كنت أقف بالقرب منها عند البوابة الداخلية للقصر، أراقب كل تفصيلة بينما أُهيّئ نفسي لوصول والدتي وأخي قادير. قادير، الأكبر من لارين بسنتين، لم يكن يشبهني في شيء، لا في المظهر ولا حتى في القدرات. بشعره الرمادي وعيونه الصفراء الواضحة، كان دائمًا متهورًا ومندفعًا، على عكسي تمامًا.
بمجرد أن رآني، اتسعت ابتسامته وعانقني بحماس. بقيت واقفًا كالصخرة، لم أبادله العناق؛ لطالما كرهت هذه اللمسات الحميمة. لم أفعلها إلا مرة واحدة في حياتي، بل كانت المبادر. مني. ولم تكن تلك سوى معجزة نادرة... معجزة تحمل اسمها.
ابتعد عني أخيرًا، ثم انحنى باحترام يحيي الأميرة. نظرتُ إلى لارين وهي تمنحه ابتسامة هادئة. شعرتُ بانزعاج غريب... لم يكن من المفترض بها أن تبتسم لأي أحد. عبستُ بضيق، عيني ثابتة على ابتسامتها التي بدت لي كأنها خيانة صغيرة.
وصلت والدتي أخيرًا، وعانقتني هي الأخرى. وكما هي عادتي، لم أبادلها. لا تفهموني خطأ، أحب والدتي أكثر من أي شيء، لكن العناق... ليس لي.
لم تكن لارين لتفوت فرصة كهذه. هتفت بتعجب وكأنها اكتشفت سرًا دفينًا:
"لماذا لا تبادل والدتك العناق؟!"
رمقتها والدتي بنظرة حادة جعلتني أتحسس من أن الأمور على وشك الانفجار. نطقت والدتي بجدية صارمة:
"ابني لا يعانق أحدًا. هذه عادته."
لكن تلك المهلكة لم تستسلم. رفعت رأسها بجرأة وقالت:
"لكنه عانقني."
اتسعت عيناي بصدمة، وأحسست بشيء غريب يخنقني. لم أكن أعتقد أنها ستقول ذلك بصراحة. رمقتها والدتي بعدم تصديق. لحسن الحظ، بدا أن والدتي قررت تجاهلها. لكن قادير، الأحمق المعتاد، انفجر وجهه احمرارًا وكأنه طفل صغير خجول.
قال وهو يحاول الحفاظ على نبرة مزيفة من الفضيلة:
"ياااه، لا تقولي مثل هذه الأمور أمامي، ما زلت أعزب يا زوجة أخي!"
ذاك النذل الصغير، يتظاهر بالبراءة أمامها بينما لا يترك امرأة واحدة في المملكة دون أن يضعها ضمن قائمة نزواته. وللمزيد من الطعن في كرامتي، ضحكت لارين على حديثه.
كانت ضحكتها بمثابة الجحيم لي. نطقت بانزعاج ظاهر:
"توقفي عن الضحك. الأمر مزعج."
رفعت حاجبها و نظرت إليّ باستغراب،بينما كان قادير يكتم ضحكاته وينظر إلي بخبث. والدتي، كعادتها، ظلت صامتة بملامح باردة.
لحسن الحظ، انتهى المشهد عندما قرر الجميع التفرق إلى غرفهم. كنت بحاجة إلى بعض الهدوء... أو هكذا ظننت.
_______________________________
بعد مرور بعض الوقت، وجدت نفسي واقفًا أمام غرفتها. ترددت كثيرًا، خطوة واحدة فقط تفصلني عن الباب. صوتها الهادئ اخترق ترددي:
"تفضل، لا بأس."
دخلت، أتنهد بعمق وأنا أجلس على الأريكة القريبة. راقبتها وهي تأخذ ملابس النوم وتتجه نحو الحمام. شعرت بارتباك غريب.
مرّت لحظات، وخرجت من الحمام... لكن يا إلهي، أكان عليها أن ترتدي هذا؟ فستان سماوي خفيف بحمالات رفيعة، بدا وكأنه يصب الزيت على نيران أفكاري المضطربة. استلقت على السرير، جذبت اللحاف لتغطي نفسها، وتركتني وحدي مع تخيلاتي الملعونة.
كنت أريد أن أذهب، أن أخرج وأترك هذه الأفكار المجنونة خلفي. لكن لم أستطع ... كانت لارين بالنسبة لي مهلكة، وستظل كذلك.
جلستُ على الأريكة، مشدودًا بين رغبتي في الخروج وبين قيد خفي جعلني لا أستطيع الابتعاد. كنت أراقبها وهي تغرق في النوم بسلام، وكأن العالم بأسره لا يحمل لها تهديدًا.
اللعنة، كيف استطاعت هذه المرأة أن تقتحم عزلتي وتغير نظام حياتي بهذا الشكل؟
حركتُ رأسي بضيق، أحاول إبعاد أفكاري عنها. لكنها استدارت قليلًا في نومها، وبدت أكثر هدوءًا، خصلات شعرها البني تنساب على الوسادة. لا أعلم لماذا شعرتُ برغبة شديدة في لمسها، أن أتأكد أنها هنا، أنها حقيقة، وليست مجرد وهم في رأسي.
لكنني كتمت أنفاسي، لا، لن أسمح لنفسي بالانجراف.
---
استيقظت فجأة وهي تنظر إلي بعينين نصف مفتوحتين، وكأنها أحست بوجودي القريب. قالت بنبرة ناعسة:
"أما زلت هنا؟"
"نعم." أجبت بهدوء، محاولًا إخفاء اضطرابي.
جلست على السرير، تلف اللحاف حول كتفيها، ونظرت إلي باهتمام. سألت:
"لماذا تبدو دائمًا متوترًا عندما تكون بالقرب مني؟"
لم أرد، بل نظرت إلى النافذة. كيف يمكنني تفسير هذا؟ حتى أنا لا أفهمه.
لكنها لم تتوقف عن الكلام:
"أتعلم؟ أحيانًا أتساءل إن كنت تكرهني."
التفتُّ إليها بسرعة، ربما أسرع مما كان ينبغي. قلت بجدية حادة:
"لا تكرري هذا الكلام أبدًا."
اتسعت عيناها بدهشة، لكنها لم تبدُ خائفة. على العكس، كانت تبتسم... تلك الابتسامة التي جعلتني دائمًا أشعر بالضعف.
"إذن، لا تكرهني؟"
تنفست بعمق، كنت أحاول أن أتماسك، أن لا أقول ما سيجعل الأمور أكثر تعقيدًا. لكنني نطقت، بصوت هادئ وحقيقي:
"لا أكرهك، لارين. لكنك تُربكينني فقط."
ضحكت ضحكة صغيرة، وكأن اعترافي هذا كان كافيًا لإرضاء فضولها. ثم قالت وهي تميل برأسها قليلاً:
"اربكك؟ هذا مثير للاهتمام. لم أكن أعتقد أن الجنرال الكبير يُربك بسهولة."
لم أستطع الرد فورًا. كلماتها كانت تحمل استفزازًا ناعمًا، لكنها كانت حقيقية بما يكفي لتصيبني في الصميم. تنهدت وقلت:
"الأمر ليس سهلاً كما تظنين."
اقتربت قليلاً، دون أن تترك مكانها على السرير، واستندت بمرفقها على الوسادة، تنظر إلي وكأنها تقرأ أفكاري. ثم سألت بفضول:
"إذن، هل أنا نقطة ضعفك؟"
شعرتُ بالضيق يتصاعد داخلي. كيف تستطيع بهذه البساطة أن تقتحم كل حصوني؟
"لارين..." قلت بتحذير، لكن صوتي كان أقرب إلى الرجاء.
قاطعتني بابتسامة خفيفة وقالت:
"أتعلم؟ أنا سعيدة لأنك لا تكرهني. كنت أخشى أنك تراني عبئًا أو مجرد صفقة سياسية."
كلماتها ضربتني في العمق. كنت دائمًا أفترض أنها تعرف مكانتها في حياتي، لكنها لم تكن تعرف... لم تكن تعرف أنها ليست عبئًا، وليست مجرد صفقة. هي كانت كل شيء.
لكنني لم أجرؤ على قول هذا. بدلاً من ذلك، قلت بهدوء:
"أنتِ لستِ عبئًا."
"حقًا؟" سألت بصدق، وكأنها بحاجة إلى تأكيد أكثر.
وقفتُ فجأة، لم أعد أتحمل هذه المحادثة التي كشفت الكثير مما حاولت إخفاءه. قلت بصوت حازم:
"يكفي حديثًا لليلة. نامي، لارين."
نهضتُ لأغادر، لكن صوتها أوقفني:
"أسغار..."
توقفت دون أن ألتفت.
"نعم؟"
في تلك اللحظة، أدركت شيئًا مهمًا... لارين لم تكن فقط مهلكتي، بل كانت خلاصًا لا أستطيع الهروب منه.
تجمدت مكاني عندما سمعت كلماتها. كانت ناعمة، لكنها حطمت الجدران التي بنيتها حول نفسي. "شكرًا لأنك هنا."
ظللت واقفًا، ظهري إلى الباب، أحاول أن أقرر بين الرحيل أو البقاء. لم أستطع التحرك. شيء ما في صوتها جعلني أشعر أن الخروج ليس خيارًا.
استدرت ببطء، وكانت عيناها لا تزالان تراقبانني، ممتلئتين بشيء غريب... مزيج من الثقة والحذر.
"لن أذهب،" قلت بهدوء، وكأنني أبرر لنفسي قبل أن أبرر لها.
اتسعت ابتسامتها قليلاً، لكنها لم تقل شيئًا. عادت تستلقي على الوسادة، تلف اللحاف حول جسدها كأنها تحمي نفسها من البرد.
اقتربتُ منها ببطء وجلست على الكرسي القريب من السرير. ظللتُ أنظر إليها بصمت، محاولاً أن أستوعب هذا الشعور الذي يسري في داخلي.
قالت بصوت خافت، دون أن تفتح عينيها:
"لماذا بقيت؟"
أدرت وجهي بعيدًا، أحاول أن أجد إجابة لا تكشف كل شيء. لكن في النهاية، وجدت نفسي أقول الحقيقة:
"لأنني لا أستطيع المغادرة."
فتحت عينيها ونظرت إلي، وكأنها تحاول فهم ما وراء كلماتي. لم تبتسم هذه المرة، بل قالت بهدوء:
"أتعلم، أسغار... أحيانًا أشعر أنك تخاف مني."
كلماتها جعلتني أنظر إليها بحدة. "أنا لا اخاف منك، لارين توقفِ عن قول هذا "
"إذًا ما هو الأمر؟" سألت بهدوء، لكنها كانت تنتظر إجابة حقيقية.
مررت يدي في شعري، أشعر بالارتباك. كيف أشرح لها؟ كيف أقول إن كل ما يتعلق بها يجعلني أضعف؟ إنني، رغم كل قوتي، أشعر بالعجز أمامها؟
قلت أخيرًا، بصوت خافت:
"أنتِ الشيء الوحيد الذي لا أستطيع السيطرة عليه."
سادت لحظة صمت طويلة. كانت تنظر إلي وكأنها ترى شيئًا جديدًا، شيئًا لم تكن تتوقعه. ثم همست:
"لست بحاجة للسيطرة علي، أسغار. أنا هنا... معك."
كلماتها كانت كافية لإسكات كل أصوات الشك في رأسي. في تلك اللحظة، أدركت أنني مهما حاولت الهرب، كنت دائمًا أعود إليها.
اقتربتُ من السرير وجلست على حافته. لمست بلطف يدها فوق اللحاف، نظرت إليها وقلت بصدق:
"لارين، أنتِ أكثر مما أستحق، وأكثر مما أتخيل."
ابتسمت، تلك الابتسامة الدافئة التي تجعل العالم كله يختفي. قالت بهدوء:
"وأنت أكثر مما أحتاج، أسغار."
في تلك الليلة، لم أخرج من الغرفة. جلست بجانبها حتى غفت تمامًا، وعرفت أنني لن أتركها أبدًا، مهما حدث.
Comments