NovelToon NovelToon

أبو الفوارس عنترة بن شداد

أبو الفوارس عنترة بن شداد

كان الربيعُ يُغطِّى جَوانِبَ الوَادِى بكسَاءٍ من الحَشيش والزَّهرِ ، والسَّماءُ الصَّافيةُ لا يَشُوبُها سِوَى قِطع مُتفرقة مِنَ السَّحابِ الأبيض ، وكانت الشَّمْسُ تميلُ نَحْو الغَربِ عِندَما اقْتَربت القافِلةُ مِنْ فم الوادِى عنْد ظلال أجَمةٍ وسَارَت الإِبل تَخْطو خطوًا وئيدًا لا تَعْبأُ بشىءٍ مِمَّا حَوْلَها ولا يَسْتحِثُّها شَئ من أمامها ولا مِنْ خلفِها ، وكان يَرنُّ فى الفَضَاءِ صَوتُ الحَدى يتغنَّى بأراجيزَ يَمْزِجُ فيها بين أنغام الحرب وأنغام النسيب ، قكانتِ الإِبلُ تسيرُ رافعةً رءُوسَها نشيطةً كأنها تُصغى فى حمَاسةٍ إلى ذَالِكَ الغِناء المُطْرب .

وكَانَ الفتَى الحادِى يسيرُ في صَدْرِ القافِلةِ آخِذًا بزِمَامِ بعيرٍ عليه هَودَج قد طُرحتْ عَليه ثياب مُلوَّنة مُخطَّطة من حَريرٍ يَبْرُقُ فى ضَوءِ الشَّمس الغَارِبَةِ ويَخْفق فى رِفْقٍ مَعَ النَّسيمِ الهادئ .

وكان الفتَى شَابًّـا أسْمَر اللَّونِ ، يُشبه قَومُهُ الرُّمْحَ الذى فى يمينه ، قامة عالية ، ورأس مَرفُوع وصَدْر فَسيح ، وقد شَمَّر عَنْ ذِراعَين مَفْتُولَتَيْنِ قويَّتين وهُوَ بَيْنَ حين وحِين يلتفت نَحْوَ الهَوْدَج فَتبرُقُ عَيْنَاهُ فى لَمحٍ خَاطِفٍ ، ثُمَّ لا يلبَثُ أن يتجهَ إلى أمامِه ناظراً إلى فَم الوادِى مُستمرًّا فى الغِنَاء بصوته الملئ ، وكانَ النَّاظِرُ إلى وجْهه يَرَى أَنْفَه الأقْنَى يَنْحَدِرُ إلى فَمٍ قَوىٍّ فيه شَئ من الغِلَظِ ، وَيَلْمَحُ على جَبينه عبسَةً فيها شَئ يَنِمُّ عن حُزْنٍ كَمِينٍ .

ولمَّا بَلَغَ الرَّكبُ فَمَ الوَادِى أَوْقَفَ الفَتى البعيرَ الَّذى كان آخِذًا بزمَامِه ، فوقفَ القِطارُ كَلُّه لوُقوفِهِ ، وأَسْرَع العَبيدُ والأتْباعُ الَّذِينَ كانُوا يَسيرُون مُشَاةً فى آخر الرَّكْب فَساقُوا الرَّواحِل الَّتى أَتَتْ تَحْمِلُ الزادَ والمَاءَ ، وأَخذوا يضربُونها بعصيِّهم الغَليظةِ حتى أناخُوهَا فى ناحيةٍ من جانبِ الوادى .

وأمَّا الفتى فقد أناخ بعيره وأزاحَ السِّتَار عَنِ الهَودَجِ ونَظَر إلى الفتَاةِ الَّتِى كانتْ فِيهِ ، وقال لها باسمًا :- منزل كريم يا عبلةُ .

فَقَالَت الفتَاةُ باسمةً :- شُكراً لكَ يَا عَنْتَرةُ .

