دموع لا يراها احد

حلّت العطلة وانتهت أيام الراحة سريعًا، وعادت أختي إلى مقاعد الدراسة. كنت أظنّ أنّ الأمر سيمرّ ككلّ مرة، لكنّني حين عدت إلى المنزل في أول يوم بعد ذهابها، شعرت بشيء ثقيل يخنق أنفاسي. وجدت البيت فارغًا، لا صوت يملأ أركانه، لا ضحك، لا مزاح، لا حركة. ساد السكون في المكان، وكأن الحياة خرجت منه لحظة خروجها. أدركت حينها كم كانت طاقتها تنير يومي، وكم كانت كلماتها، ضحكاتها، وحتى مشاكساتها، تُشكّل جزءًا من عالمي الصغير.

صحيح أن غيابها لم يكن طويلًا، لذلك لم أبكِ كما كنت أفعل في كل مرة تفارقني فيها، لكن هذه المرّة كان الغياب مختلفًا. لأنها كانت قريبة منّا طوال العطلة، كنت أراها كل يوم، نعيش التفاصيل معًا، فصار الافتقاد أشدّ، والفقدان أعمق. اكتشفت أنني لا أستطيع التكيّف مع غيابها، ولا التأقلم مع فراغ تركته في كل زاوية من زوايا البيت. أحاول إقناع نفسي بأن الأمر عادي، وأنني سأتعود، ولكن في داخلي صوت يصرخ: "لا، لن أعتاد."

وما زاد وجعي وأثقل عليّ أكثر، هو مرض أمي. لم أعد أملك حتى حرية البكاء أمامها. صرت أكتم كل دمعة، أخفي كل وجع، لأنني لا أريد أن أثقل عليها بهمّي وهي تتألم جسدًا وروحًا. أبكي في صمت، في الخفاء، حين أكون وحدي، دون أن يشعر بي أحد. صارت دموعي رفيقة سرّي، لا يراها أحد، ولا يسمع أنينها أحد. كلما حزنت، أبكي بصمت. كلما اشتقت، أبكي وحدي. لم يعد أحد يسأل: "ما بكِ؟"، وكأنهم اعتادوا أنني القوية، أو ربما لم ينتبهوا أصلًا.

يقولون لي أحيانًا: "أتبكين؟"، فأجيبهم بصوت خافت: "نعم، أبكي." ليس ضعفًا، وليس عجزًا، بل لأنني وجدت في البكاء راحتي، وملاذي الوحيد. أبكي لأن دموعي تُفرغ قلبي من ثقل لا يُحتمل. هي طريقتي الوحيدة لأعبّر عمّا يختنق في داخلي، سواء كان حزنًا أو حتى فرحًا. في كل دمعة أمل صغير بأن هناك من يسمع، حتى وإن لم يكن بشرًا.

الوداع، ولو مؤقّتًا، موجع. والاعتياد على الفقد أمر يفوق طاقتي. لست بخير، ولا أدّعي القوة. كل ما أريده هو أن يشعر بي أحد، أن يربّت أحد على قلبي، أن يقول لي: "أنا معك، حتى في صمتك."

ورغم كلّ ما يثقل صدري، ما زلت أحاول أن أبتسم، ولو بابتسامة باهتة. أحاول أن أُقنع نفسي أن الغيابات لا تدوم، وأن الفصول تتغيّر مهما طال الشتاء. أختي ستعود من جديد، وسيعود البيت ينبض بالحياة كما كان. وأمي، مهما اشتدّ عليها المرض، يبقى الأمل في شفائها نورًا لا ينطفئ في قلبي. تعلّمت أن لا أحد يشعر تمامًا بما نمرّ به، لكن هذا لا يعني أن ما نشعر به ليس حقيقيًا أو لا يستحق أن يُرى.

في كلّ ليلة، أضع رأسي على الوسادة وأحدّث قلبي، أقول له: "تماسك، فما زال الطريق طويلًا، وما زالت هناك لحظات جميلة تنتظرنا." لعلّ غدًا يحمل في طيّاته دفئًا يخفف برودة اليوم، ولعلّ الأيام تعوّضنا بصبرنا، وتجبر كسرنا بخيرٍ من حيث لا نحتسب.

أدرك الآن أن الحياة مليئة بالغياب، بالحزن، بالدموع التي لا تجد كتفًا تستند إليه. لكنها في المقابل، تمنحنا لحظات من النور، من الفرح، من الحب الصادق الذي وإن غاب لحظة، يعود ليُثبت وجوده. دموعي ليست علامة على الضعف، بل هي دليلي على أنني أعيش، أنني أشعر، أن قلبي ما زال نابضًا، رغم كل شيء.

أكتب هذه الكلمات لأتذكّر نفسي عندما أنسى، ولأقول لكل من يشعر بما أشعر به: لست وحدك. نحن نتألم بصمت، نعم، لكننا أيضًا نحبّ بصمت، نحلم، وننتظر، ونصبر... بصمت.

ولعلّ هذا الصمت، في يوم ما، يصبح صوتًا يُفهم، ودمعة تُمسح، وقلبًا يُحتضن.

--

مختارات

تنزيل على الفور

novel.download.tips
تنزيل على الفور

novel.bonus

novel.bonus.content

novel.bonus.receive
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon