قال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ۚ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ ۚ بَلَاغٌ ۚ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (الأحقاف: 35).
ويتفاوت الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ويتفاضلون في الصبر، فصبر أولي العزم من الرسل هو أعظم الصبر؛ لأنهم واجهوا من الأذى والصد ما لم يواجهه نبي قط، وقد جاء التنويه بذكر صبرهم في قوله تعالى: ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾، فنوح عليه السلام من أولي العزم، صبر في دعوته لقومه صبرا عظيما. (الجليل، 1998، ج3، ص 107).
صبر نوح -عليه السلام- على قومه، فقد أنذرهم لأجل أن يتعظوا ويخشوا الله فيما يفعلونه فلم يستجيبوا، ومع ذلك صبر على أنهم لم يستجيبوا لدعوته التي دعاهم إليها، وهي أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا، ولقد استمر فيهم داعيا ومبينا لهم خطورة كفرهم وشركهم بالله، ومع ذلك لم يستجيبوا أيضا، وأعاد الكرة عليهم مرات عديدة؛ لأجل أن يتقوا الله ويؤمنوا به فلم يستجيبوا، وأنبأهم ليلا ونهارا بمغفرة الله لمن يؤمن منهم ويتوب ويتقي، فازدادوا ضلالا وإصرارا واستكبارا، ومع ذلك صبر ولم يستسلم لرفضهم واستكبارهم فازدادوا إصرارا، وهكذا كلما ازدادوا إصرارا ازداد نوح صبرا. (عقيل، 2011، ص 89).
عاش نوح -عليه السلام- عمرا مديدا ودهرا طويلا، حيث بلغ ألف سنة إلا 50 عاما، لبثها في دعوة قومه إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له والحث على تقواه وطاعته، لا يكل ولا يمل، ليلا ونهارا، سرا وإعلانا وجهارا، وهذا من شدة حرصه على قومه، والتزامه أوامر في تبليغ دعوته.
إنَّ دعوة نوح عليه السلام والرسالة التي كلفه الله تعالى بتبليغها إلى قومه كانت تؤسس منهجا عاما للأنبياء والرسالات بعد نوح عليه السلام؛ وذلك بسبب:
أنها أول دعوة تحمل شريعة بعد آدم عليه السلام.
طول المدة التي استغرقتها.
الإيمان هو الأصل.
الشرك والكفر هما طارئان.
إظهار أسلوب الدعوة.
توضيح طريق الدعوة.
الدعوة من حيث الزمن {ألف سنة إلا خمسين عاما}.
الدعوة من حيث الوقت {ليلا ونهارا}.
أسست نبوة نوح -عليه السلام- ودعوة قومه -هذه المدة الطويلة- للأنبياء النهجَ والفكر والأسلوب والمطاولة والجدل والحوار والصراع والابتلاء والعبر، وما من نبي جاء بعد نوح إلا وكان له في نوح أسوة حسنة. (عقيل، 2011، ص 246). وكذلك لمن حوله من أتباعه الذين آمنوا به، فهل هناك أعظم من صبر نوح عليه السلام الذي بقي يدعو قومه قرابة 10 قرون من الزمن، ثم بعد ذلك لم يؤمن معه إلا قليل؟!
ولذا أخبر الله تعالى أن نوحا بقي في قومه يدعوهم إلى الله ألف سنة إلا 50 عاما، 9 قرون ونصف قرن، ومع هذه المدة الطويلة قال تعالى: ﴿وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾ (هود: 40)، فهذه دلالة على عظيم صبر نوح عليه السلام، ذلك الزمن الطويل وهذه الفترة المديدة في دعوة قومه إلى الله.
وكيف لا يكون نوح من الصابرين وقد قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (البقرة: 153)، فكان الله معه في كل لحظة من حياته ومن خلال دعوته، فقد قال تعالى: ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ﴾ (هود:37)، وعندما صنع الفلك برعاية الله تعالى وعنايته ووحيه، كان نوح عليه السلام صابرا على كل ما يلاقيه من أذى قومه، محتسبا ذلك عند الله عز وجل. (عقيل، 2011، ص 248).
إنَّ نوحا عليه السلام تميَّز في حياته بصفة الصبر، والتي كانت من أسباب الثبات والنصر على الأعداء وهو محل قدوة وأسوة، إذ صبر على تكذيب قومه وما لقيه من الإيذاء والسخرية إلى أن جاء نصر الله المبين ونصره على القوم الكافرين، وهذا يدلُّنا على حسن عاقبة الصبر، فمن كان أصبر كان أجدر بالنصر.
لقد كان نوح عليه السلام مدرسة فريدة من نوعها في الصبر والتحمل، وقد غرس هذا الخلق في أتباعه، فكان المجتمع الجديد بعد الطوفان في أشد الحاجة إلى التخلق بهذه الصفة في أفراده وحياتهم الاجتماعية والاقتصادية والدينية والحضارية، وللصابرين درجات وفضائل تترى بيّنها الله عز وجل في كتابه، فقد ترتبت على الصبر خيرات الدنيا والآخرة:
اختصهم الله بمعيته: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (البقرة:153).
وفي سياق الفئة الثابتة مع طالوت يأتي الثناء عليهم: ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِين﴾ (البقرة: 249)، وهي معية خاصة تتضمن الحفاظ والرعاية والتأييد.
محبة الله تعالى لهم: ﴿وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ (آل عمران: 146).
إطلاق البشرى لهم: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ منَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ منَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ (البقرة:155- 157)، وكان عمر بن الخطاب يقرؤها ويقول نعم العدلان ونعمت العلاوة للصابرين، ويعني بالعدلين الصلاة والرحمة، وبالعلاوة الهدى.
إيجاب الجزاء لهم بأحسن أعمالهم وتوفيقهم أجورهم بغير حساب ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَاب﴾ (الزمر:10). قال الإمام الغزالي -رحمه الله- فما من قربة إلا وأجرها بتقدير وحساب إلا الصبر، ولأجل كون الصوم من الصبر وأنه نصف الصبر، قال الله في الحديث القدسي "الصوم لي وأنا أجزي به"، فأضافه إلى نفسه من بين سائر العبادات. (الغزالي، 2016، ج4، ص 310). وقال العلامة ابن القيم "الصبر نصف الإيمان، فإن الإيمان نصف صبر ونصف شكر". (ابن القيم، 1991، ج2، ص 115).
الحصول على درجة الإمامة في الدين، نقل ابن القيم عن شيخه ابن تيمية قوله "بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين"، ثم تلا قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ (السجدة: 24). وقرأ سفيان بن عيينة الآية فقال "أخذوا برأس الأمر -يعني الصبر- فجعلهم رؤساء". (الرقب، 2010، ص 159).
إن خُلق الصبر وقيمته أصيلة في نشأة الحضارات الإنسانية، ولا يمكن أن ترتقي على المستوى المادي والمعنوي إلا بخلق الصبر على مستوى القيادة والأفراد والمجتمع، فمن ملامح ومعالم الحضارة الإنسانية الثانية خلق الصبر الذي تميز به نوح عليه السلام وربى عليه أتباعه.
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon