إن الإنسان يرى شريط حياته كاملًا، وهو جنين في بطن أمه لو كان الأمر هكذا بالفعل، أترانا رغبنا في الخروج إلى الحياة، بعد كل ما شاهدناه؟ ألم يودِّ الكثيرون منا أن يضعوا حدًّا لحياتهم، وألا يبرحوا الرحم سوى جثة هامدة؟ ألم يتمنوا أن ينتقلوا من عتمة الرحم مباشرة، إلى عتمة القبر؟ كانت أبصارهم لن تلمح النور، لكن كان الأمر ليكون أهون من الخروج إلى الحياة النور مثلما قد يبهر الأبصار قد يُعميها أيضًا
لا داعيَ لأن ننخدع به، لأنه في الحقيقة مربكٌ، أكثر بكثير من العتمة.
بالنسبة لي، أعتقد أن ما رأيته وأنا جنين في بطن أمي لم يكن يسر، لذا حاولت أن أنهي حياتي، عندما أحسست أن موعد خروجي إلى الحياة اقترب لففتُ الحبل السري حول عنقي، وانتظرت أن أختنق، كنت سأنجح، لكن الأطباء أحبطوا محاولة انتحاري، وبددوا فرصتي في النجاة إلى الأبد.
خرجتُ إلى الحياة في وقت كان الدارج فيه هو الكفن لا القماط، متطفلة بولادتي على الموت، الذي كان يحصد أرواح المئات بذريعة الحرب الحروب مثل الأوبئة، لا نتوقع متى ستحل علينا، لذا يجب علينا أن نكون على أهبة الموت في كل لحظة، وأن نبقى متحضرين له، خصوصًا إذا كنا نعيش في بلد، لديه ماضٍ طويلٌ مع الموت، كالجزائر.
في بلادي، تضع الكثير من الأمهات حرزًا، حول رقاب ومعاصم أبنائهن، حتى تقيهم من الشر ليتنا نستطيع أن نعلق للأوطان أيضًا تمائمَ وأحرازًا، تقيها من الحروب، لأنها أكبر الشرور لكن بما أن هذا النوع من التمائم غير موجود، فالحروب واقعة لا محالة كانت الجزائر في فترة نقاهة تتعافى من الاستعمار، حين باغتتها الحربُ فجأة واندلعت لم يكن أحد يتوقع نشوب حرب أهلية بعد ثلاثين سنة فقط من الاستقلال، كان الأمر أشبه بالإصابة بجرح بليغ يتطلب التئامه فترة طويلة من الزمن، لكن بينما هو على وشك الاندمال، تنكأ يدك الجرح عمدًا فتفتحه وتدميه. بحلول الحرب عاد الخوف ليجثم على القلوب، عادت أبواق سيارات الإسعاف لتصدح، عادت المقابر لتكتظ، وأصبح هناك دومًا احتياطي من القبور الفارغة المفتوحة، لأن الموت وقتها كان يأتي دون موعد مسبق.
كانت الجزائر تظن أن زمن الحزن والنحيب قد ولى مع خروج الاستعمار، لم تضع في الحسبان أن الإرهاب سيعيد بعث ذلك الزمن من جديد، لامًّا شمل الذاكرة بذكريات، كان الجميع يعتقد أنها غدت من التاريخ ثلاثون سنة من السلام لم تكن أبدًا كافية لمحو آثار قرن وقرابة نصف قرن من الاستعمار. كانت الجزائر لا تزال جريحة، ولم يزد الإرهاب ذلك الجرح إلا التهابًا.
" إذا كان الحطب وقود النار، فالحرب حطبها الأموات، مهما سلبت الحرب من حيوات لا تكتفي، وترغب في المزيد، وكلما جاءوها بالمزيد، اشتعَلت واستعَرت أكثر. "
كانت سنة ولادتي سنة دموية، تحول فيها الإرهاب إلى منجل للموت لم يكن أحد يدري متى سيحل دوره، كان الجميع قبل مغادرة منازلهم، يلتفتون ليلقوا نظرة أخيرة على بيوتٍ سكنوها وربما لن يطؤوها مجددًا، ويحدقوا مليًّا في وجوه أبناءٍ، ربما تكون صورتهم آخر ما يرونه، غدا ذلك الأمر طقسًا صباحيًّا لا يتوانى الجميع عن فعله، لأنه لا أحد كان يعلم إن كانت حياته ستُسلب منه في طريق الإياب أو العودة، أو تكتب له الحياة ليعيش يومًا آخر جلبت سنة
1997 معها الخوف والموت والجنون، ورمتهم دفعة واحدة في حضن الجزائر.
بعد قراءتي وسماعي عن المجازر التي حدثت سنة ولادتي، تأكدت أنه ليس كل من يمشي على رجلين هو إنسان، فقد نجد الإنسانية، عند من يمشي على أربع، فيما تغيب عند الكثير من البشر فلقد كذبوا علينا حين أخبرونا أن الوحوش والغيلان هي أكثر الكائنات المخيفة، كبرنا واكتشفنا أنه ما من كائن مخيف أكثر من الإنسان نفسه. فمن يقتل الأطفال، ومن يشق بطون نساء حوامل، ويخرج أجنتهن من داخلها، لا يستحق أن يطلق عليه اسم آدمي.
