بعد أيام من عودته من المستشفى، لاحظت نور أن ليان ينام على صُرَّة نقود كان يدّخرها لشراء دراجة.
في الصباح، رأته يخرج من دكان الحلويات ومعه أكياس مليئة بالسكاكر الملونة.
سألته بلغة الإشارة (التي تعلمتها من أجله):
"لمن كل هذا؟"
كتب في دفتره المرمم:
"هدية لأصدقائي."
نور عرفت أنه يكذب... عرفت أنه يحاول شراء سلامه بالسكر.
---
وقف ليان عند مدخل المدرسة، *يوزع الحلوى على كل من يمر:
- للمتنمرين الذين كسروا نظارته.
- للأطفال الذين ضحكوا عليه.
- حتى للمعلم الذي تجاهل دموعه.
كل هذا وهو يبتسم.
ياسمين رأته من بعيد... ورأت كيف كانت يده ترتجف وهو يمدها بالحلوى.
اقتربت منه وأغلقت أصابعه على السكاكر:
"لا تدفع لهم ثمن أذيتك... أنت تستحق أكثر من هذا."
لكنه نظر إليها بعينين غائرتين وكتب:
"أنا أعرف أنهم لن يحبوني... لكن ربما يكفون عن كرهي."
---
نور تتبعته طوال اليوم كشبح حزين:
- رأت مازن يأخذ الحلوى ويلقيها على الأرض ثم يدوس عليها.
- سمعت طفلة صغيرة تقول: "ماما قالوا لا آخذ حلوى من المجانين!"
- لكن الأسوأ... رأت كيف كان ليان يلتقط الحلوى المسحوقة من الأرض ويضعها في جيبه... كأنه يقول "ربما في المرة القادمة".
في طريق العودة إلى البيت، انفجرت نور غضبًا:
"لماذا تفعل هذا بنفسك؟! هؤلاء لا يستحقون حتى نظرة منك!"
ليان لم يكتب ردًا... فقط أخرج قطعة حلوى وردية (الوحيدة التي لم تُكسَر) وقدمها لها.
نور أخذتها... وعصرتها في يدها حتى تحولت إلى عجينة لزجة.
---
في الليل، بينما كان ليان نائمًا، فتشت نور تحت سريره.
وجدت هناك:
- علبة معدنية مليئة بقطع حلوى ذابلة.
- ورقة صغيرة مكتوب عليها:
"يومًا ما... سأجد الشخص الذي سيقبلها."
نور جلست على الأرض، وضعت وجهها بين ركبتيها، وبكت بصمت.
---
في اليوم التالي، وقفت ياسمين بجانب ليان عند البوابة...
ووضعت على طاولة سلة حلوى عملاقة، وكتبت على لافتة:
"مقايضة:
حلوى مقابل اسمي.
ثلاث قطع إذا نطقته بصوتٍ عالٍ.
خمس قطع إذا ضحكتَ دون أن تبتسم."
الأطفال تجمعوا... لكن هذه المرة، ليان هو من يملك القوة.
في اليوم التالي كانت أشعة الصباح تتسلل من نافذة غرفة ليان، تُضيء بدلة سوداء صغيرة معلقة على الخزانة.
الأم تدخل الغرفة حاملة ربطة عنق زرقاء.
الأم: (تبدأ بربط قميصه بيدين ترتعشان قليلًا)
"اليوم... سيراك الجميع كما أراك أنا."
ليان: (يكتب في دفتره ويُريه لها)
"هل ستخافين إذا رأيتني لا أبتسم؟"
الأم: (تتوقف عن ربط الربطة، تلمس وجهه)
"بل سأفتخر... لأنهم سيرون ليان الحقيقي لأول مرة."
نور: (تدخل فجأة وتُلقي بوسادة عليه من باب المزاح)
"من هذا الفتا الوسيم! هل أنت مستعد لتحطيم قلوب الجميع؟"
ليان: (يُمسك البوسادة ويُعيد رميها، يضحك دون صوت، لكن عينيه تقولان كل شيء).
بعد الإنتهاء
ليان يقف أمام باب المنزل، حقيبة صغيرة على كتفه (بداخلها الدفتر الأسود والنظارة الاحتياطية).
الأم تُصلح طية قميصه بعناية، ثم تضغط على يديه كما لو كانت تخبئ سرًا ما بين راحتيها.
الأم: (بصوت خافت، وكأنها تخشى أن يسمعها أحد)
"لا تنسَ... أنت لستَ ذلك الطفل الذي كان هنا قبل خمس سنوات."
ليان ينظر إلى عينيها (اللتان أصبحتا تشبهان زجاج نوافذ ممطرة)، ثم يكتب على كفها:
"أنا أعرف... لأنكِ جعلتِني أكبر."
الأم تحتضنه بسرعة كأنها تخفي دموعًا، ثم تدفعه نحو الباب:
"اذهب... نور
عند المدخل، تقف نور متكئة على الحائط بتعبير ساخر، لكن عينيها تقولان شيئًا آخر.
نور: (تمسك بيده وتجرّه نحو الشارع)
"تعالَ يا 'فتى أمي الوسيم'... قبل أن أغير رأيي وأخبئك في خزانتي!"
ليان يُمسك يدها بقوة (أقوى من المعتاد)، ويكتب في دفتره المُعلق برباط على معصمه:
"اليوم... سأجعل صوتك يسمعني."
نور تتوقف فجأة، تقرأ الجملة مرتين، ثم تضرب كتفه ضربة خفيفة:
"أخيرًا... أصبحت كاتبًا ماهرًا!"
لكنها في السر... تمسك يدَه أطول من المعتاد بثلاث ثوانٍ.
في الحفل يتجنب ليان الجميع ويقف جنبا .
الحفل ينتهى.
ليان وقف على المسرح بدون نظارات، بدون ابتسامة زائفة...
قال للجميع "كفى" بصوتٍ سمعته الجدران.
الآن، الجميع ينظرون إليه باحترام... بل بخوفٍ أيضاً.
لكن بينما كان الأطفال يصفقون، شعر ليان بشيء غريب:
"هل كان كل هذا من أجلهم؟ أم من أجلي أنا؟"
في اليوم التالي، ذهب إلى المدرسة ليس ليتعلم... بل لِيُودّع.
- أعطى مازن آخر قطعة حلوى (التي رفضها سابقاً).
- سلّم المعلمة رسالةً كتب فيها: "شكراً لأنكم جعلتموني أجد صوتي."
- حتى الطفلة التي رفضت حلواه، أعطاها وردة ورقية صنعها بنفسه.
كل هذا وهو صامت... لكن عيناه تقولان كل شيء.
---
. أخته القلقة: تقول في نفسها "إلى أين تذهب يا صغيري؟"
نور لاحظت أن شيئاً ما غير طبيعي.
رأته يغادر المدرسة بمفرده... فتبعته من بعيد.
شاهدته يتجه إلى سكة قطار مهجورة في ضواحي المدينة...
مكان كان يذهب إليه مع أبيه قبل الحادث.
---
جلس ليان على الحديد الصدئ، يأكل الحلوى التي رفضها الجميع.
قطعة بعد قطعة... يبتسم لأول مرة منذ سنوات... ابتسامة حقيقية.
نور تقترب منه ببطء، تجلس بجانبه، تسأله بصوتٍ خافت:
"لماذا هنا؟"
يكتب لها في دفتره:
"هذا المكان يذكرني بأبي... كان يقول لي أن القطارات لا تعود أبداً... لكن الذكريات تبقى."
ثم يُعطيها آخر قطعة حلوى... هذه المرة، تأخذها وتأكلها دون تردد.
---
يمسك ليان يد أخته، ويشير إلى الأفق...
إلى القطار الذي لن يصل أبداً (هذه السكة لم تعد مستخدمة منذ سنوات).
يكتب لها:
"لو كان هناك قطار... هل كنتِ ستسافرين معي؟"
تنظر إليه، تدمع عيناها، ثم تضحك:
"أحمق... أنت قطاري الوحيد."
في صباح اليوم التالي، استيقظ ليان بهدوء غريب.
الشمس دافئة، والسماء زرقاء... وكأن العالم يعطيه فرصة جديدة.
يخرج من المنزل دون أن يخبر أحدًا، يتجه إلى سكة القطار المهجورة — مكانه الآمن.
يجلس على الحديد البارد، يضع الحلوى المتبقية بجانبه... ويبدأ بأكلها واحدة تلو الأخرى.
هذه المرة، الحلوى حلوة حقًا.
---
بينما هو غارق في أفكاره، يتذكر:
- صوت أمه وهي تغني قبل الحادث.
- ضحكة أبيه التي لم يعد يتعرف عليها.
- صوت الفرامل الذي سرق منه كل شيء.
لكنه لا يسمع شيئًا آخر...
لا يسمع صفير القطار القادم.
---
نور: "ليان! انتبه!"
فجأة، تظهر نور مُهرولةً نحوه، شعرها يتطاير، عيناها واسعتان من الرعب.
القطار قادم.
والسكة ليست مهجورةً اليوم.
تصرخ بأعلى صوتها، لكنه لا يسمع.
تندفع نحوه، تمسك بكتفه وتدفعه بعيدًا عن السكة.
ثم...
زلَّت قدمها.
تسقط نور على الأرض، رأسها يضرب الحجر بقوة.
الدم ينزف مثل شلال صغير على وجهها الشاحب.
ليان ينظر إليها... وكل شيء حوله يصبح صامتًا تمامًا.
حتى ضجيج القطار الذي يمر يختفي.
كل ما يراه: أخته تنزف... لأنها أنقذته.
يكتب في دفتره بيد مرتعشة:
"أنا آسف... أنا آسف... أنا آسف."
لكن نور ترفع يدها الضعيفة، تمسك أصابعه وتُوقِفُه.
تتنفس بصعوبة وتقول:
"لا تبتسم... فقط ابقَ معي."
---
يُمسك ليان يدها، ويصرخ للمرة الثانية في حياته:
"انقذوها! من فضلكم!"
صوته مكسور، لكنه واضح.
المارة يهرعون، سيارة الإسعاف تأتي...
وياسمين تصل مذعورةً، تمسك بوجه ليان:
"ستكون بخير... لأنك كنتَ هناك من أجلها.
يتابع
Comments