ومَدَّ الفَتَى يَدَه ؛ ليَسْندَها فاتَّكأتْ عَلَى سَاعِده القوىِّ وَ وَثَبتْ خفيفةً ، وهِـىَ تَقُولُ : لَقَدْ أجْهَدكَ السَّيرُ وأَنتَ تَأبَى الرُّكُوبَ مُنْذُ اليَوْم .

فَأَسْرَع عَنترةُ قائلاً :

- وكيف يُصيبنى الجَهْدُ وأنا أحدُو بَعيرَكِ يا سَيِّدتِى ؟

فَنَظَرت إليهِ ، وكانَتْ عَينَاها تبتسمان ، وسَارَتْ إلى ظِلِّ سِدْرةٍ وهى تقول :

- لَمْ أسْمَع شَيئًا يُشبِهُ حداءَكَ يا عنتَرةُ . لقد أحْسَسْتُ كَأنَّ البَعيرَ يَطربُ لإتشَادِكَ ؛ فقال عنترةُ :

- إنَّه يطربُ ليُشارِكَنى يا سَيِّدَتِى . فَهُو يَعرفُ أَنِّى أُنْشِدُ فىِ وَصْفِكِ أَنْتِ .

فَضَحِكت الفتاةُ ضحكةً تشبهُ غِناءَ الطَّير ، وأسْرَعَ عَنتَرَةُ فَرَمى شَـمْلَتَهُ علـى الرَّمْلِ ، ومدَّها لِتَجْلس عَليْها ، ثُم نَظَرةً باسِـمةً وأَسْـرَع خفيفاً يَثِب فى خطواتِه ؛ لِكَىْ يَرى سَـائِرَ مَنْ فىِ القافِلةِ مِن بناتٍ ونِساء ، ليُسَاعِدَ مَنْ تحتاجُ مِنهُنَّ إلى المسَاعَدة. .

وسارَت الفتاةُ تَخْطِرُ فى ظِلِّ السدْرِ تنظُرُ إلَى الأِبل وهِىَ تُنِيخُ وأصْواتُها تُدوِّى .

تلْك الفتاةُ هى عَبْلةُ ابنةُ الفَارِسِ العَبْسىِّ مَالك بنِ قُراد ، وكانَتْ آتية مِنْ عُرسِ ابنةِ خَالَتِها فى قبيلةِ هَوازِنَ ، عائِدَةً إلى منَزلِ قَومِهَا عَبْسٍ فى أرْض الشَّرِبَّةِ والعَلَمِ السعْدِىِّ .

كانت عبلة تلْبَس ثوباً مُعَصْفراً مِنَ الكتَّانِ يَلمَعُ فىِ نُورِ الشَّمس ، وتضعُ حولَ رأسِها خماراً مِنَ الحرِيرِ المِصْرىَّ ، يتَغَير لونُه فى شُـعَاع الضَّوءِ ويتألقُ فوقَ وجْهِهَا الجميلِ .

وكان لونُها الخَمْرىُّ مُشرَباً بحُمرةٍ يَسرى فيها رَوْنقُ الشَّباب ، وعَيناها السَّودَاوان تُضيئانِ فى حَلاوةٍ ، فإذا نظرتْ بهمَا تَرقْرقتْ فيهما بَسْـمَة وديعة ، وكان فى أُذُنَيْها قُرْطانِ مِنَ الذهـب ، تتدلَّى منهما حَبَّات من لُؤلُؤ البَحْرَيْن أهْداهُما إلَيْها أبوهَا مَالِكُ بنُ قُرادٍ .

وأقبَـلَ نحْوها نِساءُ أعْمَامِها وبَنَاتُهنَّ ومَنْ كَانَ مَعَهُنَّ مِـنْ آلهنَّ فأسْرعَتْ نحْوهُنَّ تستقبلُهُنَّ وكانتْ فيهن ابنةُ عمِّها مَروةُ ابنةُ شَدَّادٍ ، فَقَالَتْ لها تُعابثُها : أنتِ أولاً ، ونحن بعدَكِ . أَلسْتِ يا عبلةُ أميرةَ عَبْسٍ ؟ فنظرتْ إليها سُميةُ أمُّها باسِمةً ، وقَالَتْ : أهِـىَ الغَيْرةُ مَرَّةً أُخرَى يا مَرْوَةُ ؟ قَالتْ مروةُ ضَاحِكةً : سـوف أشْـكُو هَذَا العَبْـدَ لأبى ؛ إنٌَه عَبْدُ أبِى شَدَّادٍ ، ولكِنَّه لا يخدُمُ إلَّا عبلةَ .

فقالتْ عبلةُ فى عِتاب :- ألا تترفَّقينَ به يا مروةُ ؟ أليسَ هُو عنترة ابنَ زبيبةَ الَّتى أَرْضَعتْكِ ؟ فقالت مروة ضَاحِكةً فى خُبثٍ : نعَم ، وهُو الفَتى الَّذِى يُعلِلى ذِكْرَ عَبسٍ بالإنشَادِ فى جَمَالِ بنَاتِها ، فَصاحَتْ عِندَ ذَلكَ إحْدَى الفَتياتِ ثقولُ : ما هذا الحديثُ ، ويكادُ العطشُ يقتلُنى . وقالتْ أُخرى :- ألا تَعرفِينَ مَكانَ الحَوْض ؟ ثم انْدَفَعَتْ تَجْرِى نَحو وَهْدةٍ فى جَانب الوَادِى الصَّخرىِّ ، وأسْـرعت الفتياتُ ورَاءها ، فَلم يبقَ إلَّا سُـميَّةُ مَع بَعض النِّسـاءِ ، ةقد اسْتَلقَتْ فى الظِّلِّ فوقَ الشَّـمْلةِ الَّتى كَان عنترةُ بَسَطها لعبلةَ .

ولما فرَغَ عنـترةُ من إناخَةِ الإبِل فـرَّقَ العَبيدَ ولأَتباعَ فِرقـاً ، فأمر بعضهُم بأنْ يذهبُوا لسِقاية الإِبل ، وأمر آخرين أنْ يَضْربوا أَخْبية النساء قريباً مِنَ الماء ، وأمَرَ غَيرَهُم أن يُقدوا النيرانَ لإِعْدادِ الطعامِ .. ثُمَّ ذهبَ إلى ناقة بيضاء فحلبَ منها فى إناءٍ مَلأهُ ، وَ وَضعَهُ فى الظًَـلِّ فوقَ صحرةٍ عاليـة ؛ ليَبْردَ فى الهَواءِ . ومَضَى بعد ذَلكَ إلى البِئرِ فَسـقَى جَواده ، ثُمَّ رَكبهُ ودارَ حولَ الوادِى ؛ليَرى هَلْ هُناك قوم ينزلُون عَلى مَقربةٍ من الماءِ حتَّى إذا ما اطمأنَّ إلى أنَّه فى مَأمَنٍ ، وأنْ ليسَ هُناك ما يَخشاةُ ، أَوْغل بين الكُثْبـانِ وجَعَلَ يُجوسُ خلالَها ، ويتأملُ ما عَلى رمالِها مِنْ آثارِ الأقدام وأخْفاف الإِبل ومخالبِ الحَيَوان ، ثُمَّ عادَ يسيرُ وئيداً وهُو يُغنِّى وينَقِّلُ طَرْفَهُ فى جوانب الأفُقِ ، حتَّى اقْتَربَ من الماء فوثَبَ عَنْ فَرسه وألْقَى زِمامَه عَلى ظَهْرِه ، وبعثَهُ إلى ناحيةٍ مِنَ الوَادِى.

واتَّجَهَ عنترةُ بعدَ ذالك إلى الماء وهُو لا يَزالُ يُغنِّى ، وكانَ العبيد قدْ فرغُوا من سقَايتهِم ، فسَمِعَ من وراءِ شُجيراتٍ صَوْتَ فتياتٍ يضْحَكْنَ ويمرَحْنَ فى أقصَى شِعْبٍ صخرىَّ من شِعابِ الوَادِى .

وكان يعرفُ ذلك الشِّعبَ وفيه حوض واسع من الصَّخر تجتمعُ فيه المياةُ إذا أمطرتِ السـماءُ فيكونُ مثلَ بُحيرةٍ صافيةٍ تُظللها السَّيَال فأطلَّ من وراءِ الشُّجيرات فرأَى عبلة وصَاحبَاتِها يتواثَبْنَ ويعبثُ بعضُهن بالماء ويتقاذفْنَ به .

ورأى عبلةَ وهـى نلهُو بينَهُنَّ وتُجاوبُهنَّ ، فوقفَ يتأمَّلُ وجهَها ويستمعُ إلى صَوتِها إذْ تُكَرْكِرُ فى ضَحكها .

وعاود ذكرياتِ أحلامِه التى كانَ يكتُمها فى طيَّات صدرِه ولا يجرُؤُ على أن ينطقَ بسرِّها ، وأحسَّ قبضَةَ حُزْنٍ أليمٍ تعصِرُ قَلبَه إذْ تذكَّر أنه لا يزيدُ على أنْ يكونَ عبدَ عمِّها شَدَّادٍ .

نَعمْ ، فَما كَانَ عنترةُ سِـوَى عبدٍ من عبيدِ ذالك البَطَل العبسىِّ الباسلِ الصارمِ ، ولم يكُنْ يجرؤُ على أَنْ يفوزَ مِنْ عَبلَةَ بأكثر من أنْ يدعُوَها قائلاً : " سـيدتي " ، وَفيما كَانَ هائماً فى خيالة تذكَّر إناءَ اللَّبَن الَّذى وضَعَهُ فوقَ الصَّخرةِ ليبرد فى الهواءِ ، فأسرعَ إليه وعادَ به فجعلهُ على حَجرٍ ، قريباً من عبْلَةَ إذَا خَرَجَتْ مَعَ صَاحِبَاتها .

وجَعَلَ يُفكِّر فى نفسِه حزيناً وهُو واقف ينظُر إلى الفتياتِ وهُنَّ لا يشعُرنَ بوجُودِه . ولقد ملأ وعاء اللَّبَنِ عَلى عادتِه كُلَّ يومٍ لتشـربَ منه عبلةُ ، قانعاً بما تكاف تكافِئُه به مِنْ نظراتِها وبَسماتِها ، ولكنَّه ما كَانَ يجرؤ علَى أنْ يتنفسَ باسمِها أمامَ أحدٍ من عبسٍ ، خَوْفَ أن يتحَّدث الناسُ بأنَّهُ عبد يتطلعُ إلى ابنة مالِك أخِى سَـيِّده شـدادٍ .

لقدْ كَان يُحاذِرُ أن يتحدَّث أحد بأنهُ ينظرُ إليها إلَّا كمَا ينبغي للعبدِ أن ينظُرَ إلى مَولاةٍ له ، فما كانَ مَالكُ بنُ قُرادٍ ليرضَى أن يتطلع عبـد مِثْلهُ إلى ابنتهِ الجميلةِ التي يتنافَسُ علَى التَّقربِ إليْها سادةُ الشـباب من كِرام الأنساب ، وما كَانَ أخُوها الماكبرُ عمرو بنُ مالكِ ليرضى أن يُعيِّره أصحابهُ من فِتيان عبسٍ بأنَّ عنترةَ العبدَ يطمحُ إلى أنْ يملأَ عينيهِ من أُخْتهِ .

وقفَ عنترةُ سطابحاً في خياله وهو ينظُر إلى عبلةَ بينَ الفتيات ، وييتمعُ إلى صَوتِها بينَ أصواتِهنَّ ، وامتلأ قلبُه شـجناً ، أليسَ هو عنـترةَ الذى يِحمى عَبْس إذا أغارَ المغـيرُ عليهـا ؟ أليسَ هو الفَـارس الـذِى سَـار ذِكرُهُ فى قبائـل العرب وتغـنَّى الرُّكبان بقصائِـده فى تمجيد عَبـسٍ ؟ أكانَ فى عبـسٍ كلِّها بطـل يسـتطيعُ أنْ يَثْبُتَ له فى نِزالٍ ، أو يُنكرَ فضلهُ فى الدفاع ؟ ومَعَ ذَلكَ فَقَد كان لا يزيدُ علـى أنْ يكـونَ عبدَ شدَّاد بن قرادٍ .

وفيمَا هُو فى خيالاتِـه رأى عَبْلَة تميلُ فوقَ حَوْضٍ صغـيرٍ ؛ لتري صُورتَها عَلى صَفحةِ مَائِهِ ، وجعَلتٍ تُصلحُ من شعرها الذى اضطربَ فى أثناءِ جَريها ولعبِها ، فلم يملكْ نفسَه واندفعَ من مَكانِه مُسرعاً نحوها ، وقال بِصوتٍ هامسٍ :

- ألا تَرَيْنَ عَرارَةُ يانعةً من عَرارِ الرَّبيعِ ؟

صرخت عبلةُ عند سماع الصَّوتِ فجأةً ، ولكنَّها اطمأنَّت عِندَما رأته وقَالتْ ضَاحِكةً : لك الويلُ يا عنترةُ . فمضَى عنترةُ قائلاً : أو أُقحوانَةً باسمةً سَقَاها النَّدى ؟

وأقبلتِ الفتياتُ عِندَما سَـمِعْنَ صوتَ عبْلةَ ، فلما رأينَ عنترةَ إلى جانبها انفجرتْ منهنَّ ضحْكة مرحة وأسرعن إليْه يَصِحْنَ بِه ، ويتواثَبن حَولَه ، ويجذِبْنَ أطرافَ ثوبِه ، وكُلّ مِنهُنَّ تتجهُ إليهِ بكلمةٍ من فُكاهةٍ ، أو مِزاحٍ .

وقالت مروةُ ابنةُ شَدَّادٍ : ماذا جاء بِكَ إلى هُنا ؟

فمدَّ يدَيْهِ نَحوها فى ضَراعةٍ ، وقال باسماً : لأكونَ فى خدمتكِ يا سيدتي ؛ فقالتْ مروةُ ضَاحِكةً : فى خدمتىِ أنا ؟ فضحِكت الفتياتُ ، وأقبلنَ عليه ، وكلّ منهنَّ تقذفهُ بكلمةٍ ، وهو يُنَقِّلُ نظرهُ بينهنَّ ضاحكاً حيناً ومتظاهراً بالغيظِ حيناً ، وهنَّ يزِدْن منه ضَحُِكاً ويَمْضِينَ فى العبثِ بِه ، وأرادَ أنْ يصرِفَهُنَّ عنه فذهبَ إلى وعاءِ اللَّبَنِ فأقبلَ بِهِ ، وقدَّمه إلى عبلةَ قائلاً : هذا شَرابُكِ يا سيدتىِ . لقد بَّردتْهُ الشَّمال ، وهبتْ عليه رَوائحُ الأقاحىِ . فَهجَم عليه الفتياتُ يُردْنَ أن ينْزعنَـه منه ، ولكنَّه منَعهُ حتَّى قدمَهُ إلى عبلةَ قائلاً : هذا شرابُك يا سيدَتى ، فقالتْ له عبلةُ : حَسْبُكَ يا عنترة ، إنك تُجرِّئهُن علىَّ . فمد يَده بالوعاءِ نحوها ، وقال : لا عليكِ مِنهُنَّ ، فهنَّ كما تعرفِينَ حَمقاواتُ عَبسٍ .

فَعَلَا ضحكُ الفتياتِ وأحطْنَ به ، فنزَعْنَ الوعاءَ منه ، وأخذَتْه مروةُ قائلةُ :

- هات أيُّها العبدُ الآبقُ ، ثُمَّ شَرِبَتْ منه وتداولتْه صحباتُها .

فَلمَّا فرغْنَ من الشَّرابِ أقبلْنَ على ( عنترة ) مرةً أْخرى ، وأحطْنَ به واقتربتْ منه فتاة ، فصاحت : لا نَدَعُكَ حَتَّى تُنْشِدَ لنا من شِعْركَ . فصاحت سائرُهُن : نعم أَنشدْنا يا عنترةُ ، وقالتْ مروةُ في خُبثٍ : أَنْشِدَنا وإلَّا قطَّعْنَاكَ حتَّى لا نَدعَ مِنْك إلَّا أسْنَانَك البيضَاءَ .

فالتفـت عنترةُ حتَّى وقعت عينهُ عَلى عَبلةَ ، وقال : لَنْ أقولَ شـيئاً حتَّى تأذَن لى سـيدَتىِ . فاتَّجَهنَ جميعاً إليها ، وقُلْنَ لها : مُرِى عبْدَكِ أن يُنشِدَنا وإلَّا أحطْنا بِكِ أنتِ ونزعْنَا غَدائر شَعرِكٌ .

فقالت عبلةُ ضاحكةً : حسـبُكُنَّ أيتُها الفتياتُ سُـخفاً . فصاحتْ بها مروةُ : مُرِيه يا عبلةُ أن يُنشـدَنا ، مُرِى هَذا العبـدَ الَّذِى لا يأتمرُ إلَّا بأمرِك ، لقد انتزعْنا مِنه وعاء اللبن ، ولكنَّنا لا نقدرُ أن ننزعَ منه الشَّعرَ . فقالتْ عبلةُ : وهى تُظهرُ الغَيظَ لعنترةَ : ما أخبثَك يا عنترةُ إذْ تُحرِّضُ هؤلاء علىَّ مرةً بعدَ مرةً ! فقال عنترة : وماذا يُغضِبُكِ علىَّ يا سـيدتي ؟ إنَّنى لا أرْضى بأنْ أكُونَ عبداً لواحدةٍ غيركِ ، لستُ أَرْضَى أن تكونَ سـيدتىِ سِـواكِ . فزادَ ضحكُ الفتيات ، وقالت مروة : عنترة عبدُ عبلةَ . هكذا نُسمِّيه منذُ اليوم بعدَ أن كَانَ بعدَ شَدَّاد .

فأقبلتْ عبلةُ عليها ودفعتْها برفقٍ فـى صدرِها ، وصاحتْ لعنترةَ فى غَضَبٍ باسمٍ : قل شِعرَكَ يا عنترةُ ، إن الغَيرةَ لتأكُلُ قُلوبَهنَّ كما قَالت سميةُ منذُ حينٍ . أنشِدْ شعرَك حَتَّى يملأَ الغيظُ صُدورَهنَّ .

فوثب عنترةُ فى مَرَح ، وجَعل يُنشِدُ مُتغنياً بقطَع من شِعره ، والفتياتُ يضربْنَ بأكفِّهنَّ على وقْع إنشَـادهِ ، وعبلةُ تنظُر إلى وجهه الأسمَرِ والحسن القسَماتِ ، وتتأمَّلُ حركته الرشـيقةَ وهو يُمثلُ مواقفه فى القتـالِ حيناً ، وطعناتِهِ العَدُوَّ حيناً ، أو يصِفُ فرسَـه فى مَعْمَعـة الحـرب ، أو سُـقوطَ الأبطالِ صَرْعَـى من حَولِـه مُضرَّجـين بالدَّم ، حَتَّى انتهَـى إلى النَّسـيب فجعلَ يصفُ محَاسِـن فَتاتهِ ونُبلَ شِـيَمها وعُلُـوَّ حَسَـبِها . وتغيَّر مظهـرهُ عند ذالك فاعتَرتهُ رجفة وتهدَّجَتْ نبراتُ صَوْتِه ، واتَّجه إلى عَبلَة ببصَرِه كأنهُ يخاطِبُها بما فى نَسيبِه من الأوْصَافِ ، ثُمَّ هدأتْ حركتُه بعدَ عُنفِها ، ولانتْ نظراتُه بعدَ أنْ كانتْ تخطِفُ كالبرْق اللَّامع ، وفتحت الفتياتُ أعيُنَهنَّ مأخُذاتٍ بما كانَ ينبعثُ فى ثنايا شعره مِنْ حَرارةٍ ، حتَّى انتهى من إنشَادِه وهُوَ يلهثُ وصدرُه يَعلُو ويهبِطُ فى عُنفٍ . نَظَرَةً طويلةً إلى عبلةَ وهو صامت ، وهدأَت الأصواتُ لحظةً ، وعبلةُ تنظُر إليه فى دَهْشَةٍ عقدَتْ لسَانَها عن اللفْظِ . لَقَدْ كانَتْ تلكَ أوَّلَ مرةٍ سمِعتْهُ يُنشِدُ بهذِه الحَرارَةِ ، ويتَّجِهُ إليْها بهذه النظْرَةِ.

ثم انفجرتْ صيحة من الفتياتِ ، واندفعْنَ نحو عنترةَ يَسـتعِدْنَ إنشادَه ، ولكنَّه كان مُطرقاً حزيناً صَامتاً . وانفلتَ مُسـرعاً من بينهِنَّ ، فذهبَ إلى فم الشِّعب بطيئاً ، فَمازالَ حَتَّى بَلَغ المكانَ الذى تَركَ فِيه فرسَـه ، فوثَبَ عليه ، فانطلق به بينَ الكُثبان وهُو غارق فى شُجونِه الثائِرَةِ.

وذَهبت الفتياتُ إلى حيثُ ضُرِبتِ الخيامُ ، وأقبلن على مَنْ هُناك من النِّسـاءِ ، فجعلْنَ يتحدثْنَ إليهنَّ بما كَانَ، وكُلّ منهُنَّ ترسِلُ فى حديثها كلمةً تُصَورُ بها ما أحسَّـتْ من اتِّجاه عنترةَ إلى عبلةَ فى إنشَادِه العجيب ، كانت أشدَّهُنَّ خُبثاً مروةُ ابنةُ شَدَّادٍ ، فأرادتْ أن تَغبظَ عبلة ابنةَ عمَّها فجمعتِ الفتياتِ وجعلتْ تنشِدُ ، وهنَّ يردِّدْن مصفِّقاتٍ ، فقالت :

أمـــا رأيــتُــمْ عـــنْــتَــرة ؟ .•. يــســيــرُ سَـــيْــرَ القَسْوَرَة

فى حُـــلَّــــةٍ مُـــعَـــصْـــفَــــرة .•. ولِــــمَّــــةٍ مُــــضَـــــفَّرَة

وعِـــــــمَّـــــــةٍ مـــــــــكوَّرَة

أما سَـــمـعــــتُم قَـــوله ؟ .•. أمـــا عَرفْتم فـعْـــــلَة ؟

ويـــــــلٌ لــــــه يـا وَيـــــلَـه .•. يُــــنـــــشـــــدُ منٔذُ اللــــــيــــلة

عَــــنـتــــرُ عـــــبـــــدُ عَــــــــبْـــــلَـة

وتعالَى ضحكهن بَعْد ذالك ، وجَعَلْنَ يُرَدِّدْنَ النشـيدَ ، ويعبَثْنَ بِعبلةَ حَتَّى غَضِبَت وذهبتْ نافِرةً ، فَسِرْنَ ورَاؤها ، وجَعَلن يَجذبْنها وهى تدْفَعُهُنَّ ، حتى دخلتْ إلى خِبَائها .

يتبع..........

لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon

تحميل PDF للرواية
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon