كانت الليلة ثقيلة. الهواء لا يُستنشَق، والضوء باهتٌ حتى في عتمته.
جلس ليو في زاوية غرفته، بين أربعة جدران، كلُّ واحدٍ منها شاهدٌ على صراعاته، ومرآةٌ لأجزائه المتكسرة.
لم يكتب شيئًا هذا المساء. لم يُجب على رسائل لينا، رغم أنها أرسلت له:
"أشعر بك اليوم... هل أنت بخير؟"
لكنه لم يقرأها.
كان رأسه ممتلئًا، وقلبه يضجُّ بأصوات من الماضي. ذلك الماضي اللعين الذي يلاحقه كظله، يصفعه كلّما حاول الابتسام. الذكريات تنهش أعصابه ككلاب جائعة، وكل ما حوله لا ينقذه من نفسه.
الصرخة التي كتمها طويلًا، خرجت فجأة. صرخة مكسورة لا تشبه صوت رجل، بل صوت شخص سقط من داخله إلى داخله، ولم يجده أحد.
نهض فجأة، بعينين مشتعلتين، قلبه يضرب صدره كطبلٍ في جنازة.
صرخ:
"اصمتوااااا!!"
لكن لا أحد كان يتكلّم. كان يصرخ في وجه الفراغ، في وجه ماضيه، في وجه كلماته العالقة في حلقه.
اقترب من الجدار وضربه بقبضته، مرة… مرتين… ثلاث.
الدم بدأ يخرج من كفّه، لكنه لم يشعر بشيء.
الألم الجسدي، على قسوته، كان أهون من الألم الذي يعتصر داخله.
سقط على الأرض، ضامًّا ركبتيه كطفل، وعيناه تبحثان عن شفقة من السماء.
ثم، بعد لحظة صمت قاتل… أضاء الهاتف.
رسالة من لينا:
"ليو... لا تكن عدو نفسك."
تجمّد.
قرأ الرسالة، ويده المرتجفة تلطّخ الشاشة بدمه.
فكتب لها، للمرة الأولى بصدق عارٍ:
"أنا لست بخير. أنا رجل تائه يضرب الجدران كي لا يضرب قلبه. أنا بقايا غضب لا يعرف أين يفرغ نفسه، أنا..."
توقّف. لم يُكمل. ثم أرسل:
"سامحيني. أنتِ لا تستحقين البقاء في دائرة جنوني."
لكنها ردّت بردٍ لم يتوقّعه:
"وأنا باقية… حتى وإن كنتَ دائرة من الجنون، لأن قلبي يعرفك دون أن يخافك."
...
تسلّلت دمعة من عينه. لم تكن لينا تُنقذه، كانت تُمسكه فقط كي لا يسقط أكثر.
كتب لها:
"هل ما زلتِ تظنين أنني أستحق فرصة؟"
فأجابته:
"لا أظن. أنا متأكدة."
...
وأغمض عينيه تلك الليلة. لا لأن الألم غادر، بل لأن أحدًا… ولأول مرة، كان على الجانب الآخر من هذا الظل.
---
ان الليل قد بدأ ينهزم أمام خيوط الفجر، لكن غرفة ليو ما زالت تغلي بالظلام.
جلس على الأرض، يحدّق في يده الملطخة بالدم. كانت تنبض وكأنها تذكره أن الألم ما زال حيًّا، لكنه لم يكن يبالي.
رفع عينيه ببطء نحو الجدار، حيث تركت قبضته آثارًا دامية… وكأنه ترك توقيعًا لجروحه الداخلية، ختمًا أحمر على صمته الطويل.
رنّ الهاتف…
كان اسمها على الشاشة.
لينا تتصل.
نظر إليه لثوانٍ، تردد… تردّد طويل كأن الزمن قد تجمّد.
ثم ضغط زر القبول، ووضع الهاتف على أذنه بصمت.
لم تتكلم في البداية. كانت تسمع فقط أنفاسه الثقيلة، وكأنها تمر من خلاله لا منه.
ثم بصوتها الهادئ، العميق كالدعاء:
"أنا هنا… لا تقل شيئًا. فقط اسمعني."
أغمض عينيه. لأول مرة يشعر أن أحدًا يُخاطبه دون أن ينتظر ردًّا، دون أن يُحاكمه، دون أن يسأله: لماذا أنت هكذا؟
تابعت:
"أتعلم، كل جدار ضربته الليلة كان يصرخ لك: كفى جلدًا لذاتك.
وأنا... كنت أتمنى لو أنني جدارك، لأتحمّل عنك هذه الضربات."
شهق خفية. لم يكن يعرف أن الصوت وحده قد يُربّت على القلب.
قال بصوت مبحوح:
"أنا مكسور يا لينا... مكسور بطريقة لا تُصلحها الكلمات."
أجابته فورًا، بلا تفكير:
"لكنّي لا أحمل كلمات، أنا أحمل قلبًا."
سكت.
ثم قال:
"لو أنكِ كنتِ هنا… فقط لحظة، لحظة واحدة، ربما كنتُ بكيتُ، ربما كنتُ تركت الجدار، وضممتك."
ردّت بصوت خافت لكنه واضح:
"أنا معك يا ليو… لا تحتاج أن تراني، أنا ظل في صوتك، دفء في أنفاسك، صدى في حزنك."
وبعد لحظة صمت، تابع:
"أخاف أن أؤذيكِ بي."
قالت بثقة لم يعرف لها مثيل:
"وأنا أخاف أن تقتل نفسك وحدك."
...
ظلّ الصمت بينهما طويلاً… لكنّه لم يكن صمتًا عاديًا، كان صمتًا مقدّسًا. كأن الكون كله توقف ليمنحهما لحظة نجاة.
وقبل أن تُغلق المكالمة، همست لينا:
"عدني… أن تضرب قلبي حين تغضب، لا الحائط."
ضحك رغم الدموع.
وقال:
"لكِ عليّ وعد… أن أبدأ بترميم نفسي، فقط لأنك هنا."
...
وفي تلك الليلة، لم يكن ليو مختلفًا، بل كان هشًّا فقط. ولينا… لم تكن منقذته، بل كانت فقط اليد التي أمسكت قلبه حين كاد يسقط على الأرض ويتحطّم.
-
Comments