NovelToon NovelToon

قاتل الشياطين:قلوب متحدة

رياح القدر :من ظلام الحرب إلى أرض الشمس المشرقة

كان من الغريب حقاً أن تعيش حياة هادئة، تحيط بك عائلتك ومن تحب،

وأن تتوقع أن هذا السلام لن يتبدل أبداً.

الأيام تمر بروتينية بسيطة ولكنها سعيدة.

 ثم، في ليلة وضحاها، يتحول كل شيء.

الحياة التي كانت مليئة بالبساطة والفرح تنقلب رأساً على عقب لتصبح بركة من الدماء.

أولئك الذين كنت تسميهم يوماً ما بالعائلة،

 يختفون في لمح البصر.

.... ...

.... ...

.......

في أرض تقليدية هادئة،

حيث كانت الشمس تشرق كل يوم على حقول القمح المترامية والبيوت الطوبية القديمة،

 كانت الأجواء معتدلة ودافئة،

وأهلها معروفون بطيبتهم وكرمهم،

حتى تجاه الغرباء.

 لم يتوقع أحد أن يتحول كرمهم وضيافتهم لضيف أظهر حسن النية في البداية،

إلى طعنة غادرة في الظهر!.

فجأة،

 اندلعت الحرب،

دون سابق إنذار.

 المستعمرون هجموا بلا رحمة، وأصبحت القرية المسالمة مسرحاً للعنف والدمار.

 الأمهات اللواتي كن يغنين لأطفالهن في المساء،

صمتن إلى الأبد.

الرجال الذين كانوا يعملون في الحقول، تحولوا إلى ذكريات تُروى.

 اختفى الأمن،

ومعه الأمان.

 ما كان يوماً حياة مليئة بالحب والانسجام، تحول إلى كابوس لا ينتهي.

.....

في هدوء الليل، داخل القاعدة العسكرية التي تعبق برائحة الصمت والبرد القارس،

كانت تتردد خطوات خافتة لفتاة صغيرة، عمرها لا يتجاوز الحادية عشر عاماً.

 شعرها الأبيض القصير يلامس كتفيها، وعيناها الزرقاء خُفت من بريقهما بفعل الأحداث الدموية التي شهدتها.

بشرتها شاحبة، وجسدها الضعيف يحمل بندقية، وترتدي زياً عسكرياً أسوداً متماسكاً، بالإضافة إلى علم وطنها الذي يزين صدرها على السترة المتينة التي كادت تعجز عن حملها.

الرواق كان حيا بحركة الجنود المسؤولين عن الدوريات الليلية،

 بينما البقية ناموا في حجراتهم الصغيرة.

خرجت الفتاة من القاعدة بخطوات ثابتة ومرنة،

 تتجه نحو مكان معين بدقة فائقة وتركيز متناهي.

وقفت متأملة للحظة،

ثم ابتسمت بخفة عندما شاهدت صبياً يرتدي زياً عسكرياً مشابهاً،ذو شعر اسود قصير مبعثر وعيون زرقاء، يتحرك بحذر شديد في المنطقة.

تقترب منه برفق، وتقول بصوتٍ هادئ ولكن واثق،

"أخي."

الصبي يلتفت بسرعة، وعلى وجهه تعبير جاد واستياء واضح.

"روان... ماذا تفعلين هنا؟ كان يفترض أن تكوني نائمة في الحجرة!"

 قال بصوت حازم، وعيناه تلقى وهجا حادا نحوها.

"لم أتمكن من النوم... أردت مساعدتك في المناوبة الليلية، يا أخي."

ردت بابتسامة ناعمة على شفتيها، بينما تشدد قبضتها قليلاً على بندقيتها دليلا على توترها.

ابتسامتها لم تلقَ قبولًا من أخيها الذي بدا غاضبًا، وضع يده على جبهته معبرا عن الإحباط والغضب الذي ينتابه.

"يا إلهي~... ماذا سأفعل بك الآن؟ لماذا لا تستمعين أبدًا لما أقوله؟"

تنهد نواه بغضب متجاهلاً تماماً الابتسامة التي تعثرت بشفتي روان.

"الا تدركين صعوبة الأمر علي اللعنة!... أحاول جاهداً تأمين حياتنا هنا!... من المفترض أن يكون هذا دورك في المناوبة الليلية، ولكنني أجد نفسي أعمل مكانك!.. هل تعلمين ما السبب...انه لحمايتك! "

 صرخ نواه بصوت مليء بالغضب، وهو يحدق بشكل حاد في عيني أخته.

تراجعت روان خطوة للوراء بتوتر، وهي تحاول مكافحة الدموع التي بدأت تلتهب في عينيها، تسيل على خديها مبللاً وجهها بالحزن والإحباط.

"لكنني... أخي نواه... أريد فقط أن أساعدك."

 كان صوتها مرتعشاً وضعيفاً، وكلماتها تعكس اليأس والرغبة في فهمها.

"اترين الأمر.. دائماً تلجئين للبكاء، لأنك ضعيفة جداً! لا تستطيعين حتى حمل البندقية بشكل صحيح والتصويب، وتتوقعين مني أن أعتمد عليك!"

تقاطعها نواه بصوت يحمل فيه الغضب والاستفزاز، وهو يستمر في توبيخها.

فجأة، صوت دخيل يتسلل من بين الأشجار من الخلف، موبخاً.

"هاي توقف عن إحداث الضوضاء.. ستكشف موقعنا!"

صرخ الصوت من خلف الأشجار، مما جعل نواه ينهض ويستدير عائداً إلى موقعه.

"أعلم أن الأمر كان صعباً منذ وفاة والدينا.. ولكن الجميع يعاني هنا، والجميع يسعى للبقاء على قيد الحياة...

 إذا أردتي النجاة، عليكِ أن تتوقفي عن التصرف كالفتاة المدللة التي كنتِ عليها، وتنضجي، وتفعلي ما أقول،

وإلا سأتركك خلفي."

 كانت كلمات نواه تحمل نبرة موبخة، ولكنها أيضاً تحمل نغمة من الاهتمام والحزن.

روان ابتعدت بسرعة، تاركة نواه وحده بين الأشجار مركزا على عمله، حيث جلست تحت ظلالها الساكنة، والدموع لا تزال تتساقط بحرية من عينيها، ترتجف وجنتاها وهي تتأمل في اللحظات الصعبة التي تمر بها.

على رغم محاولاتها اليائسة للسيطرة على نفسها، إلا أن روان لم تستطع منع دموعها من الانهمار بغزارة.

"توقفي عن البكاء.... ضعيفة.. حمقاء... عديمة الفائدة..."

 همست بنفسها بصوت مكسور، وهي تمسح بقسوة الدموع التي تسيل بلا هوادة.

مع كل كلمة توبيخ جديدة تقولها لنفسها، تزداد غضبًا على نفسها، لكن الدموع لا تتوقف، تتكاثر حتى تملأ وجنتيها وتقطر على الأرض أمامها.

تلك الذكريات من ذلك اليوم المشؤوم ،

حينما استيقظوا في وسط الليل بفعل صوت إطلاق النار المدوي قبل سنتين ، لم تترك روان ونواه أي فرصة لنسيان المأساة التي جرت، قوات العدو تسللت بلا رحمة مستخدمة رشاشاتها بلا هوادة لقتل والدها الذي حاول دون استسلام حمايتهم، في حين حاولت والدتهما بجهد أن تخبئهما بعيدًا عن أعين الغزاة ، لكنها دفعت ثمن ذلك بتعرضها للقتل والتعذيب على يد القوات الاحتلالية ، فقط لأنها أرادت أن تمنحهما فرصة للبقاء على قيد الحياة .

 زادت هذه الذكريات من حزنها وإحباطها ، وتزايدت دموعها حتى أغرقتها في النوم ، بعيدًا عن العالم المأساوي الذي أصبحت حياتها .

.....

غارقة في نومها، تستيقظ روان على صوت مدوي لاطلاق النار والقنابل.

"هاه؟! "

تخرج من بين الشجيرات، تمسك بندقيتها بتوتر وتشعر بالهلع وهي تكتشف المنظر المروع...

 العدو قد توغل إلى داخل القاعدة.

 ماذا حدث؟ ومتى؟

"بسرعة!، قوموا بالهجوم مباشرة! لا وقت للتنظيم! لقد توغل العدو بالفعل هنا!"

صوت الصراخ ملأ المكان. شعرت روان بالهلع لدرجة أنها لم ترغب في الخروج من مخبئها، كانت ترتجف.

'علي الخروج... والقتال... لكنني خائفة'

صوت صارخ بخوف يخرجها من حبل أفكارها.

"روان!... روان!... أين أنتِ؟"

رأت روان أخاها يبحث عنها بيأس ويبدو خائفًا، لتظهر ابتسامة أمل على شفتيها وتركض نحوه دون تفكير.

"نواه!"

تركض نحوه لتعانقه.

"أخي... أنا خائفة" قالت وهي تنظر له بدموع في عينيها وجسدها يرتجف بشدة.

" اتبعيني فحسب.. اعرف مكانا للهروب من المنطقة."

يركض هو بينما يطلق النار مصوبًا على الأعداء. كان العديد من أصدقائه يسقطون أرضًا قتلى.

أمسكت روان بندقيتها بصعوبة بيديها المرتعشتين، وصوبت نحو أحد رجال العدو الذي اقترب منهم بشكل خطير.

 أطلقت النار لتصيبه في صدره.

اتسعت عيناها من الشعور المهيب عند قتله.

 لم تقتل هي سوى عدد قليل من جنود العدو خلال فترة تجنيدها، عدد قليل محصور بعدد الأصابع.

ولكن في كل مرة تقتل شخصًا، ينتابها هذا الشعور المقزز.

تنظر هي للدماء المتناثرة على ملابسها ووجهها بسبب الطلق الناري.

كان كل من روان ونواه يختبئان خلف جدار مهدوم، ولكنه كافٍ لتغطيتهم من هجمات العدو.

يطلق نواه النار بوجه العدو بتركيز، بينما تركز روان على حماية ظهره، لكنها لا تزال تحت تأثير الصدمة.

يتم إلقاء كرة ذات شكل دائري ، يدرك نواه أنها قنبلة على الفور.

يمسك بيد روان ويهرب من ذلك المكان تفاديًا للانفجار، ويتفادى وابل الرصاص بصعوبة بينما يسحبها معه.

يصرخ في داخله:'علي حمايتها'

يحاول الاختباء وراء الأشجار متوجهًا للغابة، لكن تصيبه رصاصة في بطنه مما يجعله يسقط أرضًا.

"أخي!"

تصرخ روان بقلق، تنظر لأخيها المصاب بهلع وتحاول سحب جسدّه بعيدًا عن الهجوم إلى مكان آمن بعيدًا عن الخطر.

"أخي... هل أنت بخير؟ أرجوك أن تصمد قليلاً."

تحاول هي إيقاف النزيف بالضغط على الجرح ولكن دون جدوى؛

يجب إزالة الرصاصة أولاً.

تتذكر هي أنه يجب عليها الدفاع عن نفسها، تنظر حولها ولا تجد بندقيتها؛ لقد سقطت عندما حملت جسد أخيها إلى بر الأمان.

 ينبض قلبها بخوف وتوتر، لكنها تحاول التحلي بالشجاعة لأجل الشخص الذي لطالما قام بحمايتها.

تتحلى هي بالشجاعة لتركض لتحصل على بندقيتها بينما يتم إطلاق رصاص طائش نحوها.

 تحمل هي البندقية، لكن تصيبها رصاصة في كتفها.

"غاه!"

تحاول مقاومة الألم بينما تعود إلى جانب أخيها.

بصعوبة، تتقدم منعثرة إلى أن تصبح بجانب أخيها، تقوم هي بإطلاق النار للدفاع عن نفسها وأخيها المصاب.

لقد أصبح تنفسه ثقيلاً وضربات قلبه تتناقص تدريجيًا.

تتجمع الدموع في عينيها، ولكنها تعلم أن الوقت ليس للبكاء.

 يجب أن تبقى قوية، من أجلها ومن أجل نواه. تتذكر كل ما علمها إياه عن البقاء والتصويب. تتنفس بعمق، تضع الألم جانبًا، وتستجمع كل قوتها لإطلاق النار بدقة.

"سأحميك، نواه... سأفعل."

تنظر حولها، تراقب تحركات العدو وتستمع بتركيز لصوت الخطوات القادمة من الظلام. تعرف أن عليهم التحرك سريعًا، فالأعداء يقتربون، والوقت ليس في صالحهم.

نواه يفتح عينيه بصعوبة، يحاول الكلام ولكن الألم يعيقه.

يغمض عينيه مرة أخرى، بينما روان تحاول جاهدة رفعه وسحبه بعيدًا.

روان تسحب بندقيتها بيد واحدة، وتستمر في إطلاق النار باليد الأخرى، مقاومة الألم في كتفها بصعوبة، مصيبة بعضاً من جنود العدو.

لكن فجأة، تنفذ الذخيرة.

 لا توجد ذخيرة أخرى، وتتفاجأ بأحد جنود الاحتلال يقف خلفها ويمسكها بقوة من الخلف.

"دعني!"

تصرخ وهي تحاول الهروب من قبضته، لكنه يثبتها وينزلها على ركبتيها. هو أقوى منها.

يتقدم جندي آخر من جنود العدو، وعلى وجهه ابتسامة باردة، ويقف بالقرب من أخيها المصاب.

"لا سبيل للمقاومة الآن... لقد انتهى كل شيء."

يقول الجندي الاحتلالي بلكنة غير متقنة تمامًا للغة.

يمسكها من شعرها ويوجه نظرها إلى المشهد المرعب حولها؛ الدماء المتناثرة، الأجساد البشرية الممزقة، الأرض المحترقة، ورائحة الغبار والدخان والدماء التي تملأ المكان.

 أخوها يتنفس بصعوبة أمامها، وبجانبه يقف جندي آخر من جنود الاحتلال.

تشعر روان بنبض قلبها يتسارع، ويملأها الحزن والإحباط والغضب المكبوت.

 تكافح حتى لا تبكي أمامهم، حتى لا تبدو ضعيفة.

"لقد خسرتم... كل شيء احترق تمامًا.

أنتِ ضعيفة، ولا يمكنك فعل شيء.

مهما كان عددكم ومهما حاولتم التكاثف، القوي هو من يملك الغلبة.

 ونحن الطرف القوي.

 أنتم لا شيء سوى حشرات تافهة، مجرد عقبات في طريقنا.

فخورون بدفاعكم العقيم وشجاعتكم المزيفة، ولكن انظري إلى ما تبقى منكم الآن.

هذا هو مصير كل من يحاول الوقوف في وجهنا!."

يضيف الجندي الاحتلالي بنبرة ساخرة، وعيناه تلمعان بالشماتة.

تضغط روان على أسنانها، تحاول أن تستجمع قواها.

ترفع رأسها وتنظر في عينيه، ترى الظلم والوحشية، وتشعر بالغضب يشتعل داخلها.

أطلق الجندي ضحكة مستهزئة، مستمتعاً بمشهد تحديها الذي رآه بلا جدوى.

"أوه، تلعبين دور البطلة الشجاعة، متمسكة بالأمل في هذا الجحيم؟ كم هو مثير للشفقة.

لا أطيق الانتظار لأحطم تلك النظرة الشرسة في عينيك، وأدمر هذا الأمل الزائف.

سأستمتع بنزع الأمل والسعادة من قلبك، وتحويلك إلى مجرد ظل بلا روح.

أنتم لستم سوى حشرات تافهة في طريقنا، والعاقبة ستكون عبرة لكل من يجرؤ على الوقوف في وجه قوتنا."

نظرت روان بقلق إلى أخيها الذي يتأوه من الألم، وكأنه يريد أن يقول شيئاً.

لاحظ الجندي تلك النظرة وأدرك أنه شخص مهم لها.

" أتدرين أمراً؟ نحن البشر كائنات ضعيفة وهشة، نتأثر بسهولة ونتمسك بأوهام لحماية مشاعرنا.

 مثلاً، العائلة. مجرد كلمة تجمع أفراداً يتشاركون في الدماء.

قد يظهرون أنهم يهتمون ببعضهم البعض، وأنهم لا يمكنهم التخلي عن بعضهم، لكن عندما تصبح الظروف صعبة، سيتخلون عنك.

 هذا يجعل الفرد يدرك حقيقته، ويعلم أنه عليه التخلص من هذه الأوهام والروابط الوهمية. فقط عندها يكتشف حقيقته ويرى العالم كما هو حقاً...."

قال بصوت ثابت بينما يضع البندقية على رأسها، يضربها بها بلطف كافٍ لتحريك رأسها، فقط لاستفزازها.

نظرت هي للأسفل بإحباط وانهزام،

دون أي حيلة.

نظر الجندي إلى زميله الواقف بجانب أخيها المحتضر، وأومأ له.

فهم زميله الإشارة ووجه البندقية نحو رأس نواه.

فتحت روان عينيها على مصراعيها، مرعوبة.

"م-ماذا تفعل؟ لا... توقف..."

ارتعش صوتها من التفكير في احتمالية فقدان أخيها.

"ششش... لا بأس."

قال الجندي وهو لا يزال يوجه البندقية نحو رأسها، يقف فوقها شامخاً وعلى وجهه ابتسامة باردة، وعيناه تحملان قسوة لا تعرف الرحمة.

"لاداعي للقلق.. انا فقط سؤحررك من هذه القيود...

احررك من وهم الروابط..

لتظهر

ذاتك الحقيقية"

 يقول ويرفع أصبعه ليطلق صديقه النار في راس أخيها مباشرة، ترديه ميتا

اتسعت عينا روان وهي ترى دماء أخيها تتناثر..

تحول جسده إلى جثة هامدة تلطخ الدماء الأرض من حولها. ارتعش جسد روان، ومررت رؤية أخيها على هذا النحو قشعريرة باردة عبر عمودها الفقري. لم تصدق ما حدث للتو. فقدت الشخص الوحيد المتبقي لها من عائلتها. قد ذهب الآن. شعرت بشيء ينفجر داخلها، خليط من الغضب، الحزن، والحقد. تساقطت الدموع بغزارة من عينيها، لترتطم بالأرض بينما علت ضحكات جندي الاحتلال. أفلت عنقها عندما شعر بجسدها يرتخي من صدمة فقدان أخيها.

كانت موجهة وجهها نحو الأرض بإحباط، وشعرها يتساقط على الجانبين. عيناها مفتوحتان على مصراعيهما، ولسانها عاجز عن الكلام.

اتسعت ابتسامة الجندي الاحتلالي وهو يضربها بطرف البندقية مجددا ولكن ليس بقوة كافية لاسقاطها أرضا، كان جسدها يتمايل مع كل ضربة.

تصر هي اسنانها معا نتيجة الغضب المكبوت.

أظلمت عيناها، وأدركت فجأة أنها باتت وحيدة، بعد أن خسرت آخر فرد تبقى من عائلتها. شعرت بشيء مفقود في أعماقها، وكأن روحها انتزعت منها، بينما كانت دموعها تتساقط بغزارة على الأرض الملطخة بالدماء تحتها.

فيما كان الجنديان منشغلين بالضحك والاستهزاء بها، تحركت يدها ببطء إلى خنجر صغير كان مخبأ بعناية داخل أنسجة سترتها المتينة. استغلت لحظة غفلة الجندي، الذي تهاوى دفاعه، وغرست الخنجر بحدة في ركبته، مما جعله يصرخ من الألم.

"آه!... أيتها الحقيرة!"

سقط على الأرض، وقبل ان يصر لبندقيته وايضا قبل أن يتمكن زميله من التحرك، او الوصول انقضت عليه روان بشراسة، وبدأت تطعنه بلا رحمة في صدره ووجهه. قبضت يديه على كتفيها لاعادها لكنه لم يستطع فلقد استمرت بطعنه بلا هوادة بيننا تنظر له بعيون مظلمة جعلته يتساأل 'كيف يمكن لشخص ان ينظر لي بهذه الطريقة'… لم تعد الفتاة الصغيرة تشعر بشيء سوى الغضب واليأس، وعيناها المظلمتان عكستا تحولًا مخيفًا في شخصيتها، وكأنها أصبحت كيانًا مظلمًا، يحمل في نظراته كراهية وغضبًا لا ينطفئان.

وقف الجندي الآخر مذهولًا، غير قادر على الحركة، بعينين واسعتين ويدين ترتجفان. تملكه الذهول من المشهد أمامه، وبينما حاول أن يستجمع شجاعته، كانت أفكاره متضاربة.

'ما هذا... يجب أن أتحرك... أن أوقفها، لكن... جسدي يرتجف. هذا الكره... هل هذا هو الشعور عندما يفقد الإنسان إنسانيته؟'

تحرك أخيرًا وضربها ببندقيته على رأسها من الخلف، مما جعلها تفقد الوعي على الفور.

.

.

.

.

روان تفتح عينيها ببطء، تشعر بألم حاد في جسدها.

كانت مربوطة بإحكام إلى كرسي، يديها مكبلتين خلف ظهرها وقدميها مقيدتين إلى أرجل الكرسي.

نظرت إلى الأسفل بعيون باردة، خالية من أي تعبير.

مرت ثلاثة أيام وهي تحت الاستجواب القاسي، دون أن تبوح بأي معلومة.

أدركوا أن محاولاتهم كانت بلا جدوى، فقرروا وضعها مع الأسرى الآخرين ليتم بيعها في سوق العبيد.

"ضعوها مع العبيد الآخرين "

يأمر الجندي الاحتلال وهو نفسه الذي كان يشاهد بينما كانت هي تقتل صديقه. نفسه الذي قتل اخاها.

كان لا يزال ينظر لها بنظرة محيرة وغامضة.

"ولكن سيدي الم تقل انها قتلت احد قادتنا.. القائد نيكولاس.. انها خطيرة، يجب قتلها سيدي "

يتحدث الجندي الآخر غير مقتنع بفكرة ترك شخص خطير وغير متوقع مثلها مع العبيد.

يقترب منها قاتل أخيها. من صوب الرصاصة في راس أخيها مباشرة؛ يضع يده على ذقنها ويرفع للنظر في عينيها الزرقاء الباردة.

"أفعل ما امرتك به.. فهي لن تفعل شيئا بعد الآن"

يضيف بينما يترك ذقنها مدركا انها فقدت نفسها ولم تعد تمثل تهديدا لهم.

...

لم يكن ذلك السوق مزدهرًا في تلك الفترة، حيث شهد العالم تحولات جذرية مع إلغاء النظام الإقطاعي والتوجه نحو التصنيع والتحديث.

على الرغم من إلغاء العبودية رسميًا في معظم الدول، إلا أن الممارسة لم تُمنع تمامًا.

بقي بعض النبلاء وذوي المكانة الرفيعة يستخدمون العبيد كوسيلة للتباهي بثرواتهم، وكسلعة تُباع وتُشترى لتحقيق أهدافهم الخاصة.

الرجال كانوا يُستخدمون عادةً في الأعمال الزراعية أو البناء، وأحيانًا يتم تجنيدهم في الجيوش.

أما النساء، فكانت تُسخر في الأعمال المنزلية، أو كمربيات وخادمات، وتعرضن للاستغلال الجنسي في القصور الملكية أو كجزء من تجارة الجنس.

أما الأطفال، فقد كانوا يُستغلون في الأعمال المنزلية أو في الحقول، وبعضهم يُدربون منذ الصغر لتحقيق رغبات شخصية لأسيادهم.

كانت روان واحدة من هؤلاء الضحايا، تواجه مصيرًا مجهولًا بعد أن فقدت كل ما تملك.

بعد أن تم علاج ذراعها من الطلق الناري، بقيت ندبة عميقة على كتفها، علامة دائمة تذكرها بما مرت به.

رغم أن تلك الندبة قد تجعلها أقل قيمة في سوق العبيد، إلا أن جمال وجهها وجسدها ظل يجذب أنظار التجار، مستعدين لدفع ثمن باهظ لمشاهدتها تكبر و تزهر.

تم إلباسها ثوبًا أبيضًا رقيقًا، وكبلت يداها وساقاها بقيود ثقيلة، متصلة بسلاسل مع بقية العبيد الآخرين.

نظرت روان حولها بتعبير بارد، خالٍ من الحياة. نساء، أطفال، ورجال كانوا يقفون بجانبها، جميعهم يساقون نحو مصير مجهول.

تم توجيههم للصعود إلى أحد القوارب المتجهة نحو الشرق، حيث تنتظرهم حياة جديدة مليئة بالاستعباد.

أما روان، فلم تشعر بأي شيء. لقد فقدت كل شيء بالفعل، ولم يعد هناك ما يثير اهتمامها أو يخيفها.

كان القارب يئن تحت وطأة المعاناة التي حملها على متنه. في إحدى الزوايا، جلست أم تحتضن طفلها بقوة، تحاول أن تخفف من بكائه المستمر بلمساتها المرتجفة وكلماتها الخافتة. كان الرعب يملأ عينيها وهي تحاول إخفاء خوفها من أجل صغيرها. بجانبها، رجل صامت، مشدوهة عيناه بالفراغ، لا يصدر منه أي صوت ولا يتفاعل مع العالم حوله، وكأن الصدمة قد انتزعت منه قدرته على الكلام.

على مسافة قريبة، كانت طفلة صغيرة تجلس وحيدة، تضغط وجهها بين ركبتيها، وجسدها يهتز من الخوف، تبحث عن أي دفء أو أمان في هذه الظلمة التي لا تنتهي.

من حولها، كان بعضهم يجهش بالبكاء، وكأن دموعهم هي اللغة الوحيدة المتبقية لهم للتعبير عن ألمهم.

آخرون، وقد استسلموا لليأس، جلسوا بصمت قاتم، عيونهم تائهة في المجهول، وقد فقدوا كل أمل في الخلاص.

وبين الحين والآخر، كان هناك من يحاول أن يكون السند، يحتضن قريبًا أو صديقًا، يتمتم بكلمات مطمئنة لا يؤمن بها هو نفسه، لكنه يكررها على أمل أن تمنحهم لحظة واحدة من الراحة، حتى وإن كانت كاذبة.

في هذا الجو الخانق، كان الجميع يشعر بأن الحياة أصبحت مجرد انتظار طويل ومؤلم للمجهول.

.

مرت ثلاثة أيام على هذا الحال، ولا يزال القارب يتحرك في عرض البحر؛ تم الاعتناء بالعبيد بعناية لضمان ظهورهم بأفضل شكل ممكن.

كانت النظافة والتجهيزات التي خضعوا لها تهدف إلى رفع قيمتهم في السوق، رغم أنهم كانوا يواجهون هذا الواقع القاسي بصمت مرير.

وفي الوقت ذاته، كان من يرفض الطعام أو الرعاية يُعاقب بشدة. أولئك الذين تجنبوا تناول الطعام أو أظهروا عدم تعاون مع المشرفين قوبلوا بالسوط، وصوت الصرخات والألم كان يملأ الأرجاء كتنبيه دائم لغير الراغبين في الانصياع. كانت هذه العقوبات المروعة تعكس بشكل صارخ طبيعة القسوة واللامبالاة التي تواجه بها حياة العبيد، حيث يُقابل رفضهم بالضرب والتهديد، ليُجبروا على قبول واقعهم المرير.

"لا!

... انا أرفض الانصياع! .. انا ولدت حرا ولن اسمح لكم بتقييدي! "

بينما كان القارب يواصل رحلته البطيئة عبر المياه الكئيبة، ارتفع فجأة صرخ مفاجئ من أحد الركاب.

رجل، يبدو أن اليأس قد استولى عليه تماماً، قرر أن يرفض الانصياع لهذا المصير المظلم.

في لحظة من الإصرار، قفز إلى الخارج محاولاً الهروب من براثن العبودية، عازماً على قضاء نيرانه بحريته حتى وإن كانت قصيرة.

لكن الأمل الذي كمن في هذه الخطوة تلاشى بسرعة.

من بعيد، صرخ الحراس، يطلقون الرصاص بشكل عشوائي على هذا الرجل الذي يحاول الهروب.

كان الصوت المفزع للطلقات يملأ الهواء، وأصوات الضحايا الأخرى التي بدأت تصرخ في فزع.

سقط الرجل مضرجاً بدمائه، يطفو على سطح المياه التي امتلأت بدمائه وألمه.

بينما كان القارب يتابع سيره، كان هذا المشهد يضاف إلى ركام الأمل المفقود الذي يثقل كاهل الجميع على متن القارب.

كانت هذه النهاية المؤلمة تذكيراً قاسياً بأن الهروب ليس خياراً، وأن كل محاولة للخلاص قد تتحول إلى معركة ضارية مع الموت، لتزيد من حدة اليأس والظلام الذي يكتنف كل من عُقدت عليهما الآمال والأحلام.

انها ليلة اليوم الرابع من المتوقع وصولهم لسواحل اليابان مع بزوغ فجر اليوم الخامس؛ رغم ان تجارة العبيد لا تنشط في هذه المنطقة الا ان الملوك اليابانيين ورجال السياسة لن يرفضو نسلا اجنبيا للتلاعب به واستخدامه.

في تلك الليلة، وفي ظل العاصفة المدويّة، كان القارب يواجه أمواج البحر العاتية، واهتزازاته العنيفة تتسبب في تحطم هياكله. اليابان، المعروفة بتعرضها لكوارث طبيعية ونشاطها في الحزام الناري، كان القارب الآن يشهد خطأً في الملاحة يقودهم إلى مأساة.

"اهدئ صغيري... لا داعي للبكاء.."

سعت الام يائسة لتهدأته طفلها رغم أنها هي نفسها قد أصابها الهلع

"سنموت... سنموت... سنموت"

تمتم الرجل بصوت مكتوم ويائس بينما تتشابك اصابعه مع شعره بقسوة وهو ينظر للارض بيأس

البكاء.. الصراخ.. رمى البعض نفسهم من القارب لتلتهمهم أمواج البحر العالية..

كانت روان، رغم القلق الذي يحيط بها، تتشبث بإحدى عارضات القارب بتصميم هادئ، خالية من أي خوف.

لكنها لم تكن مبالية بما يحدث، فقد وصل شعورها بالانفصال عن كل شيء إلى حد لا يثير اهتمامها.

وأخيراً، اجتاحت موجة هائلة القارب، ونتج عن قوة الاندفاع تحطمه بشكل كامل، رغم محاولات المشرفين من جنود الاحتلال الحفاظ على استقرار القارب.

يغرق الجميع في البحر.

في ظل الاضطراب والفوضى، تصارع البعض للسباحة والنجاة، بينما استسلم آخرون لمصيرهم المحتوم، حيث كانت أمواج البحر القوية أقوى من أن يواجهها أي إنسان.

أما روان، فقد وجدت نفسها تغرق في المياه الباردة، التي أحاطتها بسلام غريب.

'هذا دافئ'

بينما كان الموت يبدو كخيار مريح، استسلمت للأمواج، وابتسمت بهدوء لآخر مرة.

'أشعر بالهدوء.. اريد فقط اغماض عيني والنوم'

قبل أن تسحبها المياه إلى الأعماق، أغمضت عينيها في سكينة مفاجئة، وذكريات وجه عائلتها السعيد تتلألأ في ذهنها.

بينما كانت تتناثر حطام القارب حولها، ومع انتشاء أحاسيس مريرة، تسللت إلى أعماق المحيط، تاركة وراءها كل ما كانت تملكه من أمل ومشاعر.

.

.

.

دافئ.

.

.

.

رائحة طعام.

.

شعرت روان بدفء غامض،

لكنه لم يكن الموت الذي توقعته.

"نغه.. أه! .."

فتحت عينيها ببطء،

"كح! . كح!..."

لتجد نفسها تسعل بشدة، حيث كان حلقها جافاً كالصحراء وجسدها بارداً كالجليد.

'بارد... أشعر بالبرد.. ما هذا.. لم امت كيف يعقل هذا...'

وسط هذا الألم والضعف، شعرت بشيء دافئ شخص يدعم جسدها. وشيء دافء يلامس شفتيها، بينما كانت الرؤية ضبابية وغير واضحة.

'آه.. ماء!'

أدركت بسرعة أن ما شعرت به كان ماءً، فأخذت تشربه بشغف، وكأنها لم تذق الماء منذ زمن طويل.

مع كل رشفة، بدأ سعالها يهدأ، وأخذت تستند إلى الشخص الذي يحملها، مستسلمة لنعيم الدفء الذي تلمسه.

'كان شعورا دافئا منذ قليل والآن أشعر بالبرد الشديد، جسدي.... مؤلم.. '

كان الصوت الوحيد المسموع منها هو صوت لهثاتها وعيناها ترفرف مغمضتين بالكاد تفتحهم بينهم تتحول عيناها حولها وهي تستند على هذا الشخص الغريب...

حينما هدأت قليلاً، فتحت عينيها مرة أخرى، وبدأت الصورة تتضح تدريجياً.

كانت ممددة على فراش مغطى بملاءات، وقد ارتدت ملابس مختلفة تماماً عن تلك التي كانت عليها.

نظرت حولها بقلق، وكانت الجدران والأثاث غريبة تماماً، وكل شيء بدا غير مألوف.

انتبهت إلى الرجل الذي كان يجلس بجانبها،يحضنها بذراعه بينما ينظر نحوها. يرتدي ملابس غريبة تشبه الفستان النسائي. كان رجلاً ملتحياً في منتصف العمر، بعيون رمادية مشدودة وملامح غير مألوفة. نظر إليها بقلق، وقال بصوت هادئ بلغة غير مفهومة:

"大丈夫だよ...静かにしてください。。落ち着いて"

"لا بأس...يرجى الهدوء. اهدأ."

"آه؟"

تلك الكلمات كانت غير مفهومة بالنسبة لها، وتركتها في حالة من الحيرة والذهول.

تساءلت في داخلها: "ماذا يقول؟ هل هذا حقيقي؟ كنت على وشك الموت."

عقلها كان في سباق محموم بين الارتباك والذهول، ولم تكن قادرة على التصرف أو الحديث بينما كانت تحاول استيعاب ما يجري من حولها.

ماذا سيحدث لها وما الذي يخبؤه المستقبلية لها في هذا المكان الأجنبي وغير المألوف.

ما هي دوافع هذا الشخص و من يكون و ما هذا المكان.

أسئة كثيرة تنتظر ان تجد حلا.

*********************

هذا هو الفصل الأول من قصتي الثانية.

أعلم انها طويلة و لكنني استمتعت كتابتها في الحقيقة نظرا لأنني من عشاق انمي قاتل الشياطين فقررت كتابة قصة عنها.

اذا كان هناك أي انتقاد او شيئ يجب على تغييره فأنا اتقبل النقد فساعدوني للتحسن.

لا تنسو الدعاء لاخوتنا في فلسطين فعسى ان ياتيهم نصر الله قريبا ولا تستهينو بالدعاء ❤️.

لا تدعوا اي شيئ يلهيكم عن الصلاة والعبادة وشكرا لكم على قراءة قصتي.

