"مائة ظل للحزن"
القصة الأولى: "الواد اللي كان بيضحك طول الوقت"
أول مرة على كرسي العيادة
أدهم قاعد على الكنبة السودة في أوضة الدكتور كريم، حاسس بتوتر غريب. عمره ما تخيل إنه في يوم هيبقى قاعد عند دكتور نفسي. كان دايمًا شايف الموضوع للناس اللي فقدت عقلها تمامًا… بس دلوقتي هو هنا، مش عارف يقول إيه.
الدكتور كريم، راجل في الأربعينات، ملامحه هادية وعنده نظرة كأنها بتطمن اللي قدامه. ماسك نوتة صغيرة في إيده، لكنه مش بيكتب حاجة، بس مستني أدهم يبدأ.
ــ "مفيش حاجة مستعجلة… خد وقتك."
أدهم أخد نفس طويل، باصص في الأرض، ولأول مرة في حياته بيحاول يقول اللي عمره ما قاله.
ــ "أنا مش مجنون… بس تعبت."
الدكتور هز راسه كأنه بيقوله "فاهمك، كمل".
ــ "طول عمري بضحّك الناس… حرفيًا! في أي قعدة، لازم أبقى أنا اللي بخلي الجو لذيذ، اللي بهزّر، اللي بيخلي الناس تضحك حتى لو مافيش حاجة تضحّك. كنت بحب ده، أو يمكن كنت فاكر إني بحبه…"
صوته بدأ يتهز شوية، فبلع ريقه وكمل:
ــ "بس المشكلة بقى… إن بعد ما القعدة تخلص، بعد ما أرجع بيتي وأبقى لوحدي… الدنيا بتبقى كتمة، هدوء خانق… وأنا مش عارف أهرب منه."
الدكتور بص له باهتمام، وسأله بهدوء:
ــ "وإنت ليه بتحس بالوحدة بالشكل ده؟"
أدهم ابتسم بسخرية وهو بيحرك رجله بعصبية:
ــ "لأن أنا أصلًا طول عمري لوحدي، حتى وأنا وسط الناس. أمي كانت مشغولة بحياتها، أبويا مات وأنا صغير، إخواتي شايفين إني عايش مبسوط ومش بحتاج حاجة… بس أنا كنت بحاول أهرب من الحقيقة، بحاول أقنع نفسي إن لو خليت كل الناس تضحك، يمكن أنا كمان في يوم أضحك من قلبي."
الدكتور كتب حاجة في نوتته، وسأل:
ــ "وأمتى اكتشفت إنك مش قادر تضحك بجد؟"
أدهم عض شفايفه شوية قبل ما يرد:
ــ "لما بدأت أحس إن الضحك نفسه بقى مجهود… إن حتى الهزار اللي كنت بحبه بقى تقيل عليا… لحد ما في مرة، بعد حفلة سهر، روحت بيتي، وقفت قدام المراية، وبصيت لنفسي… وسألت نفسي: إنت مين؟"
سكت لحظة، قبل ما يكمل بصوت أضعف:
ــ "وماعرفتش أرد…"
لحظة الانهيار
الدكتور فضل ساكت مستني أدهم يكمل، وبعد لحظة صمت طويلة، قال أدهم بصوت متكسر:
ــ "أصعب حاجة إنك تكتشف إنك عايش في كذبة… أنا كنت فاكر إن الضحك هو اللي بيحميني، بس طلع الضحك هو أكتر حاجة بتوجعني… الناس بقت تتوقع إني أبقى مبسوط طول الوقت، لدرجة إني حتى لما كنت حزين، ماحدش لاحظ… لما كنت بتكلم بجد، كانوا يفتكروا إني بهزر… وفي اليوم اللي قررت أقول إني تعبان، صاحبي رد وقاللي: (إنت إيه يا عم، أول مرة تحس بمشاعر ولا إيه؟ خدلك نومة وكمل ضحك)."
الدكتور رفع حاجبه وسأله:
ــ "الكلام ده أثر فيك قد إيه؟"
أدهم ضحك ضحكة مكسورة وقال:
ــ "قتلني… حسيت إني وحيد بجد. وقتها بدأت أحس بضيق في صدري طول الوقت، ماكنتش قادر آخد نفسي كويس، النوم بقى عذاب، وأفكاري بقت بتوديني في أماكن سودة… وبدأت أسأل نفسي: لو اختفيت، هل حد هيحس؟"
لحظة القرار
الدكتور بص له بجدية وسأله:
ــ "جاوبت على السؤال ده؟"
أدهم شرد شوية، وبعدين قال بصوت ضعيف:
ــ "مكنتش لاقي إجابة… بس كنت بفكر في الموضوع، لحد ما في يوم وأنا راجع من الشغل، وقفت على كوبري عالي، وبصيت للمية، وسألت نفسي: (إيه المشكلة لو نطيت؟ مش يمكن أرتاح؟)"
الدكتور بص له بتركيز وسأله:
ــ "إيه اللي منعك وقتها؟"
أدهم تنهد وقال:
ــ "وأنا واقف، جاتلي رسالة من رقم مجهول: (أنا حاسس بيك، لو عايز تحكي، أنا موجود.)"
سكت لحظة، وبعدين كمل:
ــ "كان إعلان لخدمة دعم نفسي مجانية… يمكن دي كانت إشارة، يمكن كنت مستني حد بس يقولي إنه حاسس بيا، إنه شايفني."
الدكتور ابتسم وقال:
ــ "وإنت هنا النهارده… يعني لسه عندك أمل."
أدهم ابتسم ابتسامة ضعيفة، وقال بصوت مبحوح:
ــ "أنا بس عايز حد يفهمني… حد يشوفني من غير القناع اللي لزقته على وشي طول حياتي."
الدكتور قفل نوتته وقال بحزم:
ــ "وأنا هنا عشان نخلع القناع ده… بس بهدوء، وبخطوات صغيرة، مع بعض."
القصة الأولى: "الواد اللي كان بيضحك طول الوقت" (الجزء الثاني)
بعد الجلسة الأولى… المواجهة الحقيقية
بعد ما خلصت الجلسة، خرج "أدهم" من العيادة وهو حاسس بحاجة غريبة… مش ارتياح، لكن على الأقل، لأول مرة، حد سمعه من غير ما يستهزأ بيه. فضل ماشي في الشارع من غير هدف، يفكر في كلام الدكتور:
ــ "وإنت هنا النهارده… يعني لسه عندك أمل."
هل فعلًا عنده أمل؟ ولا هو بس بيحاول يدي نفسه سبب عشان يكمّل؟
كابوس الضحك
أول ليلة بعد الجلسة كانت غريبة. نام وهو حاسس بتعب شديد، لكن الحلم اللي شافه خلاه يصحى مفزوع.
شاف نفسه واقف وسط ناس كتير، كلهم بيتحكوا بصوت عالي، ضحك هستيري، لكنه كان واقف لوحده، مش قادر يضحك معاهم. كل ما يحاول يفتح بُقه، يلاقي نفسه بيصرخ بدل ما يضحك. فجأة، الناس بدأت تبص له بعيون مليانة خوف، ووشوشهم بقت مشوهة، وكلهم قربوا منه وسألوه بصوت واحد:
ــ "إنت ليه ساكت؟ ليه مش بتضحّكنا؟"
حاول يجري، لكن رجله كانت تقيلة كأنها مربوطه في الأرض. فجأة، ظهرت المراية اللي وقف قدامها قبل كده وسأل نفسه "إنت مين؟"… لكنه المرة دي، كان شايف شخص غريب مكانه.
شخص بعينين ميتة… وابتسامة مزيفة.
المكالمة اللي غيرت كل حاجة
صحى مفزوع، وإيده على قلبه اللي كان بيدق بسرعة. بص للموبايل، لقى رسالة من الدكتور كريم:
ــ "عارف إن أول يوم بعد الجلسة بيبقى صعب… لو محتاج تتكلم، أنا موجود."
فضل باصص للرسالة فترة، وحس بحاجة تخليه يتصل بالدكتور فعلًا.
لما رد الدكتور، كان صوته هادي:
ــ "حلمت بحاجة؟"
ــ "إزاي عرفت؟"
ــ "لأن دي أول مرة تواجه نفسك بجد… العقل ساعات بيخوفنا من التغيير."
أدهم سكت شوية، وبعدين قال بصوت ضعيف:
ــ "أنا خايف، دكتور… خايف أكتشف إني كذبة، إن كل اللي كنت بعمله طول حياتي كان مجرد هروب."
ــ "الهروب مش غلط، بس لازم نعرف بنهرب من إيه… وإحنا هنكتشف ده مع بعض، بس واحدة واحدة."
أدهم خد نفس عميق، وحس إنه لأول مرة مش لوحده تمامًا.
يمكن، بس يمكن، الموضوع يستاهل إنه يحاول.
القصة الأولى: "الواد اللي كان بيضحك طول الوقت" (الجزء الثالث)
رحلة المواجهة
بعد المكالمة مع الدكتور كريم، بدأ "أدهم" يروح الجلسات بانتظام. في الأول، كان لسه متحفظ، مش عايز يتكلم عن كل حاجة، بس مع الوقت بدأ يفك، بدأ يحس إن فيه حد أخيرًا مهتم بيسمعه من غير ما يحكم عليه.
في الجلسة التالتة، الدكتور سأله:
ــ "فاكر أول مرة قررت تستخبى ورا الضحك؟"
أدهم فضل ساكت شوية، وبعدين قال بصوت هادي:
ــ "كنت في ابتدائي… أمي وأبويا كانوا بيتخانقوا كل يوم، صوتهم كان بيرج الدنيا… وفي يوم، بعد خناقة جامدة، لقيت أمي قاعدة في الصالة بتعيط. كنت طفل، ماعرفتش أعمل حاجة غير إني قعدت أقول نكتة ورا التانية عشان تضحك… وفعلا، ضحكت."
تنهد وقال بصوت ضعيف:
ــ "ساعتها حسيت إني عملت حاجة صح، إني عندي دور… ومن اليوم ده، قررت إني دايمًا أبقى الشخص اللي بيخلي الناس تضحك، عشان محدش يحس بالحزن اللي كنت شايفه في وش أمي."
الدكتور بص له بتركيز وسأله:
ــ "بس مين كان بيضحكك إنت؟"
أدهم سكت… وفهم السؤال لأول مرة.
ماحدش.
عمره ما كان فيه حد بيدخل حياته بس عشان يسأله: "إنت عامل إيه بجد؟"
لحظة الانهيار
في الجلسة الخامسة، أدهم وصل لمرحلة جديدة… أول مرة يعيط قدام حد من غير ما يحاول يخبي.
كان قاعد ساكت، عينه على الأرض، صوته مبحوح وهو بيقول:
ــ "أنا تعبت، دكتور… تعبت من إني دايمًا مضطر أبقى تمام عشان الناس تبقى تمام."
رفع عينه، ولأول مرة، قالها بصوت واضح:
ــ "أنا مش تمام."
الدكتور بص له بهدوء، وقال:
ــ "وده حقك… إنك تكون مش تمام."
أدهم فضل ساكت، بس جواه حس براحة غريبة… كأنه لأول مرة في حياته مش مضطر يضحك.
البداية الجديدة
مع الوقت، ومع الجلسات، بدأ أدهم يكتشف نفسه من جديد. مش بسهولة، مش بسرعة، بس واحدة واحدة، بدأ يتعلم إنه مش لازم يكون الشخص اللي بيسعد كل الناس طول الوقت، وإنه من حقه يحزن، ومن حقه يستقبل الحب مش بس يوزعه.
وفي يوم، بعد جلسة طويلة، وهو بيقف قدام المراية اللي كان بيخاف منها، بص لنفسه… وابتسم.
مش ابتسامة مزيفة.
مش ابتسامة عشان يسعد حد غيره.
ابتسامة حقيقية… لنفسه.
— النهاية الحقيقية لرحلة أدهم —
10تم تحديث
Comments