الفصل الخامس: حفلة أم حرب باردة
كانت الأضواء تتلألأ على سطح السفينة الضخمة التي تمايلت بخفة فوق أمواج البحر الهادئة. أصوات الموسيقى الكلاسيكية امتزجت مع ضحكات الحاضرين، ورائحة النبيذ والزهور تملأ المكان.
دخلت ستيلا مع يومير بخطوات واثقة، غير أن قلبها يخفق بعنف داخل صدرها. كانت ترتدي فستانًا أزرق طويلًا جعل ملامحها كالأميرات، لكن عينيها كانتا تبحثان بخوف بين الحضور. وما إن تجولت نظراتها حتى اصطدمت بالكارثة: يوهان، زعيم بيكشون، يقف بوقاره على طرف السفينة محاطًا برجاله.
ارتجفت أصابعها، وبصعوبة التفتت نحو الاتجاه الآخر، لتجد شخصًا آخر يزرع في قلبها الرعب أكثر: إيرلن، زعيم تتوبويا.
(كيف اجتمعا هنا؟ أليس من المستحيل أن يقفا في مكان واحد دون أن تشتعل حرب؟)
جلست ستيلا مع يومير على إحدى الطاولات الفاخرة، تحاول أن تبدو طبيعية وهي تتحدث مع صديقتها عن مواضيع عادية: الجامعة، الطعام، وحتى الموضة. لكن عقلها لم يكن معها. كان كليهما يترقبان، بطريقتين مختلفتين. يومير تبتسم ببراءة، بينما ستيلا تحاول إخفاء قلقها وارتباكها.
وفجأة، مالت ستيلا نحو يومير وقالت بصوت منخفض:
– “أحتاج إلى بعض الهواء، سأدخل الصالة الداخلية.”
نهضت مسرعة قبل أن تعترض يومير، كانت تعرف في داخلها أنها لا تهرب من الهواء… بل تهرب من احتمال اللقاء الدموي بين الزعيمين.
⸻
دخلت الصالة الداخلية للسفينة. كانت فارغة إلا من ضوء خافت يتسلل من النوافذ الكبيرة، ينعكس على الأمواج المتلألئة بالخارج. وقفت أمام إحدى النوافذ، تنظر إلى النجوم، تحاول تهدئة أنفاسها المرتجفة.
لكن صوتًا باردًا اخترق سكون المكان:
– “لماذا أنتي هنا؟ ومن أنتي؟”
تجمدت ستيلا في مكانها. استدارت ببطء، لتجد أمامها إيرلن نفسه، واقفًا ببدلته السوداء الأنيقة، وعيناه الحادتان تحدقان بها كأنهما تخترقان أسرارها. وما زاد الرعب أنه كان يوجه مسدسًا نحوها.
ابتلعت ريقها بصعوبة، لكنها أخفت خوفها بقدر ما استطاعت:
– “أنا… جئت فقط مع صديقتي. مجرد ضيفة في الحفل.”
رفع حاجبه، بخبث، واقترب خطوة:
– “غريب… إذا كنتِ ضيفة، لماذا لستِ معها الآن؟”
قلبها كاد يتوقف، لكن عقلها تحرك بسرعة. بخطوة جريئة وغير متوقعة، خطفت المسدس من يده بسرعة لم يتوقعها، ووجهته نحوه. ارتبك لثانية لكنه ابتسم نصف ابتسامة.
رفعت ذقنها بشجاعة مصطنعة:
– “لأنني كنت أعلم أنك ستأتي إلى هنا… فقررت أن أسبقك.”
ضحك بخفوت:
– “وأنتِ، ماذا تريدين مني بالضبط؟”
ترددت لوهلة، ثم خرجت الكلمات من فمها وكأنها لم تكن تدرك ما تقول:
– “لأني… أحبك.”
تسعت عيناه بدهشة، بينما قلبها كان يصرخ بأنها تكذب، لكنها قالتها بحزم غريب:
– “منذ زمن وأنا معجبة بك…”
اقترب منها ببطء، وكأنه يحاول اختبار صدقها. ابتسامته الغامضة ازدادت:
– “حب… في وسط حرب؟ مثير للاهتمام.”
لكنها فجأة رمشت، أنزلت المسدس بخفة، ثم اندفعت تركض بكل قوتها خارج الصالة. لم تنتظر رده، لم تلتفت خلفها. فقط أرادت الهرب.
⸻
صعدت إلى سطح السفينة، حيث كان الجو أبرد والنجوم أوضح. تنفست بصعوبة، قلبها يدق بجنون. لكنها لم تكن وحدها…
من بعيد، رأت يوهان يخطو نحوها بخطوات بطيئة، عيناه الثاقبتان مثبتتان عليها. وفي الطرف الآخر، كان إيرلن قد لحق بها، ملامحه مليئة بالغموض والتهديد.
تجمدت في منتصف السطح، بين زعيمين لا يعرفان سوى لغة الدم والكراهية.
يوهان قال بصوت منخفض لكنه مزلزل:
– “ستييلا…؟”
وقف يوهان مذهولًا وهو يرى إيرلن يقترب من ستيلا أكثر فأكثر، عينيه تضيقان ببرود لكنه في داخله كان يغلي.
اقترب إيرلن أكثر، صوته كان مبحوحًا وهو يقول:
– “لأول مرة… لأول مرة في حياتي أجد شخصًا يحبني بصدق، لأول مرة أجد فتاة ترى في داخلي إنسانًا لا مجرد زعيم دموي. ستيلا… أنا أحبك، وسأفعل أي شيء من أجلك.”
كلمات إيرلن كانت مثل الطعنة بالنسبة ليوهان. قبض قبضته بقوة، يكاد يتهور ويطلق النار عليه في اللحظة ذاتها، لكن كبرياءه أجبره على التماسك.
أما ستيلا فقد بدت مصدومة، وجهها احمرّ وعيناها اتسعتا من الدهشة. لم تفهم كيف يمكن لشخصٍ مثل إيرلن أن يعترف لها بهذا الشكل المفاجئ، وخصوصًا أمام يوهان.
صوت يوهان اخترق اللحظة بصوتٍ ساخر لكنه يخفي غيظه:
– “هل انتهيتم من لحظتكم الرومانسية؟ أم عليّ أن أترك لكما السفينة ؟”
ابتسم إيرلن ابتسامة جانبية وهو ينظر إلى يوهان باستفزاز، ثم التفت إلى ستيلا وقال بجدية مرعبة:
– “إذا كنتِ تحبينني فعلًا… ستأتين معي حتى لو كان الطريق إلى الجحيم نفسه.”
وبدون أن يمنحها فرصة للرد، حملها على ذراعيه وقفز من على حافة السفينة.
ارتفع صراخ الناس ، وسقط الاثنان في البحر مع صوت ارتطام ضخم. في نفس اللحظة، ظهر رجال إيرلن من قوارب صغيرة أحاطت بالسفينة. كان المشهد أشبه بالكمين.
⸻
🔫 بداية المعركة
رجال يوهان سحبوا مسدساتهم فورًا، وبدأ إطلاق النار. أصوات الرصاص دوّت في الأفق، وشرر النيران يضيء السماء مع كل طلقة.
أحد رجال يوهان صرخ:
– “إنهم كثيرون يا سيدي!”
لكن يوهان لم يبدِ أي تردد، رفع مسدسه وأطلق النار بدقة أسقط بها اثنين من رجال إيرلن في ثوانٍ. نظر إلى كايل وأرنولد الذين انضموا إليه، وأمرهم بصرخة قوية:
– “لا تدعوا أحدًا يقترب من سطح السفينة! اقتلوهم جميعًا!”
المسدسات تتبادل إطلاق النار من كل جانب، الرصاص يخترق البراميل الخشبية ويفجر الزجاج. بعض الجنود سقطوا في البحر يتخبطون في دمائهم، بينما الآخرون احتموا وراء الصناديق.
يوهان بنفسه كان يتحرك بخفة مذهلة، يتنقل بين زوايا السفينة، يطلق النار ببرود دون أن يرمش. لكن في داخله، قلبه كان يصرخ باسم واحد فقط: “ستيلا”.
– “أين اختفى ذلك اللعين بها؟!” قالها يوهان بين أسنانه، وهو يطلق النار بلا توقف.
⸻
🏝️ جزيرة تتوبويا
في الجانب الآخر، استيقظت ستيلا وهي تشعر بصداع قوي ورأسها يثقلها. كانت مستلقية على سريرٍ ضخم بأغطية حريرية، والهواء العليل يتسلل من نافذة تطل على بحرٍ مختلف، أزرق غامق يضرب صخوره الأمواج.
نهضت ببطء، وضعت يدها على رأسها وهي تهمس:
– “أين أنا…؟”
سمعت صوتًا مألوفًا يأتي من طرف الغرفة.
إيرلن كان يجلس على كرسي فخم، ساقيه متقاطعتين وكأس شراب بيده، ابتسم ابتسامة هادئة وقال:
– “أنتِ في قصري… مرحبًا بك في جزيرة تتوبويا، موطني.”
نظرت إليه ستيلا برعب وهي تقول:
– “قصرك؟! لماذا أحضرتني إلى هنا؟! ماذا تريد مني؟!”
اقترب منها بخطوات بطيئة، عينيه تتلألآن بجدية مخيفة:
– “أريدك أن تفهمي شيئًا واحدًا فقط… لن أسمح لأحد بأن يأخذك مني، لا يوهان ولا الجزيرة كلها. من الآن فصاعدًا… أنتِ لي.”
اتسعت عينا ستيلا، قلبها بدأ يخفق بعنف، لم تفهم إن كانت كلماته تهديدًا أم وعدًا…
Comments