أنجيلا
حين غابت الشمس وظهرت ملامح القمر في الأفق، وفي الجناح الشرقي من قصر بيلتون، كانت آنجيلا، الابنة النبيلة لعائلة دوق بيلتون، تستمتع بحمامها في حمام فاخر تحيط به تماثيل ضخمة للملائكة من كل الجهات.
كانت آنجيلا تجلس وحدها في حوض استحمام يتسع بسهولة لعشرات من الرجال والنساء الأشداء. في لحظة ما، فتحت عينيها بهدوء بعد أن كانتا مغمضتين كأنها غارقة في نوم عميق. عندما ارتفعت جفونها المثقلة برفق، ظهرت عينان خضراوان بإشراقة باهتة، لتزيدا من هالة الغموض حولها.
بعد لحظات، خرجت آنجيلا من الحوض، وقطرات الماء الساخن تتساقط من جسدها. وسرعان ما لامس بشرتها الرطبة قماش ناعم، حيث بدأت مربيتها "إيفون"، التي اعتنت بها منذ ولادتها، بتجفيفها بعناية فائقة وكأنها طفلة حديثة الولادة.
تلاشت قطرات الماء المتساقطة بسرعة، وحلّت محلها بشرة جافة ناعمة. ثم قامت إيفون بإلباسها رداء النوم الأبيض وعباءة حريرية ناعمة. بدت آنجيلا، بهذا الرداء الأبيض، وكأنها ملاك أضاع طريقه إلى الأرض. حتى رائحتها العطرة كانت تشبه شيئًا لا ينتمي إلى هذا العالم.
ولكن، ربما بسبب طبيعتها السيئة، لم يكن من السهل لمن يعرف حقيقتها أن يربطها بالملاك الذي تبدو عليه. في تلك اللحظة، كانت آنجيلا تحدق بمربيتها إيفون بنظرات باردة ومزعجة، وكأن هناك شيئًا لا يعجبها. نظراتها كانت قاسية لدرجة أنها بدت وكأنها تفتقر إلى أي دفء إنساني.
لم يكن غريبًا أن من تعامل مع آنجيلا حتى ولو لوقت قصير، كان يهمس قائلًا:
"آنجيلا بيلتون ليست سوى شيطان صعد من الجحيم."
لذا، لم يكن مفاجئًا أن تبدو الخادمات المسؤولات عن ترتيب غرفة نومها متجمدات في أماكنهن عندما دخلت الغرفة. فقد كان من المعتاد أن يصبح خدم قصر بيلتون ضحايا لمزاج آنجيلا السيئ وسلوكها المستبد.
عندما ظهرت آنجيلا، كتمت الخادمات أنفاسهن وأحنين رؤوسهن. كان هذا السلوك نتيجة لتجاربهن السابقة؛ فقد شهدن كثيرًا كيف يؤدي حتى صوت نفس أو حركة عابرة إلى وقوع مشكلة.
أسرعن بإنهاء عملهن ومغادرة الغرفة دون أي تأخير، خوفًا من إثارة غضبها. بدت خطواتهن السريعة مليئة بالقلق. ولم يجرؤ أحد على النظر مباشرة إلى عيني آنجيلا، حتى مربيتها إيفون، التي بقيت وحدها معها بعد مغادرة الخادمات.
بعد أن رتبت إيفون سرير آنجيلا وانتظرت حتى تستقر فيه، أعادت ترتيب الأغطية بخفة، متجنبة النظر إلى وجه آنجيلا طوال الوقت.
قالت بانحناءة خفيفة:
"تصبحين على خير، آنستي."
ثم استدارت لتغادر دون تردد، بخطوات أسرع قليلاً من المعتاد، وإن لم تكن متسرعة بشكل واضح كما كانت الخادمات.
تمتمت آنجيلا بصوت منخفض، وهي تحدق بظهر إيفون المبتعد:
"تشبه الجرذان."
رغم أن إيفون سمعت كلمات آنجيلا الجارحة، لم تتوقف أو تظهر أي رد فعل وهي تفتح الباب وتغلقه خلفها.
آنجيلا، التي كانت تراقب الباب المغلق بنظرات حادة، جذبت الأغطية بقوة واستدارت بجسدها لتولي ظهرها للباب. ثم أغلقت عينيها الكثيفتي الرموش بإحكام.
لكن مهما حاولت، كان من المستحيل أن تنام. الأرق الذي عانت منه لفترة طويلة لدرجة أنها لم تعد تتذكر متى بدأ، كان الشيء الوحيد في قصر بيلتون الذي واجه آنجيلا بنظرات ثابتة دون تردد.
"..."
كانت آنجيلا تمسك بالغطاء بكلتا يديها، متظاهرة بالنوم بينما تنتظر أن تمر الليلة.
لم تنجح في النوم إلا عندما تسللت أولى خيوط الفجر عبر الشقوق الضيقة للنافذة.
انعكست أشعة الصباح الباهتة على وجهها الصغير، مما جعل بشرتها البيضاء تبدو شاحبة كأنها جثة. لم يكن هذا سوى نهاية يوم آخر عادي بالنسبة لها. انتهى يوم آنجيلا المتأخر عن الآخرين أخيرًا.
**
“هاه…!”
استيقظت آنجيلا فجأة وهي تأخذ نفسًا عميقًا، تلهث وكأنها كانت تغرق في الماء وتم إنقاذها للتو. كان ظهرها مبللًا، وكأنها أفرغت سيلًا من العرق البارد.
بعد لحظات من محاولتها استعادة أنفاسها، جلست ببطء، ووضعت يديها على السرير لتدعم وزنها، فشعرت بملمس ناعم تحتها. نظرت إلى الأسفل لترى الأغطية المألوفة.
أمسكت بالغطاء قليلًا وهي تحدق فيه، ثم بدأت بسرعة بتفحص الغرفة بعينيها، كأنها تحاول التأكد من كل ما حولها.
سرير مزين بمظلة فاخرة، طاولة بجانب السرير مزخرفة بنقوش فراشات ذهبية، طاولة كبيرة تتسع لعشرة أشخاص مع أريكة واسعة، نافذة كبيرة تسمح لأشعة الشمس بالدخول، وستائر مزينة ببذخ.
بلا شك، كانت هذه غرفتها.
إذًا، كان حلمًا.
حلم، حلم، حلم…
كابوس بغيض.
رددت آنجيلا تلك الكلمات وكأنها كانت تلقي تعويذة على نفسها. لكن رغم محاولتها طرد آثار الحلم، بقيت الصور واضحة تملأ عقلها دون أن تتبدد.
كانت متأكدة… لقد ظنت أنها استيقظت بالفعل. عيناها المغلقتان كانتا تؤلمها من شدة الضوء الذي رأته.
ولكن حين فتحت عينيها، لم تكن المناظر أمامها تلك التي اعتادت عليها كل صباح. بدلاً من ذلك، وجدت نفسها محاطة بظلام لا نهاية له.
لم تكن هناك أشعة شمس تُعلن الصباح، ولا خادمات يساعدنها على الاستعداد، ولا كوب الشاي المعطر الذي اعتادت عليه.
بين هذا الظلام الذي ابتلع كل شيء كان يجب أن يكون موجودًا، فكرت آنجيلا:
"آه، هذا حلم."
وفي تلك اللحظة، سمعت صوتًا:
"آنجيلا بيلتون."
"يا للغباء الذي لوّث الاسم الذي مُنح لك لتكوني ملاكًا."
ظهرت فجأة بريقات ضوئية بلا شكل محدد، وبدأت تتحدث إلى آنجيلا.
"حتى في الكوابيس؟"
تمتمت آنجيلا لنفسها، وعبست بحاجبيها بينما كانت تفكر أن هذا حلم مزعج جدًا.
وفي تلك اللحظة، اقترب أحد تلك الأضواء الغريبة من خدها الأيمن ولمسها برفق قبل أن يقول بنبرة ساخرة:
"الجميع يشيرون إليك بأصابع الاتهام، آنجيلا."
حتى في الحلم، لم تستطع آنجيلا تحمل هذا النوع من المعاملة. فتحت عينيها على اتساعهما بغضب، وكانت عيناها الزمرديتان مليئتين بوهج من الغضب المتقد.
نظرتان قاسيتان كانتا تشعان بضوء غريب، تبعتهما نقرة خفيفة على الخد الآخر لأنجيلا، جعلتها تشعر بألم طفيف.
"أهذا كل ما تستطيعين فعله بعينيك الجميلتين؟ لا عجب أن ينعتوكِ بالشيطانة."
"كيف تجرؤ على...!"
"قلت لكِ، الجميع."
كلمات الضوء كانت حازمة، وكأنها سحقت محاولة أنجيلا الحادة للرد، ثم اندمج الضوءان معًا ليصبحا واحدًا، لينظر إليها بنظرة تقشعر لها الأبدان، كما لو كان يمسح جسدها بالكامل.
شعرت أنجيلا بعار كمن تُرك بلا قطعة قماش واحدة تسترها، كأنها قد جُردت قسرًا من ملابسها.
كيف تجرؤ؟!
ارتفعت موجة الغضب في داخلها حتى بلغت عنان السماء، ولو استطاعت لأنقضت على ذلك الضوء ومزقته إلى أشلاء. لكن ما بدا أنه حيلة من الضوء حال دون ذلك. جسدها لم يستجب كما أرادت؛ وكأنها مقيدة بحبال غير مرئية، بالكاد تستطيع تحريك إصبع واحد.
ما هذا بحق الجحيم؟!
"يا أنجيلا الحمقاء."
ضحك الضوء كأنه يقرأ أفكارها، ثم انقسم مجددًا إلى اثنين ليهبطا كل منهما على أحد كتفيها.
"آه!"
رغم أن الضوء بلا هيئة مادية، إلا أن ثقله كان أشبه بكتلة حديدية ضغطت على كتفيها، مما جعلها تطلق أنينًا غير قادر على كتمه.
أما الضوء، فلم يكترث لأنينها أو حالتها.
"لا أحد يحبك."
"كيف يمكن لأحد أن يحبك وأنت بهذا الشر؟"
"لقد سمعنا الدعوات يوميًا. يا إلهي، عاقب هذه الشقراء الشريرة. أرجوك. أرجوك. أرجوك."
"لقد كانت أصواتهم مزعجة للغاية، فقررنا معاقبتك."
تبادلت الأصوات، التي كانت متشابهة لكنها مختلفة في ذات الوقت، همساتها القاسية في أذن أنجيلا. رغم أنها لم تكن صاخبة، إلا أنها دوت في رأسها كالرعد، حتى بدت كأنها ستحطم أذنيها.
مع كل كلمة كان الضوء ينطق بها، شعرت أنجيلا بآلام مبرحة، وكأن طبلة أذنها تتمزق، ورأسها يكاد ينفجر.
لابد أنه حلم!
لكن الألم كان حقيقيًا للغاية، جعل وجهها يلتوي من شدة المعاناة.
في النهاية، استسلمت شفتاها التي كانت تضغط عليهما بعناد، وبدأ الدم يتجمع بينهما، لينساب كقطرات قاتمة.
حينها فقط، تراجع الضوء عن كتفيها واندمج ليصبح واحدًا، ثم بدأ يحوم فوق رأسها كأنه يربت عليها. كانت تلك اللمسة مليئة بالدفء رغم ما حملته كلماته السابقة من قسوة.
ومع هذا، شعرت أنجيلا أن الألم الذي كان يمزق رأسها، كغراب ينقر في دماغها، بدأ يهدأ شيئًا فشيئًا.
أخيرًا... أستطيع التنفس.
أطلقت زفرة مرتجفة مليئة بالارتياح.
لكن في تلك اللحظة، انقسم الضوء مجددًا وانطلق في كل اتجاه، ليعود ويتحد فجأة أمامها، متحركًا بسرعة مذهلة.
للحظة، شعرت أنجيلا أن هذا الضوء بلا عيون قد تلاقى مع نظراتها، وأنه كان يحدق في أعماقها، كما لو كان يخترقها إلى ما وراء وجهها.
"... لكن يا أنجيلا."
أخيرًا، كسر الضوء الصمت بعد فترة طويلة.
"سأكون كريمة وأمنحك فرصة."
"......"
"هذه الرحمة التي أقدمها لك تنبع من معرفتي ببؤسك. عليك أن تشعري بالامتنان."
بعد هذه الكلمات، بدأت البقعة الضوئية تدور حول آنجيلا بسرعة، ثم اخترقت مباشرة منتصف صدرها.
شعرت آنجيلا وكأن قبضة غير مرئية تقبض على قلبها، مما جعلها ترتجف وكأنها على وشك أن تتقيأ. انتشر شعور غريب بالحرارة عبر جسدها، واشتد دفء قلبها حتى بدا وكأنه يحترق. كان الألم مروعًا.
ربما كان ذلك السبب وراء ظهور الهلوسات أمام عينيها المشوشة. رأت في هذه الهلوسات فتاة صغيرة للغاية، أصغر من أقرانها.
"آه... هاه... هيييك..."
كانت الفتاة الصغيرة، بشعرها المتشابك، تبكي بحرقة وهي تخدش بابًا مغلقًا بأظافرها. كانت تحاول فتح الباب بلا جدوى.
"افتحوا الباب... أرجوكم... لقد أخطأت... أنا آسفة..."
قالت الفتاة بصوت متقطع وسط نحيبها، وكأنها تناشد الرحمة.
"ما هذا...!"
عندما سمعت تلك المناشدة المؤلمة، أدركت آنجيلا أن هذه الهلوسة ليست سوى شظايا من ماضيها، وأن تلك الفتاة الصغيرة هي نفسها في طفولتها. صرخت بصوت عالٍ، كأنها تعترض:
"ماذا تفعلون بي؟! توقفوا!"
مع صرخة آنجيلا، ظهرت البقعة الضوئية مرة أخرى أمامها. انقسمت إلى قسمين، بدأت بالدوران حولها، ثم تحدثت بألطف نبرة سمعتها آنجيلا حتى الآن:
"اهدئي، نحن فقط نحاول زرع حقل من الزهور الجميلة في قلبك القاسي."
"لقد زرعنا البذور الآن، لذا عليكِ أن تجعليها تزهر."
"لكن احذري ألا تتحول البذور إلى أشواك قاتلة."
"لأن الأشواك الحادة قد تخترق قلبك... وقد تموتين."
رغم أن الكلمات بدت مثل لغة يمكن فهمها، إلا أن معناها كان غامضًا تمامًا. أرادت آنجيلا أن تصرخ وتسأل عن المعنى وراء هذا الكلام الغريب، لكن البقعة الضوئية لم تنتظر.
قبل أن تتمكن من قول شيء، اندمجت البقعتان في واحدة واختفت فجأة دون أي أثر. كل ما تبقى كان صدى صوت غير واضح—ضحك أم بكاء—يتردد في أذنها بينما كانت واقفة وحدها في الظلام.
---
"هاه، حديقة زهور؟ يا للسخرية..."
تمتمت أنجيلا بغيظ وهي تضغط على جبينها، ثم عبست فجأة عندما شعرت بحرارة طفيفة تتصاعد منه.
هل يمكن أن تكون حالتها الصحية السيئة هي ما جعلها ترى هذا الحلم السخيف؟
بنقرة لسان مستاءة، مدت يدها لتحرك الحبل الطويل المتدلي بجانب السرير، مستدعية إحدى الخادمات.
لم تمض لحظات حتى فُتح باب غرفة النوم بعنف، واندفعت خادمة إلى الداخل وهي تجري بخطوات سريعة. الطريقة المزعجة التي دخلت بها أثارت استياء أنجيلا.
كانت أنجيلا بالفعل في حالة مزاجية سيئة بسبب الحلم الكريه، لذا وجهت نظرات حادة نحو الخادمة. لكن الخادمة توقفت فجأة كأنها رأت شيئًا مرعبًا، ثم ركضت خارج الغرفة بوجه مصدوم.
"ماذا؟"
حدقت أنجيلا مذهولة نحو الباب الذي خرجت منه الخادمة. صحيح أن الخادمات كن يتهربن من التعامل معها، لكن لم يحدث أن هربت إحداهن بهذه الطريقة المذعورة.
هل يُعقل أنني ما زلت في الحلم؟
بدأت أنجيلا تنظر حولها بقلق، وعندما كانت منشغلة بالتفكير، بدأت أصوات غامضة تأتي من خارج غرفة النوم.
"ما الذي يحدث بحق السماء؟"
نفد صبر أنجيلا، فركلت الغطاء الذي كان يلف ساقيها، وأنزلت قدميها إلى الأرض. كانت قدماها بيضاء كأنهما لم تلامسا أشعة الشمس أبدًا.
لكنها لم تجد حذاءها المنزلي في مكانه المعتاد بجانب السرير. بالتأكيد عبثت به إحدى الخادمات الحمقاوات.
"هذا عبث!"
لم يكن هناك شيء يسير كما تريد. بصقت أنجيلا كلماتها بغضب ثم وقفت حافية القدمين على الأرض الباردة، التي بعثت قشعريرة في ظهرها.
بوجه متجهم، سوت خصلات شعرها الذهبي الطويلة وهي تفكر في العقاب الذي ستناله خادمات غرفة النوم.
وفي تلك اللحظة، وضعت يدها فجأة على صدرها.
Comments