ظل المكالمة
لم يكن في حسبانها أن ضوء الهاتف سيكون بداية لرحلة لا تُشبه ما قرأته يوماً في الروايات. هي التي طالما آمنت أن الحب يحتاج عيونًا تلتقي، وصوتًا يهتز في الأذن، وخفقة قلبٍ تُسمع في الصمت. لكنها لم تكن تعلم أن خلف كل شاشة، ظلٌّ لمكالمة واحدة، قد يوقظ داخلنا كل ما حسبناه ميتًا.
لينا… كانت كمن يُشع نورًا بلا جهد. فتاة بعينين تُضحكان من يراها، وحديثها كأنّ الحياة تنسكب منه رشفةً رشفة. تؤمن بأن في كل يوم فرصة جديدة، وأن الحزن لا يليق على من يرتدي الإيمان. تعشق الضحك حتى البكاء، وتبكي حتى تضحك من نفسها. تُحادث الناس بعفويّة تجعلهم يظنون أنهم يعرفونها منذ قرون. صديقتها الوردة، وعدوّتها الوحيدة هي الوحدة… أو لعلها كانت.
أما هو… ليو، فكان وجهًا آخر للعالم. وجهًا بلون الرماد. لا يؤمن بشيء سوى العزلة، ولا يتحدث إلا حين يضطر. في صوته نبرة وجع لا يعرف مصدرها أحد، وفي عينيه حكاية طويلة بلا بداية ولا نهاية. يكره الصباح لأنه يجبره على النهوض، ويكره الليل لأنه يذكّره كم هو وحيد. لا صديق له، لا أحلام، لا قصص يرويها سوى صمته، ولا أحد يقترب منه سوى ظلال أفكاره.
فكيف جمعتهما مكالمة واحدة؟
كانت لينا في إحدى المجموعات الصوتية على تطبيق لم تكن تدخل إليه كثيرًا، مجرد فضول، أو لعله ملل. سمعت صوته هناك. لم يقل شيئًا مميزًا، مجرد جملة عابرة: "الحياة مكان ثقيل." لكنها شعرت بها وكأنها خيط خافت لحنين لا تعرفه. لفتها صوته، ليس لجماله، بل لصمته المختبئ بين كلماته.
أرسلت له رسالة بسيطة:
"لماذا قلت إنها ثقيلة؟"
تردد في الرد كثيرًا. كان يكره الأسئلة، يكره الفضول، يكره التطفّل. لكنه كتب لها أخيرًا:
"لأنها كذلك."
كان الرد باردًا. قاطعًا. غير أنه حمل شيئًا في عمقه. شيء جعلها لا تغادر المحادثة.
قالت له:
"أنا أراها خفيفة… كفقاعة صابون. نركض خلفها وهي تضحك علينا."
ابتسم… نعم، لأول مرة منذ شهور، ارتفع جانب فمه بلا وعي. وكتب:
"غريبة."
"ربما. لكن الغرابة أجمل ما فينا، أليس كذلك؟"
ومن هنا بدأت الحكاية.
كانت تتحدث، فيرسل ردودًا مقتضبة. تضحك، فيكتب لها: "أنتِ غريبة فعلاً". تحكي له عن قهوتها، عن زهرة نبتت في شرفتها، عن كتاب قرأته وجعلها تبكي، عن حلمٍ رأته ولا تعرف تفسيره. وهو؟ لم يكن يشارك كثيرًا، لكنه بدأ ينتظر رسائلها. ينتظر إزعاجها اليومي. ينتظر أن تقول له: "صباح الخير يا ثقيل الظل".
مرت الأيام، وتحول الفضول إلى عادة. ثم تحولت العادة إلى حضور. ثم تحول الحضور إلى… حياة.
كانت تُضحكه، رغماً عنه. كانت تصفه بأقسى الصفات، وتغمره بلطف في الوقت نفسه. كانت تقول له: "أنا مثل الشمس… تحرقك إن اقتربت، وتبهجك إن تأملتني من بعيد."
فيجيبها ساخرًا: "أنا لا أحب الشمس… أفضّل الغيوم."
فترسل له صورة سماء رمادية وتكتب: "سأكون سحابة إذن… فقط لا تطردني."
وكان لا يرد… لكنه لا يمسح الرسالة.
في عالمٍ لا يحتوي إلا على إشعارات ورسائل، كانت لينا شذى مختلفًا. كان وجودها لا يشبه البقية، وكأنها تسير في ضجيج الحياة بخفّة فراشة، تلمس كل قلب دون أن تترك أثرًا مؤلمًا. أما هو، فكان القلب الذي ظنّ أنه لن ينبض يومًا، حتى جاءها ذات مساء وكتب: "أشعر أنني أعيش حين أراكِ تكتبين لي."
جمدت أصابعها فوق لوحة المفاتيح. لم تعرف ماذا ترد. هي التي لطالما تحدثت بلا خوف، وجدت نفسها صامتة أمام اعتراف لم يُكتب كحب، لكنه كان أقرب إليه من أي شيء آخر.
أجابت أخيرًا، بخفة دمها المعتادة: "أخبرتك أني فقاعة سعادة… أخذك في السماء وأتركك تضحك وحدك."
ومن يومها… صار يكتب لها كل صباح.
---
لم يكن ليو معتادًا على أن يُصغي لأحد. كانت الأصوات تمر من حوله كأنها طنين لا يعنيه، لا يتوقف عند كلمة، ولا يحتفظ بجملة. لكن لينا كانت مختلفة. كلماتها لم تكن تُقال فقط، بل كانت تترك صدى، كما لو أن الحروف تبحث عن مكانٍ دافئ داخل صدره البارد.
هو لم يخبرها بذلك. لا زال الصمت عنده مفضّلًا على البوح، ولا زال يجهل إن كان ما يشعر به شيئًا حقيقيًا، أم أنها مجرّد موجة عابرة في محيطه الساكن. لكنه، وعلى غير عادته، بدأ ينتظر. ينتظر إشعارًا صغيرًا في هاتفه يُخبره أنها كتبت. أنه ليس وحده تمامًا.
كان الليل يثقل على قلبه كعادته، لكنه هذه المرة حمل له شيئًا مختلفًا. كان مستلقيًا على سريره، يحدّق في السقف، وفجأة أضاء الهاتف.
رسالة منها:
"هل جربت أن تغمض عينيك وتتخيّل شيئًا جميلاً؟ لا شيئًا واقعيًا… فقط، مشهدًا بسيطًا، كأنك تمشي في حقل قمح، والنسيم يمرّ على وجهك برفق. جرّبها، وستنام."
قرأ الرسالة ثلاث مرات.
لم يكن يُجيد التخيل. في رأسه صور مشوهة، أصوات ضوضاء، ذكريات لا تشبه الحقول ولا النسيم. ومع ذلك، أغلق عينيه. حاول أن يتخيل… لكنه وجد نفسه يتخيل صوتها.
ذلك الصوت الذي لم يسمعه إلا في رسائل صوتية قصيرة، تختلط فيها الضحكة بالكلام، والدفء بالحياة.
تخيلها، لا تمشي في حقل، بل تجلس عند طرف السماء، ترسم له غيمة وتكتب عليها اسمه.
ابتسم.
نعم، ابتسم.
ولأول مرة منذ سنوات، نام وهو لا يشعر بثقل قلبه كما اعتاد.
...
في صباح اليوم التالي، أرسل لها رسالة:
"جربت ما قلتِ… لم أرَ قمحًا، لكني نمت."
فأجابته على الفور، وكأنها تنتظره:
"أليس هذا إنجازًا؟ رجل من زمن البكاء، ينام من تخيّل؟!"
أغضبه الوصف. لكنه لم يردّ. فقط، كتب لها بعدها:
"أخبريني، لماذا أنتِ هنا؟ لماذا تكتبين لي؟"
جاء ردّها بعد ثوانٍ:
"لأنك تكتب لي، حتى وإن لم تنتبه."
أدرك حينها أنها ترى فيه أكثر مما كان يسمح لأحد أن يرى. أنها تقرأ بين سطوره، وتسمع ما لا يقوله.
في أحد الأيام، حين تأخر في الرد، أرسلت له فقط:
"أنا هنا… حتى وإن لم تردّ."
هزّه ذلك. لم يعاتبه أحد على غيابه هكذا من قبل. لم يهتمّ به أحد ليُذكّره بوجوده. اعتاد أن يغيب فلا يشعر به أحد، أن يسقط فلا يسمع سقوطه أحد. لكن لينا… كانت تراه حتى من خلف ألف شاشة.
...
وفي مساء آخر، كتب لها دون تفكير:
"أحيانًا أشعر أنني لا أنتمي لهذا العالم."
فقالت له:
"ولا أنا. ربما نحن من كوكب واحد… كوكب اسمه: الرسائل المتأخرة والضحك المكسور."
ضحك.
ضحك فعلاً.
وكتب لها: "أنا أحب هذا الكوكب، ما دام فيه أحد يُضحكني مثلك."
لم تكن تلك جملة حب. لكنها كانت بداية.
---
في الأيام التي تلت، بدأ الزمن يأخذ شكلاً جديدًا عند ليو. لم تعد الساعات تمضي برتابة كما كانت، بل صارت تنقسم إلى قسمين: وقتٌ تكتب فيه لينا، ووقتٌ ينتظر فيه رسالتها.
لم يكن الحب. لا، هو لا يؤمن بالحب. كان شيئًا أعمق من أن يُسمّى، وأخف من أن يُوزن. كان حضورها… وكفى.
أما هي، فكانت تستشعر تغيّره بصمت. لم تُحاصره بأسئلتها، لم تُرهقه بتحليلاتها. كانت تعرف أن الروح تحتاج إلى وقت لتتشافى، وأن القلوب المرهقة لا تتحمّل دفعات قوية من العاطفة. كانت تمسك يده بلطف دون أن يراها، وتدلّيه بالكلام دون أن يشعر.
أرسل لها ذات يوم رسالة قصيرة:
"ما الذي يجعلك تبتسمين؟"
لم يكن من عادته أن يسأل. لكنها عرفت أن في السؤال بابًا مفتوحًا على قلبه.
فأجابته:
"تفاصيل صغيرة جدًا… كوب قهوة في صباح شتوي، رسالة مفاجئة من صديقة قديمة، ورقة شجرة تسقط ببطء، أو حتى خطأ إملائي في رسالة يُضحكني."
فسألها بعد صمت:
"وأنا؟ أيمكنني أن أكون من تلك التفاصيل؟"
لم تجب فورًا. أغمضت عينيها، وابتسمت كما لو أن الإجابة تحملها السماء فوق لسانها.
ثم كتبت:
"أنتَ… لست تفصيلة، بل القصة التي تضع التفاصيل في أماكنها."
وصمت هو… لم يكتب شيئًا. لكنه شعر لوهلة أن جدران وحدته تشققت.
...
في ليلة أخرى، كتب لها:
"كل من عرفني، غادرني… هل ستفعلين أنتِ أيضًا؟"
كان اعترافًا، لكنه في داخله، كان رجاءً.
أجابته برسالة طويلة، لم تكن مجرد كلمات، بل دفء ينبض:
"أنا لست عابرة يا ليو، أنا شجرة تنبت في القلب. لا أُزهِر بسرعة، لكن إن أزهرت، لا أسقط. وإن رحلتُ، سأترك ظلِّي معك."
قرأها أكثر من مرة. وحين أنهى، شعر أنّ في صدره شيئًا يتحرك. شيء أشبه بنقطة ضوء صغيرة تتسلّل عبر شقّ قديم.
...
مرت الأيام، وبدأت لينا تتسلل إلى ذاكرته اليومية، دون استئذان. كانت حديثه الصامت مع نفسه. حين يرى شيئًا جميلاً، يقول: "لينا كانت ستحبه." وحين يشعر بالضيق، يكتب لها، ولو كلمة واحدة: "أنا هنا." وتجيبه دائمًا بجملة واحدة: "وأنا معك."
هي لم تكن معه فعلًا. لم تلمسه، لم تره، لم تسمع نبضه. لكنه يشعر بها. وكأن روحها تعرف الطريق إلى وجعه.
وفي مساء متعب، أرسل لها:
"متى أصبح صوتك عادةً لا أستغني عنها؟"
فأجابته فورًا:
"منذ أصبحتَ تردّ على رسائلي بصمتٍ أخفّ من الهواء."
ضحك. ضحكة لم يسمعها أحد سواه.
ولأول مرة… كتب لها شيئًا أقرب ما يكون إلى البوح:
"أنتِ تشبهين الشيء الذي كنت أظنه غير موجود."
...
وفي تلك الليلة، حين أطفأ هاتفه، لم يشعر بالوحدة.
بل شعر… أنه ليس وحده أبدًا.
Comments
◉✿آلُمطُرٍيَهـ🇾🇪⑅⃝ تسۆآگن✿◉
استمري ياروحي🤩💃🏻
2025-05-24
1