"على قيد الموت"
ان احداث هذه الرواية حقيقية مئة بالمئة ،وانا أردت فقط ان انقلها لكم لانني ارى ان هاذا الموضوع يستحق الحديث عنه لانه يعكس معاناة فتاة أهدي هاذا إلى جميع البشر على سطح الأرض، الذين لا يزالون يُطيقون العيش، في بيت الرعب هذا، الذي يُدعى "الحياة".
"من المخيِّبِ أن نبقى في عتمة الرحم تسعة أشهر، نتحرق شوقًا لرؤية النور، فنخرج، ونكتشف أن الحياة أكثر عتمة ووحشة من الرحم بمرات."
لذا من رأيي فلقد آن الأوان لنكف عن كتابة قصص خيالية، وإنتاج أفلام سينمائية، عن الوحوش والمسوخ، فمهما بلغت درجة مخيلة مؤلفها، فهي لن تضاهي قصصًا واقعية، تحكي عن جرائم ارتكبتها أيدي البشر أمي على سبيل المثال لم تقص عليّ -ولا لمرة واحدة- حكايات، عن الأميرة والأمير صاحب الحصان الأبيض، حكايات يهزم فيها الخير الشر دومًا، ويعيش فيها الجميع في النهاية في سعادة ووئام للأبد. القصص الوحيدة التي سردتها عليّ كانت عن فترة العشرية السوداء لقد كانت تفتح عيني على الحياة، وتريني أنها ليست وردية كما يزعم البعض تنبهني أن الخير نادرًا ما يفوز، وأن الغلبة في الكثير من الأحيان تكون للشر، لأن الشر لديه فائض لاعبين، في حين يعاني الخير من نقص في تشكيلته على الدوام.
لأن الإرهاب كان رأس الشرور آنذاك، فقصتي أيضًا بدأت معه، ففي أحد الأيام، هجم الإرهابيون على قرية والدي وقتلوا عددًا كبيرًا من القاطنين هناك، لحسن الحظ -أو لسوئه على الأرجح-، صادف ذلك اليوم يوم ولادتي، وبالتالي كنت سببًا في نجاة عائلتي من الموت المحتم.
أتيتُ أنا وأطلقت عليّ والدتي اسم رحيل، لا أعلم ما الذي كانت تفكر فيه لحظتها، لكن ذلك الاسم سيكون لعنة عليَّ مدى الحياة.
لم تكن ولادتي فأل خير على أسرتي، فقد حاصرتهم المصائب من كل صوب بدايتها كانت مع وجود عمي حسين ضمن الإرهابيين، الذين هجموا على القرية، وقيامه بقتل العديد من أفرادها بعد معرفة والدي بما حلَّ بقريته، توجه إلى هناك ليقدم واجب العزاء، لكن الجميع قابلة بجفاء، حتى إن بعضهم تهجم عليه، وحاول قتله، ولم يتمكن من النجاة بحياته إلا بصعوبة التحق عمي حسين بصفوف الإرهاب بعد عامين من بداية العشرية السوداء، كانت أحوال المنزل غير ميسورة، ولم تكن لعمي وظيفة
ثابتة، كان يعمل يومًا، ويقضي باقي الأسبوع إما غاطًّا في النوم، أو هائمًا على وجهه، يتجول هنا وهناك، ثم ذات يوم حزم أغراضه، وصعد إلى الجبل. حين علم أبي بالأمر جُنّ جنونه، وشعر بوخز الضمير، لأنه لم يعتنِ بالأمانة التي تركها له والده كما يجب. بعد مغادرتنا المستشفى، بدأ الجميع يعامل عائلتي بسوء، لم يعد أحد يسلم عليهم، وأصبح الكل يتجهم حال رؤيتهم، وتم الاعتداء على أبي بالضرب مرات عديدة بعد أن ضاق أبي ذرعًا من الوضع، باع منزل العائلة، رغم معارضة أمي وجدتي للأمر ودفع بثمنه الدية لعائلات الضحايا، الذي اتهم عمي بقتلهم انتقلنا من القرية إلى بيت بالإيجار، في إحدى ضواحي الجزائر العاصمة، كنا نعيش فقرًا مدقعًا، لأن أبي لم يستطع إيجاد عمل يضمن له دخلًا ثابتًا، فكان أحيانًا يعمل في البناء، وأحيانًا في النجارة، وأحيانًا في تحميل البضائع كان ما يجنيه لا يكفيه لدفع الإيجار، وتغطية مصاريف البيت فاضطرت أمي للعمل هي الأخرى، فاشتغلت في الخياطة ترقع وتزرر، لكن ما كانت تجنيه لم يكن يكفي كذلك، فوجدتْ عملًا إضافيًّا كمنظفة للعمارات والمنازل، في أحد الأحياء.
ظل حالنا على ذلك الوضع لمدة سنة، إلى أن أتى أحد أقارب أبي، وأخبره بأنه عثر له على عمل، بدخل شهري ثابت، كانت الوظيفة الجديدة تتمثل في العمل كحارس لإحدى المقابر.
في البداية تردد أبي قليلًا، لكنه وافق بعد ذلك، حين سمع أن المقبرة توفر سكنًا، يمكن للحارس وعائلته استخدامه.
وهكذا انتقلنا للعيش في مقبرة الغفران، على أساس أن فترة إقامتنا ستكون وجيزة، لحين تحسن أوضاعنا، لكن الأمر لم يسر أبدًا كما كان مخططًا له....
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon