندما طلبت منه ألا ينظر إلى المستقبل البعيد. لا أريد أن أعيش في عالم مليء بالآمال الزائفة. قلت له بصوت مهتز:
يومي: "لا تحب الصرخات المزعجة التي تشق الهدوء، دعنا نعيش اللحظة فقط... لا تفكر في المستقبل... فقط نادني باسمي... المسني وأشعر بوجودي... هذا كل ما أحتاجه منك...".
تلك الكلمات كانت تعبيرًا عن كل شيء بداخلي. رغبت في البقاء معه في تلك اللحظة، أن أتجنب التفكير في كل شيء قد يحدث لاحقًا. كنت أعلم أنني أخطأت في شيء ما، لكنني لم أكن قادرة على تحديده. ربما كانت تلك الأخطاء الصغيرة هي التي جعلت صوته يتلاشى ببطء، حتى صار بالكاد يسمع.
في الليل، كنت أعود إلى تلك الغرفة الصغيرة، حيث الجدران تضيق عليّ وكأنها تحاصرني. كانت الغرفة مكانًا وحيدًا، خالية من أي مشاعر، لكنني كنت أشعر أنني مدمنة على تلك الوحدة. في الليالي الطويلة، عندما أسمع صوت السيارات الألمانية التي تمر مسرعة على الطريق، والسيارات الشرطية التي تدوي بصوتها، كنت أتخيل أنه في مكان ما، الحياة تستمر رغم كل شيء. لكن بالنسبة لي، كانت الحياة مجرد شظايا من ذكريات مشوهة.
يومي (تتمتم لنفسها): "ربما لم أكن أريد أي شيء في هذه الحياة سوى الاعتراف بوجودي...".
تتراكم الأيام، وكل صباح يتكرر السيناريو ذاته: أرمي عبوة السجائر الفارغة في الطريق، وأسير على شارع "يامانوتي"، محاولة تذكر رائحة تلك السجائر التي كانت تربط بيننا. كل شيء حولي أصبح مرهقًا بشكل لا يُطاق، حتى الصوت الذي كنت أحب سماعه، أصبح مشوشًا، كأنني السبب في انكساره.
مررت ببوابة القطار في تلك الليلة. الضوء الأزرق الباهت لم يكن يسقط حتى ظلي، وكأنني أصبحت شفافة بالنسبة للعالم. تذكرت تلك الأيام الماضية، عندما كنت أركب القطار بجانبه، ولم يكن لأي شيء أهمية سوى وجوده بجانبي. لكن الآن... لا يوجد حتى ظله ليبقى معي.
بينما كنت أغرق في أفكاري، مرَّت بجانبي سيارة شرطة بصوتها المزعج، تعودت على هذا الصوت، لكن في تلك الليلة كان له وقع مختلف. شعرت أن العالم ينهار حولي ببطء.
يومي (تتمتم مجددًا): "أرجوك... فقط نادني باسمي مرة أخرى...".
......................
صوت دقات الساعة كان يتردد في أذنيّ مثل صدى بعيد، يُذكّرني بكل لحظة مرت بيننا. كانت غرفتي الصغيرة تحتوي على بضع أشياء متواضعة، لا تزيد عن فراش قديم، وطاولة تحتفظ ببعض الكتب المهترئة. وعلى الجدران، بقايا ملصقات باهتة تشير إلى أيام ماضية بعيدة. كل شيء في الغرفة كان يُحاكي حالتي النفسية المتدهورة، ويعزز وحدتي كل ليلة.
كنت أجلس بجوار النافذة، أتأمل شوارع المدينة التي تمتد تحت ضوء القمر الشاحب. البرد كان يتسلل إلى الغرفة، لكنني بالكاد شعرت به؛ كنت غارقة تمامًا في أفكاري، في تلك اللحظات التي تجمعنا يومًا، في همساتنا المتقطعة، في نظراتنا المترددة.
يومي (بصوت خافت): "أين أنت الآن؟ هل تسمعني؟"
على الرغم من أنني لم أكن أتوقع إجابة، إلا أن السؤال نفسه كان يبعث في داخلي شعورًا بالراحة المؤقتة. كان صوته ما زال حيًا في ذاكرتي، وكنت أشعر أنني قادرة على سماعه حتى ولو كان بعيدًا عني الآن. ربما كان ذلك مجرد وهم، لكنني كنت أحتاج إليه كحاجتي للهواء.
ذات مرة، وبينما كنا نسير في شارع "يامانوتي"، توقف فجأة أمام محل صغير لبيع السجائر. كان يمسك بعلبة من نوع "سفن ستار"، وقال لي بابتسامة مرهقة:
هو: "تدركين أن هذه السجائر قد تقتلني في يوم ما، أليس كذلك؟"
يومي: "نعم، وأدرك أيضًا أنك لا تستطيع الابتعاد عنها."
كنت أضحك، رغم أنني كنت أعي تمامًا أن تلك السجائر كانت تكلفه صحته. كان ذلك الحوار بسيطًا، لكنه كان يكشف الكثير عن تفاصيل علاقتنا؛ لقد كنا مدمنين على بعضنا البعض مثل إدمانه على السجائر. وربما، بطريقة ما، كنا ندمر بعضنا البعض ببطء، حتى دون أن ندرك ذلك.
في الليالي الطويلة، عندما أعود وحدي إلى غرفتي، كانت تلك الذكريات تتدفق مثل شريط سينمائي في ذهني. كل همسة، كل نظرة، كل كلمة غير مكتملة... كلها عالقة في ذاكرتي وكأنها ترفض أن تتلاشى.
يومي (تتمتم لنفسها): "لماذا لا أستطيع التخلص منك؟ لماذا كل شيء يذكرني بك؟"
كنت أعلم أنني أسجن نفسي في هذه الذكريات، لكنني كنت عاجزة عن الهروب منها. كانت جزءًا مني، وكأنها شظايا صغيرة مغروسة في قلبي لا يمكن إزالتها. ربما كانت تلك هي الطريقة الوحيدة التي تمكنني من البقاء على قيد الحياة؛ من خلال استعادة كل لحظة، كل شعور، حتى وإن كانت تلك اللحظات تحمل ألمًا لا يُطاق.
في إحدى الليالي، وبينما كنت أتمشى في شارع مظلم، سمعت صوت سيارة شرطة تقترب. كانت الأضواء الساطعة تقترب مني بسرعة، وصوت الصفارات يكسر صمت الليل. شعرت للحظة بالخوف، وكأنهم يطاردونني، لكنني تذكرت أنه لم يكن هناك شيء يطاردني سوى أطياف ذكرياتي.
توقفت عند باب المترو، كانت الأضواء الخافتة تلقي بظلال باهتة، لكن ظلي لم يكن يظهر. كأنني أصبحت جزءًا من الفراغ المحيط بي، بلا وجود حقيقي. كنت مجرد طيف، عالقة بين الماضي والحاضر، بين الحياة والموت.
يومي (بصوت ضعيف): "أرجوك، فقط عد إليّ… نادِني باسمي مرة أخرى…".
كانت تلك الكلمات همسات يائسة في الظلام، ولم يكن هناك من يسمعني، سوى الصمت الذي يحيط بي.
ضوء الصباح الباهت كان يتسلل من النافذة، يخترق سكون الغرفة الصغيرة. كل شيء بدا لي كأنه يغمرني بصوت خافت، يهمس لي بأنني هنا بمفردي، وأن لا أحد سيأتي لينتشلني من وحدتي. كان الهواء البارد يلسع وجهي، ومشهد شارع "يامانوتي" كان يتردد أمامي، خاليًا من أي حياة تُذكر. كنت أراقب زجاج النافذة الذي يعكس وجهًا مرهقًا بالكاد تعرفت عليه.
في تلك اللحظة، استلقيت على الأرضية الخشنة، أشعر بصلابتها وهي تحتضنني دون حنان. حولي تناثرت علب السجائر الفارغة، وأثار الرماد تتوزع بين الزوايا. كانت غرفتي الصغيرة تخنقني، كأن جدرانها تتآمر علي لتزيد من شعوري بالعزلة. لم يكن لي مكان أهرب إليه، ولم يكن لديّ سوى ذكريات مشوهة عن شخص غاب عن حياتي.
يومي (بهمس يائس): "لماذا لا أستطيع الهروب؟ لماذا هذا الشعور يُلاحقني؟"
في عقلي، كانت كلماته تتردد، وكأنها أطياف تقتحم أفكاري بلا هوادة. كنت أشعر أن وجوده ما زال يثقل عليّ، على الرغم من اختفائه منذ زمن طويل. كلماته الأخيرة كانت تؤلمني أكثر من أي شيء آخر؛ لم أستطع أن أنساها أو أتجاوزها. كانت تمزقني من الداخل، تدفعني نحو هاوية بلا قرار.
مررت بالقرب من محطة القطار، حيث الأضواء الخافتة تُلقي بظلال شاحبة على الرصيف. كانت القطارات تتقدم ببطء، وتختفي في أعماق الليل، كأنها تهرب من واقع مؤلم. وقفت هناك، أمام بوابة الدخول، أتأمل الزجاج الذي يعكس صورتي المنهكة. شعرت بفراغ شديد في داخلي، وكأنني فقدت القدرة على الإحساس بأي شيء.
بدأت أتخيل النهاية، تلك اللحظة التي قد تكون الحل الوحيد. فكرة الانتحار كانت تتغلغل في ذهني، تتسلل بخفة وهدوء، وتخبرني أنني ربما سأجد السلام الذي طالما بحثت عنه. كنت أعلم أنني أتلاعب بخيوط الحياة، لكنني لم أكن أملك القوة لمقاومة هذا الشعور.
يومي (بصوت مرتجف): "هل هذا هو الحل؟ أن أختفي؟"
لم أكن أنتظر جوابًا؛ كنت فقط أستمع لصدى صوتي الذي يتلاشى في الظلام. في تلك اللحظة، سمعت صوت سيارة ألمانية قادمة بسرعة، متبوعة بسيارة شرطة تملأ الأجواء بأصوات صفارات الإنذار. كان المشهد مألوفًا، لكنه زاد من شعوري بالغربة، كأن الحياة ترفض أن تمنحني فرصة للراحة.
تراجعت قليلاً إلى الخلف، أشعر بقشعريرة في جسدي. شعرت أنني على وشك السقوط، كأنني عالقة بين الحياة والموت. أغمضت عينيّ للحظة، وسمحت لنفسي بأن أغرق في أفكاري، أتذكر تلك اللحظات التي كنا نتحدث فيها سويًا.
ذكريات (صوت الرجل): "أرجوكِ، لا تتعلقي بي... أنا مجرد وهم."
كانت كلماته كطعنة خنجر في قلبي، تتردد في ذهني كأنها لعنة لا تنتهي.
......................
كان الليل يغمر المدينة بهدوء ثقيل، والسكون يخترق حتى أعماق روحي، كأن الطبيعة نفسها كانت تعرف ثقل ما أحمله داخلي. أضواء الشوارع الضعيفة كانت ترسم ظلالاً باهتة على الأرصفة، وكأن المدينة بأكملها في حالة حداد صامت. سرتُ وحدي بين الشوارع الفارغة، وكأنني أتجول في مدينة أشباح، بلا رفيق ولا هدف.
الذكريات كانت ثقيلة على قلبي، لكنني شعرت برغبة لا تقاوم في التعلق بها. صوت صدى كلماته كان يلاحقني، كأن روحه ما زالت تعيش داخلي. مشيت بلا وجهة، أبحث عن شيء قد يخفف من شعوري القاتم، رغم إدراكي التام أن لا شيء سينقذني من هذه الدوامة.
عند وصولي إلى جسر حجري قديم يطل على النهر، توقفت. الرياح الباردة كانت تلامس وجهي، لكنها لم تُحيِني، بل زادتني شحوباً. نظرتُ إلى المياه المظلمة، ورأيت صورتي تنعكس عليها، وجهًا باهتًا مرهقًا، وعيونًا لم تعرف طعم الراحة.
في تلك اللحظة، ترددت كلماته مجددًا في عقلي، تلك الكلمات التي طُبعت في ذهني كوشم لا يزول.
ذكريات (صوته الحزين): "لا تتعلقي بما هو غير موجود… لا تنادي إسمي، فقد انتهى الأمر منذ زمن."
شعرتُ بوخزة حادة في صدري، كأن روحي تنهار تدريجيًا. لم أستطع تجاهل الألم، لم أستطع التظاهر أنني بخير. أدركت أنني كنت أعيش داخل وهمٍ صنعته لنفسي، وأنني قد وصلت أخيرًا إلى حافة الانهيار.
بدأت أقترب من حافة الجسر، أنظر إلى المياه الداكنة المتدفقة أسفل مني. كان كل شيء حولي يسكنني بالهدوء، كأن الكون بأسره ينتظر لحظتي الأخيرة. في تلك اللحظة، شعرت بشيء يشدني للخلف، كأنما هو يد تمنعني من السقوط.
يومي (بصوت مختنق): "إذا كنت هناك، لماذا لا تتركني أرحل؟"
تردد الصدى، لكن لم يكن هناك من يجيب. كنت وحدي، والحقيقة الوحيدة هي أنني لم أكن مستعدة للنهاية، رغم كل الألم الذي يغمرني. ببطء، بدأت أبتعد عن الحافة، أستدير بوجه مبلل بالدموع، لكن بقلب ربما استعاد القليل من الأمل.
عدت إلى شقتي الباردة، وجلست في الركن الذي اعتدت عليه، حيث الضباب الخافت من دخان السجائر يملأ المكان. لقد عرفت أخيرًا أن الوحدة لا تختفي بل تتعايش معي، وأن الألم سيبقى جزءًا مني. لكنني أدركت أيضًا أنني ما زلت أمتلك القدرة على البقاء، حتى ولو كنت مكسورة.
...نهاية...
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon