...[بعد إعلان عدم الزَّواج بخمسة أيَّام - بقلم دْسِف] ...
...تسلَّل خيطٌ من ضوء الشمس عبر النوافذ المفتوحة على مصراعيها، يحمل معه نغمةَ العصافير وهي تُغرِّد بلحنٍ رقيقٍ، ينسابُ في الأرجاء كأنَّه وشوشةُ الصباح....
...كانت "آني" نصفَ مستلقية فوق سريرها الوثير، تفرك عينيها بتعبٍ وهي تتثاءب بكسل....
..."أُريد أن أنامَ أكثر..."...
...كان شعرها القصير، بلون البنِّ المُعتق، يتدلَّى حتى أطراف أُذنيها، وقد بدأ مع الأيام يزداد طولاً. تحت عينيها الأرجوانيَّتين اللتين تشبهان زهرتين بريَّتين، رسم التَّعب هالاتٍ سوداء تُشي بعناءٍ خفيّ....
...لم تذق "آني" طعم النَّوم الهانئ منذ زمنٍ قريب، وبات حالها كمن أنهكه السفر في صحراءٍ لا ظلَّ فيها....
...فبعد إعلانها الجريء عن رفض الزواج، لم تجد فسحةً لترتيب شؤون عائلتها، أو التفرغ لأعمالها التي طالما اعتنت بها....
...ورغم ذلك، ظلَّت أعمالها تسير بوتيرةٍ لا تعرف التوقّف؛ بل تخطَّت توقُّعات الجميع، إذ مدَّت يدها البيضاء للعطاء، تتبرَّع لجمعيَّات الأمهات العازبات ودور الأيتام، تسكب خيرها كالنهر الذي لا ينضب....
...خشخشة خفيفة~...
...تسلَّل صوتٌ خافت إلى أذنيها، صوت سَحب قماشٍ أو فتح خزانة....
...التفتت برأسها، لتقع عيناها على "كارلا"، خادمتها الأمينة، منهمكةً قرب الخزانة، ترتِّب الملابس بعناية....
...كانت كارلا قد جمعت شعرها الأشقر الطويل إلى أسفل، تتحرّك بنشاطٍ وحيوية....
...سألتها وهي تُلوِّح بعدة فساتين:...
..."سيِّدتي، أيَّ فستانٍ تودِّين ارتداءه اليوم؟"...
...أجابت "آني" بصوتٍ خافتٍ مُثقل بالتعب:...
..."فقط، أخرجي أيَّ واحدٍ منها."...
...غطَّت فمها براحة يدها وتثاءبت مجددًا، فابتسمت "كارلا" وقالت بشيءٍ من الحزم:...
..."هيا، هيا، آن الأوان للنهوض."...
...فركت "آني" عينيها الناعستين مجددًا ونهضت بتكاسل، واقفةً أمام المرآة الممتدة بطول الجدار....
...'يبدو هذا سخيفًا...'...
...رمقت صورتها المنعكسة بامتعاض، ثم ربَّتت على خديها بلطفٍ في محاولةٍ لإيقاظ حيويَّتها الغائبة....
...لكنّ التَّعب كان يُثقل نظرتها ويُغلف وجهها كضباب الصباح....
..."هل يناسبكِ هذا؟ أم أن الدانتيل سيكون أجمل؟"...
...سألتها كارلا، تتنقل بنظراتها بين فستانٍ سهرة فاخر وآخر أحمر وأنيق....
...كان التصميم جريئًا لا تخطئه العين؛ يبرز الكتفين وخطّ الصدر بأناقةٍ لافتة....
...توردت وجنتا "آني"، وهي التي اعتادت ارتداء الفساتين البسيطة ذات الألوان الهادئة....
...'لن ألتقي أحدًا اليوم... فما الداعي لكلّ هذا الاهتمام؟'...
...قالت بخجل:...
..."كارلا، أعطني فستاني المعتاد."...
...لكن كارلا توسَّلت إليها بعناد:...
..."أوه، سيّدتي! اليوم مناسبةٌ خاصَّة، أوَّل مرةٍ تخرجين فيها بعد إعلانكِ عدم الزَّواج. رجاءً، دعيني أحقق هذه الأمنية الصغيرة."...
...بدت الأوردة الزرقاء على ظهر يدي كارلا البيضاء واضحةً من شدّة تمسكها بالفستان، كشبكة عناكبٍ خجولة....
...لم ترغب كارلا أن يلتفت النَّاس إلى "آني" وهي في هيئةٍ مرهقةٍ باهتة....
...كانت تُعاملها كأختٍ عزيزة، لا كسيدةٍ وخادمة....
...ابتسمت "آني" بخجلٍ أمام حماس كارلا، وشعرت بامتنانٍ يتسلل إلى قلبها....
...'ليس هناك ضرر... قد يُحسِّن المزاج قليلاً.'...
...قالت أخيرًا:...
..."حسنًا، أُريد فُستانًا يليق بي تمامًا."...
...تهلَّلت أسارير كارلا، وعينها تتلألأ بالفرح....
...رفعت بصرها إلى سيّدتها، وهي تتأمَّلها بنظرة إعجاب....
...رغم أن ملامح "آني" تبدو للوهلة الأولى عادية، إلا أن عينيها الأرجوانيتين كانتا تحكيان قصة جمالٍ نادر....
...كانت كارلا تقول دائمًا:...
..."سيّدتي، عيناكِ نعمةٌ كبيرة... إنهما أندر من الجَمَشْت."...
...وإن كانت "آني" تحاول إيقافها كل مرة عن قول ذلك، فإن كارلا كانت تُعيدها بإصرار طفوليٍّ محب....
...---...
...ارتدت "آني" الفستان الجديد الذي كشَف شيئًا يسيرًا من صدرها، تزيِّنه لمسةٌ خفيفة من الدانتيل الرقيق....
...ارتبكت قليلاً، فوضعت يدها على صدرها تغطيه بخجل....
..."ألا يبدو هذا غريبًا؟"...
...ضحكت كارلا:...
..."إنه يليق بكِ جدًّا... فقط أخشى أن يتساقط الرِّجال أمامكِ عشقًا."...
..."كارلا، هل أصابكِ الجنون؟"...
...أمسكت كارلا بمشطٍ خشبي وبدأت تُسرِّح شعر "آني"، تدندن بلحنٍ بسيط....
...كانت آنِي تعرف جيّدًا أن شعرها القصير يليق بها، وكارلا لطالما أبدعت في تصفيفه بأناقةٍ عفويّة....
...ما إن أنهت تجهيزها، حتى وضعت كارلا يديها على كتفي آنِي وقالت بفخر:...
..."انظري إلى نفسكِ... كم أنتِ ساحرة اليوم."...
...ابتسمت آنِي بمزيجٍ من الحياء والامتنان، وقالت ممازحة:...
..."كارلا، أنتِ خادمتنا الأفضل، لا بل قائدة الفرسان النُّخبة."...
...ضحكت كارلا بصوتٍ عذب:...
..."لو شئتِ، سأبدأ غدًا بتعلُّم فنون السَّيف أيضاً."...
...فجأة، وكأن رياح الحياة دبّت في جسد آني، ارتفع مزاجها قليلًا....
...تمتمت ممازحة:...
..."بعد إنجابكِ لطفلكِ الثاني، أصبحتِ تضربين أقوى!"...
...ضحكت كارلا، وأمسكت بيدي آني بحماسٍ لا يخفى، ثم همست لها برجاءٍ خفيّ:...
..."سيّدتي، عِديني بشيء..."...
..."ما هو؟"...
..."أن تمنحي كلَّ من يأتيكِ فرصةً... حتى لو لم يرق لكِ من النظرة الأولى."...
...ابتسمت آني برفق، وربتت على يديها:...
..."عدا ذاك الطاغية الرهيب... سأفكّر بالأمر."...
...قالتها بنبرةٍ مرحة، وهي تعلم أن قلبها، مهما أغلقته، ما زال قادرًا على أن يُفتح ذات يوم....
Comments