أسيا
وش تبين؟
ما كانت تحب الليل، لكن تعودت عليه.
كل ليلة، تصير الغرفة مكانها الوحيد للهروب. جوالها، سماعتها، وضوء الشاشة… صاروا عالمها الصغير اللي فيه تقدر تتنفس، بعيد عن صوت أمها، وملامح أبوها اللي صارت باردة من كم شهر، وأخوها اللي صار يشوفها كأنها غريبة.
الساعة كانت 2:16 الفجر.
نفس التوقيت اللي كل يوم توصل له بدون ما تنتبه، كأن الوقت نفسه يعيد نفسه.
أسيا كانت متمددة على سريرها، وجهها منور من شاشة الجوال، تطالع ستوري وحدة من البنات، ضحك وسوالف وكلام فاضي.
بس قلبها؟ ما يضحك.
أمها صحت من النوم، سمعت صوت خفيف من غرفتها، وطلعت تصرخ:
“أسيا! وش تبين بهالوقت؟ عندك مدرسة، قومي نامي!”
أسيا ما ردّت، تلفتت عن الجوال وهي تقلب عيونها، تنفست بصوت واضح، وحست بقهر يتراكم بصدرها.
“كل شي عندهم غلط… لو أضحك، قالوا أزعجت، لو سكت، قالوا مالك نفس، لو تأخرت، صارت سالفة، ولو طقيت الباب، قامت حرب.”
ما عاد تحس إن البيت بيتها.
تحس إنها تعيش مع ناس تشوفها عبء، أو يمكن هي فعلاً صارت عبء؟
بس الغريب… إنها حتى مع صديقاتها، مؤخرًا، صارت تحس بفراغ.
وجودهم ما صار يملأها مثل أول.
تحس إنها وحيدة، حتى وهي محاطة بالكل.
غمضت عيونها للحظة…
كانت تبي تبكي، بس ما نزلت ولا دمعة.
تعبت تبكي.
رفعت الجوال مرة ثانية… لكن فجأة، بدون مقدمات:
طُفِئ الجهاز.
الشاشة سارت سودا.
مو بس الجوال… حتى نور الغرفة اختفى.
ولا صوت.
ولا حتى نفسها كانت تسمعه.
نظرت حولها.
الغرفة نفسها، بس ما هي نفسها.
الجدران تغمق، والهواء صار أثقل، وفي شيء يتكوّن قدامها… ظل واقف عند طرف السرير، ملامحه مو واضحة، لكن وجوده ثقيل، يضغط على صدرها.
عينها راحت تلقائيًا للساعة المعلقة بالجدار…
كانت واقفة.
على 2:16.
وقبل ما تقدر تصرخ أو حتى تتحرك…
انفتح باب غرفتها.
لكن مو باب غرفتها الحقيقي.
باب ثاني… طويل… مظلم… يفتح على ممر ما له نهاية.
وفي نهايته، ظهرت…
هي.
طفلة صغيرة.
لابسة فستان أبيض.
واقف شعرها وعيونها سودا.
واقفة وتطالع فيها…
بس اللي صدّمها… إن ملامحها كانت… ملامحها هي، يوم كانت صغيرة.
أسيا شهقت.
وبدأ الكابوس.
...الفصل الثاني...
...اول كابوس...
مرت دقائق ثقيلة منذ أن أغلقت أُسيا عينيها.
الغرفة مظلمة إلا من ضوء صغير ينبعث من شاشة الجوال بجانبها، ينبض كلما وصلت رسالة. لكن النوم سحبها بهدوء، وكأن شيئًا في الظلال ينتظرها.
في الحلم، وجدت نفسها تمشي في شارع طويل…
السماء بلون رمادي قاتم، لا ليل ولا نهار. الأرض مبللة، لكنها لا تتذكر أن المطر نزل.
كانت وحدها، تسمع خطواتها تأتي خلفها، لكنها متأكدة أنها الوحيدة هناك.
“أُسيا…”
التفتت.
لا أحد.
“أُسيا…”
الصوت كان ناعمًا، لكنه غريب. كأن شخصًا يعرفها من قبل أن تعرف نفسها.
فجأة، ظهر شيء أمامها.
كان ظلًا بشريًا بلا ملامح. لا يُرى وجهه، لكنه واقف بثبات كأنه يعرف كل شيء عنها.
“أخيرًا… قررتِ تجين.”
قالت أُسيا بتوتر:
“مين أنت؟”
“أنا اللي نسيتيه… يوم نسيتيهم.”
ثم بدأ يمشي نحوها… لا يقترب بجسده، لكن العالم من حولها يتحرك نحوه كأنه يسحبها.
تراجعت خطوة، فتحت عينيها…
لكن ما صحَت.
العالم ما زال نفس العالم الرمادي، لكن الأرض اختفت.
أُسيا الآن واقفة على ساعة ضخمة، عقاربها تتحرك ببطء، وتحتها فراغ مظلم.
كلما تحركت، تتأرجح الساعة، كأن الزمن نفسه يحاكمها.
وفجأة، بجانبها ظهرت مرآة.
نظرت فيها فرأت نفسها، لكن…
كانت صغيرة.
عُمرها تقريبًا تسع سنوات، تمسك بيد أمها وتضحك.
“ليش تشوفينني كذا؟” قالت الطفلة.
“أنا أنتِ… قبل لا تصيرين مشغولة عن الكل.”
“كنت أحب أمي، وأخوي، والبيت.”
“أنتِ ليه تركتيني؟”
الكلمات كانت مؤلمة. أُسيا حاولت ترد، لكن ما قدرت.
الظل تكلم من جديد:
“الساعة تمشي يا أُسيا… العلاقات تنكسر، وما في وقت كثير.”
“كل ما كبرتي، الوردة اللي بداخلك تذبل…”
نظرت حولها، فرأت وردة صغيرة على طرف الساعة.
ذبلت نصفها، والآخر بدأ يتفتت مع كل ثانية.
“إذا ما رجعتي تهتمي، الوردة هذي راح تموت.”
⸻
استيقظت أُسيا فجأة، والعرق يغطي جبينها.
نظرت للساعة: 3:33 فجراً.
وصوت التنبيه الصامت يرن في قلبها أكثر من أذنها.
جلست في سريرها، تتنفس ببطء، وتتمتم:
“وش كان هذا؟…”
لكن في أعماقها، كانت تعرف… هذا مو حلم عادي.
...الفصل الثالث...
...الشجره السامه...
استيقظت أُسيا صباح اليوم التالي، وجهها شاحب وعيناها مليئتان بالهالات، لكنها لم تجرؤ على الحديث عما رأت.
حاولت تمسك هاتفها كعادتها، لكن الشاشة هذه المرة لم تلمع كما في كل صباح…
شيء ما تغيّر.
في المدرسة، كل شيء بدا كما هو. نفس الوجوه، نفس الضحك، نفس المزاح السطحي.
لكن داخل أُسيا، شعور غريب بدأ ينمو… وكأن العالم صار مشهدًا مزيفًا، وهي الوحيدة التي ترى خلف الستار.
وفي الليل، نامت من غير حتى ما تودع أمها.
■ ■ ■
الكابوس عاد…
السماء هذه المرة لم تكن رمادية، بل كانت ملوّثة بلون بنفسجي داكن، والهواء فيه رائحة عطر غريبة…
في منتصف المكان، وقفت أُسيا أمام شجرة ضخمة، ملتوية الجذوع، أغصانها ملتفة كالأفاعي.
اقتربت منها. كانت تظنها مجرد شجرة غريبة. لكن حين لمست أحد الأغصان، شعرت بوخز حارق في يدها.
“هذي… علاقاتك،” قال الصوت خلفها.
استدارت… الظل نفسه، لكنه هذه المرة كان يبتسم بسخرية.
“كل غصن من هذي الشجرة… اسم من اللي كنتي تظنين إنهم أصدقائك.”
“وش فيها؟” سألت أُسيا بخوف.
“كل ما اقتربتي من واحد منهم… كل ما سمّك دخل أعمق.”
وفجأة، بدأ الغصن الذي لمسته يزهر، لكن ليس بزهور، بل بعيون!
عيون تراقبها… تتكلم، بصوت صديقاتها:
“وينك عنّا؟”
“ما عاد نحتاجك إذا بتتغيرين.”
“كنّا نمثل؟ ولا أنتِ اللي كنتِ تتوهمين؟”
تراجعت أُسيا، وهي تمسك يدها التي بدأت تتورم.
“كل علاقة ما كانت صادقة… راح تترك سم فيك.”
قال الظل.
“والشجرة هذي… ما تعيش إلا إذا انتي كذبتي على نفسك.”
نظرت أُسيا إلى أعلى الشجرة، ورأت ساعة معلقة، تدق كلما مر وجه من الماضي.
وتحتها، وردة…
لكنها هذه المرة كانت مغروسة تحت الشجرة، تتنفس بصعوبة.
كأن الشجرة تمتص حياتها.
“كل ما زدتي تعلقك بعلاقاتك اللي ما تدوم… كل ما ذبلت الوردة.”
“وهذي الوردة… هي قلبك. هي اللي باقي منك.”
أُسيا نظرت حولها، فوجدت ظل آخر… مختلف.
كان لا يتكلم. فقط يقف بجانب الشجرة، في مكان مظلم.
لكن ظله كان ثابت، لا يتحرك.
الظل الوحيد اللي ما كان يهاجمها، ولا يتكلم.
“وش هذا؟” همست أُسيا.
قال الظل الأول:
“هذي عائلتك.
دايم هناك. بس انتي اللي ما تبين تشوفينهم.”
⸻
صحَت أُسيا من الحلم، ودموعها تسيل لأول مرة منذ شهور.
هذه المرة، لم تتجه لهاتفها… بل ذهبت مباشرة لغرفة أمها.
جلست عند الباب المغلق، وهمست:
“يمّا؟ أنا آسفة…”
لكنها لم تجرؤ تدخل.
■ ■ ■
...الفصل الرابع...
...الباب الذي لم يفتح...
لم تنم أُسيا باقي الليل. بقيت جالسة على الأرض أمام باب أمها، ظهرها مسنود على الحائط، وعينيها تراقبان الخط الفاصل بين الضوء والعتمة.
لكن الباب… لم يُفتح.
لا صوت، لا حركة.
كأن البيت كله قرر يعاقبها بالصمت.
في صباح اليوم التالي، غسلت وجهها بصمت، وأعدّت فطورها وحدها. أمها لم تكن في المطبخ. لم ترَها. ولم تجرؤ تسأل عنها.
وفي المدرسة، صار كل شيء يبدو أوضح… وأكثر بُعدًا.
الضحك صار مزعجًا، والكلمات اللي كانت تضحكها أمس، أصبحت اليوم كأنها ضوضاء لا تُحتمل.
حتى صديقاتها، لما حاولت تجلس معهم… شعرت كأنها دخيلة.
“وش فيك ساكتة؟”
“تحولين تكونين درامية؟ ترى عادي يعني!”
“ولا كأنك معنا، الصراحة!”
ابتسمت أُسيا، لكن الابتسامة كانت مكسورة.
هم ما تغيّروا… هي اللي بدأت تشوفهم بدون الزينة.
رجعت للبيت متعبة، مو بجسدها، بل بعقلها. كانت تمشي والغروب خلفها يرسم ظلها طويلًا… لكن عيونها كانت تبحث عن شيء أعمق من ظلها.
■ ■ ■
في تلك الليلة، لم تأتِها الكوابيس… لكن النوم لم يأتِ أيضًا.
ظلت في سريرها، تتقلب، تسمع أنفاس البيت… لكنها لم تشعر بالانتماء له.
عند منتصف الليل، سمعت خطوات خفيفة في الممر.
قامت بهدوء، فتحت الباب، وخرجت.
الضوء الخافت من المطبخ كان دليلاً.
اقتربت.
رأتها… أمها.
واقفة أمام المغسلة، تغسل كوب ماء، وجهها شاحب، عيناها متعبة.
أُسيا فتحت فمها لتتكلم… لكنها لم تجد صوتها.
همست أخيرًا:
“يمّا…”
الأم لم تلتفت.
كأن الصوت لم يصل.
“أنا آسفة…” أكملت أُسيا، خطواتها بطيئة.
لكن الأم أكملت غسيل الكوب، ثم وضعته بهدوء على الطاولة، وخرجت من المطبخ دون أن تنظر إليها.
مرّت بجانب أُسيا كأنها هواء.
كأنها غير موجودة.
وهنا، عرفت أُسيا معنى التجاهل الحقيقي.
■ ■ ■
عادت لغرفتها وهي ترتجف. لم تبكِ، لكن صدرها كان يضيق بشيء يشبه الغصة التي لا تزول.
جلست على سريرها، وفتحت دفترًا قديمًا كانت تكتب فيه أيام المتوسطة.
صفحات ملونة، مليئة برموز القلوب، أسماء صديقاتها، نكات، أمنيات غبية…
لكن بين الصفحات، وجدت ورقة مطوية.
فتحتها.
كانت رسالة كتبتها لأمها ذات يوم… ولم تُعطِها.
“يمّا… إذا يوم من الأيام جرحتك، سامحيني.
أنا ما أعرف كيف أقول إني أحبك… بس والله أحبك.”
طوت الورقة من جديد.
هذه المرة، وضعتها تحت وسادتها… كأنها تحاول تخبئ مشاعرها، لكنها أقرب ما تكون منها.
■ ■ ■
قبل أن تنام، حلمت بشيء جديد.
لم تكن الشجرة هذه المرة، بل ممر طويل، فيه أبواب كثيرة.
وكان هناك باب واحد في نهايته… موصد بقفل كبير، عليه كتابة باهتة:
“باب الندم لا يُفتح إلا بالصدق.”
اقتربت أُسيا… وأدركت أن المفتاح الوحيد، هو الكلام.
لكن… هل تملك الشجاعة لتتكلم؟
⸻
...الفصل الخامس ...
...الورده التي لا تسقى...
مرت ثلاثة أيام.
وأُسيا لا تزال معلّقة بين عالمين.
عالم اعتادت عليه، صار الآن بلا لون.
وعالم جديد… ما زال يُبنى داخلها، لبنة لبنة، بألم كل ذكرى.
أمها لم تعد تتحدث.
تراها أُسيا أحيانًا في المطبخ، أو تمر أمام غرفتها، لكن الصمت بينهما كان أكثر كثافة من أي حائط.
أما صديقاتها، فقد اختصرن الحديث في مجموعة الدردشة.
“ليش غايبة؟”
“صايرة ثقيلة دم؟”
“كأنك ما تبين تكونين معنا أصلاً.”
كل هذه الرسائل… لم ترد عليها.
ولأول مرة، لم تشعر أنها ملزمة.
■ ■ ■
في الليلة الرابعة، وبينما كانت تنظر لسقف غرفتها، بدأ شعور غريب يزحف في صدرها.
ليس خوفًا هذه المرة، بل حنين مشوش… كأنها تفتقد نفسها، لكنها لا تعرف أي نسخة تفتقد بالضبط.
أغمضت عينيها، وجاء الحلم.
لكن لم يكن كابوسًا… بل مكان أبيض تمامًا، بلا أرض، بلا سماء.
بياض مطلق.
وهي… واقفة، وحدها.
وفجأة، بدأت تظهر حولها صور معلقة في الهواء، كأنها لوحات تطفو.
صور من ماضيها:
ضحكتها مع صديقتها المقربة في أول سنة ثانوية.
هديّة عيد ميلاد من أمها.
نظرتها وهي تغلق الباب على وجه أخيها الصغير، تصرخ أنها “مو فاضية له”.
كل صورة كانت تظهر، ثم تتمزق أمام عينيها، ويتبعها صوت:
“وش بقي منّك، لما تخلّيتي عن كل شيء؟”
أرادت الرد، لكنها كانت صامتة.
ومن خلف الصور… ظهرت الوردة.
هي نفسها، الوردة التي رآتها تحت الشجرة.
لكن هذه المرة كانت في صندوق زجاجي، تتنفس بصعوبة.
اقتربت أُسيا، وضعت يدها على الزجاج.
وسمعت صوتها الداخلي، لا يشبه أي ظل.
كان صوتها، وهي صغيرة… تقول:
“أنا آسيا. أحب الرسم. أحب أمي. أبغى أكون إنسانة طيبة.”
دموعها بدأت تسيل، لكن الوردة لم تنتعش.
بل ازداد الزجاج حولها سمكًا… وأصبح الصندوق أكثر ظلمة.
سمعت صوتًا خلفها، همسًا جديدًا:
“كل ما كبرتي، نسيتيني.”
“وصرتي تبنين شخصيتك على شيء ما هو منك.”
استدارت، فرأت ظلًا جديدًا.
كان هذا الظل صغيرًا… بنفس طولها وهي في الابتدائية.
وجهه غير واضح، لكن الوقفة مألوفة.
ركضت نحوه، لكن كلما اقتربت، تلاشى أكثر.
صرخت:
“أنا آسفة! أنا آسفة إني كبرت غلط!”
“كنت أحاول أكون مثلهم! بس ما قدرت!”
لكن لا شيء تغير.
■ ■ ■
صحَت فجأة، أنفاسها سريعة.
نظرت حولها… الظلام في الغرفة كثيف، لكنه أقل رعبًا من الداخل الذي يسكنها.
أخذت ورقة، وبدأت تكتب بلا تفكير:
“أنا آسيا.
أحب أمي، حتى لو نسيت كيف أقولها.
كنت أحب أصدقائي، بس الحين مدري من فيهم يحبني لنفسي.
أحس إني فقدتني، بس ما راح أوقف أدوّر.”
“أنا آسيا… بس أبي أكون آسيا اللي كانت تضحك من قلبها.”
طوت الورقة، وعلّقتها على الحائط بجانب سريرها.
ورجعت للنوم… لكن هذه المرة، قلبها فيه نبض صغير…
كأن الوردة بدأت تتنفس من جديد
...الفصل السادس...
...ضلال الغياب...
في الأيام اللي تلت، بدأت أُسيا تلاحظ أشياء كانت دائمًا موجودة… لكنها ما كانت تراها.
كأنها كانت عمياء، تمشي بثقة… لكنها الآن تفتح عيونها وسط العتمة، وتبدأ تلمح تفاصيل كانت مهملة.
■ ■ ■
جلست في غرفة المعيشة، تحدّق في صورة قديمة معلقة على الحائط.
هي وأمها، في مطعم صغير، يضحكون… وجه أمها كان مشرقًا.
تذكرت اليوم اللي التُقطت فيه الصورة.
كان عيد ميلادها.
وكانت أمها مصرة تحتفل فيها رغم أنها كانت مرهقة من عملها.
تذكرت كيف قالت لها وقتها: “بس بسرعة، لا تتأخرين… عندي مكالمة مع البنات.”
وتذكرت كيف رجعت للبيت، وتركت أمها تنظف وحدها، وهي راحت تضحك مع صديقاتها بالمكالمة.
يومها، أمها ما قالت شيء.
بس ضحكتها… ما تكررت بعدها.
أُسيا أدركت فجأة إن أمها ما تغيرت فجأة.
هي اللي كانت تنسحب كل يوم… شوي شوي… لين ما اختفت فعلاً.
■ ■ ■
قررت تكسر الصمت.
كتبت لها ورقة صغيرة:
“أدري إني تغيّرت، ويمكن جرحتك كثير،
بس أنا بديت أستوعب، حتى لو متأخرة.
أحيانًا، نضيع في علاقاتنا، وننسى اللي كان يحبنا بصمت.
إذا لسه في شي باقي… أنا هنا.”
حطّت الورقة على طاولة المطبخ، بهدوء، ومشت لغرفتها.
لكن وهي طالعة… سمعت صوت خطوات خلفها.
التفتت.
أمها واقفة، عيونها ما زالت فيها قسوة، لكن فيه لمعة صغيرة… كأنها سُمعت، حتى لو ما نطقت.
توقفت أُسيا، ما تكلمت.
وأمها أيضًا… ما قالت شيء.
بس نظرت لعينها، لثانية أطول من المعتاد.
ثانية… كافية.
■ ■ ■
في الليل، رجع الحلم.
لكن هذه المرة، لم تكن شجرة، ولا وردة، ولا ظلال.
بل ممر طويل، فيه باب واحد فقط.
فتحته.
وجدت نفسها في بيتها، لكنه مو بيتها الحالي…
بل بيت طفولتها، القديم، قبل الانتقال، قبل التغييرات.
رأت أمها، تجلس على الأرض، تمسك دميتها القديمة، وتخيط فيها قطعًا ممزقة.
رأت نفسها، طفلة، تركض وتحضن أمها.
لكن كلما اقتربت من المشهد، صار باهت أكثر، ومشوش.
كأن الذاكرة تحاول تذّكر، لكنها ما تقدر.
سمعت صوتًا هذه المرة، مو صوت ظل، ولا حلم.
بل صوت أمها… يقول من بعيد:
“يوم بديتي تحطين كل شي قبلنا… أنا بعد بديت أتعلم أحط نفسي قبلك.”
أُسيا صحَت، ودمعة علقت بزاوية عينها، ما نزلت… بس بقيت هناك، تحترق بهدوء.
نظرت حولها.
كانت الغرفة هادئة، لكن صدرها ما كان.
أمسكت دفترها، وكتبت:
“اللي ينكسر في علاقتنا ما يتصلّح بسهولة.
بس أقدر أبدأ… أكون صادقة، حتى لو بالكلمة الأولى بس.”
■ ■ ■
في الصباح، وجدت كوب شاي موضوع عند باب غرفتها.
صغير. بدون ملاحظة. بدون صوت.
لكن كان دافيء… كفاية
...الفصل السابع...
...الغربه بين الوجوه...
الفصل السابع: الغربة بين الوجوه
في اليوم السابع من الصمت، كانت أُسيا تمشي في المدرسة وكأنها طيف.
تمر بين الزحام، لا أحد يلاحظ أنها تغيّرت.
لا أحد يسأل… ولا أحد ينتبه أن عيونها صارت أثقل.
حتى صديقاتها، نفس الضحك، نفس المواضيع… بس هذه المرة، شيء انكسر.
كانت جالسة معاهم وقت الفسحة، تراقبهم يتحدثون عن مسلسل جديد، وفجأة دخلت إحداهن في موضوع عن أُسيا… وهي حاضرة.
“تتذكرون لما آسيا كانت تموت على تطنيشنا؟”
ضحكة.
“اللحين صايرة كئيبة، مدري وش فيها.”
نظرت لهم، ملامحها جامدة.
ما قالت شيء… فقط قامت، ومشت.
“وش فيها؟ كانت تمزح!”
قالتها واحدة منهن، لكن بصوت خالي من الاهتمام.
ما رجعت تكمل الحصة. مشت للحمّام، سكّرت الباب، وجلسَت على الأرض.
في اللحظة ذيك، عرفت:
كل اللي كانت تحارب عشانه… ما كان لها.
■ ■ ■
رجعت للبيت بدري، ما قالت لأحد.
عيونها كانت جافة، بس قلبها كان يغلي.
توجهت مباشرة لغرفة أمها.
البيت كان ساكن، هدوء ثقيل، لكن في الداخل شيء فيها يصرخ:
“أنا آسفة…
أبي أحاكيك…
تكفين، افتحي لي، ولو مرة.”
وقفت أمام الباب المغلق، مدت يدها لتطرقه… لكن توقفت.
تذكرت كل مرة رجعت للبيت، دخلت غرفتها بدون ما تسلم.
كل مرة أمها قالت: “تعشيتي؟”، وردّت بـ”بعدين.”
كل مرة ضحكت لصديقاتها، وعبست لأهلها.
مدّت يدها مرة ثانية… طرقت.
لكن ما أحد فتح.
سمعت حركة خفيفة… كانت أمها داخل. عرفت.
لكن الباب ظل مغلق.
تراجعت خطوة… ودمعة نزلت بدون صوت.
هذه المرة، الرفض كان حقيقي.
■ ■ ■
في تلك الليلة، ما جاءها كابوس.
بل حلم بارد، رمادي.
كانت تمشي في مدينة مهجورة، الشوارع كلها مليانة مرايا.
كل مرآة فيها وجه مختلف لها.
واحدة غاضبة. واحدة تضحك بس بخوف. واحدة تبكي. واحدة تلبس مثل صديقاتها. واحدة… ما لها ملامح.
سمعت صدى صوتها، يتكرر في الجو:
“أنا مو عارفة مين أنا.”
“كل يوم أصير شي، بس ما عشت يوم وأنا أنا.”
وفجأة، ظهرت مرآة مختلفة.
ما فيها صورتها… بل وجه أمها.
لكنها ما تنظر لها.
وجهها كان ثابت، عيونها متجهة لأسفل، كأنها تعبت من الانتظار.
ركضت نحو المرآة، وضربتها.
انكسرت.
وسمعت صوتًا عميقًا، لا يشبه أي شيء سابق:
“الحب ما يختفي… بس يتوارى عن اللي ما يعرف يشوفه.”
■ ■ ■
صحَت أُسيا، وجهها على الوسادة، مبلول.
ما تدري إذا الحلم كان بكاء… أو الحقيقة.
قامت، فتحت الدرج، طلعت الورقة اللي كتبتها لأمها قبل كم يوم.
قرأتها… ثم مزّقتها.
“لا يكفي أكتب.
يمكن لازم أتحمل…
الوجع اللي سببته.”
رجعت تطالع الباب… تفكر.
هل لو طرقت مرة ثانية، بينفتح؟
ولا لازم تسكن الوردة اللي بداخلها… قبل ما تتفتح أي أبواب؟
...الفصل الثامن...
...طرق بلا صدى...
لم تكن أُسيا تعرف أن الصمت قد يصير مؤلمًا أكثر من الكلمات القاسية.
في المدرسة، في البيت، في داخلها… كل شيء صار يردد الفراغ نفسه.
كأن العالم اختار يتحدث معها بلغة واحدة: التجاهل.
حتى المدرسة، اللي كانت مهربها، تحوّلت لممرات باردة تمشي فيها بجسد حاضر، وعقل غارق.
ما عاد فيه من يسألها “وش فيك؟”
وإن سألوها، فهي ما تملك إجابة واضحة.
في الفصل، كانت تطالع السبورة… لكن كل الكلمات كانت تنزلق من عينها كأنها ماء، ما تقدر تمسك شي.
وفي اللحظة اللي تنبّهت فيها، كانت كل البنات يكتبن… إلا هي.
صفحتها بيضاء.
تمامًا مثل يومها.
■ ■ ■
رجعت للبيت، بخطوات بطيئة.
ما استقبلها أحد. ولا هي انتظرت.
لكن هذه المرة، قررت تسوي شي.
دخلت المطبخ، طبخت شاي، زي ما كانت أمها تسويه.
نفس النوع، نفس الكمية، حتى نفس الكوب اللي كانت تحبه أمها.
ومشت به بهدوء لغرفتها، ووضعته على الطاولة.
ما طرقت الباب. ما قالت شيء. فقط وضعته ومشت.
ما كانت تنتظر رد.
لكن جوّاها كان فيه رجاء صغير… كأنها تقول لنفسها:
“يمكن تحس إني موجودة.”
دخلت غرفتها، وجلست على الأرض، تطالع الحائط.
كان عليه صور، بعضها لذكريات ضحك مع صديقاتها، وبعضها رسوماتها القديمة.
لكن الآن… ولا صورة كانت تعني لها شيء.
سحبت وحدة من الصور. فيها وجهها مع ثلاث بنات، يضحكون بصوت واضح.
نظرت للصورة طويلًا… ثم مزقتها.
وحدة. وحدة. وحدة.
كل صورة كانت تتفتت، ومعها جزء من وهم كانت تعيش فيه.
وبعد ما خلصت، جمّعت البقايا، ورمتها بسلة المهملات.
“أنا ما كنت معهم… أنا كنت وحيدة، حتى وأنا بينهم.”
■ ■ ■
في الليل، الحلم جاء مختلف.
وجدت نفسها في نفس المدينة المهجورة، لكن هذه المرة… السماء كانت تمطر.
مطر أسود.
كل قطرة تنزل، تحرق الأرض، وتترك أثر.
كانت تركض، تمشي، تحاول تختبئ، لكن ما فيه مكان.
ثم رأت مبنى واحدًا ما تأثّر بالمطر: بيت قديم… بيتهم.
ركضت له، فتحت الباب، دخلت.
وجدت الوردة… نفس الوردة.
لكنها هذه المرة كانت في أصيص، صغيرة، مو تحت الشجرة، ولا خلف زجاج.
كانت وحدها، في منتصف الغرفة.
اقتربت منها، لمستها.
ونطقت الوردة… بصوت يشبه صوت أمها، لكنه ناعم، متعب:
“إذا كنتِ تبغين تُرويني، لا تسقيني بكلام.
اسقيني بالفعل.”
وسقطت أول بتلة من الوردة… بهدوء.
كأنها تقول: “الوقت ينفد.”
■ ■ ■
استيقظت أُسيا، أنفاسها ثقيلة.
نهضت من سريرها، خرجت من غرفتها، وقفت أمام غرفة أمها.
للمرة الأولى… لم تطرق الباب.
بل جلست على الأرض، وأسندت ظهرها على الحائط.
وأخرجت دفترها، وكتبت:
“أنا آسية، لكن قلبي مو قاسي.
أنا آسية، بس أبغى أرجع أكون آسية اللي كانت تبكي لما أمها تزعل، مو ترفع صوتها.
آسية اللي كانت تشارك أمها يومها، قبل لا تشارك الغرباء.
آسية اللي ما كانت تخجل تقول: أحبك.
آسية… اللي يمكن لسه تقدر ترجع.”
أغلقت الدفتر، وتركته أمام الباب.
وقامت… تمشي لغرفتها.
وما كانت تدري… أن خلف الباب، كانت أمها جالسة، تقرأ الرسالة اللي سبقتها، وتشرب الشاي… بعد ما سخّنته من جديد.
...الفصل التاسع...
...النافذه الصغيره...
استيقظت أُسيا صباح اليوم التالي، متوقعة أن يكون كل شيء كما هو.
البرودة نفسها. الصمت نفسه. المسافة التي لم تنقص خطوة.
لكن وهي تمشي نحو المطبخ، لمحت شيئًا بسيطًا… غريبًا.
الدفتر.
الدفتر اللي تركته البارحة عند باب أمها، ما كان في مكانه.
اختفى.
تسارعت نبضات قلبها.
ما أحد قال لها شيء… ولا سمعت أي كلمة.
لكن هذا وحده، كان كافيًا.
“يعني قريته؟…”
أُسيا وقفت لحظة.
نظرت باتجاه الغرفة المغلقة، ثم أدارت وجهها بسرعة، كأنها تخاف تبين لهفتها.
رجعت غرفتها، جلست على سريرها، بين يديها كوب شاي بارد، لكنها ما شربت.
■ ■ ■
في المدرسة، لأول مرة، كانت تحاول تكون “حاضرة”.
ما ضحكت كثير، ولا دخلت في حديث، لكنها جلست وسط البنات، وسألت وحدة منهم:
“كيف كان اختبارك أمس؟”
الفتاة نظرت لها باندهاش لحظة، ثم ردّت:
“الحمد لله، كان كويس.”
ثم صمتت.
وبعد لحظات، رجعت تتحدث مع صديقتها الثانية، دون أن تعير أُسيا اهتمامًا زائدًا.
“ما راح يرجع شيء بسهولة… حتى أنا مو جاهزة أرجع لكل شيء.”
لكن على الأقل… كانت تحاول.
ولأول مرة، شعرت أن الصمت اللي يحيطها… مو عدو، بل هدنة.
■ ■ ■
رجعت للبيت متعبة.
خطواتها بطيئة، لكن داخلها كان فيه سؤال يشتغل:
“هل أمي بتتكلم؟
هل ممكن تقولي كلمة وحدة… بس كلمة وحدة؟”
فتحت باب غرفتها، وهمّت تدخل، لكن وقفت فجأة.
على الطاولة الصغيرة بجانب الباب، وُضعت ورقة مطويّة.
يدها ارتجفت وهي تفتحها.
خط يد أمها، واضح… بسيط.
“الشاي كان دافي، زي أول.
شكراً.”
كلمتان فقط.
لكنها قرأتهما كأنهما رواية.
لم تكن كلمات عادية.
كانت اعتراف ناعم، بأن أمها شربت من يديها… وأنها تقبّلت.
جلست على الأرض، الورقة بين يديها، والدموع في عيونها…
بس ما بكت.
ابتسمت.
ابتسامة متعبة، صغيرة، لكنها حقيقية.
“أنا ما فقدتها تمامًا…
ولسه في شي بيننا ما انكسر.”
■ ■ ■
في الليل، الكابوس جاء… لكنه تغير.
لم تكن هناك شجرة هذه المرة.
بل نافذة صغيرة، تطل على أرض خضراء.
أُسيا كانت واقفة خلفها، تنظر.
وفي الجهة الأخرى، وقفت أمها، تنظر لها.
بينهما زجاج، لا صوت، ولا كلمات.
لكن أُسيا مدّت يدها، ولمست الزجاج.
وأمها فعلت نفس الشيء.
ما تكلموا، ما تحركوا.
لكن دفء اللمسة، كان أقوى من كل اعتذارات العالم.
وفي تلك اللحظة… فهمت أُسيا:
“مو لازم نقول كل شيء مرّة وحدة…
بس أهم شي نبدأ.”
استيقظت في صباح اليوم التالي، فتحت النافذة في غرفتها، لأول مرة منذ شهور.
الهواء كان باردًا، لكنه نقي.
كأن العالم مستعد يبدأ من جديد… لو هي كانت مستعدة.
...الفصل العاشر...
...اول كلمه...
جلست أُسيا على الأرض، تتابع ضوء النهار اللي يدخل من النافذة المفتوحة بغرفتها.
كل شيء كان هادئًا، لكن داخلها عاصفة لم تهدأ.
الورقة التي تركتها والدتها على الطاولة كانت تتلألأ في ذهنها، كأنها جسر صغير من عالمها لعالمها.
لم تستطع التوقف عن التفكير في معنى الكلمتين: “شكراً.”
كانت البداية، لكنها شعرت أنها تحتاج أكثر… تحتاج الحقيقة.
■ ■ ■
اقترب المساء، وبدأ قلبها يخفق بشكل مختلف.
كانت تعرف أن اللحظة قد حانت.
نهضت ببطء، ونزلت الدرج بخطوات مترددة.
وصلت إلى باب غرفة والدتها، كانت يديها ترتجف وهي تلمس مقبض الباب.
لكن قبل أن تطرق أو تدخل، سمعَت صوتًا خافتًا.
“أُسيا؟”
صوت الأم، مكسور، لكنه ناعم كنسمة صيف.
توقفت.
ردّت بنبرة مرتجفة:
“يمّا… ممكن أدخل؟”
لحظة صمت طويلة.
ثم جاء الصوت:
“تعالي.”
■ ■ ■
دخلت الغرفة، وكانت والدتها جالسة على الكرسي، عيونها لا تخفي التعب، لكن فيها حنان عميق.
نظرت أُسيا في عيونها، وجدت هناك كل الأسئلة التي لم تُطرح.
جلست على الأرض أمامها، وكأن العالم توقف.
قالت أُسيا أخيرًا:
“يمّا… أنا آسفة. آسفة على كل شيء. على الصمت، على الابتعاد، على اللي جرحتك فيه.”
ابتسمت الأم بحزن وقالت:
“أنا كمان آسفة يا حبيبتي. آسفة لو ما عرفت كيف أوصل لك، أو كيف أكون هنا لما كنتِ تحتاجينني.”
■ ■ ■
بدأ الكلام يتدفق بينهما، مثل نهر جارف.
أُسيا روَت عن الكوابيس، عن الشجرة السامة، عن الوردة اللي ذبلت.
والأم استمعت، بعيون تدمع، بيدين مرتجفتين.
قالت الأم:
“أنا ما كنت أبداً أريد أكون عائق لك.
بس أحيانًا، لما الواحد يتغير، يخاف من نفسه أكثر من أي شيء.”
أُسيا:
“أنا تغيرت… بس ما كنت أدري أن التغير بيبعدنا كذا.”
أمها:
“أنا برضه تغيّرت… من قبل ما تعرفين. بس كان لازم نتعلم كيف نحب بعض من جديد.”
■ ■ ■
الدموع نزلت على وجنتي أُسيا، لكنها لم تخجل.
كانت دموع تسامح، دموع أمل، دموع بداية.
احتضنتها أمها، وأحست بدفء طويل غاب عنها.
همست أُسيا:
“يمّا… ممكن نرجع؟”
ردت الأم:
“نرجع، خطوة بخطوة.”
■ ■ ■
في تلك اللحظة، شعرت أُسيا أن كل الخيبات والآلام اللي عاشت فيها لم تكن عبثًا.
بل كانت درب مؤلم، لكنها ضرورية لتعلم كيف يحب الإنسان… وكيف يتقبل الحب.
ابتسمت، وأغمضت عينيها، وقالت في سرها:
“أنا آسية… اللي بدأت تفهم معنى البيت.”
...الفصل الحادي عشر...
...خطوات في الظل...
الفصل الحادي عشر: خطوات في الظل
مرت ساعات المساء بهدوئها البطيء، لكن في غرفة أُسيا، كان هناك صوت ينبض بالخوف والأمل معًا.
جلست أُسيا على سريرها، عيناها تتابعان السقف كما لو كانت تبحث عن إجابة هناك.
بينها وبين أمها الآن خطوط رفيعة من كلمات لم تُقال، وذكريات لم تُنسى، وجرح لم يلتئم.
لم تستطع النوم. كان قلبها يثقلها صراع بين الرغبة في الاقتراب والخوف من الرفض.
■ ■ ■
بعد قليل، سمعت صوت خطوات هادئة على الدرج.
كان صوت أمها.
تجمّعت أنفاس أُسيا، وحاولت أن تخفي ارتجاف يدها وهي تستند على السرير.
طرقت أمها الباب بلطف، ودخلت ببطء.
جلست بجانبها، ولم تقل شيئًا في البداية.
أُسيا نظرت إليها، وكأنها تنتظر شيئًا أكثر من مجرد الصمت.
■ ■ ■
قالت أمها بهدوء:
“أنا ما زلت هنا، حتى لو كنتِ تحسّين بالعكس.”
ابتسمت أُسيا، لكنها لم تكن ضحكة كاملة.
“أنا عارفة، يمّا… بس كان صعب عليّ أشوفك بعد ما تغيرت. حسّيت إنك مو نفس الشخص اللي أعرفه.”
نظرت الأم بحزن:
“وأنا كنت أخاف أكون الشخص اللي يخسرك، وخفت إنك تبتعدين.”
جلستا هناك، في الغرفة، بلا كلام كثير، لكن كلماتهما كانت أعمق من أي حديث.
■ ■ ■
أُسيا رفعت يدها بتردد، ولمست يد أمها.
كانت يدًا دافئة، حقيقية.
وشعرت بأول دفء حقيقي منذ شهور.
قالت بصوت منخفض:
“يمّا… تعالي نبدأ من جديد، خطوة بخطوة.”
ابتسمت الأم، وضمّت يد أُسيا بين يديها.
“هذا كل اللي أبغاه.”
■ ■ ■
في الليلة تلك، نامت أُسيا لأول مرة منذ وقت طويل، بقلب أخف.
عرفت أن طريق الشفاء طويل، لكن أول خطوة… كانت بدأت للتو.
⸻
...الفصل الثاني عشر...
...حكايات مع الظل...
مع شروق الشمس، جاء يوم جديد يحمل في طيّاته أملًا مختلفًا.
استيقظت أُسيا ببطء، تشعر بثقل أقل في صدرها، رغم أن الذكريات لم تختفِ، لكن حضور أمها كان كأنفاس هواء نقي يدخل غرفة الروح.
■ ■ ■
في المدرسة، لم تكن أُسيا تبحث عن صحبة كثيرة، لكنها لاحظت نظرات متغيرة من صديقاتها. لم تعد وحدها في هذا العالم.
كانت تجلس مع إحدى صديقاتها القديمة، ليلى، التي لاحظت التغيير، وسألتها بحذر:
“أُسيا، هل أنتي بخير؟”
ترددت، لكن أجابت:
“أعتقد أني أحاول أكون.”
كانت الكلمات بسيطة، لكنها حملت وزنًا ثقيلًا.
■ ■ ■
عادت أُسيا إلى البيت، حيث استقبلتها أمها بابتسامة خفيفة.
جلستا معًا في غرفة المعيشة، تشربان شايًا دافئًا.
قالت الأم:
“تعرفين يا بنتي، كل علاقة لها وقتها، وأحيانًا لازم نعطيها فرصة ثانية، بس لازم نعرف كيف نحب بدون ما نجرح نفسنا.”
نظرت أُسيا بعينيها المتعبة:
“أنا تعلمت إن الحب مش بس كلام، هو فعل، يعني أكون موجودة حتى لو ما كنت مثالية.”
ابتسمت الأم، وقالت:
“وهذا أجمل درس.”
■ ■ ■
في ذلك المساء، جلست أُسيا تكتب في دفترها، تحاول أن تعبر عن مشاعرها.
كتبت عن ألمه الفقدان، وألم الندم، وألم البداية الجديدة.
وعرفت أن الطريق ما زال طويلاً، لكن كل خطوة فيها تستحق أن تمشيها.
⸻
...الفصل الثالث عشر...
...الصمت الذي لا يؤلم...
في صباحٍ رماديٍ خفيف، استيقظت أُسيا دون أن تشعر بالثقل الذي كان يلازمها كل يوم.
الكوابيس لم تزُرها هذه المرة… لكنها لم تختفِ تمامًا.
رأت في نومها نفس الشجرة، لكنها هذه المرة كانت بعيدة، مغروسة في أرض غريبة، غير قريبة من قلبها.
وفي يدها وردة، ما زالت تتنفس، لكنها هشة، وكأنها تنتظر نسمة دفء أو صدق حتى تنتعش.
حين فتحت عينيها، أمسكت بدفترها، ودوّنت شيئًا:
“السم بدأ يخرج، لكن الجرح لا زال مفتوحًا.”
لم تكن تعني أنها بخير… لكن على الأقل، كانت واعية بكل شيء.
■ ■ ■
في الظهيرة، سمعت صوت أمها في المطبخ، تطهو الغداء.
خرجت من غرفتها بخفة، مشتاقة لوجود بسيط، غير معلن، يربطها بأمها دون حاجة للكلام.
جلست على الكرسي، تراقب حركة يدي أمها وهي تقطع الخضار.
“تبيني أساعدك؟”
قالتها بصوت خافت، لكن واضح.
توقفت الأم لحظة، ثم ناولتها سكينًا وقطعة جزر.
“جربي تقطعينها مثل ما كنتِ تسوين زمان.”
قالتها والابتسامة في صوتها، رغم أن ملامحها ما زالت حذرة.
ضحكت أُسيا:
“بس لا تضحكين إذا طلعت مشوهة.”
بدأتا العمل بصمت… لكنّه لم يكن صمتًا مؤلمًا.
بل راحة.
■ ■ ■
بعد الغداء، جلست أُسيا في غرفتها، تسترجع صورًا قديمة على هاتفها.
صورها مع صديقاتها… ضحك، أماكن، عبارات حب كاذب.
لم تحذفها.
لكنها نظرت لها بنظرة مختلفة، كأنها ترى أطيافًا من حياة ليست حياتها بعد الآن.
ثم فتحت صورة قديمة لها مع أمها.
هي بعمر عشر سنوات، وجهها مبتسم، وأمها تمسك بها من الخلف، تضحك من قلبها.
أغلقت الصورة… وبكت.
■ ■ ■
في الليل، اقتربت من غرفة أمها.
لم يكن في يدها رسالة، ولا في قلبها كلام طويل.
بس طرقت الباب، وقالت:
“يمّا؟ أنا تعبت شوي، ممكن أنام جنبك الليلة؟”
لحظة صمت…
ثم سمعت صوتها:
“تعالي، يا بنتي.”
دخلت، وتمددت بجانبها.
لم يتكلما.
لكن أمها مدت يدها، ومسحت على شعرها، مثل ما كانت تفعل زمان.
والليلة… نامت أُسيا، بدون كوابيس.
...الفصل الرابع عشر: ...
...وجه من الماضي...
مرّت أيام قليلة على هدوء أُسيا الجديد، لكنها لم تكن كافية لمسح كل شيء.
البيت أصبح أهدأ، العلاقة بينها وبين أمها بدأت تأخذ شكلاً مختلفًا، فيه حذر، لكن فيه دفء.
ومع أن الكوابيس اختفت من نومها، ظل هناك شعور عميق في داخلها… كأن جزءًا منها لم يُختبر بعد.
وفي أحد الأيام، بينما كانت خارجة من المدرسة، سمعت صوتًا مألوفًا يناديها:
“أُسيا!”
التفتت، فوجدت “جود”، إحدى الصديقات السابقات… أو من كانت تظنها صديقة.
وجهها ما زال نفسه، لكن نظراتها كانت مختلفة.
وكأنها تنظر لأُسيا كشخص غريب.
■ ■ ■
اقتربت جود، وقالت:
“إيش هذا؟ اختفاء، وبعدها ترجعين كأنك ملاك؟”
ضحكت ضحكة قصيرة وساخرة.
أُسيا لم ترد مباشرة.
كانت الكلمات تدور في ذهنها، لكنها لم تعد تنفجر بسرعة كما كانت تفعل.
قالت بهدوء:
“أنا تغيّرت، جود… مو لأنّي أحسن، لكن لأنّي كنت أضيع.”
جود رفعت حاجبها:
“ضايعة؟ كنا كلنا معك. وش اللي خلاك تشوفين إننا المشكلة؟”
ترددت أُسيا… ثم قالت:
“أنا اللي كنت أخلط الحب بالهروب. كنت أحسب إن وجودكم يكفي، بس الحقيقة؟ كنت أهرب من نفسي.”
سكتت جود لحظة، ثم قالت:
“على راحتك. بس لا تتوقعي إنك تلاقينا واقفين إذا رجعتي تندمين.”
وغادرت.
■ ■ ■
رجعت أُسيا للبيت وهي تشعر بصداع خفيف… ليس من المواجهة، بل من الألم الصامت اللي طلع فجأة.
دخلت غرفتها وجلست على سريرها.
بعد دقائق، جاءت أمها، طرقت الباب بلطف، ودخلت:
“كل شيء تمام؟ شكلك متضايقة.”
ترددت أُسيا، لكنها أخيرًا قالت:
“قابلت جود… حسّيت إنّي مو جزء من ذاك العالم بعد الآن، بس… ما أدري إذا فعلاً أقدر أبدأ من جديد.”
جلست أمها بجانبها، وقالت:
“كل شخص يترك أثر، بس مو كلهم يستحقون يبقون. انتي بس تاكدي إنك تعرفين مين اللي لما يحضنك، قلبك يهدأ… ومين اللي يخليك تحاربين نفسك.”
أُسيا نظرت لها… وفهمت.
■ ■ ■
في تلك الليلة، عادت الوردة في حلمها.
لكنها هذه المرة لم تكن تحت ظل الشجرة السامة… بل كانت في حديقة مفتوحة، تتلقى ضوءًا خافتًا، لكن صادق.
والشجرة؟ كانت هناك… بعيدة، تتآكل بهدوء.
وعندما فتحت عينيها، لم تشعر بالخوف…
بل بالتحرر.
⸻
...الفصل الخامس عشر...
...: بابٌ يُغلق...
الهدوء لم يعد غريبًا على أُسيا.
بل أصبح صديقًا خفيف الظل، يزورها كل صباح… ليس ليمحو ما حدث، بل ليقول: “مرّ الوقت، والآن… يمكنكِ أن تتنفسي.”
جلست على الطاولة مع أمها، تتشاركان الفطور بصمت مريح.
لم تعد هناك حاجة للكثير من الكلام، فالعلاقة بينهما أصبحت مثل النبض… تُشعر ولا تُرى.
نظرت أمها إليها وقالت:
“وش ناوية تسوين اليوم؟”
فكّرت أُسيا قليلًا، ثم قالت:
“أبغى أروح المكتبة… أحسّني محتاجة أكون في مكان هادئ، أختار كتب، أستوعب كل اللي صار.”
ابتسمت أمها:
“هذا أحسن قرار خذتيه من شهور.”
ضحكت أُسيا، وشعرت أن قلبها صار أخف فعلًا.
■ ■ ■
في المكتبة، كانت تمشي بين الأرفف، تتلمّس أغلفة الكتب كأنها تقرأ أرواحًا لا عناوين.
وقفت أمام رف كتب علم النفس، ثم تركته.
اتجهت لركن الشعر، ثم تركته.
وأخيرًا… وقفت أمام قسم الروايات.
هناك، التقطت كتابًا لا تعرفه، وبدأت تقرأ الصفحة الأولى:
“أحيانًا، نضيع لأننا نتمسك بما ينسحب منا.
لكن الشجاعة… أن نترك أيدينا خالية، وننتظر من يمد يده، لا من يسحبنا إلى الخلف.”
أغلقت الكتاب ببطء، وكأن الصفحة كُتبت لها.
اشترت الكتاب، وجلست في مقهى بجانب المكتبة.
فتحت الدفتر اللي كانت تكتب فيه كل ملاحظاتها خلال الشهور الماضية.
وكتبت:
“أنا آسية، وأنا أتغيّر.
لا أبحث عن أن أعود كما كنت، ولا أن أكون مثالية.
فقط… أريد أن أعيش بصدق، أحب دون خوف، وأتوقف عن مطاردة السراب.”
أغلقت الدفتر، وشربت أول رشفة من القهوة.
لأول مرة، طعمها لم يكن مرًا.
■ ■ ■
في المساء، جلست في غرفتها، تتأمل الصور المعلقة على الحائط.
كانت هناك صورة قديمة جمعتها بأمها وهي طفلة.
تحتها، علّقت صورة جديدة… التقطتها قبل يومين، وهي تضحك مع أمها في المطبخ.
نظرت للصورتين، ثم قالت بصوت مسموع:
“احنا نقدر نرجع… بس بشكل جديد.”
ثم… نزعت صورة قديمة أخرى، كانت تجمعها بصديقاتها، ووضعتها في الدرج.
لم ترمها.
لكنها قررت… أنها لم تعد تمثلها الآن.
■ ■ ■
في الليل، أتت أمها كعادتها، لتطمئن عليها.
“كل شيء تمام؟”
قالتها بلطف.
“أكثر من تمام، يمّا.”
سكتت أُسيا لحظة، ثم أضافت:
“تدرين؟ أحس إني أقفل باب كبير اليوم… وأخلي روحي تتنفس أخيرًا.”
قالت أمها وهي تلمس كتفها:
“بعض الأبواب ما تنغلق إلا إذا كبرنا بما يكفي.”
أومأت أُسيا، وأغمضت عينيها، لا خوف، لا شك، فقط… وضوح.
وفي الحلم تلك الليلة، لم تظهر الشجرة…
ولا الوردة.
فقط سماء واسعة… وصوت بعيد يهمس:
“الظل الذي أخافكِ، كان أنتِ… حين خفتِ أن تكوني وحدك.”
...الفصل السادس عشر: من بعيد...
كانت جود تجلس في آخر ساحة المدرسة، تحرّك طرف كوب القهوة الورقي، بنظرة معلّقة في مكان بعيد.
منذ أسابيع، اختفت أُسيا فجأة.
كانت الرسائل تُقرأ ولا تُردّ، الدعوات تُهمل، والضحك القديم تلاشى كما لو كان وهماً.
“تدرين؟” قالت نورة، وهي تنظر نحو نهاية الممر حيث تمرّ أُسيا بهدوء.
“شكلها صارت تحس إنها أحسن منّا.”
جود لم ترد.
كان هناك شيء في وجه أُسيا، لا يُشبه التكبر… بل الحذر.
كأنها تمشي داخل فقاعة شفافة، تسمع كل شيء… لكن لا تسمح لشيء أن يخترقها.
■ ■ ■
في البداية، جود كانت غاضبة.
كيف لشخص عرف كل أسرارهم، وضحكهم، وبكاهم، أن ينسحب دون حتى كلمة وداع؟
لكن مع الوقت، ومع كل مرة تشاهد فيها أُسيا تمرّ من بعيد، بدأت تشعر بشيء مختلف.
مو غضب… بل حيرة.
هل تركتهم؟
أم أن كل شيء كان خطأ منذ البداية؟
“هي بس تغيّرت…”
قالت جود لنفسها، وهي تراقب أُسيا تجلس وحدها تحت شجرة.
لكن اللي كان يوجع أكثر… أن أُسيا لم تكن تبدو حزينة.
كانت هادئة.
■ ■ ■
في نفس الوقت، كانت أُسيا تمسك دفترها، تتظاهر بالقراءة، بينما كانت تشعر بنظرات قديمة تخترق جدران صمتها.
سمعت ضحكتهم، تذكّرت لحظات معينة.
قلبها ارتجف لحظة.
الاشتياق كان مثل خيط رفيع يلف قلبها فجأة، لكن… لم يكن كافيًا ليعيدها.
“أنا أشتاق،
لكنّي ما راح أرجع لنفس الدائرة.
بعض العلاقات، إذا ما تغيّرت… تذبل فينا، مو بس حوالينا.”
كتبتها بسرعة على الورقة، ثم مزّقتها.
كانت تعرف… إن الشوق لا يعني العودة.
وأن الحب القديم، ما يكفي إذا صار مؤلمًا.
■ ■ ■
وفي المساء، جلست أُسيا مع أمها، تتحدثان عن يومهما.
قالت أمها:
“شفتِ البنات اليوم؟”
أومأت أُسيا:
“إي… كانوا موجودين. حسّيت إنهم يراقبوني، بس ما تقدّموا.”
قالت الأم، بابتسامة دافئة:
“أحيانًا، الناس ينتظرون نشوف إذا انتِ فعلًا تغيّرتي، أو بس هاربة.”
ردّت أُسيا:
“أنا مو هاربة… أنا قاعدة أرجّع نفسي، قطعة قطعة. وإذا يومًا رجعت لهم… أبي أرجع بشروطي.”
ابتسمت الأم، وقالت:
“وهذا اسمُه نضج.”
...الفصل السابع عشر: المراقبة الصامتة...
جلست أُسيا في المقعد الخلفي للصف، بالقرب من النافذة.
لم تكن تحب هذا المكان سابقًا، كانت تعتبره ركن “المنعزلين”… لكنها الآن تراه زاوية مراقبة، مكانًا يمكن فيه أن ترى كل شيء، وتقول لا شيء.
مرت نورة وجود من أمام الباب، تتحدثان بصوت منخفض، تضحكان أحيانًا، ثم يسكتان فجأة.
أُسيا شعرت بنظرات خاطفة نحوها.
لم تلتفت.
لكن قلبها نبض بتوتر خفيف.
■ ■ ■
بعد الحصة، كانت في طريقها للمكتبة المدرسية عندما سمعت أصواتًا مألوفة خلفها.
“يعني فجأة صارت تعيش دور العاقلة؟”
كانت جود.
“مدري… بس أحسها صارت خايفة. أو يمكن ندمت، بس ما تبغى تبين.”
قالت نورة.
توقفت أُسيا للحظة خلف الجدار، لا لتتنصت، بل لأنها شعرت أن كلماتهم ترتد داخلها كالصدى.
خايفة؟
لا، ما كانت خائفة.
فقط… تحمي نفسها.
تنفست بعمق، ثم مشت بهدوء، متجنبة أي احتكاك.
وفي المكتبة، جلست في الزاوية الهادئة، فتحت دفترها، وبدأت تكتب:
“مو كل من مشى بعيد… ندم.
أحيانًا، البعد هو الطريقة الوحيدة للبقاء حي وسط علاقات كانت تذبحك وأنت تضحك.”
رفعت رأسها، وحدّقت في الجدار الرمادي أمامها.
“هل أشتاق لهم؟”
نعم.
“هل أريد العودة؟”
لا. على الأقل… مو بنفس النسخة اللي كنت فيها.
■ ■ ■
في البيت، لاحظت أمها هدوءها المفرط.
“كل شي تمام، أسيا؟”
أجابت بهدوء:
“أي… بس اكتشفت إن الاشتياق ما يعني الخطأ، بس برضو ما يعني إني أرجع بدون حدود.”
قالت أمها وهي تصب القهوة:
“بعض القلوب لازم تفهم إنها ما تنكسر مرة وحدة، تنكسر في كل تكرار لنفس الغلط.”
أومأت أُسيا… وشعرت أن الحديث كان دواء بسيطًا، يهدئ تلك الندبة الصغيرة التي بدأت تخف.
■ ■ ■
في الليل، جلست تراجع بعض الصور القديمة في هاتفها.
كانت تضحك في أغلبها.
لكن الآن، عيناها لا تضحكان مع الصورة.
كانت ترى تفاصيل لم تكن تلاحظها من قبل:
نظرة سخرية، لمسة باردة، غياب في لحظة احتياج.
أغلقت الصور.
وكتبت في مذكرتها:
“يمكن أحببتهم، بس الآن أحب نفسي أكثر.”
“أنا آسية… مو لأنّي انعزلت، لكن لأنّي بدأت أختار.”
“والاختيار مو دائمًا سهل… بس لازم.”
ثم أغلقت النور، ونامت…
وصوت في داخلها يهمس:
“الماضي مو سجن… إلا إذا قررت تبقى فيه.”
⸻
...الفصل الثامن عشر: الرسالة...
كان مساء هادئ، والسماء تميل للون العسل.
جلست أُسيا على سريرها، تمسح على دفترها، تفكّر في اللاشيء… حتى رنّ هاتفها.
رسالة.
من: نورة
“هذي أول مرة أرسل لك من وقت طوووويل، بس ما قدرت أسكت.
مو لأنّي أشتاق — رغم إني أشتاق —
بس لأنك تغيّرت، أُسيا…
وصار كل شي فيك غريب.”
وقفت أُسيا للحظة، كأن الكلمات طُعنت في مكان قديم.
أكملت القراءة.
“ما عادك نفس الشخص اللي نعرفه.
حتى جود تقول إنها ندمت يوم كانت تعتبرك أخت.
إحنا ما كنا سيئين…
بس يمكن انتي اللي كبرت فجأة، وشفتي نفسك فوق.”
سكت قلبها، لكن عقلها بدأ يشتغل بسرعة.
جلست على الأرض، وسندت ظهرها للجدار.
■ ■ ■
ما كانت الرسالة طويلة، لكنها كانت ثقيلة.
كأنها مكتوبة بيد ناعمة… وبسُم داخلي.
“اشتقنا لك… بس تراك صرتي شايفة نفسك.”
“ما كنا سيئين، بس يمكن انتي اللي تغيرتي أكثر من اللازم.”
كلمات تبدو حنونة، لكنها مشحونة بتأنيب.
هذا التلاعب العاطفي… تعرفه أُسيا جيدًا.
عرفته في لحظة احتياج… لما كانت تبكي، ويُقال لها: “لا تسوي دراما.”
عرفته لما كانت تصمت، ويُقال لها: “ليش تسوين نفسك ضحية؟”
تنفّست بعمق، ثم بدأت تكتب الرد، لكنها توقفت.
لا.
مو لازم تردين على كل شي.
ومع ذلك… قلبها كان يحترق.
الحنين ما انطفأ، لكنه ما عاد يسيطر.
قامت بهدوء، ذهبت إلى المطبخ، أخذت كوب ماء.
قالت أمها وهي تراقب وجهها:
“شي مضايقك؟”
أُسيا لم تقل الحقيقة… لكن لم تكذب.
“ذكّرتني رسالة بموقف قديم، وأنا ما أحب أرجع له.”
قالت الأم، وهي تنظر لها بحنان:
“الحلو فيك إنك بدك تتعافين… بس اللي يتعافى، أحيانًا يتألم من الرائحة قبل حتى يشوف الجرح.”
ابتسمت أُسيا، وقالت:
“بس هالمرّة… أنا ما راح أحك الجرح. بخليه يبرأ.”
■ ■ ■
في منتصف الليل، كتبت في دفترها:
“في ناس، لما تشوفك تطوّرت، تبدأ تقلب الحب إلى سلاح.
تحبك… بس تحبك صغير.
تشتاق… بس تبغاك على كيفهم.”
“ويمكن… عشان كذا، أنا ما راح أرجع.”
ثم رسمت بجانب الكلام شجرة صغيرة، تحتها وردة ما زالت تتنفس.
الوردة ما ماتت.
أُسيا… ما ماتت.
لكنها الآن، أقوى.
⸻
...الفصل التاسع عشر: مرآة صغيرة...
كان يومًا عاديًا في المدرسة. الجو ثقيل، والهواء في الممرات مشحون بأحاديث مكررة، وضحك مفتعل.
لكن عين أُسيا كانت تلاحق فتاة صغيرة، تجلس وحدها في الزاوية.
شعرها منكوش، تحمل كتابًا مفتوحًا، لكنها لا تقرأ.
كل بضع دقائق، تمرّ أمامها مجموعة من البنات، تضحك إحداهن، وتهمس الأخرى بكلمة، ثم يمضين وكأن لا شيء حدث.
لكن أُسيا… كانت ترى.
كانت ترى كيف ترفع الطفلة نظرها فجأة، كأنها تنتظر تبريرًا… أو تفسيرًا.
■ ■ ■
رجعت ذاك المساء إلى غرفتها.
ما كانت تعرف اسم الطالبة، ولا قصتها، لكن الموقف كله كان مألوفًا جدًا.
“كلنا بدينا كذا،
نضحك معاهم، نصدّق إنّا مهمّين…
ثمّ ينسحبون، ونبقى نتساءل: هل كنا مجرد مؤقتين؟”
أخرجت أُسيا دفترها، وكتبت رسالة… لكن مو لأحد، بل لنفسها:
⸻
إلى أُسيا القديمة،
لو كنتِ تقرين هذي الرسالة، فأنكِ يمكن للحين تنتظرين أحد يفهمك.
أبغى أقول لك: ما كانوا يكرهونك، بس ما كانوا يحبونك بالطريقة اللي تستحقينها.
كانوا يحبونك وانتِ تضحكين، وانتِ تسكتين، وانتِ توافقين.
بس أول ما قلتي “لا”… صار حبّهم مؤلم.
تذكّري إن التغيير مو جريمة،
وإنك ما خنتيهم لما حميتِ نفسك.
وإنك مهما اشتقتي… لا تخلين الحنين يصير قيد.
بكل حب،
من أُسيا اللي صارت تعرف نفسها.
⸻
بعد أن أنهت الكتابة، أغلقت الدفتر وابتسمت.
ثم همست بصوت خافت:
“أنا ما صرت قاسية… أنا صرت واعية.”
■ ■ ■
في اليوم التالي، مرّت من أمام الفتاة الصغيرة نفسها.
توقفت لحظة، ومدّت لها قطعة شوكولاتة صغيرة، دون كلام.
الفتاة رفعت عيونها، ثم ابتسمت بخجل.
ومشت أُسيا، دون أن تلتفت.
ما احتاجت تقول شيء… لأن أحيانًا، الفهم ما يحتاج صوت.
⸻
...الفصل العشرون: الحدود...
في ساحة المدرسة، عند الطاولة الطويلة قرب الملعب، كانت جود تجلس مع نورة وعدة بنات من الفصل الآخر.
عيونهم التفتت فور دخول أُسيا.
لم تكن ترتدي ابتسامة، ولم تكن غاضبة… فقط هادئة، بثقة مكتسبة من وجعها.
تقدّمت نحو الممر، وكانت تنوي الذهاب مباشرة إلى المكتبة، لكن نورة نادت:
“أُسيا، دقيقة.”
توقفت.
التفتت ببطء.
“وش فيه؟” سألت بنبرة مسالمة.
جود نظرت لنورة، ثم قالت:
“ليش كذا؟
ليه فجأة قررتِ تختفين؟
إحنا كنا أخوات، مو بس صديقات.”
أُسيا نظرت لهما لثوانٍ، وكأنها تراجع كل السنوات الماضية في لحظة.
ثم قالت بهدوء:
“يمكن لأن الأخوات الحقيقيات ما يخلون أختهم تحس إنها ثقيلة، أو إنها مفهومة غلط دايمًا.”
سكت المكان.
حتى الهواء توقف.
نورة حاولت تضحك:
“لا تبالغين، كلنا نمزح… وإنتي تعرفين إننا نحبك.”
أُسيا رفعت حاجبها، وقالت:
“إذا الحب يعني أسكت عن كل شيء يجرحني، فاسمحوا لي، هذا مو حب.
هذا ضعف.
وأنا ما أرجع أضعف نفسي عشان ترضون.”
جود اتكأت على الطاولة، وقالت بصوت أخف:
“بس احنا اشتقنا لك…”
أُسيا ابتسمت، للمرة الأولى.
ابتسامة هادئة، ناضجة، مليانة بالرحمة… لكنها بدون رجوع.
“أنا بعد اشتقت.
بس الشوق ما يعني إن كل شي يرجع زي أول.
أحيانًا، نحط حد مو لأننا نكره…
بل لأننا نحترم أنفسنا أكثر.”
■ ■ ■
تركتهم، ومشت.
لكن خطواتها كانت أخف من أي وقت مضى.
كأنها لأول مرة، تمشي بدون أن تحمل في قلبها وزن “القبول”.
بدون ما تتأكد إنهم مرتاحين.
بدون ما تشرح نفسها.
■ ■ ■
في البيت، أخبرت أمها بما حدث، بكلمات مختصرة.
قالت الأم، وهي تضع يدها على كتفها:
“تعرفين…
أصعب شي على الإنسان إنه يحب، ويتأذى، ثم يختار يوقف الحب من طرفه، بدون ما يحمل كره.”
أُسيا ابتسمت، وهمست:
“الحمد لله، أنا ما أكرههم.
بس بعد…
ما أسمح لهم يخذلونّي مرتين.”
ثم نظرت لنفسها في المرآة، للمرة الأولى منذ شهور، وشعرت أن عيونها تغيرت.
ما عادت تلك البنت اللي تبحث عن قبول.
الآن…
هي أُسيا الجديدة.
⸻
...الفصل الواحد وعشرون: خلف الزجاج...
كانت نورة جالسة في المقهى مع جود ومها، تتحدثان عن أُسيا وكأنها شبح غاب عن حياتهم.
“أشوفها أحيانًا، تمشي في الممر، بس ما تبالي أحد،” قالت نورة وهي تلعب بكوب القهوة.
“هي هنا، بسها بعيدة. مثل خلف الزجاج، تشوفها، بس ما تقدر توصلها.”
ضحكت مها بسخرية، “أعتقد إنها نسيتنا… أو اختارت تنسى.”
“ما أعتقد،” قالت جود بنبرة أكثر جدية، “يمكن هي نفسها تضيع. يمكن ما تعرف مين هي الحين.”
■ ■ ■
في بيت أُسيا، جلست في غرفتها مطلقة نظراتها على النافذة.
رأت ضوء المدينة، وصوت ضحك بعيد يقطع السكون.
تذكرت صديقاتها، ودفء الأيام الماضية.
لكن كان هناك جدار داخلي يمنعها من الاقتراب.
همست لنفسها، “ما بدي أرجع. ما راح أكرر غلطتي.”
■ ■ ■
في المدرسة، مرّت أُسيا بجانب نورة التي رفعت يدها لتحيّيها، لكنها لم ترد.
رأتها جود بعدها، في الصف، تنظر إليها من بعيد، بحسرة في عيونها.
■ ■ ■
في إحدى الأمسيات، اتصلت نورة بأُسيا، وطرقت صوتها على حاجز الصمت.
“ليش ساكتة؟ ليش ابتعدتي؟”
أُسيا ردت بنبرة هادئة، “أنا أحتاج وقت… وقت أفهم نفسي.”
“بس إحنا هنا، دايمًا، حتى لو بعدنا.”
“أعرف، بس المرة هذي… أنا مختلفة.”
■ ■ ■
عادت أُسيا إلى دفترها، وكتبت:
“الاشتياق شعور غريب.
يحملك للماضي، لكنه يجعلك تخاف ترجع له.
أحبهم، وأحتاجهم،
بس لا أقدر أخدع نفسي مرة ثانية.”
■ ■ ■
في النهاية، وقفت أُسيا أمام المرآة، تنظر في عينيها كما لو كانت تودع صورة قديمة.
وقالت بصوت خافت، “أنا ما أرجع…
أنا أبني.”
...الفصل الثاني والعشرون:صوت يشبهها...
كانت جود تمشي في الممر ذاته الذي اعتادت أن تضحك فيه مع آسيا. خطواتها مترددة، تحمل في ثناياها شيئًا أثقل من الحنين. التفتت ناحية الزاوية التي كانت آسيا تلوّح منها في نهاية كل يوم، لكنها الآن فارغة… حتى من الذكرى.
رأت نورة عند الخزانة، تنظر إلى دفتر قديم يحمل ملصقًا صغيرًا كُتب عليه “لآسيا، لا تفتحيه إلا إذا ضحكتي بصدق.”
ضحكت نورة، لكنها كانت ضحكة باهتة، كأنها تضحك على ذكرى لا تخصها بعد الآن.
“تتذكرين لما كتبنا هذا لها؟”
قالتها جود، بصوت ناعم وهي تشير إلى الدفتر.
نورة هزّت رأسها، ثم تمتمت:
“إيه، وكانت تضحك حتى على أسوأ نكتنا.”
“الحين صارت تنظر لنا وكأنها… تحاول ما تتذكر.”
قالت جود، ثم نظرت للأسفل، مضيفة: “كأنها تعاقب نفسها، أو تعاقبنا.”
■ ■ ■
في منزلها، جلست آسيا أمام المرآة، مرّة أخرى. كانت ملامحها لم تتغير كثيرًا، لكن في عينيها شيء غريب… شيء لا يمكن وصفه بالكلمات.
تمسك فرشاة شعرها، ثم تتركها. تمسك هاتفها، ثم تضعه على الطاولة.
كل شيء حولها يشعرها بالارتباك. الهدوء بات خانقًا، والوحدة لم تعد مريحة.
سمعت رسالة صوتية من نورة:
“آسيا… مو لازم ترجعين زي أول، بس عطينا فرصة نعرفك من جديد. حتى لو كنتِ مو أكيدة من نفسك، إحنا نقدر نستنى. ننتظرك، مو عشان نرجّعك، لكن عشان نكون حوالينك وأنتِ تتغيّرين.”
آسيا استمعت بصمت، ثم أغلقت الرسالة.
وضعت رأسها على وسادتها، وغرقت في أفكار لا تنتهي.
هي لا تكره صديقاتها. بل ربما، تحبهن أكثر من أي وقت مضى… لكن بطريقتها. طريقتها الجديدة، التي لا تفهمها حتى الآن.
■ ■ ■
في اليوم التالي، مرّت آسيا من أمام مها.
مها نظرت إليها، ترددت، ثم همست:
“كنّا نخاف نخسرك، بس ما كنا نتوقع نخسر كل شي.”
آسيا سمعت الجملة، لكنها لم تتوقف.
خطوتها لم تتغير، لكن داخلها اهتز شيء صغير، هش، يشبه الزجاج.
■ ■ ■
في غرفتها، كتبت آسيا:
“الحياة تغيّرت، وأنا تغيّرت معها.
صارت الذاكرة مؤلمة، والرجعة مستحيلة.
أنا ما أبغى أعيش دور الضحية، ولا أبغى أكون مجرد صفحة في حياة أحد.
أنا قاعدة أحاول… كل يوم، أعيد تعريف نفسي.”
“يمكن يوم من الأيام، يكون عندي الشجاعة أرجع أبتسم بصدق،
قدامهم.”
ثم أغلقت الدفتر، ووقفت.
نظرت نحو النافذة، خلف الزجاج، حيث الحياة تمضي.
همست، وكأنها تكلم ظلّها:
“يمكن أرجع… بس بطريقة ما تشبهني.”
...الفصل الثالث والعشرون:...
...بعض الصمت، أصدق...
لم تكن نورة تخطط لشيء حين قررت أن تنتظر آسيا قرب نهاية الدوام.
وقفت عند ذلك الجدار الأبيض في طرف الممر، نفس المكان اللي كانت آسيا تجلس فيه دومًا، تتكلم وتضحك وتخترع قصصًا ما لها نهاية.
لكن اليوم، ما فيه ضحك.
ولا قصص.
بس نورة، وصوت قلبها اللي يدق كأنها واقفة على حافة ما تعرف نهايتها.
شافت آسيا جاية من بعيد. تمشي بخطوات ثابتة، تلبس جاكيتها الأسود اللي تحبه، وشنطتها الصغيرة معلّقة على كتفها كأنها ثقيلة.
آسيا رفعت عيونها… شافت نورة.
توقّفت للحظة، ما قالت شيء.
ونورة، ما كانت تعرف تبدأ من وين.
“آسيا…” صوتها كان منخفض، لكنه واضح.
ما ردّت.
“بسألك شي واحد، وبمشي.”
رفعت آسيا حاجبها، نظرة خايفة شوي، لكنها ما تكلمت.
“هل… هل بعدك عنّا، كان لأننا أذيناك؟ ولا لأنك خلاص ما تبغينا في حياتك؟”
السؤال كان واضح، لكنه ثقيل.
آسيا ما ردت مباشرة.
نظرت فيها، نظرة فيها تعب كثير، كأنها تحاول تفهم السؤال قبل ما تجاوب.
ثم تمتمت:
“أنا ما أعرف الجواب الكامل… بس كنت أحتاج أبتعد، مو عشان أكرهكم، عشان أتنفس.”
نورة حسّت شي ينكسر داخلها، بس أخفته.
“طيب… ليه ما قلتي هالشي؟ حتى لو بكلمة.”
آسيا عضّت شفتها، كأنها تبلع حروف كانت تموت تقولها.
“كنت خايفة. لو تكلمت، كان كل شيء بينهدم. فضلت أختفي على إني أكون سبب الهدم.”
سكتوا.
كل وحدة كانت تحاول تفهم الثانية، لكن بينهم حاجز شفاف، مثل الزجاج اللي يخلّيك تشوف، بس ما تلمس.
نورة قالت:
“ترى الهدم صار… بس بدون حتى صوتك.”
آسيا نظرت فيها نظرة طويلة… فيها ندم، وفيها جرح، بس فيها كمان بقايا من البنت اللي كانوا يعرفونها.
“أنا آسفة.”
نطقتها كأنها ثقيلة، لكن حقيقية.
نورة تنفست ببطء، ثم قالت:
“ما أطلب منك ترجعين، ولا تغيّرين. بس لا تختفين كأننا ما كنّا شي.”
هزّت آسيا رأسها، كأنها تقول: “بوعدك.”
وبدون وداع رسمي، مشت آسيا بهدوء.
ونورة وقفت مكانها، تحاول تجمع مشاعرها المتناثرة.
كانت المواجهة قصيرة، بس فيها من المعاني أكثر من شهور من الصمت.
...الفصل الرابع والعشرون:...
...الغرفة الحمراء...
في تلك الليلة، لم يكن النوم ملاذًا.
رغم التعب، ورغم الهدوء المزيّف في البيت، أحسّت آسيا أن شيئًا يراقبها من الزاوية، كأن ظلًا قديمًا لا يزال واقفًا هناك، ينتظر لحظة سقوطها.
أغمضت عينيها، ونامت.
لكن النوم لم يكن نومًا.
■ ■ ■
رأت نفسها تمشي في ممر طويل، جدرانه حمراء قاتمة، الأرضية باردة تحت قدميها، وكل شيء ساكن كأن الزمن توقّف.
في نهاية الممر، كانت هناك غرفة.
بابها مفتوح قليلًا، ويخرج منه نور خافت أصفر، يلمع على هيئة نبض، كأن الغرفة تتنفس.
اقتربت.
كانت تسمع أصواتًا.
ضحكات… مألوفة.
صوت نورة، مها، جود.
ثم فجأة، صوت أمها، حادًّا، صارخًا:
“دايم تهربين! دايم تتهربين من كل شي!”
تجمّدت آسيا في مكانها.
مدّت يدها نحو الباب، فتحته…
ودخلت.
الغرفة لم تكن كما توقعتها.
كانت نسخة مشوهة من غرفتها القديمة، قبل أن تغيّر كل شيء.
الدفتر القديم، صورة جماعية، وسريرها… لكنه كان محطمًا، كأن أحدهم كسر أجزاءه.
وفي الزاوية، كانت الطفلة.
نعم، الطفلة: نسخة منها، في العاشرة، تجلس على الأرض، تبكي بصوت مكتوم.
اقتربت منها، ببطء.
“وش فيك؟” سألتها آسيا، وهي تجثو على ركبتيها.
رفعت الطفلة رأسها.
عينيها سوداوان تمامًا، بدون ملامح، فقط ظلمة عميقة.
قالت بصوت مخنوق:
“كلكم رحتوا، وأنا بقيت.”
“ما رحنا… أنا بس كبرت.”
ردّت الطفلة:
“لا، أنتِ نسيتيني. نسيتيني عشان تصيرين زي الناس.”
آسيا شهقت. شعرت بثقل في صدرها، كأنها تحاول تشرح شيئًا عالقًا في حلقها منذ سنين.
“أنا ما نسيتك… بس كنت أحاول أحميك.”
فجأة، انطفأ الضوء في الغرفة.
بدأت الجدران تتشقق.
الصورة الجماعية احترقت من طرفها.
وصوت أمها عاد يدوّي:
“أنت السبب! أنت السبب في كل شيء!”
أمسكت آسيا رأسها، تصرخ، لكن لا صوت يخرج.
كل ما حولها كان ينهار.
وفي آخر لحظة، قبل أن تُبتلع من السواد، سمعت صوتًا خافتًا… من داخلها:
“إذا واجهتيني، يمكن أختفي.”
■ ■ ■
استيقظت آسيا وهي تلهث، العرق يغطي جبينها، وقلبها ينبض بقوة لا توصف.
جلست في سريرها، تمسك غطاءها بقوة.
تأملت الجدار المقابل، وكتبت على هوامش ذاكرتها:
“مو كل شيء نسيته… بس يمكن ما كنت أقدر أتحمله.”
وبينما الفجر يقترب، قررت أن تفتح دفترها، وتكتب عن الطفلة.
ربما، كان هذا هو أول اعتراف حقيقي.
...الفصل الخامس والعشرون:...
...كفى...
كانت مها دائمًا الهادئة بينهم.
اللي تسمع أكثر مما تتكلم، واللي تضحك وتقول “عادي” حتى لما ما يكون عادي.
لكن في الفترة الأخيرة، ما كانت قادرة تسكت.
كل مرة تشوف نورة أو جود تتكلم عن آسيا، تحسّ بشي يضيق في صدرها.
حزنهم صادق، لكن كان فيه شيء يغلي داخلها. شيء يشبه الغيرة، ويشبه القهر، بس ما كانت قادرة تسميه.
وفي ذلك اليوم، في ساحة المدرسة، جلست معاهم على الطاولة المعتادة، الطاولة اللي كانت آسيا دومًا أول وحدة توصل لها.
نورة قالت بهمس، “شفتها أمس، تمشي لحالها… شكلها تعبانة.”
جود ردّت: “إي، أكيد. بس تحسّون؟ كأنها تبينا نرجع لها… بدون ما تطلب.”
مها سكتت، لكن ملامحها تغيّرت.
جود انتبهت: “مها؟ فيك شي؟”
مها نظرت في عيونهم، ولأول مرة، تخلّت عن هدوءها.
“تبون الصدق؟ تعبت. تعبت من التبرير لها. تعبت من إننا نحاول نوصل لها وهي مو حتى تفتح لنا باب.”
نورة شهقت، “بس هي تمرّ بوقت صعب!”
مها رفعت صوتها، وعيونها فيها لمعة غضب دفين:
“وإحنا؟! إحنا وش كنا؟ كنا نضحك معها، نوقف جنبها، نحبها بكل عيوبها. بس لما ضاعت، تركتنا كأننا ولا شي. حتى السلام، حتى الردّ، حتى نظرة وحدة… صرنا نطلبها منها كأننا غرباء.”
جود حاولت تهديها: “يمكن ما تقدر، مها. مو كل الناس تعرف تتكلم وقت الحزن.”
مها عضّت شفتها، وصوتها ارتجف:
“طيب، ليه ما تعطينا فرصة نكون جزء من تعبها؟ ليه تشيل كل شي لحالها؟ إذا كنا صدق نحبها، ليه تشوفنا كأننا تهديد؟”
سكتت فجأة، وشعرت بالخجل من نفسها… لكنها ما تراجعت.
نورة قالت بصوت منخفض:
“أنا بعد أفكر كذا أحيان… بس أخاف أقولها.”
جود تمتمت:
“يمكن إحنا الثلاث ضايعين، مو بس هي.”
مها نظرت لهم، بعيون أقل غضب، وأكثر حزن.
“أنا ما أكرهها. أقسم ما أكرهها. بس أكره شعور إننا نركض، وهي واقفة، وما تبينا نوصل. كأننا نلحّ على شي هي قررت تتركه.”
■ ■ ■
في نهاية اليوم، جلست مها لحالها في غرفتها، وكتبت في دفترها:
“يا آسيا، إذا تقرين هذا يوم…
ترى إحنا بعدنا نتذكرك، مو لأنك ما زلت نفس الشخص…
بس لأن حتى تغيّرك، نحبه.”
وأسندت ظهرها للحائط، وعيونها على سقف الغرفة.
أحيانًا، الحب مو يكفي.
وأحيانًا، الصدق يوجع أكثر من الفقد.
...الفصل السادس والعشرون:...
...رسالة لا تُرسل...
جلست آسيا على طرف سريرها، والليل يغلف الغرفة بسكون خانق.
كل شيء فيها كان ساكنًا… إلا قلبها.
قلبها يصرخ.
مو بصوت، لكن بارتجاجات داخلية، كأن كل نبضة فيه تحاول تقول: “احكي… احكي قبل ما تنفجرين.”
فتحت دفترها، وبدأت تكتب.
لكن هالمرّة، ما كانت خواطر.
كانت رسالة.
ما كتبت اسم أحد، بس كل كلمة كانت تعرف لمين تروح.
“كنت أحبكم.
بكل بساطة، بدون تعقيد.
كنت أحبكم بطريقة تخوفني.
لأن كل شي فيكم كنت أحتاجه، وكل شي فيّ كنت أخفيه.”
توقفت، تنفست بعمق، ويدها ترجف.
“كنت البنت اللي تضحك أكثر من اللازم، مو لأنها سعيدة، بس لأنها تعرف إن السكون بيكشفها.
كنت أحس إني لازم أكون قوية، دايمًا.
حتى لما أطيح، كنت أرجع أقوم وأنا أضحك، عشان ما أخيّب ظن أحد.”
صوت الهواء من النافذة دخل، وحرّك طرف الورقة، كأنه يهمس: “كمّلي.”
“بس تعبت.
والله العظيم تعبت.
تعبت من كوني دايمًا “أُسيا” اللي الكل يشوفها متماسكة، وهي من جوّا قاعدة تذوب.”
أغمضت عيونها، ودمعة نزلت، مو على الورقة، بل على كفّها.
“أنا ما هربت منكم…
أنا هربت من نفسي.
من نظراتكم اللي تخليني أحس إني لازم أكون أفضل.
من ضحكتكم اللي كانت تحسسني إني ما أقدر أحزن حولكم.
من أمّي اللي صرت أشوف في عيونها لوم ما أفهمه.
ومنّي أنا… منّي.”
كانت تكتب وكأنها تتقيأ كل شيء.
“سامحوني… مو لأنّي اختفيت.
سامحوني لأني ما قدرت أشرح وقتها.
لأن اللي جوّا راسي، ما كنت أعرف حتى أترجمه كلمات.
لأن كل مرة كنت أحاول أصرّح، شي فيني كان يصرخ: “اسكتي، لا تبين ضعفك.””
توقفت للحظة، ونظرت للسطور.
كل جملة كانت تنزف.
كل حرف كان خنجر ناعم.
“أنا مو ضحية.
ولا أنتم غلطانين.
إحنا كنا نحاول، بس بطرق مختلفة.
ويمكن… نكون خسرنا بعض، بس مو لأن ما نحب، بل لأننا ما عرفنا كيف نحافظ.”
كتبت آخر سطر بيد مترددة:
“أنا آسفة… بس مو نادمة.
لأن أحيانًا، الرحيل هو الشي الوحيد اللي ينقذك، حتى لو كسر قلوبكم.”
طوت الورقة.
ما حطتها في ظرف.
ما نوت ترسلها.
لكنها ابتسمت لأول مرة من شهور.
مو ابتسامة سعادة، بل راحة…
كأنها نزعت حجرًا من صدرها، ولو للحظة.
...الفصل السابع والعشرون...
...آخر مناداة...
كان كل شيء هادئًا تلك الليلة.
أكثر من اللازم.
آسيا كانت تطوي غطاءها، تحاول تجبر نفسها تنام بدري،
تحاول تكون طبيعيّة…
بس ما كانت تدري إن قلبها على بعد لحظات من الانهيار.
رنّ جوالها فجأة.
رقم معروف… رقم المستشفى.
تجمّدت أصابعها قبل ما ترد، كأن عقلها يحاول يسبق المكالمة ويكذّبها.
“آلو؟”
جاءها الصوت، رسمي… باهت… قاتل:
“آسيا بنت الأستاذة منيرة؟ نعتذر نزعجك بهالوقت، لكن والدتك تعرضت لهبوط حاد ونُقلت للعناية المركزة، ونحتاج أحد يجي حالًا.”
…
ما ردّت.
ما قالت “طيب” ولا “جايه”.
بس وقفت، والجوال طاح من يدها، وعيونها تاهت في فراغ الغرفة.
■ ■ ■
ما تذكرت كيف لبست عبايتها.
ولا كيف وصلت للمستشفى.
كل اللي تذكره، إن رجولها كانت تمشي، بس عقلها مو معها.
دخلت الطوارئ وهي تركض، تبكي بدون صوت،
زي اللي يحاول يلحق على عمر ما أعطاه فرصة يعتذر.
“أمي وين؟ أمي وين؟”
قالتها للممرضة، وصوتها كان يطلع من حنجرة محروقة.
ودوها لغرفة صغيرة…
ما كانت غرفة، كانت سجن رمادي.
ورأت أمها هناك…
مو نايمة، بل غايبة، مربوطة بأجهزة، وجهها شاحب، كأن الدنيا سرقت ملامحها.
“يمّه…”
نطقتها آسيا بصوت ما يشبهها.
صوت بنت عمرها سبع سنين… ضايعة… مكسورة.
“أنا هنا… كنت جاية… كنت…”
لكنها ما كملت.
انكبت دموعها على يد أمها، تدفيها، تحاول تصحيها،
كأنها تحكيها كل الكلام اللي ما قالته.
“يمّه، والله إني آسفة.
كنت خايفة، مو منك، من نفسي.
كنت أهرب من صورتك يوم نظرت لي بنظرة ما فهمتها…
نظرة لوم؟ ألم؟ خذلان؟
بس أقسم ما كرهتك، أقسم ما بغيت أجرحك،
أنا بس كنت تايهة.”
حطّت رأسها على صدر أمها، تسمع نبضاتها الضعيفة،
كأن كل دقّة تقول: “تراك تأخرتي شوي…”
صرخت آسيا بصوت مخنوق:
“لا تروحين… لا تتركيني وإنتي زعلانة…
قولي لي شي، أي شي… حتى لو تصرخين… بس لا تسكتين!”
الممرضة دخلت، حاولت تسحبها، لكن آسيا مسكت يد أمها كأنها تتمسك بالحياة.
“أنا ما أبغى تكرهيني، حتى لو استحق.
أنا كل يوم أمشي وأنا قلبي مشقوق نصين:
نص يبيني أكون قوية،
ونص يترجاك تحتويني.”
وسقطت آسيا على الأرض تبكي، تنهار…
تبكي بصوت،
تبكي كل شيء ما بكت عليه من سنين.
كانت تلك الليلة،
أول مرة تحس إنها وحيدة صدق.
مو لأنها فقدت أمها…
بل لأنها أدركت إنها أفقدت نفسها الطريق لها من زمان.
...الفصل الثامن والعشرون:...
...بين الصمت والكلام...
دخلت جود إلى غرفة المستشفى، تحمل معها كلّ مشاعرها المختلطة بين الخوف، الحزن، والأمل.
رأت آسيا جالسة على الكرسي بجانب سرير أمها، عيونها شاحبة، وجهها باهت، لكنها تحاول تصنع لنفسها حجابًا من القوة.
جود وقفت للحظة، لم تجرؤ على الكلام، حتى اقتربت وجلست بجانبها بهدوء.
آسيا رفعت رأسها، ونظرت لجود بنظرة حزينة، نصفها سؤال، ونصفها استسلام.
“جود…” همست، كأنها تبحث عن كلمة لكنها فقدتها.
“أنا… آسفة.” بدأت جود، والكلمات تنساب بصعوبة، “لأننا… تركناكِ… أنا ما عرفت كيف أساعدكِ… ومها بعد.”
آسيا هزّت رأسها، “أنا بعد كنت بعيدة، مو بس عنكم… عن نفسي قبل كل شيء.”
سكتتا، وصار الصمت يتحدث بينهما، يعبر عن وجع عميق لا تحتاج الكلمات لوصفه.
“كنت أفكر…” قالت جود أخيرًا، “يمكن كل واحد فينا كان يخاف، بس بطريقة مختلفة. وأنا أخافت أخسركِ.”
دمعت عينا آسيا، “وأنا كنت أخاف أخسركم… بس كنت خايفة أكثر من نفسي.”
جلست جود وأمسكت يد آسيا برفق، “تعالي، خلينا نبدأ من جديد. مو لازم تكوني لوحدك.”
آسيا ابتسمت بخفوت، وكانت ابتسامة حقيقية هذه المرة.
“يمكن… يمكن نقدر نصلح اللي تضرر.”
في تلك اللحظة، كان هناك وعد غير منطوق،
أن الأمل ما زال ممكنًا،
وأن الحيطان اللي بنيناها ممكن تنهار،
لتفتح باب جديد… للحياة.
...الفصل التاسعة والعشرون : حضور الصمت...
آسيا كانت جالسة على كرسي الغرفة البيضاء، والأنوار الناعمة تضيء وجهها الشاحب.
كل شيء حولها كان ساكنًا، غير أن داخلها كان يعج بالعواصف التي لا تهدأ.
نورة دخلت بهدوء، تحمل في عينيها مزيجاً من القلق والحنان، وجلست بجانب آسيا بهدوء.
لم تقل شيئًا في البداية، فقط نظرت إليها كما لو كانت تحاول قراءة ما وراء الجدران التي بنتها آسيا حول نفسها.
“أنا خايفة، نورة.” قالت آسيا أخيرًا بصوت متهدج. “خايفة أفقدها، وخايفة إني أكون السبب.”
نورة أمسكت يدها برقة، “إحنا كلنا خايفين، بس وجودك جنبها هو اللي بيخليها قوية. مو لازم تحملي كل شي لوحدك.”
آسيا نظرت إليها، دموعها بدأت تنساب بصمت، “الذنب ما يتركني… كأنّي ما أستحق حتى أني أكون هنا.”
“ما في أحد يستحق ذنب، آسيا. إحنا نحبك، ولو تعبت أو احتجت توقف، إحنا هنا.”
جلسا صامتتين لبعض الوقت، فقط صوت أنفاسهما يملأ المكان.
آسيا فتحت دفترها بخفة، وكتبت:
“الصمت يصرخ داخلي، والقلوب اللي تحبك، أحيانًا تكون آخر مكان تحس فيه بالأمان.
أريد أكون قوية، بس ما أريد أخسر نفسي في الطريق.”
نورة نظرت إلى الكلمات، ثم همست: “تعالي، خلينا نواجه الخوف مع بعض.”
...الفصل 30: أصداء الذكريات...
دخلت جود الغرفة، قلبها يضرب بعنف، كأنها تحاول تواسي ما يبدو كجرح مفتوح في روح آسيا.
كانت تتابع خطوات آسيا بعيون لا تخفي خوفها من فقدانها مرة ثانية.
آسيا جلست على حافة السرير، يديها مرتعشتان، والهدوء حولها كان يخنقها أكثر مما تظن.
“جود…” همست، بصوت خافت كأنه صدى بعيد، “أحيانًا… أحس إني وحدي، حتى وسط الناس.”
نظرت جود إليها، حاولت تبتسم، لكنها عرفت أن الابتسامة لن تصلح ما كسر في آسيا.
“أتذكرين لما كنا نضحك سوا، لما كانت الدنيا أبسط، وكل همومنا كانت مجرد زوابع صغيرة؟” قالت جود، محاولة استدعاء دفء الذكريات.
آسيا ابتسمت ابتسامة حزينة، “أذكر… بس الآن، كل شيء صار صعب. حتى التنفس صار تحدي.”
صمتا للحظة، ثم أضافت آسيا، “أشعر بغربة داخلية. كأني شخص آخر، غريب عن نفسي. كأني فقدت حقيقتي.”
جود مدت يدها ولمست كتف آسيا برقة، “يمكن لازم نسمح لنفسنا نكون ضعفاء، مش دايمًا لازم نكون الأقوى.”
الدموع بدأت تلمع في عيون آسيا، لكن لم تنزل بعد. كان الألم يتراكم، يحفر في أعماقها، لا يسمح لأي شعور بالراحة.
“أنا خايفة، جود… خايفة إني أضيع أكثر. خايفة ما ألاقي طريقي للرجوع.”
جود قبضت على يد آسيا بقوة، “ما راح تضيعي. إحنا معك. كل خطوة بتاخذيها، إحنا جنابك.”
في تلك اللحظة، شعرت آسيا بشيء يتفتت داخلها، وانهيار جدران الحصانة التي بنتها.
لكنها لم تكن النهاية، بل بداية جديدة، مؤلمة لكنها صادقة.
دفعت آسيا أنفاسها، وكتبت في دفترها:
“الذكريات…
شقّت قلبي نصفين،
جزء يتمنى أن يعود،
وجزء آخر يهرب من الألم.
كيف لي أن أكون نفس الإنسان بعد كل هذا؟
هل هناك طريق من الغربة إلى البيت؟”
...الفصل 31: مواجهة الظلال...
دخلت آسيا إلى غرفة الجلوس ببطء، كل خطوة كانت ثقيلة كأنها تحمل جبلًا من الألم.
كانت أصوات الأم من المطبخ تصل إلى أذنيها، كلمات تتردد كالرصاص في صدرها.
“ليش بعيدة؟ ليش ساكتة؟”
وقف قلب آسيا للحظة، ثم تسارعت نبضاته وكأنها تحاول الفرار من الحقيقة.
نظرت الأم إليها بعينين ملؤهما الحزن والخيبة، “أنا مو عارفة شو صار بينا، بس إحساسي إنك ما عادتي تهميني… كأنك غريبة.”
آسيا كانت تكتم دموعها، لكنها شعرت أن السكين تخترق روحها مع كل كلمة.
“مش قادرة أكون نفس الإنسان اللي كنت عليه،” قالت بصوت متقطع، “أنا… ضاعت مني.”
“أنا تعبت من البعد، من الصمت، من إنك تهربي منّي.” قالت الأم بصوت يرتجف بالغضب والوجع.
انكسر الصمت بعدها، وبدأت الدموع تنساب من عيون آسيا بحرقة.
“أنا خايفة… خايفة أخسر كل شيء.” همست، والكلمات خرجت من أعماق جرح لم يلتئم.
الأم اقتربت منها، وعيناها تلمعان بالدموع، “أنا ما بدي أخسرك، آسيا. بس لازم نكون صادقين مع بعض.”
في تلك اللحظة، أدركت آسيا أن المواجهة ليست مجرد كلمات، بل حرب داخلية تحتاج إلى قوة جديدة، شجاعة لم تكن تعتقد أنها تملكها.
جلستا معاً، والدموع تجمع بين الألم والأمل،
لتبدأ صفحة جديدة، تبدأ من رحم الألم.
...الفصل اثنان وثلاثون: رسالة على هامش الألم...
جلست آسيا على حافة سريرها، الغرفة تكتظ بصمت ثقيل كأنه يضغط على صدرها.
في يدها دفتر قديم، حبر القلم يشبه دموعها، وكلماتها تخرج من أعماق روحها المجروحة.
قلبها ينبض بعنف، لكنها شعرت بأن الكتابة ستكون الملاذ الوحيد الذي يسمح لها بالتنفيس.
رفعت القلم، ونظراتها تشق الظلام، وبدأت تكتب:
“أمي…
لو كنت أعرف كيف أوصل لك كل كلمة دفنتها في قلبي، ما كنت خليتك تحس بالوحدة اللي عشتها.
كل لحظة بعيدة عنك كانت كأنها سكين يغرس في روحي، بس خوفي كان أكبر من كل الكلمات اللي ما قلتها.
أنا آسفة… آسفة لأنّي كنت بعيدة، لأنّي جرحتك من دون قصد.
بس الحقيقة… أنا مش قادرة أكون نفس الشخص اللي كنت عليه،
أنا ضعت في متاهة من الألم، بين الحب والكره، بين الحنين والخوف.
أحتاجك تفهميني… مش عشان أطلب منك الصفح،
لكن عشان تفهمي إنّي مش قوية مثل ما كنت بتصوري.
يمكن أنا خايفة أخسر كل شيء، حتى أنتِ،
لكن أكثر خوفي هو أني أخسر نفسي.
أنا مش وحدي، عندي صديقات وقفوا معي، بس في داخلي صدع عميق.
وعد مني… بوعد إني أحاول أرجع، أحاول ألاقي نفسي مرة ثانية.
لو ما حصل، عشان تعرفي… أحبك، وأتمنى نلقى طريقنا مع بعض.”
أنهت الكتابة، عينها امتلأت بدموع لا تستطيع منعها.
دفنت وجهها في يديها، تشعر بثقل الحزن يضغط على روحها.
في تلك اللحظة، لم يكن الدفتر مجرد ورق وحبر، بل كان مرآة قلبها، وحكاية ألمها، ونافذتها إلى الأمل.
رفعت رأسها، وأخذت نفساً عميقاً.
“يمكن وقت المواجهة قرب… بس لازم أكون مستعدة.”
كانت تعرف أن الطريق طويل، مليء بالألم، لكن أيضاً بالفرص.
...الفصل الثالث و ثلاثون : تحالف الأصدقاء...
مقهى صغير في أحد أركان المدينة.
الجدران مزيّنة بصور قديمة، والضوء الخافت ينسدل برقة فوق الطاولات.
كانت نورة تجلس على كرسي خشبي قديم، تحرّك ملعقة القهوة بلا وعي، وعيناها زائغتان نحو الشارع خلف الزجاج.
وصلت مها ثم جود بعد لحظات، وكل واحدة تحمل قلبًا مثقلًا بالحيرة.
“شفتوها الفترة الأخيرة؟” سألت نورة وهي تهمس وكأن الحديث عن شبح لا عن صديقتهم.
مها تنهدت، نظرت ليديها، ثم قالت:
“أنا موقادرة أفهمها… تحسها معنا، بس مش موجودة. كأنها تسكن بجسدها بس عقلها مكان ثاني.”
جود كانت أكثر هدوءًا، نظرت لرفيقتيها وقالت:
“مو لازم نفهمها الحين. المهم نكون معاها، حتى لو ما حكت شي. يمكن هي بنفسها ما تعرف تشرح اللي تمر فيه.”
صمت قصير مرّ بينهم، فقط صوت الملاعق وهمسات المقهى تصنع خلفية مشاعرهم.
نورة قالت بصوت مكسور:
“أنا مش زعلانة إنها ابتعدت… بس خايفة تكون تحس إنها لحالها. خايفة تصدق إن محد يهتم.”
مها شدت على يدها، وقالت بصدق:
“كلنا تغيرنا شوي، مو بس هي. بس إحنا نقدر نبدأ من جديد.”
جود فتحت حقيبتها وأخرجت ورقة مطويّة، ثم وضعتها على الطاولة.
“أنا كتبت لها رسالة، ما سلمتها. كل مرة أقول يمكن ما تبغاها، بس أحس لازم توصلها. مو عشان تتكلم، بس عشان تعرف إنا نحس فيها.”
فتحت نورة الورقة، قرأت أول سطر:
“آسيا، يمكن ما نعرف كيف نوصلك، بس قلوبنا دايم تدقّ باسمك. إحنا هنا، حتى لو العالم كلّه راح.”
عيون نورة امتلأت بالدموع، مسحتها بسرعة، وقالت:
“ما نخليها تضيع… ما دام إحنا نحبها، ما نخليها تغرق بصمتها.”
وقفت مها، وقالت بقوة خافتة:
“لو ما تقدر ترجع، إحنا نمد يدنا ونمشي لها النص الطريق.”
أخذت نورة نفسًا عميقًا، وكأنها أخيرًا تملك خطة.
كان اتفاقهم بسيط…
أن يبدأوا بإعادة بناء الجسر بينها وبينهم، حتى لو حجرًا بحجر.
أن يظلوا الحاضر اللي يذكرها إنها مش وحدها، وإن الحب ما ينهار بسهولة.
...الفصل أربعٌ وثلاثون: اعترافات بين القلوب...
مرّت ساعات طويلة منذ كتبت آسيا تلك الرسالة، وكأن الوقت توقف في بيتها، والهواء صار أثقل.
في المساء، نادت الأم على آسيا، بنبرة فيها شيء مختلف… ليست حادة، ولا غاضبة. كانت نبرة منهكة، مشتاقة.
“تعالي، أبي أكلمك شوي.”
خرجت آسيا من غرفتها ببطء، وكأن قدميها تسيران داخل خوف متجسد.
جلست على طرف الأريكة، مقابل أمها، وكلتاهما تتحاشيان النظر مباشرة في عين الأخرى.
مرّت ثوانٍ صامتة، حتى قالت الأم بصوت مخنوق:
“أنا ما أعرف متى فقدتك. متى صرتِ تبكين لحالك، وتضحكين بعيد عني.”
آسيا لم ترد. عضّت شفتها السفلية حتى شعرت بطعم الدم، لكنها بقيت ساكنة.
الأم أكملت، وعيناها تتحركان على وجه آسيا كأنها تحاول تتعرّف عليه من جديد:
“أنا طول عمري أظن إني أعرفك، بس فجأة حسّيت إنك مو بنتي… أو يمكن، أنا اللي ما كنت أمك مثل ما لازم.”
عندها، خرج صوت آسيا أخيرًا، ضعيفًا ومترددًا:
“مو بس إنتِ، حتى أنا ما عرفت نفسي. كنت أحاول أكون كل شي للكل… لبنات المدرسة، لصديقاتي، لصورتي، بس ما كنت شي لنفسي. وتعبت.”
سكتت، ثم نظرت مباشرة في عيني أمها لأول مرة منذ شهور، وقالت:
“كل مرة أطلب اهتمام، كنت أحس إني أثقل. وكل مرة أنجرح، كنت أضطر أبتسم عشان محد يضايق. بعدين… خلاص، انفجرت داخلي.”
الأم مدت يدها بحذر، ولمست يد آسيا:
“بس ليه ما تكلمتيني؟ ليه خليتيني أجهل كل اللي داخلك؟”
هزّت آسيا رأسها، الدموع بدأت تنزل بهدوء:
“كنت خايفة. كنت أقول لو عرفتي كل شي، يمكن تكرهيني، يمكن تشوفيني ضعيفة أو متغيّرة. وأنا ما كنت أتحمّل أخسرك.”
شدّت الأم على يدها أكثر، وقربت منها:
“أنا كنت خايفة أخسرك وإنتِ معاي… وما انتبهت إني كنت أخسرك بالسكوت.”
في تلك اللحظة، تحطّم شيء بينهما. لا الحزن ولا التوتر، بل الجدار الذي بنوه مع الزمن.
جلسوا قرب بعض، صامتين، والدموع تتحدث بدل الكلام.
كانت تلك الليلة بداية اعتراف حقيقي، بداية تقبّل، وبداية بناء جديد لعلاقة أنهكتها المسافات والظنون.
...الفصل خمسة وثلاثون: القرار...
الليلة كانت ساكنة بشكل مخيف.
المدينة خارج نافذة آسيا تلمع بأضوائها، لكن داخل غرفتها، كانت العتمة تحاصر كل ركن.
جلست على الأرض، قرب سريرها، والدفتر مفتوح على صفحة فارغة. يدها ترتجف وهي تمسك القلم، تشعر كأن كل كلمة ستخرج، ستغيّر ملامحها للأبد.
لكنها كتبت.
“أنا آسية، وهذا اسمي، لكني ما كنت أعرف وش يعني.
كنت أركض في كل الاتجاهات عشان أهرب من الوحدة، من رفض أمي، من صمتي، ومن صورتي المشوشة في عيون الناس.
كنت أعيش عشان ما أحس، عشان ما أتذكّر،
بس ما عاد أقدر.”
رفعت رأسها، ونظرت لانعكاس وجهها في مرآة الخزانة.
لم ترَ الفتاة نفسها، بل شخصًا أنهكه القلق، التشتت، والخذلان.
“ما كنت سيئة، لكن كنت ضايعة… ولما ضعت، آذيت غيري، وبعدتهم عني.
خسرت كثير، ويمكن أكون السبب.
بس، تعبت من الهروب. تعبت من إني أحاول أرضي الكل، وأنا آخر وحدة تهتم بنفسها.”
سكتت. قلبها يدق بقوة.
ثم كتبت الجملة التالية بعزم:
“أنا أختار أوقف. أختار أواجه. أختار أعيش بشروطي، لا بهروب، ولا بخوف.”
أغلقت الدفتر، ووقفت ببطء.
نظرت إلى خزانتها، سحبت منها صندوقًا قديمًا فيه صور، دفاتر، رسائل، وكل ما يربطها بماضيها.
نظرت لها طويلًا… ثم أغلقت الصندوق، وقررت تحتفظ فيه لا عشان تهرب منه، بل عشان تتذكر دائمًا من كانت، ومن صارت.
خرجت من غرفتها لأول مرة بإحساس جديد…
البيت يبدو أهدأ، وأمها نائمة.
وقفت لحظة عند بابها، نظرت إليها من بعيد، وابتسمت ابتسامة حزينة. ثم همست:
“أعدك، المرة الجاية ما أكون مجروحة، راح أرجع أقوى.”
دخلت غرفتها مجددًا، وأغلقت الباب، لكن هذه المرة، كان الإغلاق بداية، مش نهاية.
في أعماقها، كانت آسيا تتنفس أخيرًا…
لأول مرة، اختارت أن تكون لنفسها، لا لأي أحد.
...الفصل ستة وثلاثون: بناء الجسور...
كان الصباح دافئًا على غير عادته، ضوء الشمس يدخل من نافذة آسيا برقة، كأن الكون يحاول أن يربت على كتفها.
استيقظت بهدوء، شعور غريب يسكن قلبها… لا يشبه الراحة، ولا النشوة.
كان أقرب إلى السلام الهش… الهادئ… لكنه يلامس أطراف القلب بخفة.
جلست أمام مرآتها، تمشط شعرها ببطء. لأول مرة، لم تضع الكحل ولا أحمر الشفاه.
قررت أن تخرج بوجهها كما هو، بعينيها المرهقتين وملامحها الصادقة.
في طريقها للمدرسة، كانت خطواتها أبطأ، لكنها ثابتة.
عند البوابة، لمحت نورة ومها وجود واقفات، يضحكن بخفوت.
ترددت… القلب نبض، الحلق جف، وكلمات كثيرة تدفقت في عقلها.
هل تقترب؟
هل تسلّم؟
هل تُخيب أملهن مرة أخرى؟
لكن وسط الضجيج، التفتت نورة وحدّقت في عينيها.
الزمن توقّف بينهما، ثم ابتسمت نورة، ابتسامة مليئة بالدفء والخجل.
رفعت يدها بخفة، كأنها تقول: “تعالي… ما بعدك شي كسرنا.”
تقدمت آسيا، خطواتها ثقيلة لكن قلبها يركض.
وقفت أمامهن، صمت قصير اجتاحهن جميعًا.
ثم قالت جود بصوت منخفض:
“اشتقنا لك، وما زلنا نشتاق.”
كادت آسيا تبكي، لكنها تماسكت، وقالت بنبرة مكسورة:
“أنا آسفة… ما كنت أعرف أرجع. بس كنت أحاول… كنت أحاول أفهمني.”
اقتربت مها واحتضنتها، قالت وهي تشد عليها:
“إحنا ما نبيك تفهمينا، نبي نكون معك وأنتِ تفهمين نفسك… على راحتك.”
نورة أخرجت من شنطتها ورقة مطوية، ناولتها لآسيا وقالت:
“ذي كتبتها لك من أسبوع… بس خفت أعطيك. خفت تجرحك. بس الحين أحس وقتها.”
فتحت آسيا الورقة، وقرأت:
“آسيا، لو مرّيتِ بعاصفة، إحنا المظلة.
لو انكسر شي فيك، إحنا الغراء.
وحتى لو ما قلتي شي، إحنا نسمع نبض قلبك.”
دمعة نزلت بصمت على خدها، وابتسامة صغيرة ظهرت رغم الألم.
في تلك اللحظة، شعرت آسيا بشيء نسيته منذ زمن…
شعرت أنها تنتمي.
وأن قلبها، رغم كل الصراخ، ما زال يقدر يحب ويتحب.
رفعت رأسها وقالت، بصوت خافت لكن مليء بالصدق:
“أنا راجعة… يمكن ببطء، ويمكن بخوف… بس أبدًا، ما راح أكون وحيدة وأنا بينكم.”
ضحك الجميع، ثم ساد بينهم صمت دافئ، صمت يشبه البداية الجديدة
...الفصل سبعة وثلاثون: الحفرة...
في تلك الليلة، بعد لقاءها مع صديقاتها، عادت آسيا إلى المنزل بقلب مثقل بالحيرة.
كانت تنتظر أن تشعر بالفرح، أن يحتضنها الضوء بعد كل ذلك الظلام.
لكن الحقيقة أن الداخل لا يُشفى بلقاءٍ واحد…
الجراح القديمة تنزف بصمت، حتى في لحظات الفرح.
جلست على سريرها، وحدّقت في السقف.
كل الكلمات التي قالتها اليوم تدور في رأسها، لكنها لا تلامس القاع.
همست:
“ليش قلبي ما ارتاح؟ ليه أحس إنّي كذّابة؟”
في داخله، كان هناك صوت يهمس باستمرار:
“أنتِ ما تستحقينهم. ما في أحد يرجع بعد ما يخذل ويرجع كأنه شي ما صار.”
“تذكّرين وش قلتي لأمك؟ وش سوّيتي في نورة؟ يوم قلتي لها ما تفهم شي؟”
غطّت وجهها بيديها، صوت تنفّسها يتسارع.
كانت خائفة… خائفة من أن السعادة مجرد خدعة مؤقتة، وأنها ستنهار في أي لحظة.
قامت فجأة، سحبت دفترها، وكتبت بانفعال:
“كل شي رجع، بس أنا ما رجعت.”
“وجهي يبتسم، لكن عقلي يتصارع،
كل صوت حلو أسمعه، يرجّعني لصوت بكائي أول مرة انكسرت.”
أغلقت الدفتر بقوة، وصرخت بصوت منخفض وهي تضرب السرير:
“ليه ما يختفي هالشعور؟ ليه ما يروح؟ ليه حتى بعد ما حاولت… أحسني فاشلة؟”
طرق خفيف على الباب قطع عزلتها، كان صوت أمها:
“آسيا؟ كل شي تمام؟”
سكتت. لم ترد.
ثم بعد لحظة قالت بهدوء:
“إيه… بس شوي تعبانة.”
غادرت الأم، لكن تلك اللحظة الصغيرة جعلت آسيا تشعر بشيء:
أنها لا تزال قادرة على الكذب… حتى على أقرب الناس.
كانت تعرف أن هناك جزءًا منها لا يزال في الحفرة.
وأن الخروج منها يحتاج أكثر من ابتسامة، وأكثر من كلمة.
في تلك الليلة، نامت وهي تحتضن الدفتر…
كأنها تخاف أن تستيقظ وتفقد كل شيء من جديد.
لكن رغم كل ذلك، كان هناك شيء صغير ينمو بداخلها.
بذرة مقاومة…
ربما لن تثمر غدًا، لكنها زرعت.
...الفصل ثمانية وثلاثون: قلب يتنفس...
كان صباح السبت مختلفًا.
الضوء يتسلّل عبر الستارة بنعومة، والهدوء يلف الغرفة كأنّه يحتضن آسيا.
استيقظت بهدوء، لكن قلبها ينبض بقوة… لا من الخوف، بل من شيء يشبه الشوق.
نهضت وسارت إلى خزانتها، أخرجت فستانًا بسيطًا، وردي اللون، كانت قد خزنته منذ زمن…
يوم اشترته، كانت تتمنى تلبسه في مناسبة سعيدة.
واليوم، لم يكن هناك مناسبة… فقط شعور خفيّ أن الوقت قد حان لتصنع السعادة بنفسها.
نزَلت إلى الصالة، رأت أمها في المطبخ، تجهّز الفطور بصمت.
لحظة تلاقت أعينهما، ترددت آسيا…
لكنها قالت، بصوت منخفض:
“يمه… تبيني أساعدك؟”
رفعت الأم رأسها، عيناها لمعتا بدهشة صغيرة، ثم ابتسمت.
“تعالي، قطّعي الطماط.”
وقفت آسيا بجانبها، تقطّع الطماطم، ويدها ترتعش قليلًا.
لكنها شعرت بالدفء، ليس من المطبخ… بل من قلب أمها الذي بدأ يفتح أبوابه من جديد.
فجأة، قطعت الأم الصمت:
“كنت خايفة عليكِ أكثر من ما كنتِ تتخيلين…
كنت أقعد بالليل، أتساءل إذا غلطت، إذا ضيعتك، إذا بكيتِ وما حسّيت فيك.”
توقفت آسيا عن التقطيع، وضعت السكين جانبًا، والتفتت نحوها، وقالت:
“وأنا كنت أبكي، بس كنت أخاف أكلمك…
أخاف إنك تشوفيني ضعيفة، أو مكسورة…
بس الحقيقة؟
أنا كنت محتاجة إنك تمسكين يدي حتى لو ما قلت شي.”
اقتربت الأم، واحتضنتها.
احتضان ناعم، دافئ، مبلّل بدموع صامتة.
قالت الأم وهي تشدّ على ابنتها:
“ما راح أكون غايبة عنك مره ثانية، حتى لو ما تكلمتي.
أنا موجودة… وقلبي لك.”
بكت آسيا، بكت بحرقة هذه المرة…
ليس من الألم، بل من راحة الانتظار الطويل الذي انتهى.
ذلك الحضن الصغير، كسر كل طبقات الصمت.
وبينما كانتا تحتضنان بعض، رنّ هاتف آسيا.
نظرت، كانت رسالة من جود:
اليوم بعد المدرسة، جالسين نخطط لرحلة صغيرة…
تيجينا؟ ولا تقولين “يمكن”، نبغاك معنا، مو كضيفة… كأخت.
ضحكت آسيا من بين دموعها.
رفعت عينيها لأمها وقالت:
“يمه… ممكن أروح معهم؟ أبي أبدأ أعيش.”
الأم مسحت دمعتها، وابتسمت:
“روحي… وعيشي، يا بنتي. بس لا تخلين قلبك ينكسر لحاله مره ثانية.”
آسيا خرجت من الباب، والشمس تلامس وجهها بلطف.
لأول مرة منذ شهور… كانت خطواتها خفيفة، وقلبها يتنفس.
...الفصل تسعة وثلاثون: الوداع الأخير...
الطريق نحو المكان الذي اتفقت عليه جود ونورة ومها كان هادئًا.
سماء غائمة، وشمس خجولة تتسلل من بين السحب، كأن الكون كله يعكس ما في داخل آسيا.
عندما وصلت، وجدت صديقاتها عند الحديقة القديمة، حيث كانت تجتمع معهم في بدايات صداقتهم.
نفس الطاولة الخشبية، نفس الأشجار، نفس الهواء…
لكن آسيا لم تكن كما كانت.
جلست بصمت، تنظر في وجوههن، وكل واحدة منهن كانت تحدق بها بعينين تمتلئان بمزيج من الحنين، والعتب، والحب.
قالت نورة بصوت متهدج:
“كنا نجتمع هنا دايم… نضحك، نخطط، نحلم.
بس فجأة… بقيت الطاولة، واختفيتي أنتِ.”
ردّت آسيا بعد لحظة صمت:
“ما اختفيت… أنا ذبت، من كثر ما كنت أحاول أكون اللي تبونه، واللي تبغاه أمي، واللي تتخيله نظرات الناس.
كنت أحاول أصرخ… بس ما أحد يسمع.”
قالت مها بهدوء:
“وإحنا؟
كنا جنبك… بس ما كنا نعرف إنك تصرخ.”
آسيا نظرت إليهن، ودموعها تتجمّع رغم مقاومتها:
“أنا سامحتكم… مو لأنكم غلطتوا، بس لأنكم ما قدرتوا تشوفون حزني.
وأتمنى تسامحوني، على كل مرة رديت فيها ببرود، وكل مرة نسيت فيها قيمتكم.”
اقتربت جود، وأمسكت يد آسيا، وقالت بصوت منخفض:
“إحنا ما فقدناك، آسيا.
كنا ننتظرك… كل يوم، كل لحظة.”
وهنا، وكأن تلك الكلمات فتحت السد…
انفجرت آسيا بالبكاء.
بكت بحنجرة محروقة، بصوت مرتجف، كأن كل الألم الذي دفنته خرج دفعة واحدة.
بكت وهي تقول:
“كنت أحس إني عبء… إني لو اختفيت، ما حد راح يلاحظ.
بس قلبي كان يوجعني كل ما أشوفكم تضحكون بدوني.”
جود، نورة، ومها، احتضنّها في صمت.
احتضان واحد، قوي، طويل، صادق…
في تلك اللحظة، شعرت آسيا أن الزمن توقف، وأن كل شيء بدأ يُغسل، كأن قلوبهم تُطهَّر من الغياب، من الكسر، من الذكريات الموجعة.
بعد دقائق، قالت نورة وهي تمسح دموع آسيا:
“هذا اليوم لازم نحفظه… لأنه مو بس يوم رجعتِ، هو اليوم اللي سامحتِ فيه نفسك.”
آسيا ابتسمت ابتسامة مبللة بالدموع، ثم قالت:
“اليوم… أدفن فيه آسيا اللي كانت تخاف.
وأستقبل آسيا اللي تقدر تحب بدون ما تموت من أجل القبول.”
في السماء، كانت الغيوم تتباعد.
وأشعة الشمس خرجت من خلفها…
كأنها تبارك هذا اليوم.
كأنها تقول لها:
“أنتِ تستحقين النور.”
الفصل اربعون: الضوء
مرّت أسابيع منذ ذلك اللقاء في الحديقة…
أسابيع لم تكن كلها سهلة، لكنها كانت صادقة.
آسيا لم تعد تحاول أن تكون “نسخة مثالية”، بل “هي”، كما هي.
هشة أحيانًا، قوية أحيانًا، ساكنة، عنيدة، باكية، ضاحكة…
لكن دومًا: حية.
علاقتها مع أمها بدأت تتنفس من جديد، بخطى بطيئة، لكنها ثابتة.
لم يعد بينهما ذلك الجدار الصامت، بل حوارٌ خفيف، شبه يومي، مثل نسيم في صيف حارق.
أما صديقاتها؟
فقد عدن يشكلن وطنًا، لا جدارًا جديدًا.
ومع كل ذلك، كانت آسيا تعرف أن التغيير لا يُقاس باللحظات الجميلة فقط، بل بما تبقى منها حين تغيب.
لهذا كانت تكتب كل ليلة في دفترها…
دفترٌ امتلأ بالحزن، ثم بالأمل، ثم أخيرًا… بالصدق.
وفي يوم هادئ، جلست وحدها على سطح بيتها، تنظر إلى الغروب.
السماء كانت تُصبغ بلون برتقالي دافئ، والنسيم يداعب خصلات شعرها القصير.
تأملت المشهد طويلًا، ثم أغلقت عينيها، وقالت في سرّها:
“يا رب… أنا سامحت، وتغيّرت، وتعلمت أحبني.
علّمني الحين كيف أعيش، بدون خوف… بدون قناع.”
فتحت دفترها، وكتبت آخر صفحة:
*“إلى آسيا اللي كنتِ… شكرًا إنكِ انكسرتِ، لأني ما كنت أعرف إني أقدر أكون أقوى.
إلى آسيا اللي صارت… سامحي كل تأخّر، وابدئي.
اليوم… ما عاد في كابوس.
اليوم، في ضوء.”*
ابتسمت، وأغلقت الدفتر.
ثم نهضت، وسارت نحو باب السطح بخطوات هادئة.
كل شيء كان صامتًا… إلا قلبها، الذي كان ينبض للمرة الأولى،
كأنه جديد.
نزلت للأسفل، وفتحت الباب.
جود، نورة، مها كانوا هناك.
ضحكت نورة:
“أخيرًا! تأخرتِ كعادتك!”
قالت آسيا بابتسامة واسعة:
“آخر مرة أتأخر… وعد.”
مشوا معًا، وضحكاتهن تمتد في الهواء، كأنها أنغام من عالم آخر.
وفي نهاية الشارع، تحت شجرة قديمة، وقفت آسيا للحظة، ونظرت للخلف…
نظرة وداع أخير، لا لشخص أو لمكان، بل للنسخة التي ماتت داخلها يومًا، وعاشت من جديد.
ثم أكملت الطريق.
ولم تنظر للخلف مرة أخرى.
⸻
... • الفصل واحد واربعون: بعد الضوء...
أسيا لم تعد تلك الفتاة التي كانت تخاف من نفسها، لم تعد تهرب من صراعاتها الداخلية، ولا تغلق أبواب قلبها على وجع الماضي.
في الأسابيع التي تلت اللقاء الأخير مع أمها، وجدت أسيا نفسها تتنفس بحرية مختلفة، هدوءٌ لم تعرفه من قبل. هدوء لا يشبه انكسارًا، ولا استسلامًا، بل هدوء النضج الذي يأتي بعد العواصف.
كانت كل صباح تستيقظ وهي تشعر بأن ثقلًا قد خف عن كتفيها، وكأنها ولدت من جديد، تحمل بداخلها نسخة أكثر صدقًا من نفسها، نسخة لا تخاف أن تظهر ضعفاتها، ولا تحاول إخفاء ندوبها.
في تلك الليالي الطويلة، حين تسكن الغرفة ويسود السكون، كانت تفتح دفترها القديم، وتبدأ بكتابة ما يجول في صدرها. صفحات تلو صفحات، تروي فيها قصة الحزن والخذلان، لكنها لم تعد تخجل من البوح بها. بل كانت تدونها كأنها شموع تضيء طريقها للخروج من الظلام.
كانت تكتب عن المرات التي شعرت فيها بالوحدة، والمرات التي خذلت فيها من أحبّت، لكنها أيضًا كانت تكتب عن اللحظات الصغيرة التي منحتها الأمل، مثل ضحكة صديقة، كلمة طيبة من أمها، أو شعور دافئ ينبعث من داخلها.
أسيا تعلّمت أن الحب ليس دائمًا مثاليًا، وأن العلاقات التي تبنيها تحتاج إلى صبر، وتفهّم، وأحيانًا إلى التسامح، ليس فقط مع الآخرين، بل مع نفسها أولًا.
كانت تشعر أحيانًا بتيه، لكنها لم تعد تهرب.
بل واجهت ذلك التيه بعين مفتوحة، تصارحه بكل ما فيه من خوف وألم، وتحاول أن تجد له معنى.
في لحظات التأمل، خاصة تحت ضوء الغروب الذي أصبح رفيقها الدائم، كانت تدرك أن الماضي لم يكن عائقًا، بل دربًا مرًّا قطعته، وأن ما تبقى هو نور ينبعث منها، يضيء لها دربها في المستقبل.
كل خطوة تخطوها كانت بمثابة انتصار صغير، وكل دمعة نزلت كانت دليلًا على أنها بدأت تعيش بصدق أكبر.
لم تعد تبحث عن الكمال، بل عن السلام، عن الذات التي لا تحتاج لأن تكون نسخة مثالية كي تُحب أو تُحب.
وفي كل صباح، حين تفتح عينيها على عالم جديد، كانت تهمس لنفسها: “أنا هنا، وأنا حقيقية، بكل ما فيّ من عيوب وجمال.”
كانت تعرف أن النهايات ليست سوى بدايات أخرى، وأن ضوءها الداخلي لن يخبو مهما طال الظلام
... • الفصل الثاني و الأربعين: في مرآة الغياب...
غياب آسيا لم يكن مجرد فراغ في المكان، بل كان غصة عميقة في القلب لكل واحدة من صديقاتها.
جنى، نورة، ومها كنَّ يشعرن بأن جزءًا من وطنهن قد اختفى، وكأن الهواء صار أثقل، والضحكات أقل صدقًا.
كل يوم كن يتذكرن اللحظات التي كانت آسيا فيها الحاضنة، اليد التي تمسكها عند الضعف، الصوت الذي يخفف من وطأة الألم.
لكن الآن، كان الصمت يتسلل بين الكلمات، وكان البعد يُثير موجة من الحيرة والألم.
جنى كانت تتساءل دائمًا: هل كانت كلماتي كافية؟ هل فهمتُ ما كان يدور بداخلها؟
نورة كانت تخاف من أن تفقد صديقتها نهائيًا، وكانت تحاول جاهدة أن تجد طريقة تعيد بها آسيا إليها.
أما مها، فقد كانت تكتب رسائل لم ترسلها، تملأها بالكلمات التي لم تجد لها مكانًا.
لكن مع كل هذا، كان هناك أمل خافت، ينبعث من الذكريات الجميلة التي جمعتهن، ومن إيمانهن بأن آسيا ستجد طريقها مرة أخرى.
في إحدى الليالي، جلست جنى وحدها تتأمل صورة قديمة تجمعهن، وابتسمت بحزن.
“ربما الغياب هو فرصة لنموّ جديد… وربما، كل ما نحتاجه هو أن نكون هنا حين تعود.”
كانت تعرف أن الصداقة ليست مجرد تواجد دائم، بل حضور بالقلب مهما بعدت المسافات
... ...
...• الفصل الثالث و الأربعين...
... ...
كانت أسيا تقف أمام نافذتها، تنظر إلى السماء التي تلبدت بالغيوم ثم تفتحت لتكشف عن شمس مشرقة، وكأنها حياة جديدة تُولد من رحم الماضي.
كل ما مرّت به، كل الألم، كل الخيبات، لم يكن إلا فصلًا من كتاب طويل يحمل بين صفحاته دروسًا عن القوة، التسامح، والحب.
لم تعد تخاف من مواجهة نفسها، بل احتضنتها بكل ما فيها من ضعف وقوة، عجز وانتصار.
حوارها مع أمها صار أكثر دفئًا، أقل صمتًا، فقد أدركتا معًا أن الحب الحقيقي لا يحتاج إلى كلمات كثيرة، بل إلى أفعال صادقة وصبر.
وصديقاتها، جنى ونورة ومها، كنَّ معها في كل خطوة، كالجذور التي تدعم الشجرة فتسمح لها أن تنمو في كل الظروف.
أسيا التي كانت تخشى الوحدة، اليوم لم تعد تخاف، لأنها تعلم أن السلام يبدأ من الداخل.
كان دفترها القديم، الذي امتلأ بالألم والدموع، الآن يحمل كلمات الأمل والفرح، صفحات تُنير طريقها.
وفي تلك اللحظة، أدركت أن النهاية التي تخاف منها، ليست سوى بداية حياة جديدة.
أغمضت عينيها، وأرسلت أمنية صادقة إلى السماء:
“دعيني أعيش بنور، بحرية، وبحب… دون خوف.”
وبابتسامة ناعمة، فتحت نافذتها، تنفست هواءً جديدًا، وكأنها ترحب بالعالم من جديد،
بأن تكون آسيا ليست فقط فتاة ناضجة، بل روحًا حرة، ضوءًا لا يخبو مهما اشتدت العواصف
النهايه.
Comments