الفصل الأول..
B/S
كان يا ما كان، كان في مدينة نومبيرغ ) رئيس للمحكمة يقدره الناس تقديراً كبيراً. كانوا يسمونه السيد القاضي
زیلبرهاوس، واسم شهرته هذا يعني بيت المال».
كان للقاضي طفل وطفلة.
كان الطفل، الذي يبلغ من العمر تسعة أعوام، يسمى
فريتس. وكانت الفتاة التي يبلغ عمرها سبع سنوات، تسمى
ماري.
كانا طفلين جميلين، لكنهما كانا يختلفان اختلافاً شديداً في مزاجيهما وفي وجهيهما، إلى درجة أنه كان بالإمكان القول إنهما
ليسا أخوين.
كان فريتس طفلاً بديناً ممتلئاً ومتحذلقاً وماكراً، يركل
بقدمه لأقل أمر يعارضه، مقتنعاً بأن كل ما خُلق على وجه البسيطة، إنّما خلق ليسليه أو ليستجيب لنزواته. وقد ظل متمسكاً بهذا الاعتقاد إلى أن خرج الطبيب من عيادته، بعد أن نفد صبره من صراخ فريتس وبكائه ورفسه على الأرض، فرفع سبابة كفه اليمنى إلى أن أصبحت أمام حاجبيه المعقوفين،
ونطق بهاتين الكلمتين
_ السيد فريتس ! ....
في تلك اللحظة راودت فريتس رغبة قوية في أن تبتلعه
الأرض. أما أمه، فمن النافل القول إنها مهما كانت ترفع إصبعها، أو
حتى كفها، فإن فريتس لم يكن يعيرها أي اهتمام. وكانت أخته ماري، على العكس منه تماماً، طفلة هزيلة وشاحبة، شعرها طويل ومجعد بشكل طبيعي، ينسكب على كتفيها الصغيرتين البيضاوين، مثل حزمة من الذهب السائل واللامع والموضوع في مزهرية مرمرية. كانت متواضعة ولطيفة وبشوشاً ورحيمة بكل من يعاني، وإن كان المتألم هو دمية من دماها، كما أنها كانت تطيع السيدة زوجة القاضي وتستجيب لأية إشارة منها، ولم تكن تكذب أحداً، حتى إذا تعلق الأمر بمربيتها الآنسة ترودشن. وقد نتج عن ذلك أن
أصبحت ماري محبوبة من قبل الجميع. والحال أن الرابع والعشرين من كانون الأول / ديسمبر من السنة ...، كان قد حلّ. وأنتم تعلمون يا أصدقائي الصغار بأن الرابع والعشرين من كانون الأول/ ديسمبر، هو اليوم الذي يسبق عيد الميلاد، أي اليوم الذي ولد فيه الطفل المسيح،
في مذود، بين حمار وثور.
وأريد الآن أن أشرح لكم أمراً.
_ حتى أكثركم جهلاً سمعوا بأن لكل بلد عاداته، أليس كذلك؟ كما أن العارفين من بينكم يعلمون بالتأكيد أن نومبيرغ هي مدينة ألمانية مشهورة جداً بلعبها؛ بدماها وبمهرجيها؛ وهي اللعب التي تبعث منها صناديق مملوءة عن آخرها إلى كل بلاد الدنيا. ينتج عما قلناه أن أطفال مدينة نومبيرغ، من المفروض أن يكونوا أسعد أطفال الدنيا برمتها، وإلا فإنّ هؤلاء الأطفال سيكونون مثل سكان أوستونده،
الذين يكتفون من المحار بالنظر إليه وهو يمر أمامهم. وإذن، فإنّ ألمانيا التي هي بلد آخر مختلف عن فرنسا، لها عادات أخرى غير عادات فرنسا . إن اليوم الأول من العام في فرنسا، هو يوم تقديم الهدايا، ما يجعل كثيراً من الناس يشتهون أن يبتدئ العام دائماً باليوم الثاني من كانون الثاني/ يناير. أما بالنسبة لألمانيا، فإنّ يوم تقديم الهدايا هو يوم 24 كانون الأول / ديسمبر، أي اليوم الذي يسبق عيد الميلاد. وفضلاً عن هذا، فإنّ الهدايا تُقدّم في الجانب الآخر من نهر الراين، أي بألمانيا، بطريقة مختلفة تماماً : يتم وضع شجرة كبيرة في غرفة الاستقبال، وسط مائدة، فتعلّق إلى أغصانها الدمى التي يريدون تقديمها للأطفال، وما لا يثبت من تلك الدمى
على الأغصان، يوضع على المائدة. بعد ذلك يقولون للأطفال
إن المسيح الصغير هو الذي أرسل لهم حصتهم من الهدايا التي تلقاها هو بدوره من المجوس الثلاثة .... أنا أعتقد أنني لست بحاجة لأن أقول لكم إن طفلي القاضي زيلبرهاوس كانا من بين أطفال نومبيرغ الأكثر حظوة، أي من بين الأطفال الذين يحصلون خلال عيد الميلاد
على دمى أكثر من غيرهم. فإضافة إلى أبيهما وأمهما اللذين كانا يحبانهما حبّاً كبيراً، كان لهما عراب يحبهما أيضاً، وكانا يدعوانه
العراب در وسلماير. وعلي الآن أن أرسم لكم بورتريهاً موجزاً لهذه الشخصية اللامعة والتي كانت تحتل في مدينة نومبيرغ مكانة مرموقة
تقارب مكانة القاضي زيلبرهاوس نفسه. لم يكن العراب در وسلماير، المستشار الطبي، يتمتع بأي قدر من الجمال. كان رجلاً جافاً، يصل طوله إلى خمسة أقدام وثماني بوصات، فكان يبدو دائماً، منحنياً، تما كان يجعله، رغم طول ساقيه، يستطيع أن يجمع منديله من الأرض عندما
يسقط منه، دون أن ينحني تقريباً. وكان وجهه مجعداً مثل تفاحة كندية ضربها بَرَد نيسان كان يحمل على عينه اليمنى لضفة سوداء عوض عين حقيقية، وكان أصلع تماماً، مما كان
يجعله يضع، لإخفاء هذه النقيصة، لمه من الشعر المستعار، مخضرة ومموجة، كانت تعتبر قطعة فريدة من إبداعه. كانت مصنوعة من زجاج مرصوص بأسلاك، مما كان يجعله يحمل تحت إبطه دائماً قبعته، حفاظاً عليها. عدا هذا، كانت عينه السليمة حية ولامعة، فكانت تبدو وكأنها لا تؤدي عملها هي وحسب، وإنما تؤدي أيضاً عمل رفيقتها الغائبة، فكانت تجول بسرعة فائقة في الغرفة التي يريد العراب در وسلماير أن يعرف كل تفاصيلها من نظرة واحدة، كما أنها كانت تقف ثابتة على الأشخاص الذين يريد العراب أن يعرف أفكارهم
العميقة. كان العراب در وسلماير يشغل كما سبق أن قلنا، وظيفة مستشار طبي. لذلك، كان من المفروض أن يكون اهتمامه منصباً، كما هو الشأن بالنسبة لغالبية زملائه، على أن يقتل بإتقان، وحسب القواعد الناس الأحياء. غير أنه، وعلى العكس من ذلك تماماً، لم يكن يهتم إلا بأن يعيد الحياة إلى الأشياء الميتة؛ أي أنه كان، لفرط ما درس من أجساد الناس والحيوانات، قد وصل إلى معرفة أسرار الآلة، إلى درجة أنه
كان قد بدأ يصنع رجالاً يمشون ويلقون بالتحية ويستعملون
الأسلحة. كما أنه كان يصنع نساءً يرقصن ويعزفن على البيانو، وعلى الكمنجة، وكلاباً تجري وتأتي بالطرائد وتنبح، فضلاً عن طيور تحلّق وتقفز وتزقزق، وأسماكاً تسبح وتأكل. وقد توصل في نهاية المطاف حتى إلى جعل المهرجين وباقي الدمى تتلفظ ببضع كلمات غير صعبة، من مثل «بابا» و «ماما» و «دادا». غير أنّ الأمر كان يتعلّق بأصوات رتيبة وصارخة وكئيبة، لأن المستمع كان يشعر بأن كل ذلك لم يكن سوى نتيجة مزج آلي، وأن المزج الآلي ليس، في حقيقة الأمر، سوى محاكاة للروائع التي أبدعها ربنا.
غير أن العراب در وسلماير لم يكن ييأس أبداً، رغم محاولاته المتعددة التي لم تؤت أكلها، وكان يقول بتصميم إنّه سيستطيع، ذات يوم، أن يصنع نساء ورجالاً حقيقيين وكلاباً حقيقية وطيوراً حقيقية وأسماكاً حقيقية. ولست في حاجة لأن أقول لكم إن الطفلين اللذين كان هو قد اختير لهما عراباً، واللذين وعدهما بأن يقدم لهما نتائج محاولاته الأولى، كانا
ينتظران تلك اللحظة بفارغ الصبر. وعلينا، أيضاً، أن نعلم أن العراب در وسلماير، عندما بلغ هذه الدرجة من العلم بالميكانيكا، كان قد أصبح شخصاً ثميناً بالنسبة لأصدقائه. كانوا يطلبون منه المجيء بمجرد أن تصاب ساعة باعتلال في منزل القاضي زيلبرهاوس، فيكف عقرباها، رغم عناية الساعاتي ومجهوداته، عن تدقيق الوقت ويتوقف صوتها وحركتها. كان العراب يقبل مسرعاً، لأنه كان فناناً ويحب فنّه بقوة. كان يُقاد إلى حيث توجد المريضة، فيفتحها على الفور ويُخرج محركها ويضعه بين ركبتيه. عندئذ كان يخرج لسانه من جانب من فمه وتشرع عينه الوحيدة في اللمعان مثل جوهرة حمراء، ويضع شعره المستعار على الأرض، ويُخرج من جيبه جمهرة من الأدوات التي لا أسماء
لها لأنه هو من صنعها لنفسه، وهو الوحيد الذي يعرف كيفيةاستعمالها، فيختار من تلك الأدوات أشدها تسنّناً ويدفع به إلى داخل الساعة، مما كان يجعل ماري تشعر بألم كبير من تلك الطريقة في الوخز، فلا تستطيع أن تصدق أن الساعة المسكينة لا تتألم من تلك العمليات، بل على العكس من ذلك، ستبعث حية بمجرد أن تعاد إلى صندوقها أو توضع في عمودها أو على قاعدة، إذ ستشرع الحياة تنتشر فيها وتبدأ تدق وتصوت على الفور، تما سيعيد الحياة أيضاً إلى البيت الذي يكون وكأنه قد
فقد روحه عندما فقد ساعته الثمينة. وأكثر من ذلك، فإن العراب دروسلماير كان قد قبل أن ينزل من علياء علمه كي يصنع كلباً آلياً؛ ذلك أن ماري الصغيرة كانت تتألم من رؤية كلب المطبخ يدير السفود، فأشفقت على حاله. وقد استجاب در وسلماير لرجائها فصنع لها الكلب الآلي، الذي شرع يدير السفود دون عناء، ولا طمع بالشواء، بينما شرع تورك كلب المطبخ الذي مارس تلك المهمة لمدة ثلاث سنوات، يجلس في الشمس، بعد أن هَؤُلَ، ليدفئ خطمه وقوائمه، دون أن يكون له أي شيء يشغله، وهو ينظر إلى من حلّ محلّه يقوم، بعد أن يشحن، بمهمته الآلية، لمدة ساعة كاملة، دون أن يكون في حاجة لأن يهتم
به أي كان.
ثم إن الكلب تورك ( ومعنى اسمه هو «التركي») كان، بعد القاضي وزوجته، وبعد ابنيهما فريتس وماري، الكائن الذي يحب أكثر من غيره العراب در وسلماير، فكان يستقبله استقبالاً حافلاً كلما رآه مقبلاً إلى المنزل، بل كان يعلن، أحياناً، بنباحه المبتهج وبحركات من ذيله، عن وصول المستشار الطبي قبل حتى أن يلمس هذا الأخير بكفه مقبض
الباب.
كان فريتس وماري، إذن، مساء اليوم السعيد الذي يسبق.
عيد الميلاد ذاك، وفيما كان الغسق قد بدأ ينشر أرديته على الكون، يجلسان مقرفصين في زاوية من غرفة الطعام، بعد أن لم يستطيعا طيلة اليوم أن يدخلا غرفة الاستقبال الكبيرة
التي سيقام فيها الحفل. أما الآنسة ترودشن مربيتهما، فكانت تطرز وقد اقتربت من النافذة لتستفيد من آخر ضياء النهار. كان الطفلان قد شعرا برعب غير واضح، لأنهما لم يحصلا، حسب ما جرت به العادة في ذلك اليوم الرسمي، على ضوء، إلى درجة أنهما شرعا
يتحادثان بصوت خافت وكأنهما يشعران ببعض الخوف. - أخي، أنا متأكدة، قالت ماري، من أن بابا وماما يهتمان -
بشجرتنا الخاصة بعيد الميلاد؛ ذلك أنني قد سمعت، منذ الصباح، أصوات جرّ الأثاث في غرفة الاستقبال التي حظر
علينا ولوجها.
- أما أنا، قال فريتس، فقد علمت منذ حوالي عشر
دقائق، ومن خلال نباح الكلب تورك، أن العراب در وسلماير
قد دخل المنزل.
- آه يا إلهي ! صاحت ماري وهي تضرب كفاً بكف، ما
الذي سيجلبه لنا هذا العراب الطيب؟ أنا متأكدة من أنه
سيأتينا بحديقة مغروسة بالأشجار، مع جدول يجري على
نبات تصطف الزهور على حواشيه. وعلى صفحة هذا الجدول تقف بجعات فضية تحمل في أعناقها حلياً من ذهب، مع فتاة صغيرة تقدم لها حلوى، فتقترب البجعات منها لتأكلها إلى أن
تلمس وزرتها.
- عليك أن تعلمي، أولاً ، أيتها الآنسة ماري، أن البجعات
لا تأكل الحلوى. كان فريتس قد قال ما قاله بنبر متعال خاص
به، وهو النبر الذي يعتبره أبواه إحدى نقائصه. - كنت أعتقد ذلك، قالت ماري؛ لكن، وبما أنك تكبرني
بسنة ونصف، فمن المفروض أنك تعرف ذلك أكثر مني.
بدا فريتس في ذروة الزهو والاختيال ما سمعه. - ثم إنني أعتقد أن بإمكاني أن أقول، واصل فريتس، إن
العراب در وسلماير، إن أتى بشيء، فإنه سيأتي بلعبة قلعة مع جنود لحراستها ومدافع للدفاع عنها وأعداء ليهاجموها، تما
سينتج عنه اندلاع معارك رائعة.
- أنا لا أحبّ المعارك، قالت ماري. وإن أتى العراب
بلعبة قلعة، كما تقول، فستكون لك أنت، أما أنا فسأطالب
فقط بالجرحى كي أقدم لهم ما يلزم من إسعافات.
- مهما كان ما سيأتي به، قال فريتس، فأنت تعلمين أنه لن
يكون لأي منا . فمن المنتظر أن يُؤخذ منا ما سيأتي به، بدعوى
أن هدايا العراب در وسلماير هي تحف حقيقة، وستوضع في أعلى مكان من الخزانة، لا يستطيع أن يصل إليه إلا بابا، وبعد أن يصعد على كرسي. وهذا يعني واصل فريتس، أنني أحب اللعب التي يقدمها لنا بابا أو ماما، أكثر مما أحبّ ما يأتي به العراب در وسلماير، فهما، على الأقل، يتركاننا نلعب بها إلى أن
نكسرها إلى قطع صغيرة. وأنا أيضاً، لكن عليك أن تتجنب قول ما قلته لتوك أمام
العراب.
_والماذا؟
- لأنه سيشعر بألم من ألا نكون نحبّ ما يأتي به من لعب كما نحب اللعب التي يقدمها لنا بابا أو ماما. فهو عندما يقدمها لنا يكون معتقداً أنها تسعدنا كثيراً، وإذن فعلينا أن
نتركه يعتقد أنه ليس مخطئاً.
- آه ! قال فريتس.
الآنسة ماري على حق يا سيد فريتس، قالت الآنسة ترودشن التي تظل عادة صامتة، ولا تتحدث إلا عند
الضرورة القصوى.
هيا، قالت ماري بحماس كي تمنع فريتس من أن يعقب بكلام جارح في حق المربية المسكينة، هيا، ولنحاول أن نخمن ما الذي سيقدمه لنا أبوانا. بالنسبة إلي أنا، فقد سبق لي أن أخبرت أمي بأنّ دميتي الآنسة روز قد أخذت تفقد من مهارتها يوماً بعد يوم، رغم ما أوجهه لها من توجيهات باستمرار؛ فهي لم تعد قادرة إلا على السقوط على أنفها، تما يجعلها تصاب باستمرار بخدوش تشوّه وجهها، إلى درجة أنني لم أعد أفكر في إخراجها معي لفرط ما أصبح وجهها
يتنافر مع فساتينها. قلت هذا لأمي، لكنني أوصيتها بألا
تعنف الآنسة روز.
- أما أنا، قال فريتس، فإنني قد قلت لبابا إن فرساً أشقر
قوياً، سيزيد من قيمة إسطبلي، كما أنني قد رجوته بأن ينتبه إلى أنه لا وجود البتة لجيش دون خيالة خفيفين، ولذلك فنحن في حاجة إلى سرية خيالة كي تكمل الفرقة العسكرية التي أتولى
قيادتها. في هذه اللحظة قدرت الآنسة ترودشن أن الفرصة مناسبة
كي تأخذ الكلمة مرة ثانية. أنتما تعلمان، أيها السيد فريتس والآنسة ماري، أن الطفل المسيح هو الذي يعطي ويبارك كل الدمى الجميلة التي يأتونكما بها. لا تعمدا إذن إلى تعيين الدمى التي ترغبان في نيلها، لأنه يعرف أحسن منكما ما هي الدمى التي يمكن أن
تعجبكما أكثر من غيرها. آه- نعم، قال فريتس، لذلك لم يقدم لي، السنة الماضية، إلا جنوداً مشاة، في حين يروق لي أنا، كما سبق أن قلت أن
تكون لي سرية خيالة.
- أما أنا، قالت ماري، فليس لي إلا أن أشكره، لأنني لم
أكن أطالب إلا بدمية واحدة، فحصلت أيضاً على حمامة جميلة
وردية الساقين والمنقار.
في تلك اللحظة، كان الظلام قد أرخى سدوله تماماً،
إلى درجة أن الطفلين كانا قد شرعا يتحدثان بصوت أكثر
خفوتاً، وهما يقتربان أحدهما من الآخر أكثر فأكثر، فقد كان يبدو لهما أنهما يشعران، حولهما، بخفقان أجنحة الملائكة الذين يحرسونهما، وأنهما يسمعان، في البعيد، موسيقى هادئة ورائقة وكأن الأمر يتعلق بأرغن يغني تحت أقواس كاتدرائية، عن ميلاد المسيح. في تلك اللحظة من شعاع قوي على الجدار، ففهم فريتس وماري أن الأمر يتعلق بالطفل المسيح الذي، بعد أن وضع الدمى في غرفة الاستقبال، حلّق على متن سحابة ذهبية في اتجاه أطفال آخرين ينتظرونه وقد نفد
صبرهم هم أيضاً. فور ذلك سمع صوت جرس، فانفتح الباب مصوتاً، وانبعث من البيت شعاع ضوء كان من القوة بحيث ظل الطفلان منبهرين، وهما لا يملكان من القوة إلا ما أسعفهما
كي يصيحا:
- آه آه آه
عندئذ أتى القاضي وزوجته، فوقفا على عتبة غرفة
الاستقبال وأمسكا بفريتس وبماري من كفيهما، وقالا :
- تعاليا لتريا، أيها الصديقان العزيزان، ما الذي أتاكما به
الطفل المسيح.
دخل الطفلان على الفور إلى غرفة الاستقبال، فسارت
الآنسة ترودشن في أثرهما بعد أن وضعت ما كان بيدها على
الكرسي الذي كان أمامها.
أنتم يا أطفالي الأعزاء تعرفون، بالتأكيد، سوس وجيرو، المتاجرين الكبيرين في الأشياء التي تسعد الأطفال. لا شك أنكم قد أخذتم إلى حانوتيهما الرائعين، فقيل لكم، بعد أن حظيتم برصيد مفتوح: تعالوا خذوا واختاروا». عندئذ كنتم قد وقفتم متقطعي الأنفاس، عيونكم جاحظة وأفواهكم فاغرة، فحصل لكم أن عشتم لحظة انخطاف لن تحظوا بها ثانية في حياتكم أبداً، ولا حتى في اللحظة التي ستصبحون فيها أكاديميين أو نوّاباً في البرلمان أو من بين نبلاء فرنسا. وإذن، فقد حصل لفريتس وماري الشيء نفسه الذي حصل لكم عندما دخلا غرفة الاستقبال ورأيا شجرة الميلاد وهي تبدو وكأنها تخرج من المائدة العظيمة المغطاة بسماط أبيض والمثقلة بزهور من سكر عوض زهور طبيعية، فضلاً عن تفاح ذهبي،
وبصنوف من الملبس عوض الفواكه الطبيعية. كان كل ذلك يلمع على ضوء مائة شمعة مخفية بين أوراق شجرة الميلاد، تما كان يجعلها تصبح مشعة بالطريقة نفسها التي تشع بها أشجار الإضاءة خلال الحفلات العمومية. عندما رأى فريتس ما رأى حاول القيام بقفزات، تكريماً للسيد بوشيت، أستاذه في
الرقص، بينما لم تقم ماري حتى بمحاولة التحكم في دمعتي فرح كبيرتين كانتا تتدحرجان، مثل جوهرتين سائلتين، على
خديها المتفتحين وكأنها نوارتان.
لكن الأمر أصبح أعظم عندما تم المرور من العام إلى التفاصيل، فرأى الطفلان المائدة مكسوة بلعب من كل صنف. رأت ماري دمية أطول بمرتين من الآنسة روز وكسوة صغيرة
فاتنة من حرير معلقة إلى مشجب واكتشف فريتس سرية خيالة مصطفين على المائدة، يرتدون عباءات حمراء ويعتمرون ضفائر مذهبة، وهم يمتطون جياداً بيضاء، بينما رأى عند قدم المائدة نفسها الفرس الأشقر المشهور مربوطاً؛ وهو الفرس نفسه الذي يفتقر إليه إسطبله. كما رأى الإسكندر الجديد
وهو يمتطي «بوسيفال» اللامع الذي كان قد أُهدي له مطهماً وملجماً. وبعد أن جعل فريتس الفرس يدور حول شجرة الميلاد وهو يعدو، ثلاث أو أربع مرات، صرح، وهو يترجل عنه، أن الفرس مهما يكن متوحشاً ومهما يكن جموحاً، فإنّ بالإمكان ترويضه حتى أنه قد يصبح، قبل أن ينقضي شهر
واحد، طبعاً مثل حمل.
توقف الفرس إذن، وأطلقت ماري على دميتها الجديدة \= اسم الآنسة كلارشن، وهو ما يعادل بالفرنسية اسم «كلير» (أي الألقة»)، كما يعادل روشن» بالألمانية اسم «روز» (أي (وردة) بالفرنسية. في تلك اللحظة سمع رنين الجرس السائغ، للمرة الثانية، فالتفت الطفلان إلى المكان الذي أتى
منه الصوت، أي إلى زاوية من غرفة الاستقبال.
عندئذ رأيا أمراً لم يكونا قد انتبها إليه في البداية، لفرط
ما كانا منشغلين بشجرة الميلاد المشعة التي كانت تحتل
وسط غرفة الاستقبال: ذلك أن تلك الزاوية من الغرفة
كانت مفصولة بواسطة ستار صيني، يُسمع خلفه ضجيج
وموسيقى، مما كان يوحي بأن أمراً ما جديداً وغير معتاد كان
يدور في تلك الزاوية. في تلك اللحظة تذكر الطفلان، معاً،
أنهما لم يلمحا بعد المستشار الطبي، فصاحا معاً:
- آه العراب در وسلمایر
عندما تلفظا بتلك الكلمات، بدا وكأن الستار لم يكن
ينتظر سوى ذلك كي ينثني وكي يبدو من خلفه، لا العراب
درو سلماير وحسب، وإنّما أيضاً مجسم بديع هنا وصفه :
فوسط برية خضراء ومرصعة بالورود، كان يقوم قصر
رائع تزينه بضع نوافذ زجاجية على واجهته وصومعتان
مذهبتان على جانبيه. وفي اللحظة التي سمعت فيها موسيقى تنبعث من داخله، فتحت أبوابه ونوافذه، فأصبح ممكناً أن ترى بداخله شموع مشتعلة طولها نصف بوصة، ورجال قصار ونساء قصيرات يتجولون كان الرجال يرتدون ملابس فاخرة مطرزة، بسترات وسراويل حريرية، السيف مثبت إلى الحزام والقبعة تحت الإبط. أما السيدات فكن يرفلن في ملابس من الاستبرق أو الحرير الموسى، وهن يحملن سلالاً كبيرة، شعورهن مرتبة إلى اليمين، يحملن في أيديهن مراوح يهوين بها وجوههن وكأن ارتفاع درجة الحرارة قد أنهكهن. وفي غرفة الاستقبال الوسطى، التي كانت منارة بشكل كامل بفضل ثريا مليئة بالشموع، كان يرقص على وقع تلك الموسيقى جمع من الأطفال الذكور بسترات واسعة والفتيات بفساتين قصيرة. في تلك اللحظة نفسها، بدا على نافذة غرفة مجاورة رجل ملتف في معطف من فرو،
هو بالتأكيد رجل ذو قيمة اجتماعية عالية، فبدأ يطل ويؤتي حركات ثم يعود للاختفاء. العراب در وسلماير، بدوره، كان يرتدي سترته الرودنغوت ) الصفراء، ويضع على عينه اليمني اللصقة، وعلى رأسه شعره المستعار. كان يبدو نسخة طبق الأصل من درو سلماير الحقيقي، سوى أنه لا يزيد طوله على بضعة سنتمترات. وكان يخرج ويدخل وكأنه يريد أن
يدعو المتجولين إلى الدخول إلى منزله. كانت اللحظة الأولى بالنسبة للطفلين، لحظة مفاجأة وابتهاج، لكن فريتس الذي ظل مستنداً بمرفقيه إلى حافة النافذة لبضع دقائق وهو يتفحص القصر، انتصب واقفاً
واقترب بنفاد صبر، قائلاً:
لكن، لماذا تعمد أيها العراب درو سلماير إلى الدخول من الباب نفسه والخروج من الباب نفسه؟ أنا أعتقد أنك ستتعب من الدخول والخروج من المكان نفسه. اخرج من هذا الباب
وادخل من ذاك.
قال له فريتس ذلك وهو يشير بإصبعه إلى بابي الصومعتين.
- لكن ذلك غير ممكن، أجاب العراب در وسلماير.
- إذن، واصل فريتس، قدم لي خدمة واصعد السلم وقف
في النافذة مكان هذا الرجل وقل له أن يذهب هو إلى الباب
_ بدلاً منك.
_. مستحيل يا عزيزي فريتس، قال المستشار الطبي من
جديد.
- إذن، فإنّ الأطفال قد رقصوا بما فيه الكفاية. عليهم
الآن أن يخرجوا في نزهة، بينما يشرع المتنزهون في الرقص
مكانهم.
- لكن ما تقوله غير معقول، أيها السائل الذي لا يكف عن
السؤال ! صاح العراب الذي كان قد بدأ يغضب وأضاف: على الميكانيكا، أي الآلية، أن تشتغل وفق ما صنعت من أجله. -
إذن، قال فريتس، فأنا أريد أن ألج القصر.
- آه !، قال القاضي، أنت بهذا تبدو فاقداً تماماً لعقلك يا
طفلي العزيز. فأنت ترى أن من المستحيل أن تدخل القصر، ما دامت دوارتا الرياح اللتان تعلوان الصومعتين يصل حجمهما
بالكاد إلى حجم كتفك. اقتنع فريتس بما قاله القاضي، فصمت، وظل ينظر إلى الرجال والنساء الذين لا يكفون عن التجول، وإلى الأطفال الذين يواصلون رقصهم، والرّجل ذي الفرو الذي يدخل ويخرج على رأس لحظات متساوية، والعراب دروسلماير الذي لا يغادر الباب، فقال بعد لحظة، بنبرة تشي بخيبة أمله
وبسأمه العميق:
- أيها العراب در وسلماير، إن كانت صنائعك هذه لا تعرف أن تقوم بأي شيء آخر غير ما تقوم به وتعيد القيام به، فإن بإمكانك أن تأخذها غداً، فأنا لا اهتمام لي بها. أنا أحب بقوة فرسي الذي يعدو عندما أريد أنا ذلك، كما أحب خيالتي الذين يتحركون عندما أمرهم أنا بذلك ويسيرون إلى اليسار وإلى اليمين وإلى الأمام وإلى الخلف، والذين ليسوا محبوسين في أي منزل، خلافاً لشخصياتك المسكينة الصغيرة التي تجد نفسها مرغمة على السير كما تريد لها الميكانيكا أو قوانين الآلة
أن تسير .
عندما قال فريتس ذلك، ترك العراب در وسلماير وقصره خلفه، وتوجه نحو المائدة، ثم وضع سرية خيالته في وضعية
استعداد للمعركة.
أما ماري، فكانت قد ابتعدت بدورها، بخطوات وئيدة
لأن الحركة المنتظمة لكل تلك الدمى الصغيرة بدت لها حركة
رتيبة. غير أنها لم تقل أي شيء، مخافة أن تغضب العراب
در وسلماير، فمن المعروف عنها أنها طفلة فاتنة، وعطوف.
وبالفعل، فإنّ العراب در وسلماير، ما إن انصرف عنه فريتس
حتى بدا وكأنه مجروح من كلام الطفل، فقال للقاضي وحرمه :
- ما هذا؟ ما هذا؟ إن تحفة مثل هذه لم تصنع من أجل
الأطفال. سأضع قصري في علبته وسآخذه معي. لكن زوجة القاضي اقتربت منه، محاولة إصلاح ما ترتب عن قلة أدب فريتس، وشرعت تستعلم بالتفصيل عن تحفة العراب، سائلة ومستوضحة أسرار بناء القصر ومطرية بكامل الحصافة على تركيبته المعقدة، مما جعلها لا تصل فقط إلى إزالة الانطباع السيئ من ذهن العراب، وإنما استطاعت أيضاً أن تجعل هذا الأخير يخرج من جيب سترة «الرودنغوت» الصفراء عدداً كبيراً من مجسمات نساء ورجال قصار، بجلد أسمر وبعيون بيضاء وأيد وأرجل مذهبة. وفضلاً عن إتقان صنع أولئك النساء والرجال القصار، فإن رائحة عطرة كانت
تنبعث منهم، لأنهم كانوا مصنوعين من خشب القرفة. في تلك اللحظة نادت الآنسة ترودشن على ماري واقترحت عليها أن تقدم لها ذلك الفستان الحريري الجميل الذي كان قد فتنها عندما دخلت، والذي كانت قد سألت إن كان بإمكانها أن ترتديه. لكن ماري، رغم أنها معروفة بأدبها الجم، لم تجب الآنسة ترودشن، لأنها كانت مأخوذة بشخصية جديدة اكتشفتها لتوها بين اللعب. وتلك الشخصية، يا أطفالي الأعزاء، هي الشخصية التي أرجوكم أن تولوها كل
اهتمامكم، لأن من المنتظر أن تكون هي الشخصية المحورية لهذه الحكاية الحقيقية، إذ لن تكون الآنسة ترودشن وماري وفريتس والقاضي وزوجته، بل وحتى العراب در وسلماير، سوی شخصیات ثانوية، بالنسبة لها.
كنا نقول، إذن، إن ماري لم تستجب لدعوة الآنسة ترودشن لأنها كانت قد اكتشفت لتوها دمية جديدة لم يكن
قد سبق لها أن رأتها . وبالفعل، فعندما كان فريتس يُدير سريته ويجعلها تهتز وتستدير حول نفسها، كان قد جعل دمية رجل قصير
جذاب تظهر وهي تستند، حزينة، إلى جذع شجرة الميلاد. كان الرجل القصير صامتاً ولبقاً، وهو ينتظر دوره كي يصبح بادياً للعيان. إن هناك أشياء يجب أن تقال عن قامة هذا الرجل القصير، والذي نستعجل وصفه بأنه جذاب، رغم أن نصفه العلوي كان أطول قليلاً مما ينبغي، فلم يكن منسجماً بشكل کامل مع ساقيه الصغيرتين الهزيلتين، وأن رأسه كان كبيراً، تما كان يجعله غير متناسب مع الأبعاد التي لا تحددها الطبيعة
وحدها، وإنما أيضاً أساتذة الرسم الذين هم أعلم بذلك من
الطبيعة نفسها. لكن إن كان في جسده كل تلك النقائص، فإنه كان يعوّضها بحسن هندامه، الذي كان يدل على أنه رجل تربية وذوق كان يرتدي سترة من مخمل بنفسجي اللون عليها بعض الزخارف وأزرارها مذهبة، وسروالاً من القماش نفسه، مع جزمة رائعة لم يسبق لأحد أن رأى مثيلاً لها عند طالب، لا بل حتى عند ضابط . ذلك أنها كانت على مقاسه تماماً تما كان يُظهرها وكأنها مرسومة على قدميه. لكن، كان ثمة شيئان يبدوان غريبين عن هذا الذوق الذي يبدو منتمياً لمجتمع مخملي معطف خشبي رديء وضيق، مصنوع من المادة عينها التي صُنع منها ذيل كان يربطه إلى رقبته ويتركه ليتدلى وسط ظهره، وطاقية جبلية سيئة عدلها على رأسه. لكن ماري، عندما رأت ذلك التنافر بين هذين الأمرين وباقي لباس الرجل، كانت قد فكرت أن العراب در وسلماير نفسه كان يرتدي فوق سترة الرودنغوت» الصفراء ياقة ليست بأحسن حالاً البتة من المعطف الخشبي الذي يرتديه الرجل القصير على الطريقة البولندية. كما رأت أن العراب كان يعتمر أحياناً طاقية تصيب رؤيتها بالاشمئزاز، وليس لها أي مثيل فيرداءتها بين كل طاقيات العالم بأجمعه. لكن ذلك لم يكن يمنع من أن يكون در وسلماير عراباً رائعاً. وقد وصلت ماري إلى حد أن أسرت لنفسها بأن العراب در وسلماير، حتى إذا عمد إلى أن يلبس على طريقة الرجل القصير ذي المعطف الخشبي
فإنه لن يستطيع أبداً أن يصبح قريباً من طيبته ولطافته. وعلينا أن نعلم بأن ماري عندما كانت تفكر بتلك الطريقة، كانت تقوم في الآن نفسه، بفحص معمق للرجل القصير الذي اتخذته صديقاً منذ أن رأته لأول مرة. والحال أن ماري، كلما كانت تفحصه أكثر ، كانت تكتشف ما يتسم به جسده من رقة ومن لطف. لم تكن عيناه الخضراوان الصافيتان
تعربان إلا عن الهدوء وعن العطف. وكل ما كان بالإمكان أن
تؤاخذ به هاتان العينان هو أنهما كانتا جاحظتين. وكانت لحيته المصنوعة من القطن المجعد، والممتدة على ذقنه كله، تلائمه تماماً وتبرز ابتسامته التي ترتسم على فمه المرتخي قليلاً، ربما، لكنه أحمر ولامع. هكذا، وبعد أن تملته لأكثر من عشر دقائق، مبدية نحوه عطفاً متزايداً، ودون أن تجرؤ على لمسه، قالت: - أوه ! قل يا أبي الطيب لمن هذا الرجل القصير المتكئ هنا
على شجرة الميلاد؟ ليس لأحد على وجه التعيين، هو لكما معاً، أجاب
القاضي.
- ماذا تقصد يا أبي ؟ أنا لا أفهمك. هو سيعمل لصالح الجميع، واصل القاضي، هو الذي سيكلف من الآن فصاعداً بكسر كل حبات البندق التي
ستأكلانها. فهو لكما كليكما سواء بسواء.
بعد أن قال القاضي ذلك، حمل الرجل القصير برفق من
المكان الذي كان موضوعاً فيه، ثم رفع معطفه الخشبي الضيق
وجعله، بلمسة بسيطة، يفتح فمه، مبدياً صفين من الأسنان
البيضاء والمدببة. عندئذ وضعت ماري، بطلب من أبيها،
حبة بندق في فمه، فسمع صوت كراك ! كراك! فكسر الرجل
القصير البندقة بمهارة فائقة، إذ سقطت القشرة على الأرض
في شكل عدد كبير من القطع الصغيرة، أما النواة فقد ظلت سالمة في كف ماري . آنئذ فهمت الطفلة الصغيرة أن الرجل
القصير المتأنق ينتمي إلى تلك السلالة القديمة والمبجلة من كساري البندق الذين يعادلون في قدمهم قدم مدينة نومبيرغ. الرجل القصير إذن يعمل على مواصلة تلك المهنة الشريفة والإنسانية التي مارسها أسلافه منذ القديم. شرعت ماري المبتهجة باكتشافها، تقفز من الفرح، مما حدا بأبيها لأن يقول
لها:
- إذن، يا ماري الصغيرة، فما دام كسارة البندق» يعجبك إلى هذه الدرجة، ورغم أن لفريتس أيضاً حقاً فيه، فإنك أنت بالخصوص من ستتكلّفين بالعناية به. أنا أضعه إذن في
حمايتك.
عندما تلفظ القاضي بتلك الكلمات، سلّم الرجل القصيرإلى ماري التي أخذته بين أحضانها وجعلته يمارس على الفور مهنته. لكنها كانت تختار له لطيبة قلبها، حبّات البندق الأكثر صغراً حتى لا يحتاج محميها لفتح فمه على سعته، فيظهر في
حال غير لائقة، وتتخذ ملامحه شكلاً مثيراً للسخرية. عندئذ اقتربت الآنسة ترودشن كي تستمتع بدورها بالنظر إلى الرجل القصير، فأصبح لزاماً على كسارة البندق» أن يقوم بواجبه نحوها هي أيضاً. وقد استجاب بخضوع ودون أن يبدي أي تبرم، رغم أن الآنسة ترودشن ليست سوى خادمة. غير أن فريتس، رغم انهماكه في ترويض فرسه الأشقر وتدريب سريته، سمع صوت انكسار البندق الذي تكرر لعشرين مرة، ففهم أن أمراً ما جديداً قد حدث. لذلك رفع رأسه وحول عينيه المتسائلتين نحو المجموعة المكونة من
القاضي وماري والآنسة ترودشن، فلمح بين ذراعي أخته الرجل القصير ذا المعطف الخشبي. عندئذ نزل من على فرسه وسارع نحو ماري، دون أن يكون له الوقت الكافي كي يربط فرسه الأشقر في الإسطبل. وعندما وصل حيث كانت تقف أعلن عن حضوره بإطلاق ضحكة ابتهاج عالية ناتجة عن رؤيته لوجه الرجل القصير الذي كان يصبح مشوهاً عندما يفتح فمه الكبير. بعد ذلك طالب بنصيبه من البندق الذي كانیكسره الرجل القصير، فسلم له، ثم طالب بحقه في أن يجعله هو نفسه يكسره، فتمت الاستجابة لطلبه هذه المرة أيضاً، ما دام له الحق في نصف كسارة البندق». غير أن فريتس، وعلى العكس من أخته، بدأ يختار الحبّات الأكبر والأصلب كي يدخلها في فم كسارة البندق، مما جعل الحاضرين يسمعون بعد خمس أو ست من حبات البندق التي أدخلها فريتس في فم الرجل القصير، فجأة، صوت كراك، ورأوا ثلاث أسنان تسقط من لثة كسارة البندق»، وقد تفكك ذقنه، فأصبح على
الفور واهناً مرتعشاً وكأنه شيخ عجوز. - آه يا كسارة البندق) (8) المسكين والعزيز صاحت
ماري وهي تنتشل الرجل القصير من كف فريتس. إنه غبي مغفل، صاح فريتس. هو يريد أن يصبح كسارة بندق، لكن بفك من زجاج: إنه «كسارة بندق» مزوّر
لا يعرف كيف يقوم بمهمته. هاته يا ماري، فعليه أن يواصل كسر البندق من أجلي، حتى ولو فقد باقي أسنانه وخلع فكاه كلية. لكن ما الذي يهمك في هذا الكسول ؟ - لا، لا ! صاحت ماري وهي تضغط الرجل القصير
بين ذراعيها. لا، لن أعطيك أبداً كسارة البندق» المسكين. انظر كيف ينظر إلي بملامحه الشقية وهو يبدي فكه المسكين المجروح! تباً لك! أنت ذو قلب قاس، تضرب جيادك،
وقمت منذ مدة، حتى بإطلاق النار على أحد جنودك. - أنا أضرب جيادي عندما تكون جامحة، أجاب فريتس
بتبجحه المعهود، أما بالنسبة للجندي الذي أطلقت عليه النار
من مدة، فهو مجرد أفاق لم أستطع أن أجعله يقوم بأي شيء
منذ أن أصبح في خدمتي منذ سنة. وقد انتهى به الأمر أن
عمد إلى الفرار ذات صباح حاملاً معه سلاحه ومتاعه، وهو
ما يكون جزاؤه، في كل بلاد الدنيا، الإعدام. وعلى أي حال،
فإن هذه الأمور لها علاقة بالانضباط، وهو ما لا علاقة للنساء
به. وإن كنت أنا لا أمنعك من ضرب دماك، فعليك أنت أيضاً
ألا تمنعيني من ضرب جيادي ومن إطلاق النار على جنودي.
أما الآن، فأنا أريد كسارة البندق». أنقذني يا أبي الطيب قالت ماري وهي تلف الرجل القصير في منديل جيبها، أنقذني إن فريتس يريد أن يأخذ
من مدة، فهو مجرد أفاق لم أستطع أن أجعله يقوم بأي شيء
منذ أن أصبح في خدمتي منذ سنة. وقد انتهى به الأمر أن
عمد إلى الفرار ذات صباح حاملاً معه سلاحه ومتاعه، وهو
ما يكون جزاؤه، في كل بلاد الدنيا، الإعدام. وعلى أي حال،
فإن هذه الأمور لها علاقة بالانضباط، وهو ما لا علاقة للنساء
به. وإن كنت أنا لا أمنعك من ضرب دماك، فعليك أنت أيضاً
ألا تمنعيني من ضرب جيادي ومن إطلاق النار على جنودي.
أما الآن، فأنا أريد كسارة البندق». أنقذني يا أبي الطيب قالت ماري وهي تلف الرجل القصير في منديل جيبها، أنقذني إن فريتس يريد أن يأخذالطب، والتي تسمح لي بأن أصدر حكماً الآن، يبدو لي أن هذا المسكين البائس قد تعرّض لأضرار كبيرة، وهو في حاجة إلى علاج مكثف. فأنا، إذن، أعطي الماري كامل الصلاحية لأن تعتني به حتى تمر مرحلة نقاهته على أحسن وجه، ولا أسمح لأحد بأن يناقش هذا القرار. ثم، أين رأيت أنت، وقد أصبحت على هذا القدر من المعرفة العسكرية، جنرالاً يطلق النار على جندي جريح يؤدي مهمته؟ الجرحي يذهبون إلى المستشفى إلى أن يعافوا، وإن لم يشفوا وبقوا ذوي عاهة صار
لزاماً إيواؤهم في ملجأ جرحى الحرب. أراد فريتس أن يحتج، لكن القاضي رفع سبابته إلى مستوى عينه اليمنى، وأطلق هاتين الكلمتين
- السيد فريتس !
وقد سبق لنا أن رأينا أي تأثير يكون لهاتين الكلمتين على الطفل الصغير. انسحب، ذليلاً، بعد هذا التوبيخ، ثم انسل، دون أن يتلفظ بكلمة واحدة من الجانب الذي توجد فيه سرية الخيالة على المائدة الخيالة بدورهم، كفوا عن الحراسة ثم استداروا وانصرفوا صامتين إلى مبيتهم الذي سيقضون فيه
ليلتهم.
أثناء ذلك، كانت ماري تجمع الأسنان الصغيرة لـ كسارة
البندق» الذي كانت ما تزال تحتفظ به ملفوفاً في منديلها، وقد ربطت ذقنه بقطعة ثوب بيضاء قطعتها من فستانها القطني. الرجل القصير، من جانبه، كان يبدو ممتقعاً جداً وخائفاً، لكنه كان يبدو أيضاً واثقاً من طيبوبة حاميته. وعندما أحس بأنها تهدهده، بدأ يشعر بالأمان شيئاً فشيئاً . آنئذ لاحظت ماري أن العراب در وسلماير كان ينظر إليها بنظرة ساخرة وهي تقدم تلك العلاجات لمعطف الخشب وكأنها أمه، وقد بدا لها حتى أن العين الوحيدة للمستشار الطبي، كانت تحمل تعبيراً خبيثاً و شريراً، الأمر الذي لم تعتد عليه من العراب. لكل ذلك
أرادت أن تبتعد عنه.
آنئذ رفع العراب در وسلماير عقيرته بالضحك وهو يقول: بحق الرب! أنا لا أفهم يا ابنتي بالتبني كيف يمكن لطفلة جميلة مثلك أن تبدي كل هذا العطف نحو هذا الرجل
القصير البشع.
التفتت ماري، وهي ترى أن الإطراء الذي تلفظ به عرابها
في حقها لا يمكنه أن يعوّض هجومه الظالم على كسارة
البندق، وشعرت بغيظ شديد لا ينسجم مع طبيعتها
الهادئة، فعادت إلى ذهنها تلك المقارنة التي سبق لها أن أقامتها
بين عرابها وبين الرجل القصير :
- أيها العراب در وسلماير ، قالت ماري، أنت تظلم كسارة
البندق الصغير المسكين، إذ تصفه بأنه رجل قصير بشع. ومن يدري، إن كانت لك سترته البولندية وسرواله الصغير الجميل وجزمته الصغيرة الجميلة، إن كنت ستبدو جميلاً مثله. عندما سمع أبوا ماري ما قالته ابنتهما، شرعا يضحكان،
فتمدد أنف المستشار الطبي بشكل ظاهر. لماذا تمدد أنف المستشار الطبي بتلك الطريقة، ولماذا رفع القاضي وزوجته صوتيهما بالضحك؟ ذلك ما كانت ماري تحاول سدى أن تعرفه، وهي مندهشة من ردّ الفعل الذي
أثارته إجابتها.
والحال أنه ما دام غير ممكن وجود رد فعل دون فعل، فإن رد الفعل ذاك كان مرتبطاً بالتأكيد بأمر ما ملغز وغير
معروف، وسيشرح لنا في ما سيأتي.
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon