NovelToon NovelToon

الشئ في الصندوق

الفصل الاول

فريشت.. فريشت.. فريشت..

الصوت يحطم الاعصاب. يمكنك ان تجن بلا مبالغة.

هناك تلك النغمة المكتومة، وهناك ذلك الاحساس القوي بالتربة الرطبة.. قليلة هي الاصوات التي تنقل لك رئحة العفونة، لكنها حقيقية...

فريشت.. فريشت.. فريشت..

كلب ينبح من بعيد وهو مولع بان يطيل نغمة النباح لتتحول الي عواء طويل موحش. اما عن ذلك الصوت فانا لم اسمع صوت البومة الا في السينما.. ربما كانت بومة.. ولو لم تكن فهي كارثة.. علي ضوء الكشاف يعمل اللحاد في فتح القبر لا تراه الا بصعوبة، لكنك تعرف مهمته المشئومة.. بينما يقف خارج القبر متوجسين يتلفتان في ذعر، نادر وعلي... اخوان.. يمكنك ان تدرك هذا من الملامح المتشابة..

هذه ملامح اكلة لحوم البشر او مصاصي دماء لا شك هذا الوجه الاسمر والنظرات الزائغة والخدان الغائران..

الحقيقة هما ليسا مصاصي دماء بالعني الحقيقي بل بالمعني المجازي. نادر يمسك بلفافة تبغ متوتراً وينفث كميات دخان لا يمكن وصفها.. السبب هو انه يريد ان ينسي الرائحة الكريهة الخانقة.. علي. لا يدخن لذا لف انفه بمنديل وحاول الا ينتظر..

فريشت.. فريشت.. فريشت..

الهواء يدخل الي العمة التي توفيت منذ اسبوع طبقة الاسمنت مازالت هشة بليلة من الداخل. والرئحة قاتلة..

وفكرة ان تفتح العمة عينيها القاسيتين لتقول لهما..

" مش عيب كده يا ولد من له؟ "

لن يعيشا بعدها سوف يسقطان ميتين.. هذا اكيد

لكن اللحاد بالداخل، وهو يعرف ما يفعله مع اللحاد انت مطمئن. الطمأنينة الرتيبة للاحتراف هذا أقوي من اي شبح او مسخ. هناك علي الارض بعد من لا يخافون الموتي..

من يؤمنون ان هذا القبر لا يحوي الا بروتيناً متحللاً وكبريتاً وكربونا وهيدروجين..

سحابة دخان أخري..

اخيراً تظهر الساقان النحيلتان للحاد وهو يخرج، بالطبع يمارس عمله بالكلسون الداخلي، وعندما يخرج تدرك انه رجل نحيل ضامر.. "سيجارة!"

" هذه هي "

في يده كان الصندوق الصغير الصندوق الذي يذكرك بعلبة شاي مبطنة بالقطيفة.. بالطبع صارت لهذا الصندوق اهمية

سيكولوجية ثقيلة بعد ما ظل في كفن الفقيدة اسبوعاً كاملاً. لقد اتسخ بتابو الموت لو كنت تفهم ما اعنية...

كانا يعرفان ان الصندوق يحوي سراً مهماً. ويعرفان ان العجوز ظلت تحتفظ به حتي اخر لحظة في حياتها، ويعرفان انها طلبت ان يدفن معها فلا يراه احد سواها..

كان الصندوق مفعماً بالاحتمالات.. صندوق بهذا الحجم لا يمكن ان يضم مالاً علي الارجح يضم حجراً نفيساً او قطعة حلي لا تقدر بثمن. ان اسرة الفقيدة نفذت الوصية حرفياً.. العمة لديها اغبي مجموعة من الاولاد يمكنك ان تجدها في حظيرة لم يخطر ببال احدهم ان يفتح الصندوق او يلقي نظرة نفذو وصية امهم حرفياً وخاطوا الكفن علي السر..

تمام.هناك اشخاص لا يقبلون الامور كمسلمات.هذه هي العجينة التي جاء منها المستكشفون القساة الذين ذبحوا شعوب أمريكا الجنوبية، ولم يكن نادر و علي يحبان عمتهما البتة،كما انهما كانا من الطراز..لن اقول الطراز المفلس بل هما من الطراز الذي تتجاوز طموحاته وشهواته دخله..

هكذا وجدا انهما يرغبان فعلاً في معرفة محتويات ذلك الصندوق.. لن يؤذي هذا العمة العزيزة.الشاه لن يضيرها سلخها بعد ذبحها والقصة كلها رمزية علي كل حال..

تغيير وصية ميت امر ذو قيمة معنوية اخلاقية لا أكثر..

وعندما اخذا الصندوق كانا بشعران باحتقار بالغ نحو اللحاد برغم كل شئ. كل اللحادين لصوص قبور بطبعهم، وهم مستعدون لبيعك لمن يطحن عظامك ليجعلها سماداً او لطلبة الطب او لمن يطعمك للخنازير.. لكن يظل السؤال قائماً.. هل فتح اللحاد الصندوق؟ هل اخذ شيئا. منه؟

احتمال قائم خطر..لكن كيف يثبتان العكس؟

خطر لهما علي كل حال ان الوقت ضيق..لم يجد اللحاد فرصة ليسرق ما في الصندوق..

وأخيراً نقدا اللحاد ماله، واتجها بالصندوق المريع الي البيت

لدي الاخوين شقة مفروشة يقيمان فيها بعيداً عن باقي الاسرة،ربما ان مزاجهما واحد فقد كانا يتبادلان ساعات استخدام الشقة الليلة هما بحاجة لان يكونا معاً

عالج نادر الصندوق. وكان هناك مسمار محوي صغير يغلقه فرفعه، والقي نظرة للداخل، رائحة العمة العطرية الخفيفة تملأ داخل الصندوق فعلاً. اخرج ورقة صغيره مطوية من داخل الصندوق.. ثم بدت علي وجهة خيبة امل. لا شيء..

لا شيء علي الاطلاق.. فتح الصندوق بقوة، ثم استل سكيناً فراح يمزق استار الصندوق بعد لحظات تحول الصندوق الي نفايات لا يوجد شيء..

همس علي وهو يرتجف..

" افتح الورقة "

بيد واحدة فتح نادر الورقة الصغيرة، وقرأ بصوت عال،

" هذا بيت.. بيتاً شعر يقولان..

ولما تواري اشعاع الاصيل..

وعدنا من الغاب نبغي الرحيل..

دعت لي بسلوي وصبر جميل..

اذا ما الوصال غدا مستحيل..

. قال علي في خيبة. "ما هذا الكلام الفارغ؟

قال نادر محاولاً الفهم. صبراً. هذه قصيدة هناك شفرة كالعادة.. شفرة كلمات معنية تقود لمكان الكنز.. انا متاكد من هذا، لا احد يصر علي دفن هذا الهراء معه في القبر ما لم يكن.. ثم راح يحرك شفتية محاولاً الفهم.

ربما هناك شارع اسمه الاصيل. ربما هناك غابة دفن فيها المال من هي سلوي؟

نهض علي غاضباً 😡

القصة بسيطة.. المرأة قد جنت هذا كل شيء ثم تقلص وجهة في توحش او اللحاد قد خدعناً..

" هذا وارد ". وتبادلا نظرة وحشية لم يكن عنده وقت كاف للسرقة ام كان عنده؟

الامر ليس صعباً. في ظلام القبر يجد الصندوق يزيح المسمار يجد جوهرة او حلية.. يدسها في جيبة يخرج مغبراً لاهثاً الي الابلهين في الخارج..

ما يعرفه علي هو انه تناول سكيناً بينما تناول نادر خنجراً،

وانطلق الاثنان لا يلويان علي شيء نحو المقبرة

يجب ان يتكلم اللحاد ولا الذنب ذنبه..

عندما يخرج الجنون من القمقم، فلا شيء يقدر علي اعادته لاسباب ما يخرج هذا الغاز من الانبوب، ثم يتسرب في كل مكان لا احد يقدر علي جمع الغاز او حبسه كهذا كان اللحاد جالساً في تلك الغرفة الصغيرة عندما مدخل المقبرة

كان جالساً امام بابور الجاز. موقد البريموس حتي

لا يتضايق اللغويون. وقد وضع فوقة اناء صغير به ماء ولحم وكان يرمق النار متلمظاً الليلة سيكون العشاء دسماً

صحيح انها لقمة جاءت من نبش القبور..

اي ان ما يطبخة مجازياً هو لحم موتي. لكنه قد تجاوز مرحلة هذه الاعتبارت الاخلاقية. .

سمع طرقات علي الباب الخشبي المتداعي فنهض ليفتح..

في اللحظة التالية كان الاخوان في الغرفة، وقد استطاع

ان يري الشيطان في عينيهما.. الشيطان.. هذا مشهد راه من قبل ويعرفه. خيراً؟ لماذا عدتماً؟

قال نادر.. الصندوق خاو.. لا يوجد شيء..

هذه شانكما.. ليست مشكلتي

هنا قال علي وهو يمسك بالرجل من فتحة الجلباب ويجذبة نحن نعتقد ان شيئا كان في الصندوق وقد تمت سرقته.

صاح الرجل انه لم يفعل.. عندما تكون ضيق العينين خبيث النظرات نحيلاً كفأر، فان انكار التهمة هو بالضبط الاسلوب المناسب لجعلك تبدو كاذباً.. راح الرجل يقسم انتما حصلتما علي الصندوق. انا نلت الحلوان.. انتهي الامر

ماذا تريدان بعد هذا؟

نريد الشئ الذي في الصندوق

لم يكن هناك شيء في الصندوق.

كان الغضب قد بلغ الزروة. وكل محاولة انكار تؤكد لهما انه سرق شيئا هكذا ازداد الضغط علي زراعه..

يمكنك سماع العظم الهش وهو يوشك علي التحطم..

تكلم!!

السباب بنهال علي راس الرجل، والصفعات. شابان قويان غاضبان مع رجل هش وحيد. في النهاية سقط علي حصيرة الموضوع علي الارضية فراحا يوجهان الركلات لراسه لم يعد هناك تعقل ركلة.. ركلة.. ركلة...

سوف يمر وقت طويل قبل ان يدركا انهما احمقان وان فرصة استجوابة انتهت..

توقفا ونظرا الي المشهد...

لقد مات يا علي!!!

كان المشهد مؤكداً ولا يحتاج مخ وتخطيط قلب للرجل الراقد علي الارض وفي لهفة راح الشابان يفتشان في الغرفة.. عن ماذا؟ لا يعرفان عن الشئ الذي جعلهما يقتلان لاول مرة الان برز احتمال معقول هو ان الرجل صادق لقد تسرعاً جداً لم يتفقا علي الخطوة التالية، لكنهما وجداها بديهية كل شيء في هذه الغرفة يحمل بصماتهما.

لذا اطفأ نادر البابور. موقد البريموس حتي لا يتضايق اللغلويون. وفتح الصمام ثم راح ينثر السائل قوي الرائحة في كل مكان. للاسف لن ياكل احد. هذه اللحم. لكن دعنا نتذكر انه معنوياً اقرب للحم الموتي.. علي باب الغرفة القي نادر بالثقاب المشتعل، وفرا بعيداً قبل ان يتعالي اللهب..

سوف يحترق كل شيء..

علي الارجح لن يتعب الطبيب الشرعي نفسه في البحث، ولن يجد اثار التهشيم في عظام الجمجمة لسنا في قصة لاجاثا كريستي هنا..

فلنفر.. كان يرتجفان وشعر نادر بان القتلة اشخاص فوق الواقع كيف تمارس حياتك بشكل طبيعي بعد الفتك بانسان

.. هناك في الشقة دخل كل منهما الحمام ليغتسل،

ممارساً مشاعر ماكبث بعد قتل دونكان.( لو اجتمعت بحار العالم جميعاً علي محو هذا الدم ما استطاعت)

في النهاية جلس هشام يدخن وينظر الي الصندوق المربع الصغير مشئوم. نحس.. مد يده وعالج المسمار المحوي واستطاع ان يفتحه ويخرج الورقة الغامضة التي حيرته من قبل.. فراح يتأملها..

ولما تواري اشعاع الاصيل..

وعدنا من الغاب نبغي الرحيل..

دعت لي بسلوي وصبى جميل..

اذا ما الوصال غدا مستحيل....

وتسمع في الليل همس القبور..

وانفاس من غاب عوداً نحيلا

ما معني هذه الابيات السخيفة؟؟

قراها بصوت عال علي مسمع علي، وكان الاخوان يمقتان الشعر طبعاً ولا يفهمانه لهذا لم يحصلا الا علي فكرة عامة عن هذه الابيات. جلب علي زجاجتي خمر، وصب في كاسين كبيرين.. منذ زمن عرف الاخوان انهما لا يتصنعان اي شيء امام بعضهما لهذا فعلا كل الموبقات امام بعضهما دون خشية.. بعد الكاس الرابع قال علي بلسان معوج

يتبع

الفصل الثاني

" انا قد أكون وغداً منحلاً.. ولكني لست قاتلاً.

هذا أقوي مني "

قال نادر بلسان أكثر اعوجاجاً..

"يجب ان تنسي هذه الجريمة. تنساها وتنسي انك نسيتها لم يبق منها سوي غرفة محترقة ورماد"

"ربما احترقت لكنها ستظل حية في ذاكرتي.. سوف يطاردني المشهد ما حييت"

ثم نهض مترنحاً نحو الباب وهو يستند الي الجدار...

"الي اين العزم؟"

قال علي..

لا أستطيع قضاء الليلة هنا لا أستطيع ان أراك امامي .

سوف ابحث عن مكان اخر "

"ليس من الحكمة ان تخرج وانت ثمل.. من الوارد ان ينزلق لسانك" قال علي وهو يعالج المزلاج بيد راجفة..

" هذا ما انويه فعلاً.. سوف ينزلق لساني "

" هل تمزح؟ " ربما كان في هذا خلاصي..

وواصل معالجة المزلاج.. الخمر لها ارادة خاصة بها..

تدهشك دوماً بما تفعله وانت لا تعرف انها فعلته.

لا يعرف نادر كيف طارت الزجاجة من يده لتضرب اخاه من مؤخرة رأسه...

عندما سقط علي علي الارض تذكر نادر الالعاب الغليظة

الخشنة التي كان يمارسها في طفولته مع اخيه. كان يمزح

هذه العاب أطفال خشنة نوعاً لكنها ألعاب..

هو لم يقتله.. بالتأكيد لم يفعل.. فقط أراد منعه من التمادي. علي يرقد الان خلف الباب والدم ينزف من مؤخرة رأسه

والزجاج المهشم تناثر علي الارض..

انه نائم.. بالتاكيد هو نائم لا توقظوه..

ضحك نادر كثيراً وهو يراقب أخاه النائم

عاد للمقعد وأشعل لفافة أخري.. الدخان يرسم اسم نادر

واسم علي في فراغ الغرفة...

صندوق لعين قذر.. لقد جعل الأخوين يتشاجران..

صب لنفسه كاساً آخر..

مد يده الي الصندوق وراح يعبث بانامله..

لقد عبثت بهما العمة اللعينة لم تترك شيئاً لكنها تركت لهما دعابة قاسية فعلاً...

اخرج الورقة المقيتة التي كتبت فيها الأبيات..

ولما تواري اشعاع الاصيل...

وعدنا من الغاب نبغي الرحيل ...

دعت لي بسلوي وصبى جميل...

اذا ما الوصال غدا مستحيل...

وتسمع في الليل همس القبور...

وأنفاس من غاب عوداً نحيلا...

وقابيل يلقي أخاه الحبيب...

فتجري الدماء ويهوي قتيلا...

. حك راسه مرتين.. وأغمض عينيه وراح يحاول ان يجعل بصره اقوي.. وربما بصيرته...

هذه الأبيات اللعينة. كانا بيتين فقط.. وهو متأكد من هذا.

لا شك في هذا..

هذه القصيدة تستطيل! انها تزداد بيتاً كلما هلك انسان آخر!

هناك في تلك الكهوف المظلمة في صحراء تسيلي، يمكنك ان تري ان الليل قد دنا، ومعه بدات الشمس الحارقة

تبدي شيئا من الرحمة..

الذئاب تعوي فيرتجف رجال " التبو " الجالسون حول النيران ليلاً، ويتبادلون النظرات من وراء الثمتهم..

بينما تطلق الجمال والابل رغاءها وحنينها بالترتيب...

هناك في تلك الكهوف المظلمة

وخلف منطقة الرمال المتحركة، حيث لا يجسر أحد علي الدنو،

يمكنك ان تري ذلك الكهف الذي احتشدت الصخور

علي مدخله.. هل صخور حقاً؟...

بل هي جماجم بيضاء نظفتها العواصف والرمال الناعمة.. هناك عاصفة دانية بلا شك في الغد..

دخل الكهف يمكنك بصعوبة بالغة ان تري ذلك المشعل الواهن، وجواره يجلس كيان فارع مفزع يخيل لك انه هيكل عظمي، يمسك بريشة هائلة الحجم ويضع امامة لفافة.. عينان واهنتان تراقبان الورق وسط الضوء الخافت..

انه " أوباري " الشاعر الملعون الشاعر الذي نشرت اشعاره الطاعون وسببت المذابح، وأدت الي انتحار عشاق

وموت اطفال وهم يصرخون..

هناك في هذا الكهف ينتظر "أوباري " عدة عقود

أجل قصيدة، قصيدة مكتملة الأبيات..

غير ان قصائده كانت ذات خاصية وغريبة، وهي انها تكتب نفسها بنفسها، يبدأ او بيت فقط، وافعال البشر هي التي تكملها.. " أوباري " ينتظر منذ قرون...

هناك قصائد بكل للغات تتناثر من حوله. قصائد باللاتينية،

بالارامية، بالسويدية، بالعربية، بالمسمارية، بالأترورية،

قصائد اكتملت جميعاً وعادت له، وعندما يحرق اللفافة فانها تصل الي سيده الدائم، سيده الذي لا يجرؤ علي ذكر اسمه

علي اللفافة التي امامة بدأ يقرأ الحروف التالية تكتب بالدم

ولما تواري شعاع الاصيل ...

فتجري الدماء ويهوي قتيلا....

تحركت شفتاه فيما يشبه ابتسامة قاسية، سوف ينتظر...

الصندوق الصغير ظل علي الارض فترة طويلة..

يمكن ان الخص الموقف لك بأن رجال الاسعاف القوا بالجثة علي المحفة في اهمال، ومن الواضح انها كانت تقبض علي الصندوق الصغير الذي لم يلحظه أحد، قبل دخول السيارة سقط الصندوق علي الارض وركلته الاقدام جوار جدار..

وضعوا في السيارة جثة نادر اولاً ثم جثة علي..

علي قد هشمت زجاجة راسه من الخلف،

أما عن نادر فقد فتح النافذة ووثب الي الشارع ليتهشم جسده علي الإفريز، برغم هذا يبدو انه ظل ممسكاً بالصندوق فلم يتخل عنه الا لحظة دخول السيارة كما قلنا.

انطلقت السيارة وعواؤها الكئيب يمزق الاعصاب قبل ان يمزق الصمت.. ولحق بها عدد من الصبية يتصايحون مرحاً

يمكنك ان تري الصبي فارس و الصبي خالد.. انهما يسكنان بالمنطقه، وهما شيطانان صغيران، لهما بالضبط نفس ملامح ونفسية قراصنة الكاريبي. عندما اسرعت الإسعاف مبتعدة

أدركا ان اللحاق بها مستحيل، برغم انهما كانا يشتهيان رؤية

الميت، تعثر فارس علي الارض فسقط جوار الصندوق الصغير التقطة ودسه في جيبة ليفهم فيما بعد...

هناك يقف الصبية في ركن الشارع يتبادلون التحدي والسباب.. فارس يدخن لفافة تبغ اذ تاكد من ان احداً من الكبار لا يراه، وهذا يعطيه سطوة لا شك فيها علي باقي الصبية الذين لا يجسرون علي تخيل مغامرة كهذه..

يقول لهم فارس..

وعهد الله.. وعهد الله..

لسبب ما لابد ان يقسم هولاء الصبية بعهد الله..

لا يستعملون طريقة قسم اخري..

وعهد الله انا فعلت هذا.. قال خالد في تحدي.. انت كاذب..

وانت ابن ".... "

وانقض الصبيان بعضهما علي بعض يتبادلان الركلات واللكمات.. حاول فارس ان يفعل هذا كله ولفافة التبغ

في فمه، لكن الامر كان صعباً.. وقبل ان يفهم ما يحدث وجد اذنه في يد صارمة ترفعه عن الارض.. وعندما نظر بحذر رأي ان هذه شرين اخته.. اخته في العشرين من عمرها، وليس لديها عمل في الحياة سوي ان تجعل ايامه قاسية.. سجائر وشجار! انتظر حتي اخبر اباك بذلك...

تراجع الصبية في ذعر، بينما الاخت الغاضبة كاَلهة الاوليمب

تجر الصبي من اذنه نحو ساحة الاعدام، وهي لا تكلف عن الشتائم وتوجيه الصفعات له.. كان يعرف ان امره انتهي..

التدخين جريمة لا تغفر في بيته..

برغم هذا كان يكره ان يراه الصبية في وضع مخزي،

لذا صاح امراً بينما هو يبتعد...

الليلة سوف اريكم ان كنت كاذباً..

في البيت لم يكن الاب القاسي الغضوب موجوداً، فتوعدته شرين بان عقابة قريب فعلاً.. لاحظت الصندوق الصغير الذي في يده فسألته عن كنهه.. قال انه وجده في الشارع ولا يعرف ما به.. مدت يدها في حذر وفتحت الصندوق

ذات مرة القي احدهم عملاً سحرياً علي بابهم،

وكان بداخله قطعة قطن والتفت علي اشياء عضوية مرعبة

مع لفافة ورقية كهذه شعرت بقشعريرة وخطر لها ان تتخلص من الصندوق، ثم مدت يدها تفتح اللفافة

وقد غلبها الفضول..

ولما تواري شعاع الاصيل...

وعدنا من الغاب نبغي الرحيل....

وقابيل يلقي أخاه الحبيب...

فتجري الدماء ويهوي قتيلا....

لقد حان حينك يا ابن الدياجي...

الا تسمع الموتي ياتي عجولاً؟

يتبع....

الفصل الثالث

مطت شفتيها في عدم فهم، كانت تتوقع علي كل حال ان تقرأ تعاويذ وكلمات سريانية غامضة، او تري رسوماً غير مفهومة لكن هذا شعر، مجرد شعر سخيف، ليس فيه حب

ولا غرام ولا سهاد... كلمة.. "عجولاً" في نهاية القصيدة تبدو نابية الأذان، بالتأكيد ليست عجول الجزار، ولكنها تدل علي التعجل.. توعدت اخاها المدخن بالويل،

ثم اتجهت الي الهاتف لتثرثر مع صاحبتها..

لاحظ فارس بعد ساعتين ان جريمتة لم تٔذكر، لم تقل هي شيئاً ولم يعرف أبوه القاسي بشئ، انه في غرفته يلهو ويتظاهر بالاستذكار كالعادة، لكن لا شيء غير هذا..

الصبية ينتظرونه كما وعدهم. ان شرين اللعينة غافية الان بعد ما شبعت نميمة وتهريجاً علي الهاتف،

لن يلاحظ أحد انه خرج. بعد لحظات اتخذ قراره،

اتجه الي بابا الشقة بحذر وفتحه وفرّ الي الخارج..

هناك في الشارع عنصره الطبيعي، هناك يصير حراً

يصير ملكاً، يصير قائد الشلة الذي يبهر الانفاس..

هناك كان الصبية يقفون في تحدٍ بانتظاره، وكان اكثرهم تحدياً هو خالد... وقال له في سخرية..

هل علقك ابوك من السقف؟

لم يرد.. سرعان ما اجتاز الفرجة بين الجدارين وراح يركض عبر الخرابة.. وكان الليل قد بدأ يزحف فلم يعد هناك سوي لون ازرق بكل درجاته، وهناك كانت المساحة الواسعة ممتدة حيث قضبان القطارات تتلوي وتتعاقد في الافق

قطار الثامنة سوف يمر بعد قليل..

بلع الصبية ريقهم وهم يرتجفون من هول المشهد القادم

هو نفسه كان خائفاً لكنه كان بحاجة الي ان يعرفو من هو،

بعد هذا لن يفتح اي أحمق فيهم فمه...

جري بحذر الي ان بلغ المسافة بين القضيبين،

ورقد علي وجهه وغطي رأسه بكفيه..

فلتمر اللحظات التالية بسرعة...

أين فارس؟

كانت الساعة الان الحادية عشر ليلاً، وقد اوشك الاب علي غلق اقفال البيت.. ثم تنبه الجميع الي ان الصبي فارس ليس هنا، وهذا شئ معتاد.. لكنه لا يطيل التأخر الي هذا الحد لأنه عوقب كثيراً من قبل علي تاخره خارج البيت..

الحقيقة انه شبية بقط حبيس لا يقر في البيت أبداً...

فارس.. فارس.. اين انت ايها الوغد؟.

هكذا بدات عملية البحث.. وتم سؤال الجيران،

ثم ارتدي الاب ثيابه من جديد وخرج يبحث عن الصبي وهو يطلق السباب..

من الخير للفتي ان يكون قد مات فعلاً.. هذا هو المبرر الوحيد الذي يسمح بالغفران له.. فيما بعد هذا ليس من مصلحته ان يظل حياً سوف يموت فوراً..!

جو التوتر العام ساد البيت وبدات الام تقرأ القرآن وتهرع من حين لاخر الي الشرفة...

شرين شعرت بتأنيب ضمير.. ربما هو خائف جداً من موضوع السيجارة.. ربما خائف لدرجة انه فر من البيت

هي كانت قد ازعمت ان تكتفي بإرهابه لكن من اين له ان يعرف نيتها؟ يجب ان نقول كذلك ان الجو كان ملوثاً بالموت... حادثة الموت التي وقعت صباحاً جعلت الجميع متوترين.. هكذا دخلت غرفتها وحاولت ان تفكر في شيء اخر، لكن صورة فارس كانت تبلبل ذهنها..

مدت يدها للصندوق لتعيد تفحص تلك اللفافة اللعينة..

وبشفتين تتحركان قرأت الأبيات..

ولما تواري شعاش الاصيل..

وعدنا من الغاب نبغي الرحيل....

لقد حان حينك يا ابن الدياجي...

الا تسمع الموتي ياتي عجولاً؟

خرجت لتلهو قرب الردي...

فجاء الردي غاضباً مستحيلا...

هنا توقفت وراجعت اخر أبيات..

هناك جزء لم تقرأه من قبل.. هي متاكدة ان اخر بيت في القصيدة اللعينة كان البيت "

لقد حان حينك يا ابن الدياجي..

الا تسمع الموتي ياتي عجولاً؟

فماذا حدث بالضبط ومتي؟... هناك بيت قد اضيف لا شك في هذا.. نفس الخط ونفس الحبر...

كانت شرين قوية الشخصية تثق في حواسها جيداً..

اي شخص سواها كان سيعتقد ان البيت الاخير قد فاته،

لكنها كانت متيقنة القصيدة اللعينة قد استطالت بيتاً..

البيت يتكلم عن شخص أراد اللهو قرب الردي فمات..

كان الردي اكثر براعة..

في الصباح وجدوا البقايا وعرفوا القصة كاملة..

الصبية الذين كانوا مع فارس رأوا المشهد ففروا لبيوتهم واصابهم ذعر حيواني يمكن فهمه، وقرروا ان يلوذوا بالصمت.. لكنهم تكلموا في النهاية...

فارس نام علي قضيب القطار بين القضيبين اذا شئت الدقة ودفن رأسه بين ذراعيه بينما قطار الثامنة قادم،

وكان ينوي ان يبهر الصبية بشجاعته.. هولاء المراهقون يمكن ان يفعلوا اي شيء كي يبهروا اترابهم.. ما حدث هو ان شئيا يتدلي من القطار تمسك به تعلق بسرواله..

وهكذا فوجئ الصبية بان زعيمهم قد اختفي..

لم تمر العجلات من حوله في سلام، ويبدو ان جسده تفتت في ثانية واحدة..

كانت ميتة شنيعة، وسوف اعفيك من وصف ما فعلته الاسرة والام رحمة بأعصابك.. لقد حلت حقبة من اللون الاسود والكآبة علي هذا البيت الذي كان امناً...

ظلت شرين تشعر بعدم راحة نحو ذلك الصندوق اللعين،

وتلك الأبيات الغريبة التي قرأتها والتي ازدادت بيتاً.

بلا تفسير واضح ذات ليلة جلست في فراشها ومدت يدها تفتح ذلك الصندوق من جديد تحسست أبيات القصيدة وقرأتها مرة واثنتين..

وقررت ان تعرض هذه الأبيات علي مدرس اللغة العربية

الشاب جارهم، لعلم الكلمات تخفي أكثر مما تفهمه هي..

ثم غلبها النعاس والعلبة في يدها..

هي الان نائمة علي ظهرها.. وصدرها يعلو ويهبط كانها تعاني عسراً في التنفس.. العرق. العرق يجعل شعرها عجينة واحدة لزجة.. كهف مظلم...مشاعل.. هناك من ينتظر في الكهف.. عينان شريرتان.. رائحة عطن غريبة.. هذه رحلة لم يقم بها بشري.. الي عالم لم يره أحد. أعماق الظلمات.

المادة الخام للشر.. تشعر بهذا كله وتدرك انها مذعورة،

لكنها كذلك عاجزة عن النهوض..

عاجزة عن الفرار.. وسمعت صوتاً يامرها..

تخلصي من القصيدة!.. تخلصي من القصيدة ان شئت السلامة.. كانت تسمع الصوت بوضوح.. تعرف ان هذا اوباري.. لا شك في هذا برغم انها لا تعرف من هو.. اوباري..

ولم تسمع عنه من قبل كانت ترتجف خوفاً.. عرفت انها اخترقت وانها تري ما لا يحق لها ان تراه..

كان البيت كله غافياً عندما اتجهت شرين الي المطبخ.. صوت أذان الفجر يتردد من مسجد قريب.. وضعت الصندوق علي الموقد، ثم اشعلت عود ثقاب..

سوف يحترق هذا الشيء القذر.. سواء كان خطراً حقيقياً

او وهماً.. انها تشعر بانه ملوث بالدم.. لماذا ظهر بعد الحادث الاخيرة؟ ولماذا التقطه المرحوم فارس بالذات؟؟

بدأت النار تتمسك بالصندوق وتنهدت هي الصعداء

ولكنها بعد لحظة بدأت ترتجف... ان النار تلتف حوله لكنها

لا تؤذيه.. هذا الشيء اقوي من النار...

جربت ان تحرقه عدة مرات وبللته بالكيروسين وجربت من جديد لا جدوي.. هذا الصندوق اللعين أقوي من ان يزول

بسهولة... فكرت في ان تلقيه في القمامة، لكن الاجابة كانت قد وصلتها وشعرت بها في اعماقها بلا جدال.. هذا ما يريده ذلك المسخ الذي رأته في الحلم بالضبط.. هناك احمق سيجد الصندوق في القمامة ويفتحه، وسوف ينتقل الصندوق ليد اخري ويموت شخص آخر.. سوف تزداد القصيدة طولاً....

لو احتفظت بالصندوق فهي تجازف بميت آخر او جريمة قتل اخري...

ربما يقتل ابوها امها او العكس.. او تفعل هي هذا كله...

حاملة هذه الهواجس عادت لغرفة نومها التي تسلل لها ضياء الفجر الخافت الواهن..

جلست علي الفراش كأنها بوذا يتأمل...

وقررت ان تنتظر حتي يصحو الجميع...

يتبع

لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon

تحميل PDF للرواية
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon