كان المساء هادئًا حدّ الغرابة. السماء لا تمطر، لكن الهواء مشبعٌ بشيء يشبه الحنين. وحده ليو كان جالسًا على سريره، يحمل الهاتف بين يديه، وكأنه يحمل قلبه.
لينا كانت تكتب له.
"تخيل أنني الآن جالسة قربك. تخيلني فقط."
ابتسم.
أجابها:
"أتخيلكِ كثيرًا… أحيانًا أراكِ تمشين بين أفكاري حافية، تتركين خطواتكِ على كل زاوية في قلبي."
أرسلت له تسجيلًا صوتيًا، بصوت خافت، ناعم، حنون:
"أغلق عينيك… وتخيلني أمسك يدك الآن."
فعل كما قالت.
لأول مرة لم يخجل من مشاعره، لم يُحاول كتمان اندفاعه.
قال:
"لو كنتِ هنا فعلًا، لما تركت يدكِ أبدًا."
لينا كانت تبتسم على الطرف الآخر من المكالمة، تُخبّئ وجهها بكفها وكأن قلبها لا يحتمل هذا الوضوح.
قالت:
"أتعلم يا ليو… أنا لا أحبك فقط لأنك بدأت تبتسم، بل لأنك تحاول أن تُحب الحياة من أجلي."
سكت. كان في قلبه ضجيجٌ لا يُروى، لكنه كتب بهدوء:
"أنا… لا أعرف ما الحب تمامًا. لكن حين أكتب لك، أشعر أنني أتنفس. حين أسمع صوتك، أشعر أن الليل ليس مظلمًا جدًا."
ردّت بعد ثوانٍ:
"إذًا دعنا لا نسمّه حبًا… دعنا نسمّيه: نحن."
...
في اليوم التالي، وفي توقيت لم يكن معتادًا، أرسل لها صورة. لم تكن صورة وجهه، بل كانت صورة ليده المُضمّدة.
كتب أسفلها:
"شفَيتُ بسرعة… ربما لأنكِ كنتِ دوائي."
ردّت عليه بصورة من فنجان قهوتها، وعيناها تنعكسان على طرف الكوب.
"وأنا شربت هذا الصباح وحدي، لكنني كنت أتخيلك أمامي."
هو لم يكن معتادًا على هذا الكم من الحنان. لكنّ دفء لينا كان يتسلل إليه كلّ ليلة، ببطء، كالمطر حين يهبط على أرض عطشى.
ذات مساء، طلبت منه طلبًا غريبًا:
"أغلق المصباح… وافتح النافذة… أريد أن أسمع صوت الليل في غرفتك."
فعل.
ولأول مرة، لم يكن وحده في العتمة. كان معها.
قالت:
"هل تسمعه؟ هذا الليل… هو الشاهد على حبّنا."
ضحك، وقال:
"وأنتِ، يا لينا… صرتِ نافذتي للحياة."
...
ثم، بصوت خجول لا يشبهها:
"أخاف أن أعتادك… وأخسرك."
ردّ بلطف نادر:
"الاعتياد ليس خطأ… الخوف من الحب هو الخطأ."
...
في تلك الليلة، استمر حديثهما حتى غلبهما النعاس. لم يغلقا المكالمة، بل نام كلّ منهما على صوت الآخر.
وكأن الحبّ…
كأن الحبّ بدأ بصوت.
---
استيقظ ليو على صوت تنبيهٍ خافت. فتح عينيه ببطء، ليجد أن المكالمة ما زالت متصلة. تنفس بعمق… لقد نام وصوت لينا يملأ الغرفة، وهو أمر لم يفعله في حياته مع أحد.
أمسك الهاتف، نظر إلى الوقت، كانت الساعة السابعة صباحًا.
بهمس ناعم قال:
"صباح الخير… أيتها الجميلة."
لكن لينا كانت نائمة.
ظلّ يستمع إلى أنفاسها المنتظمة… وكأنها موسيقى هادئة تُعيد ترتيب فوضاه.
بعد دقائق، سمع صوتها تتثاءب:
"صباحك ناعم مثل صوتك، يا ليو."
ضحك. لأول مرة يشعر أن هذا الصباح يستحق أن يبدأ.
قال لها:
"هل تعلمين ما فكرت به وأنا أستمع لأنفاسك طوال الليل؟"
قالت، بخجل:
"ماذا؟"
قال:
"أن أحتفظ بكِ… لا كرسالة، لا كمكالمة، بل كحياة كاملة."
توقف الزمن للحظة.
هي لم ترد فورًا… كانت تبتسم وتعضّ شفتها من الخجل، قلبها يخفق كأنّه يسمع لأول مرة جملة بهذا الصدق.
ثم قالت:
"إذن… دعني أكون بداية حياتك، لا مجرّد فصل فيها."
...
في ذلك اليوم، كانت الأمور مختلفة. ليو أصبح أكثر هدوءًا، وكأن لينا حاكت على روحه غطاءً دافئًا.
أخبرها:
"ذهبتُ للمشي قليلًا اليوم… رأيت طفلة تضحك، فتذكرتك."
سألته:
"أأنا طفلة بنظرك؟"
ردّ:
"بل الطفولة تسرق منكِ ضوءك كل صباح."
...
في الليل، أرسل لها صورة للسماء من نافذته. كان القمر مكتملًا، جميلًا كأنّه يبتسم لهما معًا.
كتب:
"أخبرت القمر عنكِ، فابتسم."
فأرسلت له صورة يدها على صدرها، وكتبت:
"وأنا، أخبرت قلبي عنك… فخفق."
...
في نهاية المكالمة، طلبت منه طلبًا جديدًا:
"أريد أن تُغني لي… لا أغنية، بل اسمُي."
تفاجأ.
قال بخجل:
"أنا لا أغني، صوتي سيء."
أصرت:
"جرب… بصوتك السيء سأحبّ اسمي أكثر."
تنفس بعمق… ثم همس:
"لينا..."
سكَت.
صوته كان مترددًا، لكن فيه دفء يُذيب الجليد.
قالت بعدها:
"كم تمنيت أن أكون أقرب، لأضع رأسي على كتفك بعد هذا الصوت."
ردّ:
"وكم تمنيتُ أن أُخفيكِ داخلي… حتى لا يراكِ أحد."
...
كانا لا يتحدثان كثيرًا عن الحب، لكن كلّ شيء بينهما كان حبًا في صورته الأجمل، الحب الذي لا يحتاج إعلانًا، فقط شعورًا صادقًا كلّما قال أحدهما: "أنا هنا."
Comments