"إعادة الميلاد في ظل الرماد"

**تايشو 7 (大正7年)**

وفقًا لنظام التأريخ الياباني التقليدي، الذي يعتمد على فترات حكم الأباطرة.

 انه الآن؛

العام السابع من فترة حكم الإمبراطور تايشو، وهو عام 1918.

بدأت روان تستعيد وعيها ببطء، شعرت بثقل في جفونها ناتج عن التعب والإرهاق الذي أنهك جسدها.

رفعت بصرها لتقابل عينيها سقفًا من القش والبلاط،

ولم تعد تشك بأن ما حدث لها ليس مجرد حلم أو هلوسة.

كان الأمر واقعًا لا مفر منه، وها هي تجد نفسها في هذا المكان الغريب.

جلست في الفراش ببطء، محاطة بأرضيات مغطاة بحصائر، وأبواب زلقة مصنوعة من الورق

 وستائر تخفي خلفها عالمًا مجهولًا.

 كل شيء حولها بدا غريبًا و غير مألوف.

لكنها تذكرت كلمات الجندي الذي ألقى بها في ذلك القارب.

 قيل لها إن وجهتهم كانت نحو القارة الشرقية.

 يبدو أنها في تلك الأرض الآن.

وقفت هي ببطئ لتجلس فوق الفراش.

أخذت تنظر إلى الأسفل، حيث كانت الملاءة تغطي نصف جسدها السفلي، وهي تحاول استيعاب حقيقة هذا المكان الجديد.

تساقطت خصلات شعرها البيضاء على وجهها المرهق،

وعينيها الزرقاوين اللتين فقدتا بريق الحياة،

 بينما أصبحت بشرتها، التي كانت يومًا مشرقة، باهتة كظل باهت لعهد مضى.

رفعت بصرها قليلًا نحو الأسفل، حيث تداخلت أصابعها المرتعشة مع الملاءة التي تغطيها،

 وضغطت شفتيها حتى تحولتا إلى خط دقيق، كأنما تحاول أن تكتم كل ما بداخلها من مشاعر متضاربة.

"كان يجب أن أموت... لماذا، يا إلهي، منحتني فرصة أخرى للحياة؟

لماذا؟"

تمتمت بتلك الكلمات بصوت خافت، وكأنها تحاول أن تجد إجابة تريح قلبها المثقل.

 كان الإحباط قد استولى على ملامحها، لم تعد تفهم لماذا منحت فرصة أخرى للحياة، وهي التي ترى نفسها غير جديرة بها.

 فقدانها لكل شيء جعلها تتوق للموت كملاذ أخير، لإنهاء هذا الجحيم الذي لا ينتهي.

 لكنها الآن هنا، في مكان غريب، محاطة بلغة وأصوات لا تفهمها، وكل شيء حولها يوحي بالغربة، ويزيد من حيرتها وارتباكها.

هل هذه فرصة جديدة حقًا؟

أم هو عقاب قد فرض عليها؟

 عقاب بأن تعيش لتحمل ثقل خسارتها والعار الذي يغمرها لفشلها في الدفاع عن وطنها وفي حماية من تحب.

حتى الدموع أبت أن تخرج، كأن قلبها قد جف من شدة الألم.

 رفعت يدها ببطء، وضغطت على صدرها، حيث تداخلت أصابعها مع قماش الرداء الغريب الذي ترتديه.

 الألم كان يمزقها من الداخل، ولم تعد تستطيع تحمل المزيد.

فجأة،

 انفتح الباب الزلق ليكشف عن رجل دخل الغرفة بخطوات هادئة تكاد لا تُسمع، مرتديًا رداءً طويلاً بلون أزرق غامق مزخرف بنقوش تبدو كزوابع من الرياح، مع أكمام قصيرة أقصر من تلك التي ترتديها روان.

كان الرداء مربوطًا بحزام رمادي عريض يحيط بخصره.

ابتسم لها بلطف وهو يحمل بين يديه صينية طعام.

التفتت روان نحو الرجل، ولاحظت مظهره بوضوح للمرة الأولى:

 شعره الأخضر الداكن الذي غزا الشيب معظم خصلاته، وعيناه الرماديتان اللتان بدا عليهما أثر الزمن، وندبة بارزة على جانب فمه.

 لكن أكثر ما لفت انتباهها كانت ساقه اليسرى، التي لم تكن سوى ساق خشبية.

تساءلت في سرها عن كيفية فقدانه لرجله.

أغلق الرجل الباب خلفه واقترب منها بهدوء حتى جلس بجانبها، ووضع الصينية بالقرب منه.

"目が覚めてよかったです"

(انا سعيد انك استيقظتي)

قال الرجل بنبرة خشنة قليلاً ولكن دافئة، مبتسمًا ابتسامة صغيرة.

نظرت إليه روان بارتباك، لم تفهم كلمة مما قاله، لذا اكتفت بالنظر نحوه بحيرة.

 كان لديها الكثير من الأسئلة، لكن حاجز اللغة حال بينها وبين التعبير عنها.

لاحظ الرجل ترددها، فتابع مبتسمًا:

"私が何を言っているのかわからないでしょう?"

(انت لا تفهمين ما أقوله أليس كذلك؟)

ضحك بخفة عندما رآها تنظر إليه بارتباك، وأدرك أنه يتحدث بلغة لا تفهمها.

رفع الصينية ببطء ووضعها في حجرها، مشيرًا نحو الطعام.

"食事"

(طعام)

قالها وهو يشير لها أن تبدأ بتناول الطعام.

 نظرت نحو الطعام الموضوع أمامها: شوربة ساخنة في وعاء خشبي بجانبه غطاؤه، أرز، سمك مشوي موضوعة في اطباق خزفية، وعدة أطباق صغيرة جانبية بدت وكأنها صلصات؛ بالإضافة إلى زوج من العيدان الخشبية موضوعة بجانب الأطباق.

 كان تناسق الألوان مثيرًا للشهية، وقرقرت معدتها في إشارة واضحة إلى جوعها الشديد.

 مدت يدها تبحث عن ملعقة لتبدأ بتناول الطعام، لكنها لم تجد أيًا.

'أين الملعقة... هل يتوقع مني أن أتناول الطعام بيدي؟'

أشارت للرجل بيدها كأنها تشرب من ملعقة، وقالت:

"ملعقة؟"

 سرعان ما فهمها الرجل، وابتسم إدراكًا أن هذه الأدوات قد تكون غريبة عليها، وشعر ببعض السخافة لأنه لم يدرك ذلك من قبل.

"まず私を見て、スープの入ったボウルを運び、ボウルの下に手を置いてから飲むべきです."

("يجب أن تنظر إلي أولاً، وتحمل وعاء الحساء، وتضع يدك تحت الوعاء، ثم تشرب.")

قال الرجل وهو يحمل الوعاء لتريها كيفية تناوله.

رغم أن الأمر بدا غريبًا على روان، إلا أنها أومأت برأسها، متبعة خطواته.

عندما كانت على وشك شرب الحساء، قال فجأة:

"いただきます。"

(ايتاداكيماس؛ ساستمتع بتناول هذا)

نظرت روان نحوه باستغراب، ثم أدركت أنه يرغب منها أن تقول هذه الكلمة قبل أن تبدأ.

 حاولت محاكاته، قائلة بتردد:

 "ا... ايتاداكيماس"،

 مما جعل الرجل يبتسم، وشعرت هي بشيء من الارتياح.

شربت الحساء فورًا بعد أن حظيت بموافقته، وتألقت عيناها من لذته.

كان طعمه خفيفًا وسلسًا، ولم تكن تعلم كم كانت جائعة حتى هذه اللحظة.

 رغم أن الرجل بدا عليه الانزعاج من الصوت الذي أصدرته أثناء شربها، إلا أنها لم تبالِ كثيرًا فقد كانت في حاجة ماسة للطعام.

عندما فرغت من الحساء ولم يتبقَ سوى قطع الخضار، تناول الرجل العيدان وقال:

"はし"

(هاشي)

*أدركت ان هذا ما يدعوا به هذه العيدان، فكررت بصوت خافت*

"هاشي"

أومأ ثم بدأ بتعليمها كيفية استخدامها.

 أمسك العيدان بمهارة، ورفع قطعة من الخضار، قربها من فمها، فتحت هي فمها غريزيًا لتتناولها.

 عندما مضغت الخضار، أعطاها العيدان لتجرب بنفسها.

'مهلاً... هل يتوقع مني أن أتناول الطعام بهذه العيدان؟'

تساءلت في سرها وهي تحاول تقليد حركته، لكن الأمر كان أصعب مما توقعت.

 كلما حاولت إمساك قطعة من الخضار، سقطت منها.

احمرت وجنتاها خجلًا، بينما أطلق الرجل ضحكة خفيفة.

"本当に不器用だね...これをくれ...食事を手伝ってあげるよ"

("انت خرقاء حقا... اعطيني هذا... سؤساعدك في تناول الطعام")

قال مبتسمًا وهو يأخذ العيدان منها بلطف، وبدأ بإطعامها بنفسه.

كان الأمر محرجًا بالنسبة لها، ولكنها شعرت بدفء غريب ينبعث منه، شعور لم تعرفه منذ زمن طويل.

كان في كل مرة يطعمها شيئا يقول اسمه. إذ اشار للأرز ب (غوهان).. و الشوربة ب (ميسو شيرو).

كانت كل لقمة تأخذها تشعرها بالحنين لشيء مجهول، وكأنها طفلة صغيرة تتعلم كيف تأكل من جديد..

بعدها،

ناولها كوب شاي.. تطلب منها امساك الكوب بكلتا يديها لتقوم بشربه.

بعث دفؤه شعورا مريحا في جسدها المرهق.

بعد الانتهاء من تناول الطعام، أخذ الرجل الصينية من حجرها وقال بلهجة دافئة مشيرا لها ان تعيد ما يقوله:

"ごちそうさまでした"

(Gochisousama deshita)

("كانت وليمة رائعة.")

حاولت روان محاكاة النطق،

 وقالت بصعوبة: "كوشي... كوشيسو"،

 لكن الكلمات خرجت مشوشة وغير صحيحة.

 انفجر الرجل ضاحكًا من محاولتها، مما جعل وجنتيها تحمران خجلًا، فأخفضت رأسها نحو الأسفل، متوترة من المحاولة الفاشلة.

 رغم ذلك، لم تستطع منع ابتسامة صغيرة من التشكل على شفتيها.

 منذ متى لم تبتسم بهذه العفوية؟

كان شعورًا دافئًا وجميلًا لم تختبره منذ زمن.

"هاي.. لا تضحك علي"

*تمتمت روان متذمرة بخجل ولا تزال ابتسامتها الصغيرة قائمة على شفتيها وهي تفرك مؤخرة رقبتها بخجل*

لاحظ الرجل ذلك، فربت على كتفها بلطف وقال بصوت مريح:

"恥ずかしがる必要はありません。あなたは学ぶでしょう。"

(لا داعي للحرج، ستتعلمين.)

ورغم أنها لم تفهم كلمة مما قاله، إلا أن كلماته حملت معها شعورًا بالطمأنينة.

بدا لها وكأنها سمعت ما كانت بحاجة إليه في تلك اللحظة، إحساس خفي بالراحة بدأ يتسلل إلى قلبها، ليخفف من ثقل الشعور بالعزلة والغربة.

*قام الرجل بإزالة يده من كتفها ووضعها على صدره مشيرا لنفسه*

"ريونوسكي تاتسوماكي"

 *يقول مشيرا لنفسه فيما يبدو وكأنه اسمه.. رغم ان نطقه صعب الا ان روان قامت بنطقه هذه المرة*

"ريونوسكي... تاتسوماكي"

*اعادت هي ما قاله مما تسبب في ابتسامه بسعادة واوما برأسه ثم اشار لها راغبا في معرفة اسمها*

"آه.."

فتحت فمها لتلفظ اسمها، لكن شعورًا بالضيق خنق صوتها قبل أن يخرج.

شعرت بثقل يتكوم في صدرها، حيث استرجعت في ذاكرتها اللحظة الأخيرة التي سمعت فيها أحدًا يناديها باسمها.

كان صوت أخيها، الصوت الذي بات يتردد في ذهنها كصدى بعيد.

 لم تستطع أن تتجاهل الشعور العميق بالذنب الذي اجتاحها، وكأنها لم تعد تستحق أن يُنادى باسمها مرة أخرى.

الاسم الذي منحه لها والدها، ليكون رمزًا لحريتها وكينونتها كمواطنة حرة في وطنها، أصبح الآن عبئًا ثقيلًا.

كيف يمكنها أن تحمل هذا الاسم بعد أن فقدت كل شيء؟ بعد أن تركت وطنها خلفها، ومعه هويتها... و اسمها.

شعرت بالفراغ يتسرب إليها، وجدت نفسها عاجزة عن النطق، فاكتفت بالنظر إلى يديها المتشابكتين بتوتر، عيناها مغرورقتان بالإحباط والأسى.

"ريوكو"

قال ريونوسكي بلطف

لم يكن ريونوسكي غافلاً عن تعابير وجهها الحزينة، مما أشعره ببعض الارتباك.

 لكنه تفهم بسرعة ولم يرغب في الضغط عليها أكثر.

 كان بإمكانه أن يستنتج أن روان ربما لا تثق به بما يكفي لتشاركه اسمها الحقيقي، فهو بالنسبة لها شخص غريب تمامًا.

 ومع ذلك، لم يكن من اللائق أن يناديها بعبارة "أنتِ" بشكل دائم، فقد رأى ذلك تصرفًا يفتقر إلى الاحترام.. أي شخص يستحق الاحترام بغض النظر عن ماضيه.. هذا ما كان يفكر فيه هذا الرجل.

 جعلها صوته الهادئ في نطق هذه الأحرف تخرج من حبل أفكارها.

ترفع رأسها بارتباك لمواجهة عينيه.

نظرت إليه بعينين متسائلتين، مشوشة وغير متأكدة مما يقصده.

"هاه؟"

تمتمت بصوت خافت، محاولة فهم ما أراد قوله.

وضع يده على صدره، مشيرًا إلى نفسه، وقال بصوت دافئ:

"ريونوسكي."

 ثم أشار إليها قائلاً

"ريوكو."

اتسعت عيناها بذهول، إذ أدركت أنه قد منحها اسمًا جديدًا.

اسم لم تختاره هي، بل هو من اختاره لها.

"أنت... أنت لا يمكنك أن تعطيني اسمًا..."

 قالت بصوت مرتعش، محركة يديها بارتباك، محاولة رفض ما قيل.

"أنت لا تفهم... أنا لا أستحقه."

كانت كلماتها مليئة بالاضطراب والرفض رغم أنها تعلم انه لا يفهم الا ان ايماآتها كافية لايصال ما تقصده له.

 لم يكن الاسم مجرد مجموعة من الأحرف، بل كان هوية جديدة.

 كان يعني أكثر من مجرد تسمية؛

كان دعوة لبدء حياة جديدة،

 لنسيان ما كانت عليه من قبل.

إذا قبلت بهذا الاسم، فهذا يعني أنها سترمي خلفها كل الألم والندم الذي كانت تحمله ك'روان'،

الجندية التي فشلت في حماية أخيها ووطنها.

كانت قد أقنعت نفسها أن وجودها الحالي هو عقاب مستمر، وأنها كتبت لتعيش فقط لتحمل عبء فشلها طوال حياتها.

 لكن الآن، وبهذا الاسم الجديد، شعرت بضغط هائل على صدرها، وكأنها مطالبة بأن تترك كل شيء خلفها وتبدأ من جديد.

بدأت يداها ترتعشان، وتساءلت بداخلها:

"هل أستحق؟ هل أستطيع؟ هل أستطيع النسيان؟"

لم يكن السؤال عن اسم فقط، بل عن حياتها كلها، عن الألم الذي مزق قلبها، وعن الندم الذي أكل روحها.

كانت تكافح بين البقاء في الماضي وبين التقدم نحو مستقبل قد يكون أقل ألمًا، لكنها لم تكن متأكدة إن كانت تملك الشجاعة الكافية لأخذ تلك الخطوة.

ومع ذلك، كان هناك شيء في نظرة ريونوسكي، في هدوئه وثقته، يشجعها على المحاولة.

ربما، فقط ربما، يمكن لهذا الاسم الجديد أن يكون بداية جديدة، وهوية جديدة لشخص يستحق فرصة أخرى في الحياة...

****************

مرّت ستة أشهر كأنها لحظات عابرة في حياة ريوكو الجديدة.

 الزمن لم يسرع فقط، بل حمل معه نسيمًا من الراحة والسلام.

 لم تكن المدة طويلة، ولكنها كانت كافية لتجعل ريوكو تتعرف على ريونوسكي بشكل عميق، وتصبح جزءًا من عالمه الهادئ.

 التحسن الذي طرأ على لغتها اليابانية كان بمثابة نور يضيء طريقها في تلك البيئة الجديدة؛ فقد أصبحت قادرة على فهم المفردات الأساسية، والمشاركة في محادثات بسيطة، رغم صعوبة التكيف مع لغة غريبة.

تعايشت ريوكو مع هويتها الجديدة التي منحها إياها ريونوسكي، وفي كل مرة يناديها بهذا الاسم، كانت تشعر بدفءٍ ينبع من أعماق قلبها.

كان الاسم يعني لها أكثر من مجرد صوت؛ كان ينبعث كرمز لحياة جديدة، وكأنها أخيرًا بدأت تتنفس هواءً نقيًا بعد سنوات من الاختناق.

ريونسكي كان لطيفًا وكريمًا بدرجة لا توصف، لم يثقل عليها بأسئلة عن ماضيها، ولم يحاول أن يخترق الجدران التي بنتها حول نفسها.

 بل اختار أن يكتفي بصحبتها الهادئة، مقاسمًا إياها حياته اليومية في بيته الصغير.

 هذه الحياة الهادئة والبعيدة عن الصخب كانت بمثابة ملجأ لروحها المتعبة.

رغم أن ريوكو كانت في البداية متوترة، إلا أن ريونوسكي أخذها ذات يوم إلى القرية التي يعيش فيها، وهي قرية "ساكورا جيم".

كانت تلك القرية قد تعرضت قبل أربع سنوات لكارثة كبرى عندما ثار البركان الذي يقع على مقربة منها.

الحمم البركانية والزلازل التي نتجت عن الانفجار دمرت القرى المحيطة وسوت المنازل بالأرض، وفقد العديد من الأشخاص حياتهم جراء تلك الزلازل العنيفة.

 ريونوسكي، الذي شهد تلك الأحداث بنفسه، أخبرها كيف أن الحمم كانت كثيفة إلى درجة أنها غمرت مضيق "كينكو باي" الذي كان يفصل بين سفوح جبال "ساكورا جيم"، وهي جزيرة مستقلة سابقًا، وبين مدينة "كاغوشيما" الواقعة في جزيرة "كيوشو"، ليحول الجزيرة إلى شبه جزيرة.

رغم مشهد القرية المدمر جزئيًا، فإن سكانها لم يفقدوا الأمل في إعادة بناء ما تهدم.

كان النشاط البركاني المستمر يشكل تهديدًا دائمًا، لكنه لم يثنهم عن عزمهم على إعادة الحياة إلى قريتهم.

كانت ريوكو غريبة في مظهرها بالنسبة لسكان القرية، ولكن عكس توقعاتها، استقبلوها بترحاب ودفء.

لم تكن مجرد ضيفة في قريتهم، بل قبلوها كواحدة منهم، فكانوا يعاملونها بلطف واحترام.

 بمرور الوقت، تعلّمت ريوكو تقاليدهم وعاداتهم، واكتشفت أنهم شعبٌ يهتم بالآداب والقيم الأخلاقية بشكل كبير.

كان هناك آداب لكل شيء: للطعام، للملابس، للحديث، وللتعاملات الاجتماعية.

الجميع يتحدثون بصوت هادئ، وينحنون لبعضهم البعض احترامًا.

تلك الأجواء البسيطة والمبجلة جعلتها تشعر بالطمأنينة والإعجاب.

من أكثر الأشياء التي أثارت فضولها وإعجابها كان منظر الرماد والدخان الذي يتصاعد من فوهة البركان المرتبط اسمه باسم القرية.

كان ذلك المشهد غريبًا عليها، إذ لم تكن قد رأت شيئًا مثله في وطنها السابق.

كانت الحياة في القرية تعتمد بشكل كبير على الصيد والزراعة.

 ريونوسكي لم يكن استثناءً؛ كان يعمل كصياد، وهذا هو ما قاده إلى العثور على ريوكو حين كانت مرمية على ساحل "كاغوشيما"، التي تطل على المحيط الهادئ.

كان جسدها منهكًا وملقى على الرمال الصخرية في خليج "كينكو".

لم يكن يعلم من أين أتت، ولا كيف وصلت إلى هناك، لكنه قرر إنقاذها وإحضارها إلى منزله، دون أن يسأل عن الماضي أو يطلب تفسيرًا.

 كان كل ما يهمه هو أنها بحاجة إلى مساعدة، وهو مستعد لتقديمها.

الستة أشهر التي مرت عليها في هذه القرية جعلتها تشعر وكأنها ولدت من جديد.

 لم تكن تلك القرية مكانًا عابرًا في حياتها، بل أصبحت هي حياتها بأكملها.

تعلمت أن تعيش مع اسمها الجديد، مع الناس الذين تقبلوها بدون سؤال عن الماضي، ومع رجل أعاد لها الأمل في الحياة.

 كان اسم "ريوكو" الآن جزءًا منها، جزءًا من هويتها الجديدة،

 كأنها تعيد بناء نفسها من الرماد الذي تركته خلفها في حياتها السابقة.

....

رغم حرص ريونوسكي الدائم على منح ريوكو الحرية الكاملة في منزله، بل وتعامل معها كما لو كانت ابنته، إلا أنه كان هناك قاعدتان لا يمكن تجاوزهما بأي حال من الأحوال.

 ريونوسكي، الذي كان عادة هادئًا ومتفهمًا، أظهر جديّة حازمة عند إخبارها بتلك القواعد، وهو ما جعل ريوكو تدرك أن هناك خطورة حقيقية في انتهاكهما.

القاعدة الأولى كانت واضحة وصارمة:

 "لا خروج بعد غروب الشمس."

مهما كانت الظروف، كان الخروج بعد حلول الظلام ممنوعًا بشكل قاطع.

لم يوضح ريونوسكي السبب وراء هذا التحذير، وريوكو لم تحاول الاستفسار أكثر.

 بالنسبة لها، بدا الأمر منطقيًا نظرًا لطبيعة المنطقة الجبلية التي يعيشون فيها؛ فربما كانت هناك حيوانات مفترسة تنشط ليلاً، وتشكل خطرًا على من يتجول خارج المنزل.

أما القاعدة الثانية،

 فقد كانت تتعلق بغرفة معينة داخل المنزل، غرفة كان من المحظور على ريوكو دخولها.

 أثارت هذه القاعدة فضولها بشكل خاص، خاصة وأن ريونوسكي لم يقدم أي تبرير لهذه القاعدة.

ومع ذلك، احترمت رغبته ولم تحاول تجاوز الحد الذي وضعه.

ربما كانت تلك الغرفة تحتوي على مقتنيات خاصة، أو حتى أسلحة صيد خطيرة لم يرغب ريونوسكي في أن تتعرض ريوكو لها.

لكن وراء هذا الحذر الظاهر، بدأت تلاحظ شيئًا مختلفًا في ريونوسكي.

 منذ صغرها، كانت تمتلك بصيرة حادة وقدرة على رصد الأشياء التي قد لا يلاحظها الآخرون، وهو ما ساعدها كثيرًا أثناء خدمتها في الجيش.

 كانت تستطيع تحديد مواقع جنود العدو أو سماع طائرات تقترب من بعيد.

لكن ريونوسكي كان مختلفًا.

 كان يتحرك بطريقة يصعب معها تتبعه؛ حتى أنها لم تكن تشعر بوجوده عندما يقترب منها.

 في بعض الأحيان، بدا وكأنه جزء من الرياح، يتحرك بسرعة وسلاسة، دون أن يُحدث أي ضجيج، وكأن الأرض نفسها كانت تفسح له الطريق؛

حتى انه كان من الصعب عليها اللحاق به عندما تساعده أثناء الصيد في الغابة.

كان ريونوسكي يجمع بين الغموض والقوة في آنٍ واحد، وهذا ما زاد من إعجاب ريوكو به، ولكنه أيضًا أثار في داخلها الكثير من التساؤلات.

 لماذا كان يمنعها بشدة من الخروج بعد الغروب؟

وما الذي يجعله حذرًا للغاية بشأن تلك الغرفة المغلقة؟

ما الذي يخفيه خلف هذا الباب المغلق، ولماذا يحيط نفسه بهذا الكم من السرية؟

ريوكو لم تستطع تجاهل هذه الأسئلة.

 كانت تعلم أن هناك شيئًا ما، شيئًا يتجاوز مجرد قواعد بسيطة.

 ومع مرور الأيام، زاد فضولها، حتى أصبحت تلك الغرفة المغلقة والخروج بعد الظلام لغزًا يشغل عقلها باستمرار.

هل كانت تلك القواعد مجرد إجراءات احترازية، أم أن هناك شيئًا أكبر يخفيه ريونوسكي عنها؛

وربما حتى عن نفسه؟

.............

...........

"يبدو أنكِ تحسنتِ كثيرًا في الكتابة، ريوكو... أنتِ حقًا فتاة ذكية."

قال ريونوسكي بابتسامة دافئة ترتسم على وجهه، بينما كانت يده الكبيرة تربت بلطف على رأسها الصغير، كتعبير عن فخره وامتنانه للجهد الذي تبذله في تعلم الكتابة.

كان يحمل بيده ورقة نقشت عليها بضع كلمات باللغة اليابانية، تجمع بين حروف الكاتاكانا والهيراغانا والكانجي، وقد كُتبت بأنامل ريوكو الصغيرة باستخدام فرشاة الحبر.

لم يكن الأمر مجرد اختبارٍ لقدرتها على كتابة الحروف وتنسيق الجمل، بل كان جزءًا من طقوسهما اليومية، حيث أصبح تعلم القراءة والكتابة ركنًا أساسيًا في حياتهما معًا، يسعيان من خلاله إلى تطوير مهاراتها الكتابية والاجتماعية.

ابتسمت ريوكو ابتسامة خجولة، شعرت حينها بدفء الثناء يتسلل إلى قلبها.

كان لهذا الثناء وقعٌ خاص، كأنه إشعار بأنها تستحق بالفعل هذه الحياة الهادئة، التي على الرغم من بساطتها، كانت مليئة بالسلام والسعادة.

"غدًا سنذهب إلى البحر لنصطاد الأخطبوط، وسأعد لكِ التاكوياكي مكافأةً على اجتهادك."

قال ريونوسكي مبتسمًا، مما جعل عيني ريوكو تتلألآن ببريق الحماس، خصوصًا حين ذكر التاكوياكي، طعامها المفضل الذي طالما ارتبط باللحظات السعيدة.

"التاكوياكي... شكرًا لك، ريونوسكي-سان! سأواصل بذل كل جهدي."

قالتها بسعادة غامرة، وابتسمت، فيما ضحك ريونوسكي بخفة على رد فعلها البريء والمفعم بالحيوية.

بعد مرور بعض الوقت، نهض ريونوسكي من مكانه بجانبها واستعد للرحيل، إذ كان وقت نومها قد حان.

"نامي جيدًا، يا ريوكو."

قالها بلطف وهو يغلق الفوسوما، الباب الزلق المصنوع من الورق الذي يفصل الغرفة عن الخارج.

ابتسمت ريوكو وهي ممددة على الفوتون، تتأمل اللحظات التي مرت خلال الأشهر الستة الماضية.

كانت حياتها هادئة وساكنة، وبدأت جدران الألم والحزن التي كانت قد شيدتها حول قلبها تتآكل ببطء.

 ربما، فكرت في نفسها، لم تكن هذه الحياة عقابًا كما اعتقدت في البداية.

.

ومع ذلك، رغم كل هذا الهدوء، لم يكن بإمكانها التخلص تمامًا من تلك الكوابيس التي تطاردها، كوابيس الماضي المظلمة.

"مجرد كابوس..."

همست وهي تستدير في فراشها؛ بعد أن عكر هذا الحلم المزعج صفو نومها.

ورغم أن تفاصيل الحلم بدأت تتلاشى سريعًا، إلا أن شعورًا ثقيلًا بالقلق لا يزال عالقًا في صدرها، يتردد صداه في قلبها المضطرب.

"لماذا أشعر بهذا الانزعاج؟... ترى، ما كان ذلك الكابوس الذي أزعجني إلى هذا الحد؟"

وضعت يدها على صدرها محاولةً تهدئة نبضات قلبها المتسارعة.

كانت تستلقي في الظلام، تتنفس ببطء، تحاول أن تزيل أثر الحلم السيء من ذهنها.

"لا بأس طالما أنني لا أرى الدماء والجثث بعد الآن...أعتقد أنني بخير."

حاولت إقناع نفسها بذلك، لكن النوم ظل بعيدًا عنها، كما لو أن شيئًا ما يحرمها من الراحة.

"لا أستطيع العودة إلى النوم..."

تنهدت بمرارة، وقبل أن تستسلم لليأس تمامًا، تسلّل إلى مسامعها صوت خافت، بالكاد يُسمع،وكأنه صادر عن غرائزها فقط، قادم من خارج المنزل...

كان الصوت ضعيفًا، وكأنه صرخة استغاثة تمزق سكون الليل، موقظة هدوء القرية النائم.

نهضت ريوكو من على الفوتون بخطوات مترددة على حصير التاتامي، والارتباك والخوف قد سيطرا عليها.

لم يكن هذا الوقت مناسبًا للخروج في الليل؛ فقد كانت القواعد الصارمة تمنعها من مغادرة المنزل بعد حلول الظلام.

لكن الصوت الخافت، الذي بدا وكأنه ينادي من أعماق غرائزها، كان ملحًّا بما يكفي لدفعها إلى اتخاذ قرار محفوف بالمخاطر.

ترددت خطواتها المرتبكة على الحصائر وهي تتجه نحو غرفة ريونوسكي.

وعندما فتحت الباب، وجدت الغرفة خالية، وسريره مرتّب بطريقة تدل على أنه لم يستخدمه.

"أين يمكن أن يكون؟" تمتمت بصوت منخفض.

"أه"

تذكرت الغرفة التي كان يحرص على إغلاقها بإحكام، ولم يسمح لها بدخولها أبدًا.

كانت تعرف أنه يقضي ساعات طويلة في الداخل، لكن لم يكن لديها أدنى فكرة عما يفعله هناك. ومع ذلك، علمت أن الاقتراب من تلك الغرفة كان محظورًا تمامًا، مثلما كان محظورًا عليها الخروج ليلاً.

لكن فجأة، تذكرت نصيحته الدائمة: "طالما نستطيع، يجب أن نساعد الآخرين."

بهذا الإلهام، اتخذت قرارها.

ستخرج للتحقق من الأمر وتعود قبل أن يلاحظ غيابها.

وربما سيكون سعيدًا عندما يعلم أنها تدخلت لإنقاذ أحدهم.. و يثني عليها كما يفعل عادة عندما تقوم بعمل جيد.

تناولت فأس الحطب بسرعة، وارتدت صندلها الخشبي، ثم خرجت بصمت من الباب، حريصة على ألا تحدث أي ضجيج.

تبعت الصوت الذي طلب النجدة حتى وصلت إلى كوخ صغير في نهاية القرية.

كان هذا الطريق مألوفًا لها، فهو يؤدي إلى منزل الخياط العجوز، واتانابي-سان.

"هل يمكن أن يكون هذا منزل واتانابي؟... الأضواء مضاءة."

لكن الصوت الذي كان يستغيث بدأ يتلاشى تدريجيًا حتى اختفى تمامًا.

توقفت ريوكو في مكانها إذ شعرت بارتعاشة تسري في جسدها، شعور غريب بالخطر أخذ يحيط بها.

*فتح! *

فجأة، انفتح باب الفوسوما بقوة، وخرج شخص بخطوات ثقيلة من الداخل.

ترددت تلك الخطوات على الأرض، لتظهر هيئة غريبة تحت ضوء القمر.

كان الكائن طويلًا وضخمًا، ذو أنياب حادة، وكان جسده مغلفًا بالدماء، وأذرعه مزودة بشفرات قاتلة.

اتسعت عيناها في ذعر.

لم يكن هذا الكائن بشريًا، هذا كان واضحًا.

"همم... بشري آخر؟... يبدو أن حظي الليلة وفير..."

صوته العميق والمخيف شق أذنيها كأنها صفعة.

قبضت على فأسها بشدة، محاولة إخفاء ارتعاش يديها، في حين كان الكائن يمسح دمه عن مخالبه بلسانه الطويل.

*هجوم*

دون سابق إنذار، انقض عليها بسرعة خاطفة، ولحسن حظها تمكنت من وضع الفأس بينهما، محاولة صد هجومه حيث استخدمت النصل الخشبي لفأسها كدرع مرتجف، محاولةً صد أنيابه الحادة التي بدت كسكاكين قاتلة، تحاول التهامها بنهمٍ وحشي.

كانت يديه الثقيلتين تضغطان على كتفيها بقوة مروعة، حتى شعرت بأنها على وشك الانهيار تحت وطأة قوته.

في قمة رعبها، أغلقت عينيها، دموعها تفيض، وكلمات يائسة تمتمت على شفتيها:

"لا اريد ان اموت... ليس هذه المرة... أرجوك."

*حفيف*

وفجأة، شعرت بنسيم بارد يمر عبر وجهها، وبدأ وزن الكائن يخف بشكل مفاجئ.

فتحت عينيها ببطء، لترى المشهد الأكثر رعبًا في حياتها:

الكائن الذي كان قبل لحظات فوقها، قد قُطع رأسه.

"م-ماذا؟!"

صرخت بصوت مخنوق وهي تدفع الجسد المقطوع بعيدًا عنها وتتحرك للخلف بسرعة.

نظرت بذهول إلى الجسد الذي سقط على الأرض، وإلى الرأس الذي تدحرج بعيدًا.

كانت ملابسها ملطخة بالدماء، وقلبها ينبض بقوة من شدة الرعب... أنفاسها غير منتظمة وهي تحاول استيعاب ما حدث.

في لحظة من الذهول، رفعت رأسها لتجد ريونوسكي واقفًا بثبات أمامها، يحمل سيفًا ذو نصل أخضر يتوهج ببرود تحت ضوء القمر.

كانت نظراته باردة، خالية من أي شعور، وكأن المشهد الذي حدث أمامه لم يكن جديدًا عليه.

كأنه كان معتادًا على هذا.

...

...........

نهاية الفصل الثاني❤️

اتمنى يعجبكم وتحط لايك؛ وتخلولي تعليق حتى اعرف رايكم بالقصة.

ولا تنسو الدعاء لاخوتنا بفلسطين🇵🇸.

وشكرا على القراءة.

لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon

تحميل PDF للرواية
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon