بعد الضحك والهزار، ساد لحظة صمت خفيف...
خالد فجأة قال:
"أنا يمكن ما اتكلمتش قبل كده... بس كنت فاكر إني طول عمري ضيف وسطكم... يمكن عشان أبوي وأمي اتوفوا وأنا صغير، وأنا اتربيت عندكم، بس دايمًا كنت حاسس إني زيادة."
سعيد بسرعة رد عليه:
"قول كده تاني وهزعل منك بجد! إحنا اتربينا سوا، ولعبنا سوا، وعيطنا سوا... إنت أخويا يا خالد، بالقلب مش بالظروف."
الأم قامت وراحت له، حطت إيدها على راسه وقالت:
"أنا عمرى ما فرّقت بينكم، كنت دايمًا بدعيلكم سوا، وبخاف عليكم زي بعض... إنت ابني زيهُم."
لمياء بعينها دمعة بس بتحاول تضحك:
"وإنت فاكر أنا كنت بسكّتك ليه لما نتحايل على ماما علشان نخرج؟ مش لأنك أخويا؟"
نور قامت من مكانها، وجريت عليه:
"خالد، تعالى نلعب أنا وانت، زي زمااان!"
الأب قال بهدوء:
"البيت ده بيتك يا ابني... وأنت فيه مش ضيف، ده أنت أساس."
لحظة صمت... وبعدين ضحكة خفيفة من خالد
خالد: "هو أنا كنت محتاج اللحظة دي من زمان... بس الحمد لله إنها حصلت."
سعيد: "وطول ما إحنا مع بعض... مفيش حد لوحده أبداً."
الدفاية كانت شغالة، بس الدفا الحقيقي كان من الكلام اللي طلع من القلب... العيلة دي يمكن مش كاملة الا باللمه والجمعه الحلوة.
هبة وهي بتضحك وبتكلم صاحبتها في التليفون:
يا بنتي ما تقوليش كده، أنا أصلاً مش عارفة أتعامل مع الناس اللي بالشكل ده!
مي:
بس والله يا هبة الطريقة اللي اتكلمتي بيها معاه كانت جامدة… إنتي شوية وهتبقي دبلوماسية معتمدة!
هبة (فجأة تسكت وتبص في المراية):
استني… استني كده ثانية…
مي:
في إيه؟ مالك سكتتي كده ليه؟
هبة (بتكتم ضحكتها):
أنا شايفة صورة أخويا في المراية… واقف ورايا… وعامل نفسه شبح!
مي (تضحك):
إيه؟! إنتي بتتكلمي بجد؟!
هبة بصوت عالي:مالك يا معتز؟ ناقصك دور في فيلم رعب؟ يابني مش قولنا بلاش الهزار ده؟!
معتز من وراها وهو بيضحك:أصل كنت سامعك بتقولي كلام تقيل… قولت أخوفك يمكن تبطلي غلاسة!
هبة وهي ترمي عليه المخدة:يا ابن اللذينة! هتجبلي جلطة في يوم من الأيام… والله ما سايبة لك حاجة في التلاجة!
مي على السماعة:يا نهار أبيض… ده معتز طالع موهوب فـ التمثيل!
هبة:موهوب في الهزار التقيل بس… تعالى شوفي لما أقفله الباب بالمفتاح!
زاهر يدخل البيت وهو منفعل، عينيه مولعة غضب، ويمسك هبة من شعرها ويشدها ناحية الصالةزاهر بصوت عالي: والله عال! هو أنا سايبك هنا قاعدة مرتاحة عشان تعملي اللي على مزاجك؟!
هبة بتحاول تبعد إيده: إنت بتوجعني يا زاهر! سبني!
زاهر: أوجعك؟ ده أنا لسه ما بدأتش! انتي فاكرة إني بهزر؟ الشاب اللي قلتلك عليه هتقابليه!
هبة بصوت مهزوز: لأ.. لأ مش هقدر أعمل كده، دي سرقة يا زاهر!
زاهر يضربها على وشها: اسكتي! تعملي اللي أقولك عليه بالحرف، فاهمة؟ مش طالبة رأيك!
هبة دموعها نازلة: حرام عليك.. أنا أختك.
زاهر بغل: أختي؟! أختي تسمع الكلام، مش تعندني! الشاب ده غبي وهيصدقك، هتقابليه وتخدعيه وتجيبي اللي وراه وقدامه.. فاهمة؟
هبة بصوت خافت: وأنا لو اتفضحت؟ لو حصللي حاجة؟
زاهر: مش فارقلي! اللي يهمني الفلوس، ولازم نجيبها بأي تمن. وابتدي جهزي نفسك، المقابلة بكرة.
تمام، نكمّل المشهد ونصعّد التوتر شوية، وندخل على اللحظة اللي هبة بتبدأ تفكر فيها إزاي تهرب من اللي بيحصل، لكن في نفس الوقت خايفة:
هبة قاعدة في أوضتها بعد ما زاهر خرج سابها، ودموعها لسه على خدها، بتبص في المراية وبتلمس أثر الضربة.
هبة لنفسها: لحد إمتى هفضل كده؟ هو أنا لعبة في إيده؟
تنهيدة طويلة وهي بتقوم وتفتح درج الكومودينو تدور على تليفونها هبة بصوت واطي: لازم ألاقي حد يساعدني... بس مين؟ ماحدش عايز يزعل زاهر، كله بيخاف منه.
فجأة باب الأوضة بيتفتح بعنف، زاهر داخل تاني
زاهر: نسيتي أقولك، الشاب اسمه كريم، وهيقابلك في الكافيه اللي في أول الشارع الساعة 5 بكرة.
هبة: ولو ما رحتش؟
زاهر بيضحك بس ببرود: تبقي بتكتبي نهايتك بإيدك.
زاهر يخرج، وهبة تنهار على السرير، تحضن نفسها وهي بترتعش، وقاعدة على طرف السرير، عينيها شاردة، ولسه صوت زاهر بيرن في ودنها. فجأة، تسمع صوت ناعم ومتردد جاي من التليفون اللي نسيته جنبها على المرتبة
مي من السماعة بصوت خافت ومذعور: هبة... إنتي كويسة؟
هبة بتنتفض: مي؟! إنتي سمعتي؟!
مي: كل حاجة... كنت بتكلمك ولسه الخط مفتوح، و... سمعت صوته وهو بيزعق فيكي. كنت هتجنن!
هبة بتحاول تكتم شهقتها: مي... أنا مش قادرة، مش قادرة أعيش كده.
مي: إهدي، إهدي بس. أنا معاكي، وهطلعلك حالًا.
هبة بتهمس: لأ، مي، متجيش دلوقتي، لو شافك ممكن يحصل لك حاجة.
مي بإصرار: خلاص، مش هسكت. هنتصرف. إنتي لازم تطلعي من تحت إيده.
لحظة صمت هبة بصوت ضعيف: هو عايزني أروح أقابل كريم بكرة، وأسرقه...
مي: سمعته. ودي فرصتنا. هنقلبها عليه.
هبة بهمس: إزاي؟
مي: هقولك، بس لازم نخطط كويس... ومحتاجين نفكر بهدوء أكلمك بعدين باي فاغلقت الهاتف.
في الطابق العاشر من مبنى الزجاج العاكس، كان مكتب قسم التسويق يعج بالحركة كخلية نحل. هواتف ترنّ، أقدام تتنقل بسرعة، طابعات تئنّ، وصوت الكيبوردات لا يتوقف كأوركسترا فوضوية تُعزف بإيقاع الضغط.
كريم جالس وسط كل هذا الزخم، رأسه بين يديه، يراجع العرض للمرة العاشرة خلال ساعة واحدة. علبة المناديل بجانبه شبه فارغة، وكوب القهوة الرابع بلا طعم. خلفه، ليلى تصرخ عبر الهاتف:
"لا، لا نريد عرضًا تقليديًا! نريد شيئًا يترك أثرًا!"
وإلى يساره، سامي يتبادل نظرات غامضة مع رامي، الذي يقف وملف كريم بين يديه، يتجه بخطى واثقة نحو مكتب المدير.
المكيفات تهمس، والأنوار البيضاء تنعكس على وجوه مرهقة، لكن مشتعلة بالطموح.
وسط كل هذه الحيوية، ينبض التوتر بين الموظفين كتيار خفي. كلٌ يسعى ليثبت أنه الأجدر، الأذكى، الأحقّ بالصعود. الترقيات باتت حديث الممرات، والابتسامات تخفي وراءها حسابات دقيقة.
في هذا الجو النشيط، حيث يبدو الجميع مشغولًا ومندمجًا، تبدأ المنافسة تأخذ طابعًا خفيًا:
من يُسلّم العرض الأفضل؟ من لديه الأفكار الأكثر ابتكارًا؟ ومن يستطيع كسب ثقة المدير في هذه البيئة المحتدمة؟
كريم، المبدع الهادئ، يجد نفسه وسط هذه المعركة غير المعلنة، حيث لا تُكافأ الجهود بل يُكافأ الظهور. بينما يعمل بإخلاص، يكتشف تدريجيًا أن البعض يستخدم نشاط المكتب كغطاء لسرقة الأفكار، والتسلّق على أكتاف غيرهم.
بينما كان الجميع غارقًا في العروض التقديمية والاجتماعات المصغّرة، رنّ جرس الاستقبال بنغمة مختلفة. رفع كريم رأسه ببطء من فوق شاشة حاسوبه، وشاهد السكرتيرة تدخل المكتب بخطى متسارعة.
قالت بصوتٍ خافت لكنه واضح:
"اجتماع طارئ في قاعة الاجتماعات الكبرى… فورًا. كل مدراء الأقسام، وخصوصًا فريق التسويق."
الجميع توقف لحظة، وكأن دقّات قلوبهم سُمعت بوضوح في الصمت المفاجئ. تبادل يوسف ونورا زميلته في فريق التصميم نظرةً قلقة، بينما همّ الجميع بجمع دفاترهم والاتجاه نحو القاعة.
في الداخل، كان المدير التنفيذي واقفًا بجانب رجل ببدلة داكنة وابتسامة باردة.
"اسمحوا لي أن أقدّم السيد باسل رفاعي، المدير التنفيذي لشركة فيوجن ميديا، أحد أبرز منافسينا في السوق."
همسات مكتومة. وجوه متجهمة.
"الشركتان... بصدد دراسة اتفاقية دمج استراتيجي. ولإتمام ذلك، سيُطلب من فرق التسويق في كلا الجانبين تقديم عرض مشترك لمشروع مناقصة ضخمة أمام مستثمرين دوليين. التعاون سيكون اختبارًا... واختيارًا."
التوتر ينتقل من داخل الشركة إلى داخل القلوب.
كريم، الذي كان بالكاد يحارب زملاءه للوصول، الآن عليه أن يعمل مع فريق غريب، وربما مع رامي خصمه اللدود جنبًا إلى جنب. هل سيحسن استغلال الفرصة لإثبات نفسه؟ أم سيخسر كل شيء لصالح منافس خارجي يملك الحنكة والخبرة؟
رامي قد يتظاهر بالتعاون بينما يخطط للإطاحة بالجميع.
ليلى قد تكشف عن وجه آخر لها وتبرز كقائدة.
كريم يجد في باسل مرآة لما يمكن أن يصبح عليه… لو تخلى عن مبادئه.
في مطعم بوسط البلد كان كريم جالس على كرسي، متوتر قليلًا. وتدخل هبة بخطى واثقة.
كريم واقف بتحفظ:أهلًا.
هبة بابتسامة خفيفة، وبتقعد بهدوء:أهلًا بيك.
كريم بدهشة خفيفة:ما توقعتش تيجي.
هبة بصوت ثابت:ليه؟ شكلِي من النوع اللي بيهرب؟
كريم بيحاول يقرأها:زاهر مش بالظبط شخص... الناس بتيجي له بمزاجها.
هبة بهدوء، وهي بتعدل جلستها:ومين قال إني مش جايّة بمزاجي؟
كريم بيراقبها:واضح إنك شجاعة... أو يمكن متعودة.
هبة بنبرة شبه ساخرة:اتنين مش فارقين كتير.
كريم بعد لحظة صمت:هو قالي إن عندك حاجة تقوليها لي.
هبة تنظر له بثبات:وأنا جايّة أسمع، مش أتكلم.
الوصف الداخلي لهبة:من بره هادية، ملامحها ساكنة، نظراتها ثابتة. بس جواها في صوت بيصرخ. إيديها متشابكة في حضنها بقوة خفية، وكأنها بتحبس خوفها بين ضلوعها.
الوصف الداخلي لكريم:حاسس إن فيه حاجة مش مفهومة، مش واثق لا في زاهر ولا في هبة، لكن في عينه لمحة اهتمام حقيقي، كأنه شايف لمحة من ألمه فيها.
كريم واقف في مكانه، لسه عيونه على الكرسي اللي كانت قاعدة عليه.
يسحب نفس عميق، يعدّ لثلاثة... وما يعرفش ليه.
ما كانتش المقابلة طويلة، وما اتكلموش كتير، بس فيه حاجة فيها علقت في دماغه.
كريم في سره:"مش طبيعية... أو بالعكس، طبيعية زيادة عن اللزوم."
هدوءها مش مريح، كأنها مش بس متعودة على القهر... لا، كأنها بتلعب دور هي اخترعته عشان تحمي نفسها.
حس إنها بتحاوط كلماتها بجدران، كل كلمة منها مدروسة، متوزنة، كأنها بتغزل خيوط حرير حوالين نفسها... وما بتسمحش لحد يقرب.
يمشي نحو الكرسي، يقعد مكانها.
يبص حواليه، كأن ممكن يلاقي أثر منها في الهوا.
كريم همس لنفسه:"هي مين فعلًا؟
وإيه اللي جابها هنا؟
وزاهر ليه مهتم يجمعنا؟"
يسند راسه على إيده، عينه فيها توتر جديد، بس كمان فضول... يمكن حتى قلق.
هو جرب قبل كده يتورط مع ناس زاهر، وكل مرة كان بيطلع منها بخسارة.
بس هبة مختلفة.
دخلت هبة البيت ببطء، الخطوات ثقيلة كأنها شايلة معاها كل توتر المقابلة. الشمس كانت عم تميل للغروب، والأضواء الخافتة بالبيت زادت إحساسها بالوحدة.
لم يكن هناك صوت، فقط صمتٌ مشحون.
خلعت حجابها عند الباب، ورفعت عينيها لتتفاجأ بنظرة والدها من نهاية الممر. عيناه كانتا مشدودتين، متجمدتين.
"بابا؟" همست.
لم يجب. كان قابضًا على صحيفة قديمة بيده، لكن نظراته لم تكن تقرأ، بل كانت تبحث عن شيء... أو شخص.
ثم سُمع صراخ بالخارج.
صرخة شاب، تلتها شتيمة واضحة، ثم صوت زاهر... غاضبًا.
ركضت هبة نحو النافذة، قلبها يخبط بقوة. فتحت الستارة بسرعة، فشاهدت زاهر واقفًا قبالة شاب لا تعرفه جيدًا. بدا أنهما في نفس العمر تقريبًا، لكن عيونهما كانت مشتعلة كأنهما أعداء منذ زمن.
"إنت ما بتفهم!؟ قلتلك ابعد عن أختي!" صرخ زاهر، دافعًا الشاب في صدره.
الشاب تراجع خطوة، ثم ضحك بسخرية: "هي عندها عقل، مش ملكك!"
"زاهر!" صاحت هبة من خلف الباب.
لكن زاهر لم يسمع.
"لو شفتك مرة تانية بتحوم حولها، رح تندم."
"جربني بس."
وفي لحظة، اندفع زاهر عليه ولكمات متبادلة ملأت الجو بالصراخ. الباب انفتح فجأة، وخرج والدهم بخطوات غاضبة، ووجهه متجهم.
"وقّفوا هالعار!" صوته ارتجّ في الحي.
تجمد الجميع.
زاهر تنفس بسرعة، ويده مشدودة على ياقة الشاب، بينما الشاب كان ينزف من شفته لكنه ابتسم بانتصار خفي.
أغلقت هبة الستارة بسرعة، كأنها تحاول تمنع قلبها من رؤية ما يحدث. ارتجفت أصابعها، وشعرت بأن الهواء أصبح أثقل.
سمعت صوت والدها وهو يصرخ في الخارج، ثم خطواته الغاضبة تقترب من الباب.
دخل بعد لحظات، وزاهر خلفه، يده ملطخة بالدم، وعيناه تتجنبان النظر.
"ادخل غرفتك." قالها الأب بصوت حاد دون أن ينظر إلى أي منهما.
هبة لم تقل شيئًا. شعرت كأن الجدار بينها وبين والدها صار أعلى. كانت تظن أن كل شيء سيهدأ بعد المقابلة، بعد أن بدأت تشعر أن الأمور قد تتحسن... لكن لا.
زاهر نظر إليها للحظة، وكأن عينيه كانتا تبحثان عن عذر، عن تفهّم. لكنها لم تمنحه شيئًا.
صعدت إلى غرفتها بصمت، أغلقت الباب، وانهارت على السرير.
عادت بها الذاكرة إلى تلك الليلة منذ سنوات، حين عاد زاهر أيضًا مضروب الوجه، وأبوهم لم يعلّق وقتها... لكنه عاقبها هي لأنها خرجت بدون إذنه.
لماذا الغضب اليوم كان مختلفًا؟ لماذا شعرت أن شيئًا أعمق قد كُسر؟
وضعت يدها على قلبها. كان ينبض بسرعة... ليس خوفًا، بل إحساسًا غريبًا، مزيج من القلق والخذلان.
Comments