منذ تسع عشرة سنة.
كانت أنجيلا الصغيرة تسير وحدها في ممرات قصر بيلتون المعتمة، متجهة إلى غرفة والدتها، غريس.
على وجهها الطفولي الناعم، ارتسمت كآبة لا تليق بسنها. حتى ضوء القمر الذي تسلل عبر النافذة لم يستطع أن يبدد الظلام الذي خيم على ملامحها.
كانت عيناها تفيض بالدموع، فكانت تمسحها بيديها الصغيرتين بخوف، بينما تشتعل في قلبها مشاعر من الرهبة.
لم يكن هذا هو الشعور الذي قد يتوقعه أحد من طفل تلقى نداءً من أمه، لكن غريس لم تكن بالنسبة لأنجيلا أمًا عادية. بالنسبة لها، كانت غريس تمثل كل ما هو مرعب ومروع.
كانت الطريق إلى غرفة غريس بالنسبة لأنجيلا أشبه بالاقتراب من أبواب الجحيم، بل أشد رهبة. فقد عرفت من تجاربها السابقة ما الذي ينتظرها بمجرد دخولها غرفة غريس.
"أنجيلا، تعالي هنا."
"..."
"أسرعي."
كانت غريس، كأي أم عادية، ستنادي على أنجيلا بابتسامة رقيقة. وعندما تقترب أنجيلا بخطوات مترددة:
"لماذا تتحركين بهذا البطء عديم الفائدة؟"
حينها ستختفي ابتسامتها، وتبدأ في توبيخها بحدة:
"بسببك أصبحت غير قادرة على الخروج من غرفتي خطوة واحدة. لذلك يجب عليك القدوم يوميًا لطلب المغفرة، أليس كذلك؟"
"أنا... آسفة..."
"هاه، من الطبيعي أن تكوني هكذا. كيف يمكن لشيء لم يتحمل البقاء في رحم أمه لعشرة أشهر أن يكون طبيعيًا؟ ليتك لم تولدي أبدًا."
ثم تدفعها غريس بعنف على رأسها الصغير، مما يجعل أنجيلا تقع أرضًا بلا حول ولا قوة. كانت أنجيلا تلملم نفسها سريعًا، تحمي رأسها بيديها وتنكفئ على نفسها لتتفادى المزيد من الضرب. كانت غريس تنظر إليها في تلك الحالة بحبور وكأنها تستمتع بذلك المشهد.
بينما كانت أنجيلا تسير نحو غرفتها، غاصت في دوامة من الأفكار حول ما قد تواجهه. شعرت أن صوت ضحكات غريس الساخرة يلاحقها، وكأنها تسمعه يتردد في أذنيها.
أرادت أنجيلا لو أنها تختفي، أن تذوب في الهواء، أو أن تذهب إلى مكان لن تستطيع غريس أن تجدها فيه أبدًا.
وفجأة، سمعت صوت خطوات متسارعة على الأرضية، توك توك توك، وكأن أحدًا يركض نحوها.
قبل أن تستوعب ما يحدث، شعرت بجسدها يرفع عن الأرض، إذ حملها أحدهم بحنان.
حتى دون أن تنظر، كانت تعرف صاحب تلك اليدين الدافئتين اللتين احتضنتاها.
"إيفون..."
منذ ولادة أنجيلا، كان هناك دائمًا شخص بجانبها، هي المربية "إيفون".
"..."
لم تأتِ أي إجابة. كانت إيفون تسير بخطوات واسعة وثابتة، ووجهها متصلب بلا تعبير.
"إيفون، هذا ليس الاتجاه الصحيح."
قالت أنجيلا بصوت متردد عندما لاحظت أن إيفون تسير في الاتجاه المعاكس للطريق الذي كانت تسلكه هي.
"يجب أن أذهب إلى غرفة أمي، لقد استدعتني."
رغم أن صوتها لم يكن مرتفعًا، إلا أنه لم يكن منخفضًا لدرجة ألا تسمعه إيفون. لكنها لم تُظهر أي علامة على الاستماع، بل تابعت السير بخطوات أسرع، وشدت من قبضتها التي تحتضن أنجيلا.
"سأتحدث مع السيدة بنفسي."
قالت إيفون عندما وصلت إلى غرفة أنجيلا أخيرًا، وكأنها تكسر صمتها الثقيل.
"لا تقلقي على شيء، اخلدي للنوم جيدًا. لقد تأخر الوقت بالنسبة لفتاة صغيرة مثلك لتظل مستيقظة."
وضعت إيفون أنجيلا على السرير بعناية، ثم سوت الأغطية عليها بلطف وهمست:
"هل تريدينني أن أغني لك تهويدة؟"
ترددت أنجيلا للحظة، لكنها لم ترد بالكلام. بدلاً من ذلك، أخرجت ذراعيها من تحت الغطاء ومدتهما نحو إيفون، تطلب منها عناقًا.
حدقت إيفون في أنجيلا دون أن تطرف عيناها للحظة. ثم، بعد لحظة صمت، انحنت وعانقت أنجيلا بكل قوة.
في تلك الليلة، انتظرت أنجيلا بصبر حتى تغادر إيفون الغرفة معتقدة أنها قد نامت.
بمجرد أن سمعت صوت الباب يُغلق، تسللت ببطء من سريرها. كانت خطواتها الصغيرة تتجه نحو غرفة غريس مرة أخرى.
رغم وعد إيفون بأنها ستتحدث مع غريس، كانت أنجيلا تعرف تمامًا أن هذا يعني أن إيفون ستتحمل العقاب بدلاً منها.
رغم خوفها الشديد من غريس، لم تحتمل فكرة أن تتأذى إيفون بسببها. فكرت أن تتلقى هي العقاب بدلاً من ذلك.
وصلت أنجيلا إلى باب غرفة غريس، لكنها فوجئت بأن إيفون كانت تخرج من الغرفة في تلك اللحظة. كان أحد وجنتيها متورمًا بشكل ملحوظ، بينما كان الدم يتدفق من جبينها.
توقفت إيفون أمام الباب الكبير وبدأت تمسح الدم من وجهها، لكنها عندما رأت أنجيلا، اتسعت عيناها بدهشة وكأنها كُشفت في كذبة.
سرعان ما تحولت تعابيرها إلى ألم، وكأنها على وشك الانفجار بالبكاء. فقد أدركت سبب وجود أنجيلا هنا، وأنها لم تكن نائمة كما ظنت.
أنجيلا، التي رأت وجه إيفون المنهار، عضت شفتيها، ثم اندفعت نحوها واحتضنتها بشدة.
همست بصوت منخفض جدًا، كأنها تخشى أن يسمعها أحد:
"أتمنى لو كنتِ أمي يا إيفون."
لم ترد إيفون بأي كلمة، لكنها طبعت قبلة على خد أنجيلا.
شعرت أنجيلا بسعادة غامرة، وكأنها سمعت الرد الذي كانت تنتظره طوال حياتها. ضحكت وبكت في الوقت نفسه.
لكن، مع مرور الوقت وولادة "بياتريس"، تغيرت الأمور بسرعة وبشكل مأساوي.
أدركت أنجيلا، مرات لا تُحصى خلال اليوم، أن إيفون كانت أم بياتريس، وليست أمها.
نظرات بعيدة، أيدٍ لا تُمسك بها، وحضن لم يعد يضمها.
ظلت أنجيلا تسترجع كل ما فقدته حتى تركت تلك الخسارة جرحًا لا يندمل في قلبها.
أما الآن، أن تصبح إيفون أمها؟
بل وبأبشع طريقة ممكنة. أن تصبح أمها لحماية بياتريس.
تساءلت أنجيلا إن كان هذا مجرد حلم آخر. ضربت خدها لتتأكد من أنها لا تحلم. لكنها لم تستطع تصديق أن هذا هو الواقع.
بغض النظر عن مشاعر أنجيلا، مضي زواج دوق ودوقة بيلتون بسرعة وكأنه كان مقررًا منذ البداية.
عاد دومينيك من القصر الإمبراطوري بعد أن حصل على بركة الإمبراطور مع إيفون، وكأنه يريد أن يفخر بهذا الزواج أمام العالم أجمع، وأقام حفلاً فخمًا. كان الحفل سيستمر لمدة ثلاثة أيام كاملة.
"يا للغرابة."
دخلت أنجيلا إلى قاعة الحفل متأخرة جدًا، مرتدية فستانًا أخضر داكنًا ينسجم بشكل مذهل مع لون عينيها. لكن ما أن وقعت عيناها على المشهد أمامها، حتى أطلقت ضحكة ساخرة.
كان مشهد القاعة مبالغًا فيه للغاية لدرجة أن يُخصص لحفل زفاف مربية بسيطة.
الثريات الضخمة أضاءت القاعة بأناقة مبهرة، والمشهد كان أكثر فخامة مما يمكن تصوره. على كل طاولة، وُضعت شمعدانات فضية تتلألأ تحت الضوء، ويبدو أنها جديدة تمامًا.
في مناطق تندر فيها برودة الشتاء، كانت القاعة مزينة بتماثيل من الجليد على هيئة ملائكة، وهي رفاهية لا يستطيع العديد من النبلاء حتى التفكير فيها.
أما الهدايا التذكارية للضيوف، فكانت منديلًا مزخرفًا بخيوط ذهبية، يغطي قطعة صغيرة من الفضة منقوش عليها تهنئة بزفاف دومينيك وإيفون.
كان من الواضح أن كبير الخدم العجوز قد واجه أيامًا عصيبة وهو يحاول التوفيق بين الميزانية السنوية والعشاء الفاخر الذي أُضيف دون سابق إنذار. لكن هذا كله لم يكن من ضمن اهتمامات أنجيلا في تلك الليلة.
بطيّة حاسمة للمروحة في يدها، توجهت أنجيلا بنظرها إلى الصف الطويل من الضيوف الذين كانوا ينتظرون تقديم هداياهم إلى العروسين.
نقلت أنجيلا نظرها إلى حيث ينتهي هذا الصف الطويل، عند الطاولة الرئيسية حيث كان دومينيك بيلتون، بطل الحفل، يجلس إلى جانب إيفون، التي أصبحت رسميًا تحمل اسم العائلة.
على جانبيهما، كانت هناك أماكن مخصصة لأنجيلا وبياتريس.
كانت بياتريس، بفستان وردي رقيق يناسب عمرها الصغير، قد أخذت مكانها بالفعل، بينما كان كرسي أنجيلا فارغًا، بلا صاحب.
ورغم ذلك، بدا المشهد مثاليًا تمامًا تحت اسم "العائلة".
دومينيك، الذي قضى معظم حياته في ساحات القتال، لم يكن شخصًا كثير التعبير. وجهه الجاد، الذي تغطيه التجاعيد العميقة، كان مألوفًا لأنجيلا كوجه الأب الذي تعرفه. لم يكن دومينيك رجلاً يضحك.
لكن الآن، كان يبتسم ابتسامة مشرقة إلى حد أنه بدا شخصًا مختلفًا تمامًا، وكأنه غريب قابلته صدفة في الطريق.
إيفون وبياتريس كانتا مختلفتين أيضًا. رغم أن الوضع بدا غير مألوف لهما، إلا أن الابتسامة الخفيفة لم تفارق وجهيهما. لم تكونا هما نفسهما اللتين اعتادت أنجيلا رؤيتهما متوترتين أمامها.
لم يكن هناك أي شعور بغياب أنجيلا عن المشهد.
على العكس، بدا وكأن غيابها أكمل الصورة. كانت هذه السعادة بفضل غيابها.
"هذا يجعلني أشعر باستياء شديد."
همست أنجيلا لنفسها بصوت منخفض وهي تخطو خطوات واثقة عبر القاعة.
سرعان ما تحولت الأنظار إليها.
"انظروا هناك، الآنسة بيلتون وصلت."
"حقًا، إنها هي. الآنسة بيلتون."
"لم تظهر منذ بداية الحفل. اعتقدنا أنها غاضبة جدًا من الزفاف لدرجة أنها مرضت، لكنها أخيرًا وصلت."
بدأ الحاضرون يهمسون فيما بينهم. لم تكن أصواتهم مرتفعة، لكن عندما تجمعت، ملأت القاعة بأجواء من الهمهمة.
"لماذا ستغضب لهذه الدرجة؟ في النهاية، من الذي أعطى الموافقة على بياتريس كابنة؟"
"هذا شيء مختلف. المربية أصبحت أعلى منها مرتبة."
"كنت أظن أن الموافقة على تبني بياتريس كانت مشروطة بعدم زواج إيفون من دومينيك. يبدو أن ذلك لم يكن صحيحًا."
"حقًا، ما الذي يجري بالضبط؟ تبا."
"بالنسبة لنا، فقط حصلنا على سيد آخر نطيع أوامره."
"شش. قد يسمعونك."
هدأ الهمس والفوضى تدريجيًا عندما جلست أنجيلا أخيرًا في مقعدها. كان هذا بفضل نظرتها الباردة والحادة التي جالت القاعة كما لو كانت تختار من ستسدد إليه ضربتها التالية.
بسبب تلك النظرة، أخذ الحاضرون يبتلعون ريقهم وينظرون بعيدًا عنها على عجل، وكأنهم يخشون الوقوع تحت نيران عينيها.
في تلك الأثناء، بدأت الابتسامات التي كانت تزين وجوه أبطال الحفل تتلاشى تدريجيًا. بياتريس، التي ازداد قلقها مع اقتراب أنجيلا، شحب وجهها بالكامل عندما جلست الأخيرة، حتى بدت كجثة فقدت حياتها منذ زمن بعيد.
لم تستطع أنجيلا منع نفسها من إطلاق ضحكة ساخرة عندما رأت بياتريس تحاول إخفاء ارتجاف يديها داخل كُم فستانها.
في نفس اللحظة، أخذت ملامح إيفون تزداد قتامة، وعندما لاحظ دومينيك ذلك، مسح كل تعابير وجهه. ولكنه لم يفعل شيئًا أكثر من ذلك.
نظرت أنجيلا إلى دومينيك. لم يوجه لها أي كلمات قاسية يسألها عن سبب تأخرها. كل ما رأته كان جانب وجهه بملامحه الصلبة وأنفه المرتفع.
عينيه العنبرية، التي لا تشبه عينيها بأي شكل، كانت مثبتة بالكامل على الشخص الذي كان يقدم له التهاني.
مع هذا التجاهل، أعادت أنجيلا رأسها إلى الأمام وتبسّمت بشكل متعمد قبل أن تقول بصوت واثق:
"لقد تأخرت قليلًا."
لم يرد دومينيك.
"ليس من اللائق أن أأتي فارغة اليدين في يوم كهذا، أليس كذلك؟"
ظل صامتًا.
"لذا كنت أجهز هدية لأعطيها لإيفون..."
"إيفون؟ تقصدين والدتك."
قطع دومينيك صمته، وبصوت جاف، رد عليها عندما ذكرت اسم إيفون.
توقفت ابتسامة أنجيلا للحظة، لكنها سرعان ما ارتسمت على وجهها من جديد، هذه المرة أوسع من قبل.
"نعم، بالطبع. والدتي."
تابعت بابتسامة مشرقة تحمل في طياتها السخرية:
"لابد أنها سعيدة للغاية، أن تحصل على ابنة بهذا العمر دون أن تشعر بآلام الولادة."
كان حديثها مغلفًا بالتهكم، حتى لو بدا ظاهرًا وكأنه ودّي. ومع ذلك، تجاهل دومينيك تعليقاتها تمامًا، محولًا تركيزه مرة أخرى إلى الضيف الذي كان أمامه.
كان الضيف، وهو كونت يمتلك أراضي خصبة في الغرب، يقدم له نوعًا من التوابل النادرة التي لا يعرفها سكان العاصمة، متحدثًا عنها بإسهاب.
واستمر الحال نفسه مع الضيوف الآخرين، حيث كان كل منهم يقدم هديته متفاخرًا بشرح قيمتها وأهميتها.
كان عرضًا مملًا للغاية.
أنجيلا كانت تنظر إلى هؤلاء الأشخاص الذين يحاولون جذب انتباه الدوق وزوجته كأنهم أعشاب برية لا تستحق الاهتمام.
بعض الضيوف قدموا الهدايا لأنجيلا وبياتريس أيضًا. وبينما كانت بياتريس تحاول بوضوح إظهار امتنانها، رغم قلقها الدائم من نظرات أنجيلا، اكتفت الأخيرة بإيماءات بالكاد تُلاحظ، تُظهر فيها أنها بالكاد مهتمة.
لم يكن لأي من هؤلاء الأشخاص أو ما قدموه أي تأثير يُذكر على أنجيلا.
لكنها تغيّرت للحظة واحدة.
عندما جاء دور كاليان فلورنس.
الرجل الذي وعدته بمستقبل مشترك. الرجل الوحيد في هذا العالم الذي تعتبره لها.
Comments